المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثامن: (الضمان الرابع عشر) : أن الشريعة جعلت لها الخيار، إذا لحقها ضرر مادي أو معنوي من قبل الزوج - ضمانات حقوق المرأة الزوجية

[محمد يعقوب الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المدخل

- ‌الفصل الأول: الصمانات العامة لحقوق المرأة الزوجية

- ‌المبحث الأول: (الضمان الأول) : أن حقوق المرأة الزوجية ثابتة بأحكام شرعية توعد الله من اعتدى عليها، أو قصر في أدائها

- ‌المبحث الثاني: (الضمان الثاني) : أن من الحقوق الزوجية، ما لا يمكن التنازل عنه شرعا

- ‌المبحث الثالث: (الضمان الثالث) : أن الشريعة أبطلت التنازل عن الحقوق الزوجية إذا كان مشتملا على الإكراه أو الغرر

- ‌المبحث الرابع: (الضمان الرابع) : أن الشريعة أبطلت التنازل عن الحقوق الزوجية مسبقا

- ‌المبحث الخامس: (الضمان الخامس) : أن الشريعة حرمت الأنكحة التي فيها ضرر مادي أو معنوي للمرأة

- ‌المبحث السادس: الضمان السادس) : أن الشريعة ألغت تصرفات الزوج الضارة بالمرأة مما كان سائداً في الجاهلية، وعاقبت عليها، كالظهار، والإيلاء

- ‌الفصل الثاني: الضمانات الخاصة لحقوق زوجية معينة

- ‌المبحث الأول: (الضمان السابع) : أن الشريعة منعت الولي من عضل موليته إن أرادت أن تنكح

- ‌المبحث الثاني: (الضمان الثامن) : أن الولاية تتحول من الولي الأقرب إلى الولي الأبعد

- ‌المبحث الثالث: (الضمان التاسع) : أن الشريعة جعلت لها الحق في أن تشترط من الحقوق المادية والمعنوية ما فيه مصلحتها

- ‌المبحث الرابع: (الضمان العاشر) : أن المرأة لو زوِّجت من غير رضاها كان لها حق الفسخ

- ‌المبحث الخامس: (الضمان الحادي عشر) : أن الشريعة الإسلامية ضمنت للمرأة مهرها، بأوجه عدة

- ‌المبحث السادس: (الضمان الثاني عشر) : أن الشريعة جعلت أمر الطلاق بيد الرجل

- ‌المبحث السابع: (الضمان الثالث عشر) : أن الشريعة جعلت أمر الطلاق بيدها بالاشتراط

- ‌المبحث الثامن: (الضمان الرابع عشر) : أن الشريعة جعلت لها الخيار، إذا لحقها ضرر مادي أو معنوي من قبل الزوج

- ‌المبحث التاسع: (الضمان الخامس عشر) : أن الشريعة أباحت للمرأة طلب الخلع إن لم تطق العيش مع زوجها

- ‌المبحث العاشر: (الضمان السادس عشر) : أن الشريعة أمرت ببعث الحكمين للإصلاح بين الزوجين

- ‌المبحث الحادي عشر: (الضمان السابع عشر) : أن الشريعة فرضت لها الميراث ولو طلقت طلاقا بائنا، إذا اتهم زوجها بقصد حرمانها من الميراث

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثامن: (الضمان الرابع عشر) : أن الشريعة جعلت لها الخيار، إذا لحقها ضرر مادي أو معنوي من قبل الزوج

‌المبحث الثامن: (الضمان الرابع عشر) : أن الشريعة جعلت لها الخيار، إذا لحقها ضرر مادي أو معنوي من قبل الزوج

من الضمانات لحقوق المرأة في الإسلام، أنها حرمت الإضرار بالمرأة، سواء كان الإضرار بها ماديا، أو معنويا.

يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 1، وقال تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنّ} 2.

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجه عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "قَضَى أَنْ لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ".3

1 من الآية 231 من سورة البقرة.

2 من الآية 6 من سورة الطلاق.

3 سنن ابن ماجه (2/784)، ومسند الإمام أحمد (5/372) . قال الألباني:"حديث صحيح ورد مرسلا وروي موصولا، عن أبي سعيد الخدري" وذكر غيره، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/443) .

ص: 117

وروى الإمام مالك أيضا عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ"1.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَار" قاعدة شرعية في نفي الضرر ابتداء

ونفيه كذلك جزاء، وإزالته إذا وقع، كما فسره العلماء، بأنه:"لا يضر الرجل أخاه ابتداء ولا جزاء"2.

والمقصود بعقد النكاح كما هو معلوم، حصول المنفعة المادية والمعنوية المطلوبة شرعا لكل من الزوجين، ونظرا لشدة قرب العلاقة بين الزوجين، في الجسد والأحاسيس، والمصالح، فإن كلا منهما يتأثر بالآخر بما لا يتأثر به غيره، ويقع التأثير النافع بوجود الصفات المرجوة، والحالة المطلوبة في كل منهما، كما يقع التأثير الضار بوجود الصفات المرفوضة، والحالة الملفوظة في كل منهما.

وبما أن موضوعنا يختص بضمانات حقوق المرأة، فإنني أقتصر هنا على ذِكر الأضرار التي تلحق المرأة باتصاف الزوج بصفات غير مرضية في بدنه، أو ماله، أو حاله، مما يؤثر في حياة المرأة تأثيراً سلبيا.

