الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الشفعة
الشفعة بضم الشين العجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهي مأخوذة لغة من الشفع وهو الزوج خلاف الوتر؛ لأنه ضم الشيء إلى الشيء، وسُميت الشفاعة بذلك؛ لأنها تضم المشفوع له إلى أهل الثواب، ولما كان الشفيع يضم الشيء المشفوع إلى ملكه سُمي ذلك شفعة. وقيل: من الزيادة. وقيل: من الإعانة، [وفي الشرع](أ) ضم حصة إلى حصة بسبب شرعي كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى (1). وحدَّها في "الغيث" بالحق السابق للك المشتري للشريك أو من في حكمه. والحد الأول أولى.
والشفعة معتبرة إجماعًا، وروي الخلاف عن الأصم، لأنها أخذ مال الغير كرها، وقد دل (ب) الدليل على أنَّه لا يجوز. والجواب أنها مخصوصة بالأدلة الثابتة، وهي عند أكثر الفقهاء واردة على خلاف القياس؛ لأنها تؤخذ كرها، ولأن الأذية لا تدفع عن واحد بضرر آخر، والظاهر من مذهب العترة والحنفية أنها واردة على القياس، إذ المعنى المعتبر فيها من دفع الضرر عن واحد بضرر آخر معتبر في غيرها، وذلك كأخذ سلعة الفلس وبيع ماله، ومال المتمرد لقضاء دينه ونفقة زوجته وأولاده، وغير ذلك. وقال بعض العلماء: هي ثابتة استحسانًا بالقياس الخفي، إذ هي لدفع ضرر الخليط
(أ) ساقطة من: الأصل.
(ب) في ب: يدل.
_________
(1)
ينظر القاموس (ش ف ع) والفتح 4/ 436، ومغني المحتاج 2/ 296، وحاشية ابن عابدين 6/ 216.
والجار، وهو مراد من قال: إنها موافقة للقياس، (أوهي مخالفة للقياس أ) الجلي إذ هي أخذ مال الغير بغير رضاه، وهو مراد من قال: إنها مخالفة للقياس.
729 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. متفق عليه (1)، واللفظ للبخاري، وفي رواية مسلم:"الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتَّى يعرض على شريكه". وفي رواية الطحاوي (2): قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء. ورجاله ثقات.
قوله: في كل ما لم يقسم. فيه دلالة على ثبوت الشفعة للشريك في الدور والعقار والحوانيت والبساتين، وهذا مجمع عليه إذا كانت مما يقسم، وإن كان مثل الحمام الصغير فلا يصح الشفعة فيه عند مالك والشافعي، وكذا المدقة والطاحونة والبيت الصغير والبئر والحوض والبركة وغير ذلك مما لا يقسم، وقد ورد في البئر حديث:"لا شفعة في بئر"(3). وذهب العترة
(أ - أ) ساقط من: ب، جـ.
_________
(1)
البخاري، كتاب الشفعة، باب الشفعة فيما لم يقسم 4/ 436 ح 2257، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الشفعة 3/ 1229، ح 1608/ 135.
(2)
الطحاوي في شرح المعاني، كتاب الشفعة، باب الشفعة بالجوار 4/ 126.
(3)
عبد الرزاق 8/ 87 ح 14427 من حديث محمد بن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، بلفظ:"في ماء"، ومالك 2/ 717، وعبد الرزاق 8/ 80 ح 14393، 8/ 87 ح 14426، وابن أبي شيبة 6/ 579، 7/ 172، والبيهقي 6/ 105 موقوفًا على عثمان.
وأبو حنيفة وأصحابه إلى ثبوت الشفعة في جميع ذلك، وقد يتأول (أ) حديث:"لا شفعة في بئر". على آبار الصحاري التي تكون في الأرض الموات، لا التي تكون في أرض متملكة، وهو مستقيم، حيث لم تكن محفورة، وإلا ملكها الحافر وصحت الشفعة فيها، وكذا عند مالك لا شفعة في الطريق وعَرْصة الدار (1)، ووافقه الشافعي أيضًا.
