الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: (الضمان الخامس عشر) : أن الشريعة أباحت للمرأة طلب الخلع إن لم تطق العيش مع زوجها
سبق وأن ذكرت في الضمانات السابقة الحالات التي يكون للمرأة فيها الخيار في طلب التفريق بينها وبين زوجها، بفسخ نكاح، أو إيقاع طلاق، ويجب على الحاكم فيها أن يجيب طلبها، ولو لم يرض به الزوج.
هذا إذا كان التفريق له مبرر شرعي واضح، كما سبق، إلا أن العلاقة الزوجية التي تَفرض بقاء الزوجين قرب بعضهما البعض، تستدعي وجود صفات فيهما تجعل كلا منهما منجذبا إلى الآخر وراغبا فيه، فإذا فقدت تلك الصفات من أحدهما، فإن ذلك يؤدي إلى نفرة الطرف الآخر منه.
ولذا نجد أن المرأة قد تكون كارهة لزوجها راغبة عنه، رغم أدائه حقوقها، وتخشى حينئذ أن لا تقوم بأداء حقوقه الزوجية، فتقع في المحظور، فلا ترغب في البقاء معه.
ففي هذه الحالة ضمنت لها الشريعة الإسلامية أن تفتدي نفسها من زوجها ببذلها له ما أخذته منه، لكيلا تضطر إلى البقاء معه رغم كراهيتها له، وذلك ما يسمى في المصطلح الفقهي بالخلع.
يقول الحصني في النوع الثالث من التخفيفات في المناكحات: "ومنها تيسير مشروعية الطلاق لمشقة بقاء الزوجية، وكذا الخلع، وكذا كل موضع شرع فيه خيار الفسخ لها لما في صبرها على تلك الحالة من المشقة، حيث لم يجعل الشرع الطلاق بيدها"1.
يقول ابن قدامة رحمه الله مبينا حكمة مشروعية الخلع: "والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه"2.ويقول ابن القيم رحمه الله: "أن الله تعالى شرع الخلع رفعا لمفسدة المشاقة الواقعة بين الزوجين، وتخلص كل منهما من صاحبه"3.وحيث أن الخلع من الأحكام التي وضعت ضمانا لحقوق المرأة، فإنني أذكر - بعون الله تعالى – فيما يلي تعريف الخلع، لتتضح صورته، وحكمه، وما يجوز الخلع عليه.
أولا: تعريف الخلع لغة واصطلاحا:
الخلع لغة:
من خلع يخلع من باب قطع، وخلعت النعل وغيره خلعا، نزعته، وخالعت المرأة زوجها مخالعة: إذا افتدت منه وطلقها على الفدية فخلعها
1 كتاب القواعد (1/325) .
2 المغني (10/269) .
3 أعلام الموقعين (4/110) .
هو خلعا، والاسم الخلع، بالضم، وهو استعارة من خلع اللباس لأن كل واحد منهما لباس للآخر، فإذا فعلا ذلك فكأن كل واحد نزع لباسه عنه.1
الخلع اصطلاحا:
عرف الفقهاء الخلع بتعريفات مختلفة في الألفاظ متقاربة في المعنى، وكلها ترجع إلى طلب الزوجة إزالة النكاح بعوض تبذله لزوجها.
ففي البحر الرائق:" إزالة ملك النكاح المتوقفة على قبولها بلفظ الخلع أو ما في معناه"2.
وفي كشاف القناع:" وهو: فراق الزوج امرأته بعوض يأخذه الزوج من امرأته أو غيرها بألفاظ مخصوصة"3.
ثانيا: مشروعية الخلع:
الخلع ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:
فأما الكتاب:
فقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
1 مختار الصحاح (ص 185) ، والمصباح المنير (ص 178) .
(4/77) .
(5/212) .
قال ابن العربي وهو يذكر سبب الخلع في معرض تفسي قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} :" وفي ذلك تاويلات كلها أباطيل، وإنما المراد به أن يظن كل واحد منهما بنسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه مسبما يجب عليه فيه لكراهية يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن
تفتدي ولا على الزوج أن يأخذ. (2)
ومن السنة:
ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاءت امرأة ثايت بن قيس بن شماس إلة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا في خلق إلا أني أخاف الكفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فتردين عليه حديقته فقالت نعم فردت عليه وأمره ففارقها" (3)
وما راه أيضا عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال:"جاءت امرأة ثابت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله إني لا أعتب على
(1) الآية229 من سورة البقرة.
(2)
أحكام القرآن 1/194.
(3)
صحيح البخاري مع فتح الباري9/395.
ثَابِتٍ فِي دِينٍ ولا خُلُقٍ وَلَكِنِّي لا أُطِيقُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ" قَالَتْ: نَعَمْ"1.
