الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التفليس والحجر
التفليس: مصدر فلَّبسه؛ أي نسبه إلى الإفلاس الذي هو مصدر أفلس، أي صار إلى حالة يقال: ليس معه فلس. والحجر: مصدر حجر، ومعناه في اللغة: المنع والتضييق، وفي الشرع: أن يقول الحاكم للمديون: حجرت عليك التصرف في مالك.
696 -
عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره". متفق عليه (1). ورواه أبو داود ومالك (2) من رواية أبي بكر ابن عبد الرحمن مرسلًا بلفظ: "أيما رجل باع متاعًا وأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أُسْوَةُ الغرماء (3) ". ووصله البيهقي (4) وضعفه تبعًا لأبي داود. وروى أبو داود وابن ماجه (5) من رواية عمر بن خَلَدة قال: أتينا
(1) البخاري، كتاب الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض
…
5/ 62 ح 2402، ومسلم، كتاب المساقاة، باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس فله الرجوع فيه 3/ 1193 ح 1559/ 22، 23.
(2)
أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده 3/ 284، 285 ح 3519 - 3522، ومالك، كتاب البيوع، باب ما جاء في إفلاس الغريم 2/ 678 ح 87.
(3)
أسوة الغرماء: أي أنهم مساوون ومشاركون في المال الوجود للمفلس. عون المعبود 3/ 101، 309.
(4)
البيهقي، كتاب التفليس، باب المشتري يموت مفلسا بالثمن 6/ 47.
(5)
أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده 3/ 285، 286 ح 3523، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس 2/ 790 ح 2360.
أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به". صححه الحاكم (1)، وضعفه أبو داود وهذه الزيادة في ذكر الموت.
هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام الخزومي، اسمه كنيته، وقيل: إن اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن. قاضي المدينة، تابعي، سمع عائشة وأبا هريرة، روى عنه الشعبي والزهري (2).
الحديث فيه دلالة على أن البائع إذا أفلس المشتري ولم يقدر على تسليم ثمن ما اشتراه أنه أحق بالمبيع، فيأخذه دون سائر الغرماء إذا كان له غرماء، وذلك لأن:"من أدرك ماله". عام لما كان قد خرج عن ملكه ببيع أو قرض أو كان وديعة، إلا أن الوديعة لا يحتاج إلى ذكرها؛ لأن المال باقٍ على ملك المالك، سواء كان الوديع مفلسًا أو غير مفلس، وهو إجماع.
وأما القرض، فإذا أقرض وانكشف له إعسار المقترض؛ فذهب الشافعي وآخرون إلى أن المقرض أولى بماله وله استرجاعه، وذهب غيرهم إلى أن ذلك الحكم يختص بالبيع، ولفظ هذه الرواية وإن كان فيه عموم، فقد وقع التصريح في غيرها بلفظ البيع، وقد صرح به سفيان في "جامعه"(3)، وأخرجه من طريقه (أ) ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما (4) عن يحيى بن سعيد
(أ) في ب: طريق.
_________
(1)
الحاكم، كتاب البيوع 2/ 50، 51.
(2)
ينظر تهذيب الكمال 33/ 112 - 118.
(3)
سفيان في جامعه -كما في الفتح 5/ 64.
(4)
ابن حبان 11/ 414 ح 5037، وابن خزيمة -كما في الفتح 5/ 64 - وأحمد 2/ 247.
بإسناد الحديث المذكور، ولفظه:"إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء". ولابن حبان (1) من طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته". والباقي مثله. ولمسلم (2): إذا وجد عنده المتاع "أنه لصاحبه الذي باعه". وفي مرسل ابن أبي مليكة عند عبد الرزاق (3): "من باع سلعة من رجل لم ينقده، ثم أفلس الرجل، فوجدها بعينها فليأخذها من بين الغرماء". فالحديث وارد في صورة البيع، وتُحمل الرواية العامة على الصورة الخاصة، إلا أن قول الأكثر من الأصوليين أن الخاص الموافق للعام في الحكم لا يخصص العام. [وضعف](أ) هذا الجواب، ولا يتم إلا على قول أبي ثور، وقياس القرض على البيع لا يتم؛ لأن القرض شرعيته لدفع الحاجة، ولا يكون ذلك في الأغلب إلا مع الإفلاس، فلو كان مثل البيع لم يستقرض أحد في الأغلب، بخلاف البيع فإن البائع إنما يبيع ليقبض الثمن، والمشتري كذلك إنما يشتري (ب) ليسلم الثمن، فإذا انكشف معسرا لم يحصل الغرض المقصود من البيع.
وقوله: "بعينه". يدل على أنه إذا كان المال قد تغير في صفة من الصفات أو بزيادة أو نقصان فليس صاحبه الأول أولى به، بل يكون فيه أسوة الغرماء، وذهب الهدوية والشافعي إلى أنه إن تغيرت صفته بعيب فللبائع
(أ) في الأصل: يضعف، وفي جـ: فضعف.
(ب) في ب: اشترى.