وهذا الحديث فيه دلالة على أن الشفعة إنما تكون في العقار والدور، لقوله: فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. والحدود والطرق إنما تكون في ذلك. وذهب العترة جميعًا إلى أنها تصح الشفعة في غير العقار من المنقولات كلها، وهو مروي عن عطاء، ورواه في "البحر" عن مالك، وفي "فتح الباري" قال (2): رواية عن مالك. وفي كتب المالكية خلافه إلا المنصور بالله، فخالف في المكيل والموزون، قال: لأنه لا ضرر فيه. ومالك أثبت الشفعة في الثمار التابعة للأرض في البيع، ودليلهم عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"الشريك شفيع، الشفعة في كل شيء". أخرجه الترمذي (3) عن ابن عباس. وذهب الجمهور من العلماء إلى أن الشفعة لا تثبت في المنقول، وحجتهم ما مر، وهذا الحديث مخصص بالمعنى المعلل به وهو دفع الضرر، والضرر في المنقول نادر، وروى في "البحر" عن عطاء أنَّه لا شفعة في المنقول إلا الحيوان والثياب. وعن داود: الشفعة في الثياب فقط. انتهى. وعن أحمد ثبوت
(أ) في ب: تناول.
_________
(1)
عرصة الدار: وسطها، وقيل: ما لا بناء فيه. اللسان (ع ر ص).
(2)
الفتح 4/ 436.
(3)
الترمذي 3/ 654 ح 1371.
الشفعة في الحيوان.
وقوله: صُرفت الطرق. أي بينت مصارف الطرق وشوارعها، كأنه من التصرف أو من [التصريف] (أ). وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصِّرف، بكسر المهملة: الخالص من كل شيء.
وقوله: الشفعة في كل شرك. أي مشترك (ب).
وقوله: أو ربع. بفتح الراء وإسكان الباء، والربع الدار والمسكن، وتطلق على الأرض، وأصله المنزل الَّذي كانوا يَربَعون فيه، والربعة تأنيث الربع، وقيل: واحدُه. كتمرة وتمر.
وقوله: لا يصلح أن يبيع. إلى آخره، وفي رواية: لا يحل له أن يبيع حتَّى يؤذن شريكه. وفي رواية: ليس له أن يبيع. وهو محمول على الندب إلى إعلامه، وكراهة بيعه قبل إعلامه كراهة تنزيه لا تحريم، وقال في "شرح الإرشاد" (1): الحديث يقتضي أنَّه يحرم البيع قبل العرض على الشريك. قال ابن الرفعة: ولم أظفر به عن أحد من أصحابنا، ولا محيد عن الخبر، وقد قال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقال الأذرعي: إنه الَّذي يقتضيه نص "الأم" في باب صيغة نهى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظفر به الزركشي فقال: صرح به الفارقي، وقال -يعني الفارقي-: وهذا التحريم لا يمنع صحة العقد؛ لأنه لو فسد لم يأخذه الشفيع بالشفعة. انتهى.
(أ) في الأصل: الصرف.
(ب) في جـ: مشتركة.
_________
(1)
كما في شرح عمدة الأحكام 3/ 230.
واختلف العلماء فيما إذا أذن الشريك له بالبيع فباع ثم أراد أن يشفع؛ فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وعثمان البتي وابن أبي ليلى وغيرهم وهو مذهب الهدوية، أنَّه (أ) له أن يشفع. وقال الحكم (ب) والثوري وأبو عبيد وطائفة من أهل الحديث: ليس له الأخذ. وعن أحمد روايتان كالمذهبين.
وقوله في رواية الطحاوي: في كل شيء. فيه تأييد ثبوت الشفعة في غير العقار، ولكنه عام مخصوص بما تقدم، وهذا حديث الطحاوي له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البيهقي (1) مرفوعًا:"الشفعة في كل شيء". ورجاله ثقات، إلا أنَّه أعل بالإرسال.
وظاهر ثبوت الشفعة للشريك أنَّه عام لكل شريك مسلمًا أو كافرًا. وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي والمؤيد بالله والحنفية والشافعية، وذهب الحسن والشعبي والهادي والناصر والمنصور بالله وأحمد بن حنبل إلى أنها لا تثبت لكافر على مسلم ولو في خططهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا شفعة للذمي على المسلم". أخرجه (جـ).
وقوله: "لا شفعة لليهودي ولا للنصراني". ذكر الحديثين في "البحر"، [وأخرج ابن عدي والبيهقي (2) عن أنس بلفظ:"لا شفعة للنصراني"] (د).