وقد ضمنت الشريعة الإسلامية حق المرأة في عدم الإضرار بها، بأن جعل لها الخيار في إمضاء عقد النكاح، أو فسخه، إذا لحقها الضرر من

1 موطأ مالك (ح1461) .

2 الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85.

ص: 118

قِبل الزوج بسبب وجود عيب فيه، أو التغرير بصفة ترغب الزوجة وجودها فيه، أو إعساره، أو فقده1.

وقد اتفق جمهور العلماء على أن تنفيذ خيار المرأة في فسخ النكاح، وإنهائه، إنما يكون بعد الرجوع إلى القاضي، أو الحاكم الذي له الحق في الإبقاء على النكاح، أو فسخه بالنظر إلى الحالة الراهنة، وبحسب ما يوصله إليه اجتهاده2.

وسأتكلم - بعون الله تعالى - عن كل واحد من هذه الأسباب بذكر أوجه الضمان فيها، على ما يأتي:

الوجه الأول: أن الشريعة جعلت لها الخيار، في حالة وجود عيب جسدي في الزوج.

لا يخفى أن العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة تستدعي أن يكون كل منهما على قدر كاف من الصحة والعافية، ليتمكن من أداء حقوقه

1 انظر: كتاب القواعد لتقي الدين الحصني (1/325) .

2 انظر للتفصيل: الفتاوى الهندية (2/224) ، وما بعدها. والشرح الصغير للدردير (1/426) ، وما بعدها. ومغني المحتاج (3/205) ، وما بعدها. والمغني (10/82) ، وما بعدها.

وانظر كذلك للتفصيل في إجراءات التفريق: المفصل في أحكام المرأة (9/41) ، وما بعدها.

ص: 119

الزوجية تجاه الآخر، على الوجه المطلوب، فإن لم يكن الأمر كذلك، لحق الضرر بالعلاقة الزوجية، وتعثر الاستمرار فيها.

وهذه العيوب التي تعرقل سير الحياة الزوجية، منها ما تكون بالمرأة، ومنها ما تكون بالرجل، وحيث أن موضوعنا يختص بحقوق المرأة، فإنني أذكر منها ما يتعلق بعيوب الرجل وحده.

فقد يكون بالرجل عيب يستوجب الخيار للزوجة، لعدم إمكانية العيش معه، مع وجوده، أو كونه خطرا عليها، كجنون الزوج، أو كونه مصابا بمرض معد كالجذام، أو بمرض تنفر منه الطباع، كالبرص، أو مرض يمنع المتعة الجنسية، ككون الزوج مجبوبا، أو مخصيا، أو عنينا.

وسأذكر فيما يلي أقوال العلماء في خيار الزوجة بسبب عيب في الزوج، والعيوب التي توجب للمرأة خيار التفريق:

أولا: أقوال العلماء في خيار الزوجة بسبب عيب في الزوج.

القول الأول: يرى جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة تخيير الزوجة بسبب العيوب الخَلقية في الزوج، وأن هذا الخيار خاص بالزوجة،

ص: 120

دون غيرها من الأولياء، وإن كانوا قد اختلفوا بعد ذلك في العيوب التي توجب الخيار من التي لا توجبه1.

القول الثاني: ويرى ابن حزم وعمر بن عبد العزيز وغيرهما رحمهم الله جميعا، عدم ثبوت الخيار، وعدم فسخ النكاح بعد وقوعه صحيحا، بالعيوب الخَلقية، والأمراض، كالجذام، والبرص، والجنون، والعنانة، وداء الفرج، سواء كانت تلك العيوب قديمة، أو حدثت بعد النكاح2.

الأدلة:

وقد استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه، بما قضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخيار في العنين أن يؤجل سنة.

فعن سعيد بن المسيب قال: طقضى عمر في العنين أن يؤجل سنة".

وعن عمر قال: أتته امرأة - فذكر القصة-، فلما مضى الحول خيرها، فاختارت نفسها، ففرق بينهما.3

1 انظر: الاختيار لتعليل المختار (3/115) ، وما بعدها. وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 237، وما بعدها. وبداية المجتهد (3/1020) ، (المحقق) ، وروضة الطالبين (7/176) ، وما بعدها، والمغني (10/ 55) ، وما بعدها.

2 انظر: المحلى (10/109) ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/1020)(المحقق) ، ونيل الأوطار (6/157) .

3 الدراية في تخريج أحاديث البداية (2/77) .

ص: 121

ويلاحظ أنه لم يرد نص صريح من كتاب أو سنة، على جعل الخيار بالعيب، إلا أن الفقهاء، يستدلون لذلك بقضاء عمر - كما سبق- وأقوال الصحابة، وبعموم النصوص الواردة في وجوب حقوق كل منهما على الآخر، والأمر بالإمساك بالمعروف، الوارد في قوله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 1، يوجب أداء تلك الحقوق على الوجه المطلوب، وإلا لم يكن قد أمسك بالمعروف، فوجود تلك العيوب المانعة من الجماع أو المسببة للعدوى أو النفرة، حائلة دون تحقيق الإمساك بالمعروف.

قال الكاساني2 رحمه الله وهو يتكلم عن ثبوت حق الفسخ للمرأة بسبب العُنَّة: "لأن الله تعالى أوجب على الزوج الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 3، ومعلوم أن استيفاء النكاح عليها مع كونها محرومة الحظ من الزوج ليس

1 من الآية 229 من سورة البقرة.

