الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الناحية الاجتماعية وأثرها في شخصية الجراعي
كان المجتمع الإسلامي في ذلك العصر في بلاد الشام ومصر يتكون من أجناس شتى وطوائف مختلفة وأديان متباينة، فكان فيه العربي والتركي والمغولي والفارسي، ممن جمعت بينهم أخوة الإسلام، وكان فيه الأحرار والأرقاء، وكان يعيش فيه أيضًا في كنف المسلمين اليهود والنصارى من أهل الذمة والمستأمنين، وكان كل هذا الخليط المتباين في اللون والنسب والعادات والطباع والدين أحيانًا، يستظل براية الإسلام وينعم في ظل شرعه بالأمن والطمأنينة، وكان المجتمع كله يعيش متكاملًا متضامنًا إلا ما يبدر من بعض اليهود والنصارى من شماتة وإيذاء للمسلمين عند غزوات التتار أو الصليبيين (1).
ويمكننا أن نقسم المجتمع في تلك الفترة إلى طبقات عدة وهي:
أولًا: الطبقة الحاكمة: وهم السلطان وأعوانه من وزراء وقادة وجباة للأموال وكتَّاب للديون وجند، وقد كانوا كلهم من المماليك الذي جُلبوا من أواسط آسيا ثم أصبحوا طبقة متميزة لها سلطانها ونفوذها، وكان منهم العادلون الأتقياء الصالحون، ومنهم الظلمة الجائرون الذي كانوا يثقلون كواهل الناس بالضرائب والجبايات والمصادرات، مع أن الغالب عليهم احترام العلماء، وبناء المدارس، وحماية البيضة والجهاد في سبيل الله رفعة للدين (2).
(1) انظر: البداية والنهاية (13/ 219) وما بعدها، وشذرات الذهب (7/ 297).
(2)
انظر: الضوء اللامع (3/ 8)، شذرات الذهب (7/ 238).
ثانيًا: طبقة العلماء: كانت تحظى باحترام المجتمع حاكمًا ومحكومين، وكان منهم القضاة ورجال الحسبة والمدرسون والوعاظ، وكانوا قادة الشعب الحقيقيين، وأكثرهم ممن اتصف بالورع والزهد والتقوى، والقليل منهم من جانبَ طريق الاستقامة.
ولا يزال التاريخ يذكر بالإجلال والإكبار مواقف العز بن عبد السلام، وشرف الدين النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والجهاد بالقلم والسنان، وهم وإن كانوا من أبناء هذا العصر الذي نتحدث عنه ولكنهم ليسوا عنه ببعيد.
فما زالت آثارهم وتلاميذ تلاميذهم يعيشون بين ظهراني الناس ويؤثرون فيهم، وكان جمهور العلماء قد اشتغل بالعلم، وأقبل عليه تعلمًا وتعليمًا وتأليفًا وأعرض عن الدنيا وأهلها كأمثال الجراعي والمرداوي (1).
ثالثًا: طبقة التجار: وكانوا يؤلفون طبقة مقربة من السلاطين؛ لأنهم أدركوا أن التجار دون غيرهم هم الذين يستطيعون أن يمدوهم في ساعة العسرة، ورغم ذلك فقد تعرض التجار في كثير من الأوقات لمصادرة أموالهم، وللرسوم الباهظة التي كانت تفرض عليهم، حتى أصبح بعض التجار يدعون على أنفسهم بسبب تلك الأموال التي جعلتهم تحت مراقبة السلاطين المماليك، وكان التجار يعمدون إلى إخفاء أموالهم وأرزاقهم
(1) انظر: ذيل ابن عبد الهادي ص (64).
عند أي بادرة للفتنة بين السلاطين والأمراء والعساكر السلطانية (1).
رابعًا: طبقة عامة الناس: وهؤلاء يشكلون السواد الأعظم من سكان البلاد الواقعة تحت حكم الخلافة العباسية التي غلب عليها السلاطين المماليك، وتضم هذه الفئة أعدادًا من العمال والباعة والفلاحين والمعدومين، وكانت هذه الطبقة مغلوبة على أمرها، لتوالي الظلم والجور عليها وتسلط الحكام عليها بمصادرة أملاكهم، واضطهاد رجال الدولة الذين لم يَعْنِهم إلا مصلحتهم.
ويؤكد ما أصاب هذه الطائفة من حاجة وفقر كثرة من يستجدي الناس ويطلب الصدقة في ذلك العصر، وقد وجدوا العناية والاهتمام في فترات من حكم بعض المماليك، ولكن كثرة أعدادهم دفعت بعضهم لاحتراف السلب والنهب والاعتداء على أموال الغير (2).
وأغلب هذه الفئة من الفلاحين الذي لم يكن نصيبهم في عصر المماليك سوى الإهمال والاحتقار، حتى أصبح لفظ "فلاح" في ذلك العصر مرادفًا للشخص الضعيف المغلوب على أمره، وزاد من سوء حالهم كثرة المغارم والمظالم التي حلت بهم من
(1) انظر: النجوم الزاهرة (14/ 226، 250، 305)، مصر في عصر المماليك البحرية ص (160)، العصر المماليكي ص (312)، الخلافة العباسية في مصر في عصر المماليك (آلة) ص (353).
(2)
انظر: مصر في عصر المماليك البحرية ص (160).
الحكام والولاة والمماليك، فكانوا يأخذون منهم أضعاف ما يستحق عليهم (1).
خامسًا: طبقة أهل الذمة: وهم كما ذكرنا من اليهود والنصارى الذين كانوا ينعمون في المجتمع الإسلامي بالأمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم، إلا أنهم ظاهروا التتار والصليبيين في غزواتهم على بلاد الشام مما أثار عوام المسلمين عليهم بعد النصر على الأعداء، فقتلوا بعضهم، وخربوا كنائسهم ونهبوا أموالهم (2).
أما معاملة السلاطين لهم فقد كانت تختلف؛ فمنهم من يعاملهم بشدة وحزم، ومنهم من يتساهل معهم، ومن أمثلة ذلك: ما فعله السلطان الأشرف برسباي حيث نودي في سنة: (825 هـ) بأن لا يُستخدم أحد من اليهود والنصارى في ديوان من دواوين السلطان أو الأمراء المماليك، مما جعل عظماء الأقباط والنصارى من مباشري الدولة يقفون ضدَّ ذلك النداء، فلم يتمَّ العمل به (3).
وسعى السلطان الظاهر جقمق للضغط على النصارى في بلاده لما بلغه معاناة المسلمين في بلاد الحبشة تحت حكم النصارى - حتى يكون ذلك دافعًا لنصارى الحبشة لرفع أذاهم
(1) انظر: بدائع الزهور (2/ 302)، النجوم الزاهرة (10/ 132)، العصر المماليكي ص (312).
(2)
انظر: الكامل لابن الأثير (8/ 235، 259، 358)، البداية والنهاية (13/ 219 - 221).
(3)
انظر: النجوم الزاهرة (14/ 248).