(أ) في جـ: أن.
(ب) في جـ: الحاكم.
(جـ) في النسخ بياض بمقدار كلمتين. وهذا النص ليس بحديث مرفوع، وإنما ذكره النووي في شرح مسلم 11/ 46 قولا للشعبي والحسن وأحمد بن حنبل.
(د) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
البيهقي 6/ 109.
(2)
ابن عدي 7/ 2520، والبيهقي 6/ 108.
أخرجه (أ). وأما شفعة الكافر على مثله في خططهم فتثبت إجماعًا، وأما في خطط المسلمين فلا يثبت عند الآخِرين ويثبت عند الأولين، واحتج على التفرقة بين الخطط بما روي عن علي رضي الله عنه أنَّه كان يأمر مناديًا ينادي كل يوم: لا يَبْنِيَنَّ يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، الحقوا بالحيرة. وفي هذا دلالة علي أنَّه لا حق لهم في خطط المسلمين، وإذا لم يثبت لهم حق لم يثبت لهم (ب) الشفعة فيما بينهم، ولكنه يلزم على هذا ألا يُمكَّنوا من التملك (جـ) في خطط المسلمين، وهو خلاف ما ذهبوا إليه، وذهب الشعبي إلى أنَّه لا شفعة لمن لم يمكن من أهل المصر. وهو محجوج بالدليل العام.
واعلم أن الشفعة تثبت فيما ملك بالشراء إجماعًا، وأما ما ملك بغيره، فإن كان بعوض مال فحكمه حكم الشراء، وإن كان بغير ذلك فمالك والشافعي أثبتاها فيما كان انتقال الملك بعوض، وإن لم يكن مالا؛ كالصلح والمهر وأرش الجنايات وغير ذلك، ورواية عن الشافعي أنها تجب في كل ملك انتقل بعوض أو غير عوض؛ كالهبة لغير الثواب والصدقة ما عدا الميراث، فإنه لا شفعة فيه إجماعًا، والحنفية تخص الشفعة بالبيع فقط، وذلك لأن ظاهر الأدلة إنما تتناول البيع، وحجة المالكية أن كل ما انتقل بعوض فهو في معنى البيع، والشافعي يخالف في الهبة التي للثواب لأنها باطلة عنده، وأما مالك فهو يثبت الشفعة فيها اتفاقًا بينه وبين أصحابه، والهدوية يثبتون الشفعة فيها إذا كان الثواب يملك بعقد الهبة لا إذا كان
(أ) بياض في النسخ بمقدار ثلاث كلمات.
(ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في جـ: التمليك.
مضمرًا أو لا يملك بعقد الهبة (أ)، وإذا كان البيع فيه خيار للمشتري شفع عليه عند الهدوية والكوفية والشافعي؛ لأن البائع قد قطع عن نفسه الملك. وقال جماعة من المالكية: إنه لا شفعة فيه؛ لأنه غير ضامن له. وهذا التعليل ممنوع؛ لأنه عند غيرهم مضمون على المشتري إذا كان قد قبضه. ولمالك في المساقاة ثلاث روايات في ثبوت الشفعة فيها؛ جواز الأخذ بالشفعة، والمنع، والثالثة أن تكون المساقاة من الجنيب، فإن الشريك يشفع عليه ولا يشفع على الشريك الآخر. واختلف عن مالك في ثبوت الشفعة في الإجارة في الدور، وظاهر عموم قوله: الشفعة في كل شيء. شمول ذلك للإجارة، إلا أن يوجد دليل يقيد ذلك بالبيع.
730 -
وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه". أخرجه البخاري، وفيه قصة (1).
قوله: "بصقبه". هو بالصاد المهملة المفتوحة وفتح القاف: القُرب؛ تقول: صَقِبت داره صقبًا. قربت قربًا، وكذا سقب (ب) بالسين المهملة [المفتوحة](جـ) وفتح القاف بمعناه. كذا في "القاموس"(2) و "الضياء". والحديث نذكر الكلام عليه وذكر القصة في شرح الحديث الَّذي بعده.
731 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أ) في ب: للهبة.
(ب) في ب: أسقب. وهما بمعنى. ينظر اللسان (س ق ب).