2 الكاساني: هو أبوبكر بن مسعود بن أحمد الكاساني – بالسين أو بالشين المعجمة، علاء الدين الشاشي الحنفي، له من المصنفات:"بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" و"السلطان المبين في أصول الدين". توفي في حلب سنة (587هـ) . هدية العارفين (ص235) ، الأعلام للزركلي (2/70) .

3 من الآية 229 من سورة البقرة.

ص: 122

من الإمساك بالمعروف في شيء، فتعين عليه التسريح بالإحسان، فإن سرح بنفسه، وإلا ناب القاضي منابه في التسريح"1.

وأما ابن حزم، ومن نحا نحوه في منع الخيار بسب العيوب، فقد استدلوا بحديث رفاعة القرظي، الذي رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لا يَأْتِيهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: "لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"2.

قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله: فهذه تذكر أن زوجها لم يطأها، وأن إحليله كالهدبة لا ينتشر إليها، وتشكو ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتريد مفارقته، فلم يشكها، ولا أجل لها شيء، ولا فرق بينهما3.

كما احتج ابن حزم رحمه الله على صحة ما ذهب إليه4"بأن كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه فمن فرق بينهما بغير قرآن أو سنة ثابتة فقد

1 بدائع الصنائع (3/323) .

2 سبق تخريجه (ص55) .

3 المحلى (10/62) .

4 المحلى (10/61) .

ص: 123

دخل في صفة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 1.

الرد على القول الثاني:

ويُرد على استدلال ابن حزم بالحديث، بأن في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، إشعار بإمكان ذلك، كما قال ذلك ابن حجر رحمه الله،"لأنه علقه على الإمكان وهو جائز الوقوع"2، وإن كان ذلك ممكنا فلا داعي للتفريق، ولذا لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بهذا العيب.

ويمكن أن يرد على ابن حزم رحمه الله، بأنه قال: "فإن اشترطا السلامة في عقد النكاح فوجد عيبا، أي عيب كان، فهو نكاح مفسوخ مردود، لا خيار له في إجازته

الخ"3.

أقول: يمكن أن يرد عليه بأن السلامة من العيوب تكون مشروطة ضمنا وعُرفا في العقود، ومنه عقد النكاح بالأولى، و (المعروف عرفا كالمشروط شرطا) كما تقول القاعدة الفقهية4، فوجب اعتبار السلامة من العيوب، والرد بعدمه.

1 من الآية 102 من سورة البقرة.

2 فتح الباري (9/467) .

3 المحلى (10/115) .

4 شرح القواعد الفقهية ص 183.

ص: 124

ثانيا: العيوب الموجبة للخيار:

هذا وقد اختلف الفقهاء في العيوب التي تجيز الفسخ، والرد، وهل هي محصورة في المذكورة، أو يُقاس عليها عيوب أخرى، إذا كانت على تلك الصفات.

وجملة العيوب التي نصوا عليها، في الرجل، أو التي تكون مشتركة بين الرجل والمرأة هي:

العنة، والجبّ، والخصاء، والجنون، والبرص، والجذام وبخر الفم، واستطلاق غائط، وباسور وناسور، وقرع رأس - مع الريح -، وكونه خنثى غير مشكل.

هذا ونجد أن العيوب المذكورة - على ما فيها من خلاف في اعتبار بعضها دون البعض في الخيار - معلولة، بكونها1:

- توجب نفرة تمنع قربانه بالكلية، ومسه.

- أو يُخاف منه التعدي إلى النفس والنسل.

- أو يُخاف منه الجناية.

- أو تمنع الوطء، أو الاستمتاع، أو اللذة.

فالذي ينبغي القول به، أن كل عيب وجدت فيه صفة من الصفات المذكورة، أو وجدت فيه مضرة أشد منها، كان موجبا للخيار، لاسيما وأن الفقهاء قد أثبتوا الخيار فيما ذكر من عيوب، مستنبطين حكمها من

1 انظر: المغني (10 /55) ، وما بعدها.

ص: 125

عموم الأدلة النافية للضرر، لا بالنص على كل واحدة بعينها، فإن وجد ما يشترك معها في الضرر، صح أن يقاس على ما ذكر، بجامع وجود الضرر في كل، بنفس الدرجة أو أشد.

هذا ومن المعروف أن الأمراض في هذا الزمان قد تنوعت، ووجد منها ما هو أشد ضررا من تلك الأمراض والعيوب التي كانت معروفة في الأزمنة السابقة، واحتمال تعدِّيها إلى الزوجة، أو إليها وإلى ولدها، ولحوق الضرر بها أكثر من تلك، وقد تكون منها، الفتاكة والمميتة، مثل الأمراض الجنسية المعروفة في هذا الزمان، كالزهري والسيلان، ونقص المناعة المكتسبة - والمسمى بالإيدز - وغيرها من الأمراض التي ابتلي بها المنحرفون جنسيا، عقوبة ونكالا من الله، فينبغي إلحاقها بالمذكورة، من باب أولى، لوجود العلة الموجبة للخيار فيها، بصفة أولى وأشد وأوضح.

ص: 126

الوجه الثاني: أن الشريعة جعلت لها الخيار، في حالة فقدان1 الزوج.

