الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد، على حين تكون المقابلة بالأضداد وغير الأضداد، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة وأعظم موقعا، نحو قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.
فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان، ثم قابلهما بضدين: هما السكون والحركة على الترتيب، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا عن المقابلة؛ ذلك أنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل، لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة.
ومن أمثلة هذا النوع أيضا قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ*. فقد أتى في كل صدر الكلام وعجزه بضدين، ثم قابل الضدين في صدر الكلام بضدين لهما في العجز على الترتيب.
أنواع المقابلة:
والمقابلة تأتي على أربعة أنواع على النحو التالي:
1 -
مقابلة اثنين باثنين: نحو قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً، ونحو قوله عليه السلام:(إن لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير مغاليق الشر)، وقوله أيضا للأنصار:(إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع). وكقول رجل يصف آخر: «ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية» .
ومن مقابلة اثنين باثنين في الشعر قول النابغة الجعدي:
فتى كان فيه ما يسر صديقه
…
على أن فيه ما يسوء الأعاديا
وقول المعري:
يا دهر يا منجز إيعاده
…
ومخلف المأمول من وعده
ومن مليح هذه المقابلة وخفيها قول العباس بن الأحنف:
اليوم مثل الحول حتى أرى
…
وجهك والساعة كالشهر
فقد قابل اليوم بالساعة، والحول بالشهر، لأن الساعة من اليوم كالشهر من الحول جزء من اثني عشر جزءا.
2 -
مقابلة ثلاثة بثلاثة: نحو قوله تعالى: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وقول علي بن أبي طالب لعثمان بن عفان: «إن الحق ثقيل وبيّ، والباطل خفيف مريّ» .
ومن أمثلتها شعرا قول أبي دلامة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
3 -
مقابلة أربعة بأربعة: نحو قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى. وقوله: اسْتَغْنى مقابل لقوله: اتَّقى لأن معناه زهد فيما عنده واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وذلك يتضمن عدم التقوى.
ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق في وصيته عند الموت: «هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها» ، فقابل: أوّلا بآخر، والدنيا بالآخرة، وخارجا بداخل، ومنها بفيها.
ومنه شعرا قول أبي تمام:
يا أمة كان قبح الجور يسخطها
…
دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها
وقول جرير:
وباسط خير فيكم بيمينه
…
وقابض شر عنكم بشماله
وقول ابن حجة الحموي:
قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا
…
ولوا غضابا فواحربي لغيظهمو
فالمقابلة هنا بين «قابلتهم وولوا» و «الرضى والغضب» و «السلم والحرب» و «الانشراح والغيظ» .
4 -
ومن مقابلة خمسة بخمسة: قول الشاعر:
بواطئ فوق خد الصبح مشتهر
…
وطائر تحت ذيل الليل مكتتم
فالمقابلة هنا بين «واطئ وطائر» لأن الواطئ هو الماشي على الأرض، والطائر هو السائر في الفضاء، وبين
«فوق وتخت» و «خد وذيل» لما بينهما من معنى العلو والسفل، و «الصبح والليل» و «مشتهر ومكتتم» .
ومنه قول صفي الدين الحلي:
كان الرضا بدنوي من خواطرهم
…
فصار سخطي لبعدي عن جوارهمو
فالمقابلة بين «كان وصار» و «الرضا والسخط» و «الدنو والبعد» و «من وعن» و «خواطرهم وجوارهم» على مذهب من يرى أن المقابلة تجوز بالأضداد وغيرها.
ومنه أيضا قول أبي الطيب المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
ومقابلة «الليل بالصبح» لا تحسب إلا على المذهب القائل بجواز
المقابلة بين الأضداد وغيرها. أما على المذهب القائل بقصر المقابلة على الأضداد فقط فإن المقابلة بين «الليل والصبح» تكون غير تامة؛ لأن ضد الليل المحض النهار لا الصبح.
5 -
ومن مقابلة ستة بستة: قول الصاحب شرف الدين الأربلي:
على رأس عبد تاج عز يزينه
…
وفي رجل حر قيد ذل يشينه
فالمقابلة هنا بين «على وفي» و «رأس ورجل» و «عبد وحر» و «تاج وقيد» و «عز وذل» و «يزينه ويشينه» .
ويرى علماء البديع أن أعلى رتب المقابلة وأبلغها هو ما كثر فيه عدد المقابلات شريطة ألا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف أو توحي به.
كذلك يرون أن المقابلة بالأضداد أفضل وأتم، وهذا هو مذهب السكاكي؛ فالمقابلة عنده: أن تجمع بين شيئين فأكثر ثم تقابل ذلك بالأضداد، وإذا شرطت في أحد الشيئين أو الأشياء شرطا شرطت فيما يقابله ضده.
…
وبعد فلعلنا أدركنا الآن على ضوء دراستنا لكل من المطابقة والمقابلة مدى أثرهما في بلاغة الكلام. فكل منهما يضفي على القول رونقا وبهجة ويقوي الصلة بين الألفاظ والمعاني، ويجلو الأفكار ويوضحها شريطة أن تجري المطابقة أو المقابلة مجرى الطبع. أما إذا تكلفها الشاعر أو الأديب فإنها تكون سببا من أسباب اضطراب الأسلوب وتعقيده.
ومن صفات الأدب الجيد تلاحم أجزائه وائتلاف ألفاظه حتى كأن الكلام بأسره من حسن الجوار وشدة التلاحم كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد. وكما يتم هذا التلاحم عن طريق التشابه يتم