_________
(1)
ابن حبان 11/ 415 ح 5038.
(2)
مسلم 3/ 1193 ح 1559/ 23.
(3)
عبد الرزاق 8/ 266 ح 15169.
أخذه، ولا أرش [يلزم](أ) له، وإن تغيرت بزيادة كان للمشتري غرامة تلك الزيادة؛ وهي ما أنفق عليه حتى حصلت، وكذلك الفوائد للمشتري ولو كانت متصلة، لأنها نماء حادث في ملكه، و [يلزم له](ب) قيمة ما لا حدَّ لبقائه كالشجر إذا غرسها، وإبقاء ما له حدٌّ بلا أجرة كالزرع، وكذلك [إذا نقصت](جـ) العين بأن هلك بعضها فله أخذ الباقي بحصته من الثمن، وهو يتناوله لفظ الحديث؛ لأن الباقي مبيع باق بعينه، وقيل: إنه يرجع بجميع الثمن. ولا دلالة في لفظ الحديث في كيفية الرجوع، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن المرسل قد وصله أبو داود (1) من طريق أخرى وفيها إسماعيل بن عياش (2)، إلا إنه رواه عن الزُّبَيدي وهو شامي، قال أبو داود: المرسل أصح. وقد وصله عبد الرزاق في "مصنفه"(3) عن مالك، لكن المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزهري، وقد وصله [الزبيدي](د) عن الزهري.
قال المصنف رحمه الله (4): واختلف على إسماعيل فيه، فأخرجه ابن الجارود من وجه آخر (5) عنه عن موسى بن عقبة عن الزهري موصولًا، وقال
(أ) في الأصل: يلزمه.
(ب) في الأصل: يلزمه.
(جـ) في الأصل، ب: إذا نقص، وفي جـ: إذ نقص. والمثبت هو الصواب.
(د) في النسخ: الترمذي. وتقدم على الصواب، وينظر الفتح 5/ 63.
_________
(1)
أبو داود 3/ 285 ح 3522.
(2)
تقدمت ترجمته في 1/ 92.
(3)
عبد الرزاق 8/ 264 ح 15160.
(4)
التلخيص الحبير 3/ 39.
(5)
ابن الجارود في المنتقى ص 244 ح 631، 633.
الشافعي (1): هو منقطع. وقال البيهقي (2): لا يصح وصله. وذكر ابن حزم (3) أن عِراك بن مالك رواه أيضًا عن أبي هريرة، وفي "غرائب مالك" وفي "التمهيد"(4) أن بعض أصحاب مالك وصله عنه.
وأخرج ابن أبي شيبة (5) عن عمر بن عبد العزيز قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحق به من الغرماء، إلا أن يكون اقتضى من ماله شيئًا فهو أسوة الغرماء.
وفيه دلالة على أن البائع إذا كان قد قبض بعض الثمن فليس له حق في استرجاع المبيع، بل يكون أسوة الغرماء، وقد أخذ بهذا جمهور العلماء، وذهبت الهدوية -والقول الراجح للشافعي- إلى أنه أحق به وإن قد قبض بعض الثمن، يعني يأخذ بقدر ما بقي من الثمن، ولعل الشافعي لما لم يصح له هذا الحديث رجع إلى عموم حديث الباب المتفق على صحته ولم يفرق فيه بين قبض بعض الثمن وغيره.
وفي قوله: "أو مات" إلخ. فيه دلالة على أنه إذا مات المشتري قبل أن يسلم الثمن. فالبائع أولى بالمتاع، وظاهره: ولو خلَّف وفاءً. وقد ذهب إلى هذا الشافعي، واحتج بما رواه (6) من طريق عمر بن خَلَدة قاضي المدينة، قال: وهو حديث حسن يحتج بمثله. وقد أخرجه أحمد (7) أيضًا. وقد زاد
(1) الأم 3/ 215.
(2)
البيهقي 6/ 47.
(3)
المحلى 8/ 637.
(4)
التمهيد 8/ 406.
(5)
ابن أبي شيبة 6/ 36، 10/ 163.
(6)
الشافعي في الأم 3/ 199.
(7)
أحمد 2/ 287.
بعضهم في [آخرِه](أ): "إلا أن يترك صاحبه وفاء"(1).
قال الشافعي (2): يحتمل أن تكون الزيادة من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن (3)؛ لأن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة، بل في رواية عمر بن خَلَدة التسوية بين الموت والإفلاس، فتعين المصير إليه.
وجزم ابن العربي (4) بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي.
وذهب مالك وأحمد إلى أنه إذا مات وهو مفلس فالمتاع أسوة الغرماء، وقد ورد في مرسل مالك (5):"وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيها أسوة الغرماء". وفرَّق بين الفَلَس (ب) والموت بأن الميت خربت ذمته وليس للغرماء محل رجعون إليه، فاستووا في ذلك، بخلاف الفَلَس. وظاهر كلام الهدوية والمؤيد وغيرهم أن الميت إذا خلف الوفاء لم يكن صاحب المتاع أولى به، بل الورثةُ، ويسلِّمون الثمن من التركة. والحديث يرد عليهم، وتأويله
(أ) في النسخ: آخر حديث أبي بكر بن عبد الرحمن. وهو خطأ، والمثبت من الفتح 5/ 64، وهذه الزيادة هي في حديث عمر بن خلدة وحده.