الوجه الثاني من أوجه الخيار التي جُعلت للمرأة ضمانا لحقوقها الزوجية، بسبب ما يلحقها من ضرر من قِبل حالة الزوج، أن الشريعة جعلت لها الخيار في فسخ العقد في حالة فقدان الزوج، أو غيبته غيبة طويلة، أو وقوعه في الحبس، وذلك لأنه حينئذ لن يكون قادرا على أداء حقوقه الزوجية تجاه زوجته، ويفوِّت عليها الغرض من النكاح، وفي ذلك مضارَّة لها غير خافية، فكان لها الخيار عند ذلك، على ما ذكره العلماء، ولهم تفصيل وآراء في جعل الخيار لها بذلك، وفي الوقت الذي يكون لها فيه الخيار على ما يأتي.

1 الفقدان: من فقد فقدا وفقدانا، وفقدته، إذا عدمته، فهو مفقود، وفقيد. (المصباح المنير ص 478) .

والمفقود: هو الذي غاب عن أهله أو بلده أو أسره العدو ولا يدرى أحي هو أو ميت، ولا يُعلم له مكان، ومضى على ذلك زمان فهو معدوم بهذا الاعتبار. (الفتاوى الهندية 2/299) .

وفي متن الإقناع وشرحه كشاف القناع (5/421) : "الذي انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك كالذي يفقد بين أهله ليلا أو نهارا أو يخرج إلى الصلاة، فلا يرجع، أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع، فلا يظهر له خبر، أو يفقد في مفازة مهلكة كدرب الحجاز، أو يفقد بين الصفين إذا قتل قوم، أو من غرق مركبة ونحو ذلك".

ص: 127

مسألة: متى يجعل لزوجة المفقود الخيار؟

الأصل في المفقود أن يكون حيا، ومن ثم تبقى زوجته في عصمته، إلا أن بقاء المرأة في عصمة رجل غائب غيبة طويلة، ولا يُعلم حاله، فيه ضرر وتعطيل لمصالحها، ولذا رأى العلماء أن يرفعوا عنها الضرر، بإزالة عصمة النكاح عنها، بعد أن يُضرب للمفقود الأجل، ويُبحث عنه فيُعجز، فإن عاد وإلا حكموا بموته، ثم تتربص المرأة عدة الوفاة، على اعتبار موت زوجها حكما، وتحل بعدها للآخرين.

وقد اختلف العلماء في الأجل الذي يضرب لانتظار المفقود، ليحكم بعد ذلك بموته، ومن ثم يجعل الخيار لزوجته، على أقوال:

القول الأول للحنفية: أن المفقود يعتبر حيا، ولا يعتبر ميتا، إلا بمضي تسعين سنة، وفي ظاهر الرواية، إذا مات أقرانه في أهل بلده اعتبر ميتا، لكن المختار عندهم،

أنه يفوض إلى رأي الإمام1.

وقد استدلوا لظاهر الرواية، بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة المفقود:"أنها امرأته حتى يأتيها البيان"2

1 الفتاوى الهندية (2/300) .

2 أخرجه الدارقطني، وهو حديث ضعيف، بمحمد بن شرحبيل؛ لروايته المناكير والأباطيل عن المغيرة انظر للتفصيل: شرح فتح القدير (5/372) .، وانظر نصب الراية (3/473)، حيث يقول الزيلعي رحمه الله: "وهو حديث ضعيف، ونقل عن ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: هذا حديث منكر.

ص: 128

القول الثاني للمالكية: يفرق المالكية في الحكم على المفقود بين أن يكون فقده في دار الإسلام أو في دار الكفر، وبين أن يكون فقده في زمن الوباء، أو زمن السلامة، وهل الفقد وقع في قتال بين المسلمين والكفار، أو في قتال بين المسلمين أنفسهم.

ولكل حالة حكم عندهم1، وقد ذكر ذلك الدسوقي رحمه الله ملخِصا أحكام الحالات الأربع، فقال2: "المفقود في بلاد الإسلام وحكمه، أنه يؤجل أربع سنين بعد البحث عنه، والعجز عن خبره، ثم تعتد زوجته.

والمفقود بأرض الشرك كالأسير، وحكمهما، أن تبقى زوجتاهما لانتهاء مدة التعمير ثم تعتد زوجته.

والمفقود في الفتن بين المسلمين، وحكمه، أن يؤجل سنة بعد النظر والكشف عنه، ثم تعتد زوجته، هذا حاصل ما تقدم وظاهره أنه لا يحتاج للحكم بموته في الأقسام كلها، ولا لإذن القاضي للزوجة في العدة" اهـ.

القول الثالث للشافعية: "بأن المفقود يبقى حيا، ولا يعتبر ميتا، حتى تمضي مدة يُعلم أو يُغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها، وإذا مضت المدة المذكورة فيجتهد

1 الفواكه الدواني (2/70) .

2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/483) .

ص: 129

القاضي حينئذ ويحكم بموته؛ لأن الأصل بقاء الحياة".

وهو مروي عن علي رضي الله عنه1.

وقد اختلفت أقوال الشافعية في المدة التي يحتمل أن لا يعيش فيها المفقود، فقيل: هي غير مقدرة، وقيل: هي مقدرة بسبعين سنة، وقيل: بثمانين، وقيل: بتسعين، وقيل بمائة، وقيل بمائة وعشرين سنة؛ لأنها العمر الطبيعي عند الأطباء، وأنه لابد من اعتبار حكم الحاكم فلا يكفي مضي المدة من غير حكم بموته2.