وأما الإجماع:
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر بن عبد الله المزني"2
وقال ابن قدامة رحمه الله: "وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام، قال ابن عبد البر: ولا نعلم أحدا خالفه، إلا بكر بن عبد الله المزني3، فإنه لم يجزه
…
"4.
ثالثا: ما تخالع عليه الزوجة:
إذا كان الخلع بنشوز من الزوج، وحصول الإضرار من قبله، فقد كره جمهور العلماء للرجل أن يأخذ شيئا على الخلع في هذه الحالة،5
1 صحيح البخاري مع فتح الباري (9/395) .
2 فتح الباري (9/395) .
3 قال الذهبي: "بكر بن عبد الله بن عمرو الإمام القدوة الواعظ الحجة أبو عبد الله المزني البصري، أحد الأعلام يذكر مع الحسن وابن سيرين، ونقل عن محمد بن سعد الكاتب: كان بكر ثقة ثبتا كثير الحديث حجة فقيها"، مات سنة ثمان ومئة. سير أعلام النبلاء (4/532) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (7/209) .
4 المغني (10/268) .
5 الاختيار (3/156) ، وكفاية الطالب الرباني، مع حاشية العدوي (2/102) ، وحاشية القليوبي وعميرة (3/309) .
فإن أخذ شيئا كان آثما عاصيا، بل نص ابن قدامة رحمه الله على بطلان الخلع إذا كان بعضل من الزوج، فقال:" فأما إن عضل زوجته، وضارها بالضرب والتضييق عليها، أو منَعَها حقوقها، من النفقة والقسم ونحو ذلك لتفتدي نفسها منه، ففعلت فالخلع باطل، والعوض مردود".1
ولا يخفى ما في ذلك من ضمان لحقها، لأن القصد هو رفع الضرر الواقع عليها، بسبب كراهيتها لزوجها، فإن كان ذلك من قِبله، فلا ينبغي له أن يأخذ شيئا، ويجب رفع الضرر عنها من غير عوض، وأما إن كان ذلك من قِبلها، فلا يضار الزوج بما لم يرتكبه، إذ القاعدة "لا يزال الضرر بالضرر"، فله حينئذ أن يأخذ عوضا على الخلع.
هذا ولا خلاف بين العلماء في أن الخلع إذا كان بسبب من قِبل الزوجة، أن للزوج أن يأخذ على الخلع ما كان قد أعطى زوجته، أو أقل من ذلك، لكنهم اختلفوا بعد ذلك في مطالبة الزوج أكثر مما أعطاها لتخالعه إلى قولين:
القول الأول: يجوز الخلع على ما تراضا عليه الزوجان، ولو كان أكثر مما أعطاها، ولكن يكره أخذه الزيادة
1 المغني (10/272) .
وهو قول الجمهور (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) .1
وقد استدلوا لذلك بقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 2.
قال القرطبي رحمه الله عند ذكره لأحكام الآية:" دل على جواز الخلع بأكثر مما أعطاها"3.
القول الثاني: أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ أكثر مما أعطاها، فإن أخذ رد الزيادة.
وهي رواية عن الإمام أحمد4، وقول طاووس5،
1 الاختيار (3/156) ، وكفاية الطالب الرباني، مع حاشية العدوي (2/102) ، وحاشية القليوبي وعميرة (3/309) ، والمغني (10/270) .
2 الآية 229 من سورة البقرة.
3 الجامع لأحكام القرآن (3/140) .
4 الإنصاف (8/398) .
5 طاووس: هو ابن كيسان، الفقيه القدوة، عالم اليمن، أبو عبد الرحمن الفارسي ثم اليمني، الحافظ، كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن، مات في مكة قبل يوم التروية بيوم سنة ست مئة، وعمره بضع وتسعون سنة. سير أعلام النبلاء (5/38) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (5/537) .
وعطاء1، والأوزاعي2.
وقد استدل الفريق الثاني بما رواه ابن ماجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلامِ لا أُطِيقُهُ بُغْضًا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلا يَزْدَادَ"3.
ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن أخذ الزيادة.
الراجح:
بما أن لفظ القرآن الكريم قد نص على أن لا جناح عليهما فيما افتدت به، فإن الذي يتأكد ترجيحه، هو جواز المخالعة على ما اتفق عليه الزوجان، ويحمل نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على الكراهة جمعا بين الآية الحديث، كما ذكر ذلك ابن قدامة رحمه الله4، وقد قال الإمام مالك رحمه الله عن أخذ الزيادة: أنه ليس من مكارم الأخلاق.5
1 عطاء: هو عطاء بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة أربع وتسعين. سير أعلام النبلاء (4/448) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (5/173) .
2 الجامع لأحكام القرآن (3/141) .
3 سنن ابن ماجه (1/663) . وصححه الألباني في الإرواء (7/103) .
4 المغني (10/270) .
5 الجامع لأحكام القرآن (3/141) .