الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: (الضمان الحادي عشر) : أن الشريعة الإسلامية ضمنت للمرأة مهرها، بأوجه عدة
بما أن المهر من أهم الحقوق الزوجية المالية للمرأة، فإن الشريعة الإسلامية ضمنت هذا الحق لها بأوجه عدة، وفيما يلي تلك الأوجه:
الوجه الأول: أن الشريعة منعت نفي المهر في النكاح.1
من ضمانات حقوق المرأة المالية المتعلقة بالمهر، أن الشريعة منعت نفي المهر عند عقد النكاح، فلا يجوز التنازل عن المهر وإسقاطه ابتداء، وإذا تم العقد من غير ذكر للمهر - وهو ما يسمى بنكاح التفويض - صحَّ النكاح، وفُرض لها مهر المثل، وذلك:
- لأن فرض المهر في عقد النكاح، حق مشترك بين الله والعبد، وحق الله فيه غالب، فما كان حق الله فيه هو الغالب، لا يقبل الإسقاط والتنازل، لوجوبه شرعا.
1 قد فصلت الكلام في وجوب المهر، وأنواعه، وكيفية التنازل عنه، وجواز ذلك، عند الكلام على حقوق الزوجة مفصلا، انظر كتاب: حقوق المرأة الزوجية والتنازل عنها.
- ولأن الإسقاط فيه منافاة لما هو مشروع، فلا يصح النكاح من غيره، ولو اتفق الطرفان على نفيه وجب مهر المثل.
وقد ثبت وجوب المهر في النكاح بالكتاب والسنة والإجماع؛ فأما الكتاب:
فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} 1.
قال القرطبي رحمه الله: هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه.2
وأما السنة فأحاديث منها:
ما رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه " أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: "كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا"؟ قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" 3.
وأما الإجماع:
فقد نقل الإجماع على وجوب المهر في النكاح القرطبي وابن قدامة
وغيرهم رحمهم الله4.
1 من الآية 4 من سورة النساء.
2 الجامع لأحكام القرآن (5/17) .
3 صحيح البخاري مع فتح الباري (9/221) .
4 الجامع لأحكام القرآن (5/17) ، والمغني (10/97) .
الوجه الثاني: أن للمرأة الامتناع من تسليم نفسها لزوجها، حتى تقبض مهرها المعجل.
إن المهر كما هو معلوم جُعل إكراما للمرأة، وتعويضا لها على بذلها منفعة نفسها وبُضعها للرجل، لأنه مستحَق للمرأة بالنكاح، وهو عقد معاوضة، والعوض فيها المهر، فكان مشروعا أن تطالب به عند استحقاقها.
ووقت وجوب المهر واستحقاقه، هو عند عقد النكاح، فلها حينئذ أن تطالب به.
ووقت أداء المهر يقرر بحسب ما يتفق عليه أطراف عقد النكاح، ولا يخلو حينئذ من أن يكون كله معجلا، أو مؤجلا، أو بعضه معجلا والبعض الآخر مؤجلا، أو كان مطلقا دون ذكر تعجيله أو تأجيله.
وقد ضمنت الشريعة حق المرأة في مهرها، بأن أباح لها أن تمتنع عن تسليم نفسها لزوجها، أو الانتقال إلى بيت الزوجية، والسفر معه، حتى تقبض مهرها الكامل، إن كان المهر كله معجلا، أو تقبض الجزء الذي تم الاتفاق على تعجيله، فإن لم يكن قد اتفق على التعجيل أو التأجيل حُكِّم فيه العُرف، فيحين أجله بحسبه1.
1 قد فصلت الكلام في تأجيل المهر، وتعجيله، ووقت وجوب تسليمه، عند الكلام على حقوق الزوجة مفصلا في الباب الثالث من كتاب: حقوق المرأة الزوجية والتنازل عنها.
وقد نص الفقهاء رحمهم الله1 على: أن للمرأة أن تمتنع عن تسليم نفسها لزوجها، أو الانتقال إلى بيت الزوجية، أو السفر معه، حتى يدفع لها المعجل من مهرها2.
الوجه الثالث: أن المهر لو هلك في يد الزوج، أو استهلكه، أو تبين أنه لغيره، كان ضمانه عليه.
من الأحكام الشرعية لضمان المهر، أن المهر إذا تلف، وكان لازال في يد الزوج، فإنه يضمن المهر للزوجة بمثله إن كان مثلياً3، أو بالقيمة إن كان قيمياً4.
وكذلك الحكم لو استهلك الزوج المهر، أو تبين أن المهر المعين كان لغير الزوج، ضمنه بمثله، أو بقيمته.
1 انظر: بدائع الصنائع (2/288-289) ، والفتاوى الهندية (1/317) ، والقوانين الفقهية ص434، ومغني المحتاج (3/222) ، وكشاف القناع (5/140) ، وما بعدها.
2 يلاحظ أن للمرأة منع نفسها ابتداء، لكن لو سلمت نفسها ابتداء قبل قبض الصداق، فهل تملك الامتناع بعد ذلك حتى تقبضه؟ على وجهين. (القواعد في الفقه الإسلامي، لابن رجب ق: 34) .