(جـ) ساقط من: الأصل، ب.
_________
(1)
البخاري، كتاب الشفعة، باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع 4/ 437 ح 2258.
(2)
القاموس المحيط (س ق ب، ص ق ب).
"جار الدار أحق بالدار". رواه النسائي وصححه ابن حبان (1)، وله علة.
الحديث أخرجه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" والطحاوي وأبو يعلى والطبراني في "الأوسط" والضياء (2) عن قتادة عن أنس. وأخرجه الطيالسي وأحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. والبيهقي والضياء (3) عن قتادة عن الحسن عن سمرة، قالوا: وهو المحفوظ، والأول مقلوب. وصحح ابن القطان الوجهين. وأخرج الطبراني (4) عن سمرة مرفوعًا:"جار الدار أحق بالشفعة". وأخرج ابن سعد (5) عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن الشريد بن سويد الثقفي مرفوعًا: "جار الدار أحق بالدار من غيره". الحديث فيه دلالة على ثبوت الشفعة بالجوار في الدار وفي غيرها من الأراضي بالحديث الآتي العام وبالقياس على الدار أيضًا، إذ العلة القرب بالجوار وهو حاصل، وقد ذهب إلى هذا العترة وأبو حنيفة وأصحابه وابن سيرين وابن أبي ليلى لهذا ولغيره من الأحاديث. وذهب علي وعمر وعثمان وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن والإمامية إلى أنَّه لا شفعة
(1) النسائي في الكبرى، كتاب الشروط -كما في تحفة الأشراف 1/ 318 - وابن حبان، كتاب الشفعة، باب ذكر خبر أوهم من جهل صناعة الحديث 11/ 585 ح 5182.
(2)
ابن أبي خيثمة 3/ 256، والطحاوى في شرح المعاني 4/ 122، والطبراني في الأوسط 8/ 118 ح 8146، والضياء في المختارة 7/ 122، 123 ح 2550 - 2553.
(3)
الطيالسي 2/ 223 ح 946، وأحمد 5/ 8، 12، 13، 17، 18، 22، وأبو داود 3/ 256 ح 3517، والترمذي 3/ 650 ح 1368، والبيهقي 6/ 106، والضياء في المختارة 7/ 124 عقب ح 2553.
(4)
الطبراني في الكبير 7/ 237 ح 6803.
(5)
ابن سعد في الطبقات 5/ 513.
بالجوار ولا يكون إلا بالاشتراك، وتأولوا الحديث بأن المراد بالجار الشريك؛ لأنه ورد مثل ذلك في قصة أبي رافع، وكان شريك سعد في البيتين، ولذلك دعاه إلى الشراء منه، كما أخرجه البخاري (1)، ولفظه بعد سياق الإسناد: إذ (أ) جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد، ابتع مني بيتيَّ في دارك. فقال سعد: والله ما أبتاعهما. فقال المسور (5): والله لتبتاعنَّهما. فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجَّمة أو مقطعة (جـ). قال أبو رافع: لقد أُعطيت بها (د) خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الجار أحق بسقبه". ما أعطيتكها بأربعة آلاف و [أنا](هـ) أُعطَى بها خمسمائة دينار. فأعطاه إياها. انتهى، لفظ البخاري.
وما أجابوا [على](و) التأويل بأنه ليس في اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جارًا - فمردود، فإن كل شيء قارب شيئًا قيل له: جار. وقد قالوا لامرأة الرجل: جارة. لما بينهما من المخالطة. ولكنه يرد علي هذا أن ظاهر حديث أبي رافع أنَّه كان يملك بيتين في دار سعد، لا أنَّه كان يملك شقصًا شائعا من منزل سعد، مع أن عمر بن [شبة](ز)(2) ذكر أن سعدا كان اتخذ دارين
(أ) في جـ: إذا.
(ب) ساقط من: جـ.
(جـ) بحاشية ب: شك من الراوي من خط المؤلف.
(د) في الأصل، جـ: بهما.
(هـ) في الأصل، ب: أني.
(و) في الأصل، ب: عن.
(ز) في النسخ: بن أبي شيبة. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
البخاري 4/ 437 ح 2258.
(2)
ابن شبة في تاريخ المدينة 1/ 235، 236.