القول الرابع للحنابلة3: فقالوا: بالتفريق بين فقد الزوج في حال غالبه السلامة، وحال يغلب عليه الهلاك.

فأما الأول: أن يكون ظاهر غيبته السلامة، كسفر التجارة في غير مهلكة، وطلب العلم، والسياحة.

فالحكم حينئذ أن لا تزول الزوجية ما لم يثبت موته، وروي عن الإمام أحمد رحمه الله بتحديد المدة في هذه الحالة بتسعين سنة من حين ولادته؛ لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر، والمذهب الأول.

1 رواه البيهقي، السنن الكبرى (7/446-447)، وانظر: تلخيص الحبير (3/273) .

2 مغني المحتاج (3/26-27) ، وتكملة المجموع (16/67) .

3 المغني (11/247-251) .

ص: 130

وأما الثاني: أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك، كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا، أو يُفقد من بين الصفين، أو يُفقد في مهلكة.

فمذهب الإمام أحمد رحمه الله الظاهر عنه، أن زوجته تتربص أربع سنين، أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا، وتحل للأزواج.

وقد استدلوا لذلك بقضاء عمر رضي الله عنه في امرأة فُقد زوجها، فذكرت ذلك له، فقال: انطلقي فتربصي أربع سنين، ففعلت، ثم أتته، فقال: انطلقي: فاعتدي أربعة أشهر وعشرا، ففعلت، ثم أتته، فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاء وليه، فقال: طلقها، ففعل، فقال لها عمر: انطلقي فتزوجي من شئت

الخ1.

وروي نحوه عن علي وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم2.

وقال ابن قدامة رحمه الله: وهذه قضايا انتشرت في الصحابة فلم تُنكر، فكانت إجماعا3.

الخلاصة والترجيح:

بالنظر في أقوال العلماء في تخيير الزوجة في حال فقده، أو عدم تخييرها، وجعلها تتربص حتى موتها، أو حتى يغلب على الظن موت

1 رواه البيهقي، السنن الكبرى (7/445-446) ، وغيره.

2 رواه البيهقي، المرجع السابق، وانظر للروايات المتعددة: تلخيص الحبير (3/273) .

3 المغني (11/247-251) .

ص: 131

زوجها المفقود بمضي مدة لا يعيش فوقها غالباً، أو تحديد المدة بغير ذلك، والأحكام التي ذكروها لحالة فقدان الزوج، فإننا نخلص لما يأتي:

1-

لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حكم على ما يجب فعله في حالة فقدان الزوج، وما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت.

2-

روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في امرأة المفقود أن تتربص أربع سنين، بروايات متعددة، وروي نحوه عن غيره من الصحابة - كما سبق-، وحيث لم يرد نص من كتاب أو سنة، فالمعول ما قضى به أحد الخلفاء الراشدين، إن وُجد.1

3-

أن المرأة تتضرر حتما بفقد زوجها، بحرمانها من تلبية رغباتها الجسدية، والنفسية، والمالية أحيانا، فتكون كالمعلقة.

4-

إن إزالة الضرر عنها واجب شرعا، لقاعدة "الضرر يزال"، ولقاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وعملا بقوله تعالى:{وَلا تُضَارُّوهُنّ} .

5-

وبناء عليه فإنه ينبغي القول بتخيير المرأة في طلب فسخ النكاح، إذا فقد زوجها، وأن القول بأن تبقى زوجة حتى

1 قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف حجة عند مالك والشافعي في القديم، وبعض الحنفية، وعند أحمد في رواية، انظر للتفصيل: روضة الناظر وجنة المناظر (ص 84) .

ص: 132

يرجع زوجها، أو يتبين موته، أو تموت، قول مرجوح، لأنه ينافي إزالة الضرر عنها.

6-

وأن الحاكم هو الذي يقضي لها بالتخيير، كما فعل عمر رضي الله عنه، وذلك تحاشيا لوقوع الخلاف بين الطرفين.

7-

وأن الحاكم يبذل جهده في تبيين حال الزوج المفقود.

8-

وأنها تتربص أربع سنوات انتظارا لرجوع زوجها المفقود، كما قضى بذلك عمر رضي الله عنه، حيث لا يوجد دليل آخر يمكن الاستناد عليه في تحديد مدة التربص، وإنما يُصار إلى التحديد بالتوقيف.

9-

وأنها تتربص أربعة أشهر وعشرا بعد انتهاء مدة التربص، كما قضى بذلك عمر رضي الله عنه.

10-

وأنه لا فرق بين أن يكون الفقد في حالة يغلب عليها الهلاك، أو يغلب عليها السلامة، وحملُ الحنابلة قضاءَ عمر رضي الله عنه على ما غالبه الهلاك، فيه نظر، لأن أغلب الروايات التي أوردت قضاء عمر رضي الله عنه، لم تذكر الحالة التي غاب فيها المفقود، كما لم يقيد قضاء عمر بذلك، والرواية التي ذكرت الرجل الذي قضى فيه عمر رضي الله عنه، ذكرت أنه خرج للصلاة، وتلك حالة، تحتمل السلامة أكثر من الهلاك، لاحتمال أن يكون الرجل غاب في طلب الرزق، ولم يُرد إخبارَ أحد بذلك، بخلاف ما لو فقد بين الصفين في القتال، أو في طريقة مخوفة، أو في ركوب البحر،

ص: 133

ونحو ذلك، فحملُ قضاءِ عمر رضي الله عنه على ما يغلب فيه الهلاك، ضعيف.