3 المثلي: ما لا تتفاوت آحاده تفاوتاً تختلف به القيمة، كالمكيل والموزون. انظر: القاموس الفقهي (ص344) .
4 القيمي: هو ما لا يوجد له مثل في السوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به في القيمة. مجلة الأحكام العدلية (م146) . وانظر: القاموس الفقهي (ص311) .
وسبب ضمان الزوج للمهر راجع لوضع اليد عليه، والحيلولة بين المهر وبين استلام المرأة له، بعد استحقاقها إياه، أو اتلاف ذلك فيما إذا استهلكه بنفسه، أو منحه لغيره، وضمان الأموال، كما قال إمام الحرمين1:"مبني على جبر الفائت"2.
ولأن المهر يصبح دينا في ذمة الزوج، بالتلف أو الاستهلاك، فلا يبرأ منه إلا بالسداد، أو الإبراء.
وذكر الزركشي رحمه الله من أسباب الضمان: "ما وجب ضمانه قبل التسليم
…
، ما هو ضمان عقد (قطعا)، وهو: ضمان العوض المعين في عقد المعاوضة المحضة"3.
1 إمام الحرمين: هو عبد الملك بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن حيُّويه الجويني، النيسابوري، أبوالمعالي، أصولي متكلم، شافعي المذهب، ولد سنة (419هـ) في جوين من نواحي نيسابور، له من المصنفات:"نهاية المطلب في دراية المذهب" في الفقه، و"البرهان" في أصول الفقه وغيرهما. توفي سنة (478هـ) بنيسابور.
- انظر: طبقات الشافعية لابن السبكي (5/165) وما بعدها، الأعلام (4/160) .
2 المنثور في القواعد للزركشي (2/324)، وانظر: نفس المرجع للتفصيل في معرفة أسباب الضمان الأربعة.
3 المنثور في القواعد للزركشي (2/332)، وأنظر كذلك للتفصيل فيما يُضمن من الأعيان بالعقد أو باليد القابض لمال غيره: القواعد لابن رجب ص 55، القاعدة الثالثة والأربعون.
وتضمين الزوج المهر المتلف، من هذا النوع من الضمان1.
وقد اتفق الفقهاء، على تضمين الزوج للمهر في حالة تلفه في يده في الجملة، إن كان ذلك بفعل الزوج، واشترط بعد ذلك المالكية لضمان الزوج للمهر، أن يكون مما يغاب عليه - أي: يمكن إخفاؤه2، وكذلك ضمَّن الشافعيةُ، الزوجَ، إن كان المهر عينا، وتلفت في يده3، وكذلك يرى الحنابلة أن المهر المعين إن ظهر مغصوبا، أو تلف، ضمن الزوج مثل المهر، إن كان مثليا، أو قيمته، إن كان قيمياً4.
الوجه الرابع: أن لها المهر المسمى كاملا، ولو مات الزوج دون المسيس.
- وذلك لأنها تستحق المهر بالعقد نفسه، ويجب أداؤه بالدخول، وحيث أن الرجل لم يتمكن من الدخول بسبب الموت، فلم يكن عدم الدخول والبناء بها، بسبب من جهتها، فاستحقت المهر كاملا.
1 اختلف العلماء في ضمان الصداق المعين في يد الزوج قبل القبض، هل هو ضمان عقد، أو ضمان يد؟ على قولين. (أنظر للتفصيل: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 173) .
2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/295) .
3 مغني المحتاج (3/221) .
4 شرح منتهى الإرادات (3/68) .
- ولأن عقد النكاح لم ينفسخ بالموت، وإنما انتهى به، لانتهاء أمده، وهو الموت، وحيث أن المهر ثبت لها بالعقد، وهو سابق، فاستحقت المهر كاملا.
- ولأن المهر كله ثبت دينا في ذمة الزوج بالعقد، فوجب أداؤه للزوجة، ولم يسقط بالموت، إذ لم يكن الموت مسقطا للدَّين في الشريعة، كسائر الديون.
هذا وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على ثبوت كامل المهر المسمى بموت الزوج، أو مهر المثل في حالة عدم التسمية، على اعتبار أن الموت مؤكد للمهر1.
فقد جاء في مغني المحتاج: "ويستقر المهر أيضا بموت أحدهما، قبل الوطء، في النكاح الصحيح، لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولأنه لا يبطل به النكاح، بدليل التوارث، وإنما هو نهاية له، ونهاية العقد كاستيفاء المعقود عليه، بدليل الإجارة"2.
الأدلة:
وقد دل على ثبوت المهر بالموت ما رواه الترمذي عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ
1 بدائع الصنائع (2/294) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/300-301) ، ومغني المحتاج (3/225) ، وكشاف القناع (5/150) .
2 مغني المحتاج (3/225) .
يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا لا وَكْسَ وَلا شَطَطَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأشْجَعِيُّ فَقَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، امْرَأَةٍ مِنَّا، مِثْلَ الَّذِي قَضَيْتَ فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ1.
1 قَالَ أبو عِيسَى حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي ِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِم سنن الترمذي (4/299 - التحفة) .