بالبلاط متقابلتين (أ)، بينهما عشرة أذرع، وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع، فاشتراها سعد منه. ثم ساق هذا الحديث، فهو صريح بأن سعدًا كان جارًا لأبي رافع قبل أن يشتري منه داره لا شريكًا، ولكن هذه الرواية تخالف رواية البخاري، وهو أرجح عند التعارض، بل مقتضى حديث أبي رافع أن الشفعة تثبت لجار البيت إذا كان الاشتراك في الطريق حاصلا، وهذا قول أخذ بطرف من القولين؛ وهو أن الجوار مقتض للشفعة (ب) مع الاشتراك في الطريق، ولا يكون مقتضيًا إذا تجرد عن الاشترك في الطريق، وهو غير رافع للقولين المشهورين، وقد قال به بعض الشافعية، حكى القول ابن الملقن النحوي في "عجالة المنهاج" ولم يصرح بقائله، وكذا ابن حجر في "شرح المشكاة"، ولا يبعد اعتباره، أما من حيث الدليل فللتصريح بالشرط في حديث جابر الآتي، وهو إذا كان طريقهما واحدًا، ومفهوم المخالفة يقتضي أنَّه إذا كان الطريق مختلفًا فلا شفعة، وهو معمول به عند المحققين، وإن كان ذلك لا يلزم الحنفية؛ لعدم العمل بالمفهوم عندهم، وأما من حيث التعليل فلأن شرعية الشفعة لمناسبة دفع الضرر، والضرر بحسب الأغلب إنما يكون مع شدة الاختلاط وشبكة الانتفاع، وذلك إنما هو مع الشركة في الأصل أو (جـ) في الطريق، ويندر الضرار مع عدم ذلك، ولو اعتبر ذلك النادر لاعتبر مع عدم ملاصقة الملك، فإنه قد يحصل التضرر مع غير (د) الملاصق؛ إما بتعلية تحجب عنه ضوء الشمس، أو روائح كريهة
(أ) في النسخ: متقابلين. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في جـ: الشفعة.
(جـ) في ب: و.
(د) ساقط من: جـ.
تكون مع بعض الناس في بيته، أو اطلاع على العورة وقصد الأذية، ولكن الشرع علق الأحكام بما هو غالب لا نادر في كثير من المناسبات، وحديث جابر المقيد بالشرط لا يحتمل التأويل المذكور أولًا؛ لأنه إذا كان المراد بالجار الشريك فلا فائدة لاشتراط كون الطريق واحدًا وكون القيد واقعا خلاف الظاهر، ولكن حديث جابر الَّذي مر يدل أيضًا على أن المعتبر هو عدم تصريف الطرق، وذلك إذا كانت الطريق متحدة، فيتعين القول بالتفصيل المتقدم. وأورد على قوله:"جار الدار أحق بالدار". أنَّه إذا كان المراد هو المعنى الحقيقي لزم أن يكون أحق من الشريك؛ لأن المفضل عليه المحذوف هو الغير، وكان التقدير: أحق من غيره. وهذا خلاف الإجماع، بخلاف ما إذا كان مجازًا عن الشريك، فإنه لا محذور فيه. ويجاب عنه بأنه مقدر (أ)؛ المفضل عليه هو المشتري الَّذي لا مشاركة له، والتقدير: أحق من المشتري الَّذي لا جوار له. ومثل هذا التقدير الخاص بالقرينة كثير.
732 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا". رواه أحمد والأربعة (1) ورجاله ثقات.
الحديث قال فيه أحمد (2): حديث منكر. و (ب) الزيادة - وهي قوله:
(أ) في جـ: يقدر.
(ب) في ب: في.
_________
(1)
أحمد 3/ 303، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الشفعة 3/ 284 ح 3518، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الشفعة للغائب 3/ 651 ح 1369، والنسائي في الكبرى، كتاب الشفعة وكتاب الشروط -كما في تحفة الأشراف 2/ 229 - وابن ماجة، كتاب الشفعة، باب الشفعة بالجوار 2/ 833 ح 2494.
(2)
الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 2/ 150.
"إذا كان طريقهما واحدًا" - من رواية (عبد الملك بن أبي سليمان)(أ) العَرْزَمي، وهو ثقة مأمون مقبول الزيادة.
تقدم الكلام في شفعة الجار.