(ب) في ب: المفلس.
_________
(1)
الطيالسي 4/ 130 ح 2497، وابن أبي شيبة 10/ 171، والدارقطني 3/ 29 ح 106، والبيهقي 6/ 46.
(2)
الأم 3/ 215.
(3)
يعني الزيادة التي في الحديث الذي أخرجه في الأم 3/ 214 عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن عبد الرحمن مرسلًا، وزاد فيه: فإن مات المشتري فصاحب السلعة أسوة الغرماء.
(4)
عارضة الأحوذي 6/ 19.
(5)
الموطأ 2/ 678 ح 87.
بأنه إذا لم يخلف الوفاء يَبعُد عَطْفُ الموت على الإفلاس، فإن ظاهره أن ذلك سبب مستقل من دون إفلاس، وإذا أراد الغرماء أو الورثة إعطاء صاحب السلعة الثمن؛ فقال مالك: يلزمه القبول. وقال الشافعي وأحمد: لا يلزمه ذلك؛ لما فيه من المنة، ولأنه ربما ظهر غريم آخر يزاحمه فيما أخذ. وأغرب ابن التين (1) وحكى عن الشافعي أنه قال: لا يجوز له ذلك وليس له إلا سلعته. والخلاف في أصل المسألة للحنفية فقالوا: إن البائع وغيره على سواء في أن المتاع يكون أسوة الغرماء. قالوا: والحديث لا يحمل على ظاهره، بل يجب تأويله بما إذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة؛ لكونه خبر واحد خالف الأصول، لأن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري ومن ضمانه، واستحقاق البائع أخذها منه نقض لملكه. وأجيب عن ذلك بأنه لو كان المقصود ما ذكر في التأويل لم يقيد بالفَلَس ولا جعل "أحق بها" بصيغة التفضيل المقتضية للمشاركة في الحقية، ولا يتصور التأويل هذا فيما تقدم من رواية سفيان:"إذا ابتاع الرجل". فذلك نص في البيع، فكيف يصح حمله على الوديعة ونحوها؟ وتأوله بعض الحنفية بتأويل أقرب وهو ما إذا أفلس قبل أن يقبض المتاع، ورُدَّ عليه بقوله:"عند رجل". في الحديث المصدر، فإنه يدل على أن المتاع قد صار في غير يد صاحبه الأول، وقولهم: إنه خبر واحد. غير صحيح، فإنه مشهور، فقد روى ابن حبان (2) ذلك من حديث ابن عمر وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد وأبو داود (3) من حديث سمرة وإسناده حسن، وقضى به عثمان (4) وعمر بن عبد العزيز (5)، فخرج عن
(1) الفتح 5/ 65.
(2)
ابن حبان 11/ 415، 416 ح 5039.
(3)
أحمد 5/ 13، وأبو داود 3/ 287 ح 3531.
(4)
البيهقي 6/ 46.
(5)
ابن أبي شيبة 6/ 36.
كونه فردًا غريبًا. وقال ابن المنذر: إنه لا يعرف لعثمان مخالف من الصحابة. وتعقب بما رواه ابن أبي شيبة (1) عن عليٍّ أنه أسوة الغرماء. وأجيب عنه بأنه اختلف على عليٍّ في ذلك ولم يختلف على عثمان، ويلتحق بذلك المؤْجِرُ، فيرجع مُكري الدابة والدار إلى عين (أ) دابته وداره، وهذا هو الوجه الصحيح عند الشافعية والمالكية، وإدراج الإجارة في هذا الحكم يتوقف على أن المنافع يطلق عليها اسم المتاع أو المال، أو يقال: اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين. ومن لوازم ذلك الرجوع في المنافع، فثبت بطريق اللزوم.
واستدل بالحديث على حلول الدين المؤجل بالفَلَس؛ من حيث إن صاحب الدين أدرك متاعه بعينه فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أنه يجوز له المطالبة بالمؤجل، وهو قول الجمهور، وعند الهدوية، وهو الراجح عند الشافعية، أن المؤجل لا يحل بذلك؛ لأن الأجل حق مقصود له فلا يفوت، وعلى هذا القول قال بعض المفرعين: إنه يقضي مالُه أهلَ الديون الحالّة، وحق أهل المؤجل في ذمته، بخلاف ما إذا مات، فإنه يعزل حصة أهل المؤجل؛ لأنه لا ذمة له.