11-

وأنها تستحق النفقة والسكنى خلال مدة التربص، لحجز منافعها لمصلحة زوجها، لأن الأصل أن كل من يستحق النفقة في ماله في حال حضرته بغير قضاء القاضي يُنفق عليه من ماله عند غيبته.1

12-

وأنه لو رجع خلال مدة التربص، فإنها زوجته، وكذلك لو رجع، بعد التربص وهي في العدة، أو خرجت من العدة، أو تزوجت بآخر، ولم يدخل بها.2

وأما لو تزوجت بعد التربص، وانتهاء العدة وبنى بها الثاني ثم ظهر الأول حياً، فإن الحنفية يرون: أن لا سبيل للأول عليها، وهو رواية عند الحنابلة.3

وفي رواية أخرى عند الحنابلة، وهي الراجحة عندهم: أن الأول يخير بين الصداق وبين امرأته4.

ويبدو رجحان القول الثاني، لقضاء عمررضي الله عنه.5

1 شرح فتح القدير (5/369) .

2 انظر: شرح فتح القدير (5/372) ، والفتاوى الهندية (2/300) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/480) ، والمغني (11/252) .

3 انظر: شرح فتح القدير (5/372) ، والمغني (11/252) .

4 انظر: المغني (11/252) .

5 السنن الكبرى للبيهقي (7/445-446) .

ص: 134

الوجه الثالث: أن الشريعة جعلت لها الخيار، في حالة غيبة الزوج غيبة منقطعة، أو أسره.

غيبة الزوج عن زوجته لا تخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون الغيبة غير منقطعة بحيث يكون على اتصال بزوجته، ففي هذه الحالة لا يجوز للمرأة أن تطلب الفراق إذا لم يتعذر الإنفاق عليها من مال زوجها، وذلك لعدم حصول ضرر بها يوجب التفريق، وحكم هذه الحالة متفق عليها بين الفقهاء.1

وأما إذا تعذر الإنفاق، فإن الحكم يندرج تحت حالة الخيار بسبب عدم الإنفاق، كما سيأتي.

الحالة الثانية: أن تكون الغيبة طويلة منقطعة، فإن العلماء اختلفوا في جعل الخيار لزوجته بسبب تلك الغيبة - التي لا يخفى لحوق الضرر بالزوجة بسببها - على أقوال:

1 المغني (11/247)

ص: 135

القول الأول: أنه ليس لها الخيار في طلب الطلاق بسبب غيبة زوجها، أو أسره.

وهو قول الحنفية والشافعية، والحنابلة، إلا أن الحنابلة أجازوا الفسخ إذا تعذرت النفقة من مال زوجها.1

القول الثاني: أن الزوج لو غاب وقد ترك نفقة وعُلم مكانه، فإن الزوجة ترفع أمرها إلى الحاكم، فإن عاد، وإلا حكم عليه بالطلاق.

وأما إذا لم يعلم مكانه، فحكمه حكم المفقود.

وهو قول المالكية، ويلاحظ أنهم يجعلون الخيار للزوجة بطلب التفريق بسبب الغيبة، لو اشترطت المرأة ذلك في عقد النكاح. كما أن قولهم في الأسير مثل قول الجمهور بأن تبقى زوجته مدة التعمير، ثم تعتد.2

الترجيح:

لا يخفى أن النكاح شرع لمصلحة الزوجين وقضاء حاجة كل منهما من الآخر، وأن العلاقة بين الزوجين هي علاقة مبادلة المصالح بالمصالح

1 الفتاوى الهندية (2/300) ومغني المحتاج (3/26-27) وكشاف القناع (5/423) .

2 حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (2/483) .

ص: 136

بالدرجة الأولى، فإذا انقلبت تلك المصالح إلى مفاسد، أو حرمان من الحقوق، فالأولى قطع تلك العلاقة، حفاظاً على حقوق الطرفين.

وإذا كانت الشريعة قد راعت مصلحة النفقة الزوجية للمرأة وجعلت لها الخيار في طلب الفسخ لعدمها، وراعت كذلك حاجة المرأة الجنسية، وأوجبت الفراق بالإصرار على الإيلاء، فإن الذي ينبغي القول به، أن كل تصرف من الزوج إذا اشتمل على مضرة، أو نفي مصلحة معتبرة شرعا للمرأة موجب لإعادة النظر في استمرار العلاقة الزوجية بينهما، وذلك ضمانا لحقوق المرأة الزوجية.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة أولى، للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعا.

وعلى هذا: فالقول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به إذا طلبت فرقته، كالقول في امرأة المفقود بالإجماع، كما قاله أبو محمد المقدسي" اهـ1.

1 الاختيارات الفقهية (ص 247) .

ص: 137

الوجه الرابع: أن الشريعة جعلت لها الخيار، في حالة امتناع الزوج عن النفقة، أو إعساره بها.

إن نفقة الزوجة كما هو معلوم واجبة على زوجها إجماعا.1

وحقها في النفقة مقابل حبس منافعها لمصلحة الزوج، فكان واجبا عليه أن يقوم ببذل العوض.