وفي قوله: "ينتظر بها وإن كان غائبًا". فيه دلالة على أن شفعة الغائب لا تبطل وإن تراخى، وأنه لا يجب عليه السير متى بلغه الشراء لأجلها، وقد ذهب إلى هذا مالك وسيأتي، والهدوية فصَّلوا في ذلك فقالوا: إن كان (ب) مسافة الثلاث أو دون وجب عليه السير لأجلها، وإن كان فوق مسافة الثلاث لم يجب عليه السير. والحديث يحتمل تنزيله على هذا، ويكون المراد بـ "ينتظر بها" هو أنه لا يبطل لأجل بُعْده، (جـ بل ينتظر بها جـ) حيث قصد إلى طلبها.
وقوله: "إذا كان طريقهما واحدًا". قد عرفت ما دل عليه بمفهومه. قال ابن حجر في "شرحه على المشكاة": احتج به من يثبت الشفعة في المقسوم إذا كان الطريق مشتركًا. قال: ومرَّ أنَّه ضعيف. ثم قال: ومع تسليم الاحتجاج به محمول على جارٍ هو شريك، لكن مع هذا الحمل كيف
(أ) في النسخ: سليمان بن عبد الملك. وفي حاشية ب: هذا وهم وراوي الحديث هذا كما في المنتقى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، قال فيه: وعبد الملك هذا ثقة مأمون ولكن قد أنكر عليه هذا الحديث. قال شعبة: سها فيه عبد الملك فإن روى حديثًا مثله طرحت حديثه، ثم ترك شعبة التحديث عنه، وقال أحمد: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين: لم يروه غير عبد الملك، وقد أنكروه عليه. قلت: ويقوي ضعفه رواية جابر الصحيحة المشهورة المذكورة في أول الباب. انتهى. وينظر التحقيق في أحاديث الخلاف 2/ 216، وتهذيب الكمال 18/ 322.
(ب) في جـ: كانت.
(جـ - جـ) ساقطة من: جـ.
يصح قوله: "إذا كان طريقهما واحدًا"؟ ويجاب بأنه (أ) عندنا لبيان الواقع لا للاحتراز، وأما مثبتوها للجار فيقولون بأنه للاحتراز؛ لأنهم يقدمون الشريك مطلقًا، ثم المشارك في الطريق، ثم الجار، على من ليس بجار. انتهى كلامه.
733 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة كحل العقال". رواه ابن ماجة والبزار وزاد: "ولا شفعة لغائب"(1). وإسناده ضعيف.
ولفظ الحديث من روايتهما: "لا شفعة لغائب ولا لصغير، والشفعة كحل العقال". قال البزار (2): في رواته (ب) محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني (3)، له مناكير كثيرة. ورواه ابن عدي (4) في ترجمة محمد بن الحارث (5) راويه (جـ) عن ابن البيلماني، وحكى تضعيفه وتضعيف شيخه، وقال ابن حبان (6): لا أصل له. وقال أبو زرعة (7): منكر. وقال البيهقي (8):
(أ) في جـ: بأن.
(ب) في جـ: رواية.
(جـ) ساقط من: ب، وفي جـ: برواية.
_________
(1)
ابن ماجة، كتاب الشفعة، باب طلب الشفعة ح 2500، والبزار في البحر الزخار 12/ 30 ح 5405.
(2)
البحر الزخار 12/ 33.
(3)
تقدمت ترجمته ص 26.
(4)
الكامل 6/ 2185، 2188.
(5)
محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع الحارثي، ضعيف. التقريب ص 473، وضعفه ابن معين وأبو حاتم. ينظر تهذيب الكمال 25/ 29.
(6)
ينظر المجروحين 2/ 264 - 266.
(7)
ذكره عنه ابن أبي حاتم في العلل 1/ 479 ح 1435.
(8)
السنن 6/ 108.
ليس بثابت. وفي الباب حديث ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي بلا إسناد عن عمر مرفوعًا: "الشفعة لمن واثبها"(1). ويروى: "الشفعة كنشط العقال". وذكر عبد الحق في "الأحكام"(2) عن ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ: "الشفعة كحل العقال، فإن قيدها مكانه ثبت حقه، وإلا فاللوم عليه". وتعقبه ابن القطان بأنه لم يره في "المحلى"(3). وأخرج عبد الرزاق (4) من قول شريح: إنما الشفعة لمن واثبها. وذكره قاسم بن ثابت في "دلائله"(5).