وقال بعضهم: بل يعزل نصيب أهل المؤجل إلى وقت حلول الأجل؛ لأن دينه قد دخل ضمنًا في الحجر، فكان كالمعجل، وللمدين حق في التأخير، وله فائدة؛ لو أيْسَر ورأى الحاكم رجوع ذلك إليه، لا سيما حيث كان من غير الجنس، وقد يكون انقضاء الأجل يسيرا، ويعرف الحاكم أنه لا معنى لذلك، فله دفعه إليه، لا سيما حيث كان يخشى عليه، فيكون
(أ) في جـ: غير.
_________
(1)
ابن أبي شيبة 6/ 37.
بنَظِرة. وبني على هذا في "الأثمار" و "البحر"، واستدل به على أن لصاحب المتاع أن يأخذ متاعه من دون حكم، وهو الأصح من قول العلماء، والقول الآخر يتوقف (أ) على حكم الحاكم كما يتوقف ثبوت الفَلَس.
واستدل به على فسخ المبيع إذا امتنع المشتري من أداء الثمن مع قدرته بمطل أو هرب؛ قياسًا على الفَلَس بجامع تعذر الوصول إليه حالا، والأصح من أقوال العلماء أنه لا يفسخ، واستدل به على أن الرجوع إنما يقع في عين المتاع دون زوائده؛ لأنها حدثت على ملك المشتري وليست بمتاع البائع.
697 -
وعن عمرو بن الشَّريد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد يُحل عرضه وعقوبته". رواه أبو داود والنسائي، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان (1).
هو عمرو بن الشريد، بفتح الشين المعجمة وكسر الراء، بن سويد الثقفي، تابعي، عداده في أهل الطائف، سمع ابن عباس، وأباه، وأبا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنه صالح بن دينار، وإبراهيم بن ميسرة، [ومحمد بن ميمون](ب).
وأخرج الحديث أيضًا أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي (2)، وقال
(أ) في ب: متوقف.
(ب) في الأصل: ضد ميمنة، وفي ب: رصد ميمنة، وفي جـ: عند ميمنة. والمثبت من تهذيب الكمال 22/ 63.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره 3/ 312، 313 ح 3628، والنسائي، كتاب البيوع، باب مطل الغني 7/ 316 ح 4703، 4704، والبخاري، كتاب الاستقراض، باب لصاحب الحق مقال 5/ 62، وابن حبان، كتاب الدعوى، باب عقوبة الماطل 11/ 486 ح 5089.
(2)
أحمد 4/ 222، 388، وابن ماجه 2/ 811 ح 2427، والحاكم 4/ 102، والبيهقي 6/ 51.
الطبراني في "الأوسط"(1): لا يروى عن الشريد إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن أبي دُلَيْلَة.
وقوله: "لَيُّ الواجد". هو بفتح اللام والياء المشددة، مصدر من لوَى يَلوي؛ أي مَطْلُ. و "الواجد" بالجيم: الغني، من الوُجد، بالضم، أي القدرة. و "يُحل" بضم الياء أي يُجَوِّز. وقد فسر البخاري حِلَّ العِرض بما علقه عن سفيان، قال: يقول: مطلني، وعقوبته حبسه. ووصله البيهقي (2) من طريق الفريابي، وهو من شيوخ البخاري، عن سفيان بلفظ: عرضه؛ أن يقول: مطلني حقي. وعقوبته أن يسجن. وقال إسحاق (3): فسر سفيان عرضه أذاه بلسانه. وقال أحمد، لما رواه عن وكيع بسنده، قال وكيع: عرضه شكايته. وقال كل منهما: وعقوبته حبسه.
واستدل به على مشروعية حبس المدين إذا كان قادرًا على الوفاء؛ تأديبًا له وتشديدًا عليه. وهو حجة لأبي حنيفة وزيد بن علي أنه يحبس حتى يقضي دينه، ولا يحجر عليه. وأجاز الجمهور الحجرَ وبيعَ الحاكم عليه ماله، وسيأتي في حديث معاذ (4).
ويدل الحديث بالمفهوم أن المعسر ليُّه لا يُحل شيئًا من ذلك، وهو قول الجماهير من العلماء. وحكي عن شريح حبسه حتى يقضي الدين وإن كان قد ثبت إعساره (5). وعن أبي حنيفة ملازمته. وقوله تعالى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (6). رد عليهم.
(1) الأوسط 3/ 46 عقب ح 2428.
(2)
البيهقي 6/ 59.
(3)
إسحاق كما في الفتح 5/ 62.
(4)
سيأتي ح 699.
(5)
عبد الرزاق 8/ 305، 306 ح 15309، 15310.
(6)
الآية 280 من سورة البقرة.
واختلف العلماء في مَطْل الواجد هل يبلغ إلى حد الكبيرة فيُفَسَّق الماطل وترد شهادته بمطله مرة واحدة؟ فذهب الهدوية إلى أنه يفسَّق بذلك. واختلفوا في قدر ما يُفَسِّق؛ فذهب الجمهور منهم إلى أنه يفسَّق بمطل عشَرة دراهم فما فوق؛ قياسًا على نصاب السرقة، وفي كلام الهادي وولده أحمد ما يقضي بأنه يفسق بدون ذلك، وكذلك المالكية والشافعية، إلا أنهم ترددوا في اشتراط التكرار، ومقتضى مذهب الشافعي اشتراطه، والله أعلم.