وقد ضمنت الشريعة حقها في النفقة بجعل الخيار لها في طلب التفريق؛ إذا لم تتمكن من أخذ حقها من النفقة، إلا أن الجدير بالتنبيه أن للعلماء تفصيل وآراء في ثبوت خيار التفريق للزوجة بسبب عدم التمكن من حصولها على النفقة، وتفصيل ذلك على ما يأتي:

إن عدم حصول المرأة على نفقتها قد يكون بسبب إعسار الزوج بها، وقد يكون بسبب امتناعه عن النفقة عليها مع كونه موسرا، فها هنا حالتان لعدم الإنفاق، ولكل حالة حكمها.

الحالة الأولى: إعسار الزوج بالنفقة:

إذا أعسر الزوج بالنفقة ولم يكن لديه ما ينفقه على زوجته، فهل يثبت لها الخيار بطلب التفريق؟

1 انظر: الإجماع لابن المنذر ص84، مراتب الإجماع لابن حزم ص79) ، المغني (11/348) .

ص: 138

اختلف العلماء في ذلك إلى قولين:

القول الأول: أن لها الخيار في طلب التفريق بسبب إعسار الزوج بالنفقة.

وهو قول الجمهور (المالكية، والراجح عند الشافعية، وقول الحنابلة)1.

الأدلة:

استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأدلة، منها:

- قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} 2.

وواضح أن إمساك المرأة من غير الإنفاق عليها إضرار بها، والإضرار منهي عنه "لا ضرر ولا ضرار "، فإمساكها من غير الإنفاق عليها مندرج كذلك تحت النهي.

- ومثل ذلك قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 3.

- كما استدلوا بما رواه البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِي رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى

1 انظر: بلغة السالك (1/523) ، ومغني المحتاج (2/442) ، والفروع (5/587) .

2 من الآية 231 من سورة البقرة.

3 من الآية 229 من سورة البقرة.

ص: 139

وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول"، تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَيَقُولُ الابنُ أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي" فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لا هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ1.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واستدل بقوله"إما أن تطعمني وإما أن تطلقني" من قال يُفَرَّق بين الرجل وامرأته إذا أعسر بالنفقة واختارت فراقه.2

القول الثاني: أنه ليس لها الخيار في طلب التفريق بسبب إعسار الزوج بالنفقة.

وهو قول الحنفية والظاهرية.3

الأدلة:

وقد استدل هذا الفريق لما ذهبوا إليه بأدلة منها:

- قول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} 4.

1 صحيح البخاري مع فتح الباري (9/500) .

2 فتح الباري (9/500) .

3 انظر: المبسوط (5/187-188) ، وشرح فتح القدير (4/201) ، ومجمع الأنهر (1/491) ، والاختيار (4/8) ، والمحلى (10/91-92) .

4 من الآية 7 من سورة الطلاق.

ص: 140

قال الجصاص رحمه الله: "وقد تضمن معنى آخر من جهة الحكم وهو الإخبار بأنه إذا لم يقدر على النفقة لم يكلفه الله الإنفاق في هذه الحال، وإذا لم يكلف الإنفاق في هذه الحال لم يجز التفريق بينه وبين امرأته لعجزه عن نفقتها"1.

- ومن السنة ما رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَا لَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ فَأُذِنَ لأبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ فَقَالَ لأقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ" فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، فَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} حَتَّى بَلَغَ، {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} 2 قَالَ: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى

1 أحكام القرآن (3/464) .

2 من الآيتان 28،29 من سورة الأحزاب.

ص: 141

تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ" قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتلا عَلَيْهَا الآيَةَ، قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ، بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَأَسْأَلُكَ أَنْ لا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ، قَالَ: "لا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلا أَخْبَرْتُهَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا "1

ووجه الاستدلال كما قال ابن القيم رحمه الله نقلا: "فهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان ابنتيهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سألاه نفقة لا يجدها، ومن المحال أن يضربا طالبتين للحق، ويقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدل على أنه لا حق لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإعسار، وإذا كان طلبهما لها باطلا فكيف تمكَّن المرأة من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبه، ولا يحل لها، وقد أمر الله سبحانه صاحب الدين أن يُنظر المعسر إلى الميسرة".

وقال: "والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غرَّ المرأة بأنه ذو مال، فتزوجته على ذلك فظهر معدما لا شيء له، أو كان ذا مال، وترك الإنفاق على امرأته، ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها، ولا بالحاكم أن لها الفسخ،، وإن تزوجته عالمة بعسرته، أو كان موسرا ثم أصابته جائحة اجتاحت ماله، فلا فسخ لها في

1 صحيح مسلم (2/1104-1105) .

ص: 142

ذلك، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار، ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن، وبالله التوفيق" اهـ1

الراجح:

بالنظر في أدلة الفريقين، يبدو - كما هو واضح - أن الأدلة جميعها محتملة، فليس ثمة تصريح بالحكم على إعطاء المرأة الحق في اختيار الفراق، وقطع الصلة الزوجية للعسر بالنفقة.

وأما حديث أبي هريرة فقد صرح فيه أنه من كيسه، فلا يعول عليه.