الحديث فيه دلالة على أن الشفعة تبطل بالتراخي، فإن تشبيهها بحل العقال يدل على تقليل وقتها وأنه وقت قصير يسير، ورواية نشطة العقال؛ أي شد العقال منشوطًا، كعقد التِّكَّة في سهولة الانحلال، وأنشطها: أي حلها، ومنه:"كأنما نُشِط من عقال"(6). أي حُلَّ. وهو مَثَلٌ في سرعة وقوع الأمر، ورواية نَشْطَة مصدر نَشِط للوحدة، أو اسم مصدر أنشط، أي حَلَّ.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد الوقت الَّذي يعفى للشفيع؛ فبعض الهدوية اعتبر بالمجلس (أ)، وقال: إنه إذا شفع بعد أن علم بالبيع وهو باق في
(أ) في جـ: في المجلس.
_________
(1)
التلخيص الحبير 3/ 56، 57.
(2)
الأحكام الوسطى 3/ 292.
(3)
الحديث في المحلى 10/ 19.
(4)
المصنف 8/ 83 ح 14406.
(5)
التلخيص الحبير 3/ 57.
(6)
جزء من حديث الرقية بالفاتحة؛ البخاري 4/ 453 ح 2276، 1/ 2090 من حديث أبي سعيد الخدري، وأبو دواد 4/ 13 ح 3901 من حديث خارجة بن الصلت عن عمه، وجزء من حديث اليهودي الَّذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أحمد 4/ 367، 5/ 211، والنسائي 7/ 112 من حديث زيد بن أرقم.
مجلس الخبر فهو غير متراخ ولو طال المجلس. وبعضهم قال: لا يعتبر المجلس، بل إذا علم بالبيع والمشتري حاضر وتراخى عقيب العلم بطلت شفعته، ولا يكون متراخيًا بتمام صلاة الفرض، ولا بتقديم السلام، ومثل هذا قول أبي حنيفة والشافعي، فإنهما قالا في حق الحاضر: هي واجبة له على الفور، بشرط العلم وإمكان الطلب، فإن علم وأمكن الطلب ولم يطلب بطلت شفعته. إلا أن أبا حنيفة قال: إن أشهد بالأخذ لم تبطل شفعته وإن تراخى.
وقال مالك: ليست على الفور، بل وقت وجوبها متسع. واختلف قوله في هذا الوقت هل هو محدود أم لا؟ فمرة قال: هو غير محدود، وأنها لا تنقطع أبدًا، إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغييرًا كبيرًا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت. ومرة حدد هذا الوقت، فروي عنه السنة، وهو الأَشهَر، وقيل: أكثر من سنة. وقيل عنه: إن الخمسة الأعوام لا تنقطع فيها الشفعة. وقد روي عن الشافعي ثلاثة أيام. هذا ما ذكره في "نهاية المجتهد"(1)، ثم قال: وأما من لم يسقط الشفعة بالسكوت، فاعتمد على أن السكوت لا يبطل حق امرئ ما لم يظهر من قرائن أحواله ما يدل على إسقاطه، [كأن هذا](أ) أشبه بأصول الشافعي؛ لأن عنده أنَّه ليس يجب أن ينسب إلى ساكت قول قائل وإن اقترنت به أحوال تدل على رضاه، ولكنه فيما أحسب اعتمد الأثر. انتهى. وأراد بالأثر هو قوله:"كحل عقال".
وأما الغائب فأجمع أهل العلم على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع
(أ) في النسخ: هذا كان. والمثبت من بداية المجتهد.
_________
(1)
بداية المجتهد 7/ 562، 563.
شريكه، واختلفوا إذا علم وهو غائب؛ فقال قوم: تسقط شفعته. وقال قوم: لا تسقط. وهو مذهب مالك؛ ودليله حديث جابر المتقدم، وأيضًا فإن الغائب في الأغلب معوق (أ) عن الأخذ بالشفعة، فوجب عذره، وعمدة القائلين بسقوطها أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها.
اشتمل الباب على ثمانية أحاديث.
(أ) في ب: معرب.