698 -
وعن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تصدقوا عليه". فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه:"خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". رواه مسلم (1).
تقدم الكلام في ضمان الثمرة إذا أصيبت (2)، والجمعُ بين هذا وحديثِ جابر وقولِه:"فلا يحل لك أن تأخذه". أن هذا على جهة الاستحباب والحث على جبر من حدث عليه حادث، ويدل أيضًا قوله:"وليس لكم إلا ذلك". على أن الثمرة غير مضمونة، إذ لو كانت مضمونة لقال: وما بقي نظرة إلى ميسرة. أو نحو ذلك؛ إذ الدين لا يسقط بإعسار المدين، وإنما تتأخر عنه المطالبة في الحال، ومتى أيسر وجب عليه القضاء، والله أعلم.
699 -
وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه. رواه الدارقطني وصححه
(1) مسلم، كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1191 ح 1556/ 18.
(2)
تقدم ص 217 - 219.
الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلًا (1) ورجح [إرساله](أ).
ابن كعب اسمه عبد الرحمن، كذا سماه عبد الرزاق.
أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي (2) من طريق هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك، وخالفه عبد الرزاق (3) وعبد الله بن المبارك (4) عن معمر فأرسلاه، قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل.
وقال ابن الطلَّاع في "الأحكام"(5): هو حديث ثابت، وكان ذلك في سنة تسع، وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم، فقالوا: يا رسول الله، بعه لنا. قال:"ليس لكم إليه سبيل".
وأخرجه البيهقي (6) من طريق الواقدي، وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره. وزاد (ب) الطبراني في "الكبير"(7) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج بعث معاذًا إلى اليمن، وأنه أول من تاجر في مال الله.
الحديث فيه دلالة على أن المدين يحجر عليه الحاكم التصرف في ماله
(أ) ساقط من النسخ، والمثبت من بلوغ المرام ص 185.
(ب) في ب، جـ: روى.
_________
(1)
الدارقطني، كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، 4/ 230، 231 ح 95، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 58، وأبو داود في المراسيل، كتاب البيوع، باب ما جاء في التجارة ص 131 ح 9، 10.
(2)
البيهقي 6/ 48.
(3)
البيهقي 6/ 48 من طريق عبد الرزاق به.
(4)
ذكره البيهقي في سننه 6/ 48.
(5)
التلخيص الحبير 3/ 37.
(6)
البيهقي كما في التلخيص الحبير 3/ 38.
(7)
الطبراني 20/ 30 - 32 ح 44.
ويبيعه عنه لقضاء الغرماء، وهو حكاية فعل عرف وجهه، فيتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وظاهر القصة أنه كان ماله مستغرقا بالدين، فإذا اقتصر على قدر ما ورد لم يكن الحجر إلا على المستغرق ماله، ولكنه إذا ظهر المقتضي المناسب جاز الإلحاق، والمقتضي لذلك هو عدم مسارعة المدين بالقضاء، وهو حاصل مع من استغرق ماله، ومن لم يستغرق فيلحق به، وقد ذهب إلى هذا جمهور العترة والشافعي وأبو يوسف ومحمد. وقال زيد بن علي والناصر وأبو حنيفة: إنه لا يحجر ولا يبيع، وإنما الواجب أن يحبس حتى يقضي دينه. قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه"(1). وقوله تعالى: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (2). ومقتضى الحجر والبيع إخراج المال من دون طيبه، ولم يكن تجارة عن تراض، وحديث معاذ حكاية فعل، وأيضًا فإنه مرسل. وأجيب بأن ذلك عموم، وحديث معاذ خاص، وأن الفعل إذا ظهر وجهه فهو حجة كالقول، وقد ظهر هنا وهو أنه فعل لدفع الخصومة واستيفاء الحق، فكان ظاهره الوجوب على الحاكم أن يفعل ذلك لما ذكر، وقد يجاب عن ذلك بأن حجر النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لطلب من معاذ من النبي صلى الله عليه وسلم لما فعله، وقد روى ذلك إمام الحرمين في "النهاية"(3)، قال: قال العلماء: [ما](أ) كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ من جهة استدعاء غرمائه، والأشبه أن ذلك جرى باستدعائه. وتبعه الغزالي (4) في ذلك، وقد روى الدارقطني (5) أن معاذًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، ولكن هذا لا يدل على ما ذكر؛ لأن
(أ) في الأصل: لما.
_________
(1)
أحمد 5/ 72 من حديث عم أبي حرة الرقاشي.
(2)
الآية 29 من سورة النساء.
(3)
النهاية كما في التلخيص الحبير 3/ 39.
(4)
الوسيط 4/ 6.
(5)
الدارقطني كما في التلخيص الحبير 3/ 39.
