الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن حاجتها فيصيبها بالتلف والإفساد. فهذا التتميم بالاحتراس من البديع حقا.
أما ذو الرمة ففي دعائه بالسقيا لدار صاحبته يقول:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى
…
ولا زال منهلا بجرعائك القطر (1)
فذو الرمة يدعو لدار صاحبته ميّ بالسلامة وبأن يظل المطر ينهل وينصبّ على جرعائها انصبابا شديدا. وهذا بالدعاء على دار صاحبته أشبه منه بالدعاء لها، لأن القطر إذا انهل فيها دائما فسدت. وهذا العيب ناشئ من أن الشاعر لم يتم معناه، ولم يتحرّز فيه كما فعل طرفة في بيته.
التورية
التورية من فنون البديع المعنوي، ويقال لها أيضا: الإيهام والتوجيه والتخيير، ولكن لفظة «التورية» أولى في التسمية لقربها من مطابقة المسمّى، لأنها مصدر ورّى بتضعيف الراء تورية، يقال: ورّيت الخبر:
جعلته ورائي وسترته وأظهرت غيره، كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر.
والتورية في اصطلاح رجال البديع: هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان، قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد.
ونحن نجد لها أكثر من تعريف لدى المتأخرين، ولكن هذه
(1) الجرعاء والأجرع: الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل، وقيل: هي الرملة السهلة المستوية لا تنبت شيئا، والقطر: المطر.
التعريفات وإن اختلفت لفظا فإنها تتفق معنى، ولا تخرج جميعها في مضمونها عن مضمون التعريف السابق الذي اصطلح عليه جمهور البديعيين.
فزكي الدين بن أبي الأصبع «654 هـ» قد عرفها في كتابه المسمى «تحرير التحبير» بقوله: «التورية وتسمى التوجيه هي أن يكون الكلام يحتمل معنيين فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله» .
والخطيب القزويني «739 هـ» يعرفها في كتابه التلخيص بقوله:
«ومن البديع التورية وتسمى الإيهام أيضا، وهي أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد، وهي ضربان مجردة ومرشحة» ولم يزد على هذا القدر شيئا.
وصلاح الدين الصفدي «764 هـ» يعرفها في كتابه «فضّ الختام عن التورية والاستخدام» بقوله: «التورية هي أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين، قريب وبعيد، فيذكر لفظا يوهم القريب إلى أن يجيء بقرينة يظهر منها أن مراده البعيد» .
وتقي الدين بن حجة الحموي «837 هـ» يعرّفها في كتابه «خزانة الأدب» بقوله: «التورية أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو حقيقة ومجاز، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد، ويورّى عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك، ولأجل هذا سمى هذا النوع إيهاما» (1).
…
(1) انظر في كل هذه التعريفات كتاب خزانة الأدب لابن حجة الحموي 239 - 242.
ومن أمثلة التورية قول سراج الدين الورّاق (1):
أصون أديم وجهي عن أناس
…
لقاء الموت عندهم الأديب
ورب الشعر عندهم بغيض
…
ولو وافى به لهم «حبيب»
فالتورية في لفظة «حبيب» ، ولها معنيان: أحدهما المحبوب، وهذا هو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن أول وهلة بسبب التمهيد له بكلمة «بغيض» ، والمعنى الثاني اسم أبي تمام الشاعر وهو حبيب بن أوس، وهذا هو المعنى البعيد الذي أراده الشاعر ولكنه تلطف فورّى عنه وستره بالمعنى القريب.
ومن أمثلتها أيضا قول بدر الدين الذهبي:
يا عاذلي فيه قل لي
…
إذا بدا كيف أسلو؟
يمر بي كل وقت
…
وكلما «مر» يحلو
فالتورية هنا كلمة «مرّ» ، فإن لها معنيين: أحدهما أنها مأخوذة من المرارة وهو المعنى القريب بدليل مقابلتها بكلمة «يحلو» ، وهذا المعنى القريب الظاهر غير مراد، والمعنى الثاني أنها مأخوذة من المرور، وهذا هو المعنى البعيد الذي يريده الشاعر.
ومنها كذلك قول بدر الدين الحمّاميّ:
جودوا لنسجع بالمدي
…
ح على علاكم سرمدا
فالطير أحسن ما تغر
…
د عند ما يقع الندى (2)
فالتورية هنا في كلمة «الندى» ، فمعناها القريب الظاهر غير المراد
(1) شاعر مصري أولع بالبديع في شعره وتوفي سنة 659 هـ.
(2)
من معاني الندى: الجود، وما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف.
هو ما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف، بدليل التمهيد له بذكر الطير والتغريد والوقوع، ومعناها البعيد هو الجود وهذا هو الذي أراده الشاعر.
وقوله أيضا:
أبيات شعرك كالقص
…
ور ولا قصور بها يعوق
ومن العجائب لفظها
…
حرّ ومعناها «رقيق»
والتورية في هذا المثال هي كلمة «رقيق» ولها معنيان: أولهما قريب ظاهر غير مراد، وهو العبد المملوك، وسبب قربه وتبادره إلى الذهن ما سبقه من كلمة «حر» ، والمعنى الثاني بعيد وهو اللطيف السهل الدّمث من المعاني. وهذا هو الذي يريده الشاعر بعد أن ستره وأخفاه في ظل المعنى القريب.
ومما ورد منها في القرآن الكريم قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ (1). فلفظة التورية في الآية الكريمة هي جَرَحْتُمْ ولها معنيان: أولهما قريب ظاهر غير مراد وهو إحداث تمزّق في الجسم، والثاني بعيد خفي مراد وهو ارتكاب الذنوب واقترافها.
ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية وأنها تتمثل دائما في لفظ مفرد له معنيان: قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد.
ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية، وأن القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركا بين معنيين: أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد
(1) جرحتم: أصل معنى الجرح إحداث تمزق في الجسم، ولهذا سميت السباع جوارح لأنها تجرح.