إلا أن حديث تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه فيه دلالة على ثبوت حق الزوجة في التخير بسبب العسر بالنفقة - على خلاف بين العلماء فيما خير فيه النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه - لأنهن كن قد طالبن بالنفقة مما لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخيرهن بين أن يخترنه والآخرة، أو يخترن الدنيا، فاخترنه والآخرة2.

أما استدلال ابن القيم رحمه الله بضرب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ابنتيهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سألاه نفقة لا يجدها، على عدم التخيير، ففيه نظر، وذلك لأن فعلهما ذلك لا يدل على سقوط الحق في التخيير مع تخيير النبي صلى الله عليه وسلم.

1 زاد المعاد (5/519،521) .

2 انظر: الجامع لأحكام القرآن (14/170) .

ص: 143

ومما ينبغي ملاحظته أن إعسار الزوج لو بلغ به الأمر بحيث لا يمكن للمرأة أن تتحمله، أو تجد منه مخرجا، ورفعت أمرها إلى الحاكم متظلمة، فإن على الحاكم أن يرى في ذلك رأيه برفع الضرر الواقع على المرأة عملا بقاعدة:"الضرر يزال" وقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة:"درء المفاسد أولى من جلب المصالح" إذ قد يكون حينئذ في الإبقاء على النكاح مفسدة أشد من جلب المصلحة، فينبغي الأخذ بأهون الشرين.

ولعل من هذا الباب خروج بعض الحنفية - القائلين بعدم التفريق بسبب الإعسار - عن قولهم ذلك، حيث جاء في حاشية ابن عابدين:"ثم اعلم أن مشايخنا استحسنوا أن ينصب القاضي الحنفي نائبا ممن مذهبه التفريق بينهما، إذا كان الزوج حاضرا، وأبى عن الطلاق؛ لأن دفع الحاجة الدائمة لا يتيسر بالاستدانة، إذ الظاهر أنها لا تجد من يقرضها، وغنى الزوج مآلا أمر متوهم، فالتفريق ضروري إذا طلبته"1.

الحالة الثانية: امتناع الزوج عن النفقة مع اليسار:

إذا كان الزوج موسرا ومع ذلك امتنع عن الإنفاق على زوجته، بخلاً، أو إضرارا بها، فهل يجعل للمرأة الخيار في طلب التفريق؟

اتفق الفقهاء على أن للمرأة التي امتنع زوجها من الإنفاق عليها وهي مستحقة للنفقة، أن لها أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف.

(3/590) .

ص: 144

وذلك استناداً إلى ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، أن هنداً بنت عتبة، قالت يارسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني، وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"1.

فإن لم تتمكن من أخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف رفعت أمرها إلى الحاكم، فأجبره على الإنفاق عليها، وله حسبه لذلك2.

فإن أصر على عدم الإنفاق فهل للحاكم أن يفرق بينه وبين زوجته لذلك؟

اختلف العلماء في ذلك إلى أقوال:

القول الأول: أن القاضي يطلق عليه حالا إذا لم يدع العجز، فإن ادعى العجز طولب إثباته، فإن أثبت عجزه كان حكمه حكم المعسر، وإن لم يثبت عسره، أُمِر بالإنفاق أو الطلاق. وهو قول المالكية3.

القول الثاني: أنه لو امتنع عن الإنفاق، أجبره الحاكم على الإنفاق، فإن أبى حبسه، فإن صبر على الحبس أخذ الحاكم النفقة من ماله، فإن غيب ماله

1 صحيح البخاري (9/507- الفتح) ، وصحيح مسلم (4/129) .

2 انظر: بدائع الصنائع (4/38) .

3 حاشية الدسوقي (2/518) .

ص: 145

ولم يقدر الحاكم له على مال يأخذه، فلها الخيار في الفسخ. وهو قول الحنابلة1.

وقد استدلوا على جواز التفريق للامتناع بما رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما،"أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا"2.

القول الثالث: أن ليس لها الخيار في الفسخ لو امتنع عن الإنفاق ولو كان موسرا؛ لأن الخيار إنما يكون بسبب الإعسار، وهذا غير معسر. وهو قول الشافعية في الراجح3.

الراجح:

بالنظر في الأقوال الثلاثة في المسألة نجد أنه لا يوجد نص على حكم هذه الحالة، ولذلك ينبغي الاستناد إلى حكم عمر رضي الله عنه في إلزام الممتنعين عن الإنفاق به، أو إلزامهم بالطلاق، كما قضى بذلك رضي الله عنه.

1 المغني (11/264) ، وكشاف القناع (5/476) .

2 السنن الكبرى (7/469) ، ورواه عبد الرزاق في المصنف (7/93-94) ، وابن أبي شيبة، المصنف (5/214) .

3 نهاية المحتاج (7/202) .

ص: 146

وكذلك لأن الممتنع عن الإنفاق مع اليسار قاصدٌ الإضرار بزوجته دون وجه شرعي، فكان رفع الضرر عنها بالتفريق لذلك راجحا.

إلا أنه ينبغي عدم التسرع بالتفريق بل يتخذ الحاكم ما يراه مناسبا لإجبار الزوج على النفقة، فإن لم يجد ذلك قضى بالتفريق.

ولذا فإن ما ذهب إليه الحنابلة من القول بإجبار الزوج على الإنفاق، وما يلزم الحاكم من اتخاذه لذلك، والتفريق عند عدم إمكان أخذ النفقة من ماله، ضمانا لحق المرأة في النفقة، هو الراجح.

ص: 147