تكليم الغرماء ظاهره ليس لطلب الحجر، وإنما هو لأجل الإنظار والتحلل منهم إلى وقت اليسار، وما ادعاه إمام الحرمين هو خلاف ما صح من الروايات المشهورة، فإن في "مراسيل (أ) أبي داود" التصريح بأن الغرماء هم الذين طلبوا ذلك. وفي هذا دلالة على أنه لا يحجر الحاكم حتى يطلب الغرماء ذلك في دين مؤجل إذ الحق لهم، وقال الشافعي: يصح قبل الطلب لمصلحة. وذكر بعض الهدوية أنه يصح في المؤجل إذا رأى الحاكم في ذلك صلاحًا، وقال أبو جعفر: الدين المؤجل كالمعدوم حتى يحل الأجل. قال المؤيد بالله: ويصح الحجر قبل التثبيت بالدين مدة قريبة. وقدرها المهدي في "البحر" ثلاثة أيام.
ويؤيد شرعية الحجر ما وقع من عمر في حق أسيفع جهينة وهو ما أخرج مالك في "الموطأ"(1) بسند منقطع أن رجلًا من جهينة كان يشتري الرواحل فيُغالي بها؛ فيسرع المسير فيسبق الحاج، فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال: أما بعد أيها الناس، فإن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج. وفيه: ألا إنه ادّان مُعْرِضًا (2)، فأصبح وقد رِينَ به -أي أحاط به الدين- فمن كان له عليه دين؛ فليأتنا بالغداة فنقسم ماله بين غرمائه، ثم إياكم والدَّينَ فإن أوله هَمٌّ وآخره حَرَب (3).
(أ) في ب، جـ: مرسل.
_________
(1)
الموطأ 2/ 770.
(2)
ادّان مُعْرضًا: يريد بالمعرض المعترض. أي اعترض لكل من يقرضه. يقال: عرض لي الشيء، وأعرض وتعرض واعترض بمعنًى. وقيل: أراد أنه إذا قيل له: لا تستدن. فلا يقبل، مِن أعرض عن الشيء إذا ولّاه ظهره. وقيل: أراد معرضا عن الأداء. النهاية 3/ 215، والاقتضاب 2/ 595.
(3)
الحرب، بتحريك الراء: السّلَبُ، ورجل محروب وحريب بمعنى مسلوب، يريد: أن آخره أن يسلب ماله. ورُوى بالسكون: أي النزاع. الاقتضاب 2/ 298 وينظر النهاية 1/ 359.
وقد وصله الدارقطني (1) عن بلال بن الحارث عن عمر، المتروك في حديث مالك، وكذا عند ابن أبي شيبة (2). وأخرج البيهقي (3) القصة من طريق مالك وقال: رواه ابن عُلية عن أيوب قال: نُبِّئت (1) عن عمر. فذكر نحوه، وقال فيه: فقسم ماله بينهم بالحصص. وقد أخرجه عبد الرزاق (4) عن معمر عن أيوب. ورواه الدارقطني (5) في "غرائب مالك" بإسناد متصل، (ب وهذا واقع في محضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فدل على أن ذلك كان معلومًا عندهم معروف الحال إذ لو كان ابتداء نظر لطلب من الناس الاجتهاد كما كانت عادة عمر رضي الله عنه ب).
واعلم أن ظاهر الحديث أنه لا يمهل المدين مع وجود المال، وقد ورد في حديث جابر أخرجه البخاري (6) أن أباه قتل يوم أحد شهيدًا وعليه دين، فاشتد الغرماء في [حقوقهم](جـ) فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا ثمر
(أ) في جـ: ثبت.
(ب- ب) ساقط من: ب.
(جـ) في الأصل: ديونهم.
_________
(1)
الدارقطني في العلل 2/ 147.
(2)
ابن أبي شيبة 7/ 219.
(3)
البيهقي 6/ 49.
(4)
عبد الرزاق كما في التلخيص الحبير 3/ 41.
(5)
الدارقطني كما في التلخيص الحبير 3/ 41.
(6)
البخاري 5/ 224 ح 2601.
حائطي ويحللوا أبي، فأبوا فلم يعطهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال:"سنغدو عليك". فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة، [فجَددتها] (أ) فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها. وبوّب البُخاريّ (1) على ذلك: باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم يَر ذلك مطلًا، وزاد في رواية: فلم يعطهم الحائط ولم يكسر لهم. فهو يدل على أن انتظار حصول الغلة والتمكن منها [لا يعد مطلًا](ب) وعلى أن من كان له دخل يُنظر إلى دخله وإن طالت مدته؛ إذ لا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة في حق الآدمي، ومن لا دخل له لا ينظر، ويبيع الحاكم ماله لأهل (جـ) الدين. وبهذا يجمع بين الأدلة، ويؤيّد هذا ما ذكره الرازي في "مفاتح الغيب" (2) وغيره من المفسرين في قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3). أن الآية نزلت في بني المغيرة؛ لما سألهم الأربعة الإخوة من ثقيف قضاء الدين وطلبوا الإمهال إلى إدراك الغلة، فأبوا، فنزلت الآية، وإن كانت الآية محتملة أن تكون مختصة بدين الرِّبا وأن الضمير في قوله تعالى:(وإن كان ذا عسرة) في قراءة عثمان (4)، عائد إلى من عليه المال المذكور، كما ذهب إليه شريح
(أ) في جـ: فخذذتها.
(ب) في الأصل: إلَّا بعد بطلان.
(جـ) في ب: لأجل.
_________
(1)
البخاري 5/ 65.
(2)
مفاتيح الغيب 7/ 102.
(3)
الآية 280 من سورة البقرة.
(4)
وهي أيضًا قراءة أُبي وابن مسعود وابن عباس. ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه القرآن ص 24، والبحر المحيط 2/ 340.
وابن عباس (1) والضَّحَّاك والسدي وإبراهيم النَّخعيُّ؛ أن الآية مختصة بالربا، وروي أن شريحًا حبس المدين فقيل له: إنه معسر. فقال: ذلك في الرِّبا. وقراءة الجمهور: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} . والمعنى: وإن وجد أو ثبت ذو عسرة. فسياق الآية. وإن كان في الرِّبا، إلَّا أن غير الرِّبا مشارك في المعنى، فهو إما بالنص إذا اعتبر عموم المعسر، أو من باب القياس إذا اعتبر خصوص دين الرِّبا، وأن الإنظار إلى الميسرة وهو إدراك الغلة معتبر في الجميع، وقريب من هذا ما ذكره بعض المتأخرين من (أ) المفرعين على مذهب الهادي، أنَّه يمهل من عليه الدين الأيَّام التي تعرض سلعته للبيع فيها بالقيمة، ولا يجب عليه أن يبيع بدون ذلك، حيث يمكن البيع من دون غبن (ب).
700 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. متَّفقٌ عليه (2)، وفي رواية للبيهقي (3): فلم يجزني ولم يرني بلغت. وصححها ابن خزيمة.
الحديث فيه دلالة على أن البلوغ يثبت بخمس عشرة سنة، وهو مذهب الجمهور قالوا: وباستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفًا وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادات وغيرها، ويستحق سهم الرجل
(أ) زاد في ب: أن.
(ب) في جـ: غيره.
_________
(1)
الطبري في تفسيره 5/ 59.
(2)
البُخاريّ، كتاب الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم 5/ 276 ح 2664، ومسلم، كتاب الإمارة، باب بيان سن البلوغ 3/ 1490 ح 1868/ 91 واللفظ له، وفيه: عرضني. بدل: عرضت.
(3)
البيهقي، كتاب الحجر، باب البلوغ بالسن 6/ 54، 55.
من الغنيمة، ويُقتل إن كان محاربًا.
وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع من الهجرة وهو الصَّحيح، وقال جماعة من أهل التواريخ والسير: كانت سنة خمس. وهذا الحديث يرد؛ لأنهم أجمعوا على أن أحدًا كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع؛ لأنَّه جعلها في هذا الحديث بعدها بسنة.
وقوله: فأجازني. وقوله: فلم يجزني. المراد بالإجازة جعل له حكم الرجال المقاتلين، ووجه ذكر الحديث هنا أن الصَّغير الذي لم يبلغ ليس له حكم البالغ، فيندرج في ذلك عدم نفوذ معاملاته وعقوده، والله أعلم.
701 -
وعن عطية القرظي رضي الله عنه قال: عرضنا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم قريظة وكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلِّي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي. رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم (1).
هو عطية القرظي من سبي بني قريظة قال ابن عبد البر (2): لم أقف على اسم أبيه. رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وسمع منه، روى عنه مجاهد بن جبر وعبد الملك بن عمير.
الحديث أخرجه أصحاب "السنن" من حديث عبد الملك بن عمير عنه بلفظ: ومن لم ينبت لم يقتل. وفي رواية: جعل في السبي. وللترمذي:
(1) أبو داود، كتاب الحدود، باب في الغلام يصيب الحد 4/ 139 ح 4404، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم 4/ 123 ح 1584، والنَّسائيُّ، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي 6/ 155، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد 2/ 849 ح 2541، وابن حبان، كتاب السير، باب الخروج وكيفية الجهاد 11/ 103 ح 4780، والحاكم، كتاب الجهاد 2/ 123، وكتاب المغازي 3/ 123.
(2)
الاستيعاب 3/ 1072.
خلي سبيله. وله طرق أخرى عن عطية، وصححه التِّرمذيُّ وابن حبان والحاكم وقال: على شرط "الصحيحين". وهو كما قال إلَّا أنهما لم يخرجا لعطية، وما له إلَّا هذا الحديث الواحد. والحديث فيه دلالة على أن الإنبات يحصل به البلوغ، ويجري على من أنبت أحكام المكلفين والله أعلم.
ولم يذكر المصنف الحجر للتبذير والسفه، وقد قال به الشَّافعي وأبو يوسف ومحمد، وهو مذهب مالك وجماهير العلماء فقالوا: يجب الحجر لأجلهما. وقال البيهقي في "السنن الكبري"(1)، في باب الحجر على البالغين بالسفه، أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضًا بستمائة ألف درهم، فهم علي وعثمان أن يحجرا عليه. قال: فلقيت الزُّبير فقلت: ما اشترى أحد بيعًا أرخص ممَّا اشتريت. قال: فذكر له عبد الله الحجر. قال: لو أن عندِي مالًا لشاركتك. قال: فإني أقرضك نصف المال. قال: فإني شريكك. فأتاهما علي وعثمان وهما يتراوضان. قال: ما تراوضان؟ فذكرا له الحجر على عبد الله بن جعفر، فقال: أتحجران (أ) على رجل أنا شريكه؟! وفي رواية: فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه (ب) الزُّبير؟! قال الشَّافعي رحمه الله تعالى: لا يطلب الحجر إلَّا وهو يراه، والزبير لو كان الحجر باطلًا قال: لا يحجر على بالغ حر. وكذلك عثمان، بل كلهم يعرف الحجر. ثم ذكر قصة عائشة حين هم عبد الله بن الزُّبير بالحجر عليها، فنذرت ألا تكلمه إلخ. رواه البُخاريّ في "صحيحه"(2) عن أبي اليمان. فهذه عائشة لا تنكر
(أ) في ب: أتحجر.
(ب) زاد في جـ: ابن.
_________
(1)
السنن الكبرى 6/ 61.
(2)
البُخاريّ 10/ 491 ح 6073 - 6075.
الحجر، وابن الزُّبير يراه. وقد كان الحجر معروفًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يروى عنه إنكاره. ثم ذكر الذي كان يبتاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عقدته ضعف، فأتى أهله فقالوا: يا نبي الله، احجر على فلان. إلى آخر ما ذكر (1) رحمة الله عليه. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة: لا يحجر بذلك. قال ابن القصار وغيره: الصَّحيح الأول وكأنه إجماع. قال النواوي (2): والصغير لا ينقطع عنه حكم اليتم بعلو السنن، ولا بمجرد البلوغ، بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان وصار رشيدًا يتصرف في ماله، ويجب تسليمه إليه وإن كان غير ضابط له. والله أعلم.
702 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز لامرأة عطية إلَّا بإذن زوجها". وفي لفظ: "لا يجوز للمرأة أمرٌ في مالها إذا ملك زوجها عصمتها". رواه أحمد وأصحاب "السنن" إلَّا التِّرمذيُّ وصححه الحاكم (2).
الحديث فيه دلالة على أن المرأة محجورة عن التصرف في مالها إذا كانت مزوجة إلَّا فيما أذن لها فيه الزوج، وهذا صريح في الرّواية الثَّانية لزيادة لفظ:"في مالها". وقد ذهب إلى هذا طاوس ولو كانت رشيدة، وأمَّا إذا كانت سفيهة ففيها ما تقدم من الحجر بالسفه، وذهب مالك إلى أن تصرفها
(1) السنن الكبرى 6/ 62. والحديث تقدم تخريجه ص 160، وينظر ص 163.
(2)
أحمد 2/ 221، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها 3/ 291 ح 3547 باللفظ الأول، وح 3546 باللفظ الثَّاني، والنَّسائيُّ، كتاب الزكاة، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها 5/ 65، 66 باللفظ الأول، وفي كتاب العمرى، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها 6/ 278 باللفظ الثَّاني، وابن ماجه، كتاب الهبات، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها 2/ 798 ح 2388 باللفظ الثَّاني، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 47 باللفظ الثَّاني.
من الثُّلث، وذهب اللَّيث إلى أنَّه لا يجوز تصرفها إلَّا في الشيء التافه، وذهب الجمهور إلى أنَّه لا حجر عليها في مالها، وأدلة الجمهور كثيرة من الكتاب والسنة؛ إلَّا أنها عموم وهذا خاص، والجمع بين العام والخاص هو الواجب. قال ابن بطال (1): إن الأحاديث التي أوردها البُخاريّ في صحة تصرَّف المرأة بغير إذن زوجها حملها مالك على الشيء اليسير وجعل حده الثُّلث فما دونه. والله أعلم.
703 -
وعن قبيصة بن مخارق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل إلَّا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتَّى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتَّى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتَّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة". رواه مسلم (2).
الحديث قد تقدم بلفظه في باب قسمة الصدقات، وهو أليق به من هذا، ولا مناسبة لإيراده هنا، فليرجع في شرحه إلى ذلك الباب (3)، ولعل وجه ذكره أن الرجل الذي تحمل الحمالة قد لزمه دين، ولا يكون له حكم المفلس في الحجر عليه بل يترك حتَّى يسأل النَّاس فيقصي دينه، وهذا الحكم مستقيم على القواعد إذا لم يكن قد ضمن بذلك المال، والله أعلم.
(1) شرح صحيح البُخاريّ 7/ 107، 109.
(2)
مسلم، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة 2/ 722 ح 1044/ 109.
(3)
تقدم في 4/ 388 - 391.