الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشام خاصة في عصره وبعد عصره، وقد أدى الإعجاب بها والمبالغة في استعمالها والإكثار منها والتكلف فيها إلى إفساد الكثير من شعر المتأخرين وإحالته إلى رياضة ذهنية وحيل لفظية ينطبق عليها قول القائل:
وما مثله إلا كفارغ بندق
…
خلى من المعنى ولكن يفرقع!
التقسيم
التقسيم فن من فنون البديع المعنوي، وهو في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزّأته. أما في الاصطلاح فاختلفت فيه العبارات، والكل راجع إلى مقصود واحد.
ومن أوائل من عرض له أبو هلال العسكري وفسره بقوله:
«التقسيم الصحيح: أن تقسم الكلام قسمة مستوية تحتوي على جميع أنواعه، ولا يخرج منها جنس من أجناسه، فمن ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وهذا أحسن تقسيم لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع، ليس فيهم ثالث» (1) وقد قدم الخوف على الطمع لأن الأمر المخوف من البرق يقع في أول برقه، والأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف. وذلك ليكون الطمع ناسخا للخوف، لمجيء الفرج بعد الشدة.
وذكر ابن رشيق القيرواني أن الناس مختلفون فيه: «فبعضهم يرى أنه استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به، كقول بشار يصف هزيمة:
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه
…
وتدرك من نجى الفرار مثالبه
فراحوا: فريق في الأسار، ومثله
…
قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه
(1) كتاب الصناعتين ص 341.
فالبيت الأول قسمان: إما موت، وإما حياة تورث عارا ومثلبة، والبيت الثاني ثلاثة أقسام: أسير، وقتيل، وهارب، فاستقصى جميع الأقسام، ولا يوجد في ذكر الهزيمة زيادة على ما ذكر» (1).
وعرفه الخطيب القزويني في كتابه التلخيص بقوله: «والتقسيم ذكر متعدد، ثم إضافة ما لكل إليه التعيين، كقول المتلمس:
ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عير الحيّ والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته
…
وذا يشجّ فلا يرثي له أحد (2)
فقد ذكر الشاعر العير والوتد، ثم أضاف إلى الأول الربط مع الخسف، وإلى الثاني الشج على التعيين.
وقبله عرّفه السكاكي بقوله: «هو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثر ثم تضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عندك، كقوله:
أديبان في بلخ لا يأكلان
…
إذا صحبا المرء غير الكبد
فهذا طويل كظل القناة
…
وهذا قصير كظل الوتد (3)
كذلك عرفه زكي الدين بن أبي الأصبع بقوله: «التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه» (4) وقد مثل لتعريفه بقوله
(1) كتاب العمدة ج 2 ص 20.
(2)
كتاب التلخيص للقزويني ص 364، والضيم: الظلم، والعير: الحمار غلب على الوحش، والمناسب هنا الحمار الأهلي، والخسف: الذل، الرمة: القطعة من الحبل، والشج: الدق والكسر.
(3)
خزانة الأدب ص 362.
(4)
خزانة الأدب ص 362.
تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، فاستوفت الآية الكريمة جميع الهيئات الممكنة.
وكذلك بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فاستوفت الآية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها؛ فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة.
وبقوله تعالى أيضا: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، فالآية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها، والمراد الحال والماضي والمستقبل. فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل، وما خلفنا المراد به الماضي، وما بين ذلك الحال.
ومما ينطبق على تعريف ابن أبي الأصبع وهو من أشرف المنثور قوله صلى الله عليه وسلم: «وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وألبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟» ، فلم يبق الرسول قسما رابعا لو طلب لوجد.
وقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره» .
فالإمام علي قد استوعب هنا أقسام الدرجات وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص.
ومنه أن شابا قدم مع بعض وفود العرب على عمر بن عبد العزيز ثم قام وتقدم المجلس قائلا: «يا أمير المؤمنين
أصابتنا سنون: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم (1)، وفي أيديكم فضول
(1) أنقت العظم: استخرجت نقوه بكسر النون، أي مخه.
أموال؛ فإن كانت لنا لا تمنعونا، وإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لكم فتصدقوا. إن الله يجزي المتصدقين». فقال عمر بن عبد العزيز:«ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرا» .
…
ومن التعريفات والأمثلة السابقة يمكن القول بأن التقسيم يطلق على أمور:
أحدها: استيفاء جميع أقسام المعنى، وقد ينقسم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما، أو إلى ثلاثة لا رابع لها، أو إلى أربعة لا خامس لها، وهكذا ..
ومن تقسيم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما بالإضافة إلى بعض الأمثلة السابقة قول ثابت البناني: «الحمد لله وأستغفر الله» ، ولما سئل: لم خصهما؟ قال: لأني بين نعمة وذنب، فأحمد الله على النعمة، وأستغفره من الذنوب.
ومنه قول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار:
متى ما تقع أرساغه مطمئنة
…
على حجر يرفض أو يتدحرج (1)
فالوطء الشديد إذا صادف الموطوء رخوا ارفض وتفرق منه، أو صلبا تدحرج عنه، ولهذا لم يبق الشماخ قسما ثالثا.
ومن تقسيم المعنى إلى ثلاثة لا رابع لها قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث
…
يمين أو نفار أو جلاء (2)
(1) مطمئنة: ساكنة، ويرفض: يتفرق، والأرساغ: جمع رسغ وهو من الدواب الموضع المستدق بين الحافر.
(2)
النفار: المنافرة والتحاكم، والجلاء: البيّنة التي تجلو وتكشف حقيقة الأمر.
فذلكم مقاطع كل حق
…
ثلاث كلهن لكم شفاء
وكان عمر رضي الله عنه يتعجب من صحة هذا التقسيم ويقول:
«لو أدركت زهيرا لوليته القضاء لمعرفته» .
ومنه قول نصيب:
فقال فريق القوم: لا، وفريقهم:
…
نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري
فليس في أقسام الإجابة عن المطلوب إذا سئل عنه غير هذه الأقسام الثلاثة.
وقول عمر بن أبي ربيعة:
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
…
به الدار أو من غيبته المقابر
فلم يبق ابن ربيعة مما يعبر به عن إنسان مفقود قسما إلا أتى به في هذا البيت.
وقول زهير:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
…
ولكنني عن علم ما في غد عم
فالبيت جامع لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها.
…
والأمر الثاني الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في ذكر أحوال الشيء مضافا إلى كل حالة ما يلائمها ويليق بها. ومن أمثلة ذلك قول أبي الطيب المتنبي:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
…
كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا
…
كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا (1)
فالشاعر قد أضاف هنا كل حال ما يلائمها، بأن أضاف إلى الثقل حال ملاقاتهم الأعداء، وإلى الخفة حال دعوتهم إلى الحرب، وإلى الكثرة حال شدهم وهجومهم على الأعداء في الحرب، وإلى القلة حال عدّهم وإحصائهم، لأنهم إذا غلبوا أعداءهم في قلة عددهم، كان هذا أفخر لهم من الكثرة.
ومنه قول زهير:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا
…
ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
فزهير قد أتى في هذا البيت بجميع ما استعمله الممدوح مع أعدائه في وقت الهياج والحرب مضيفا إلى كل حال ما يلائمها، وذلك بأن أضاف إلى طعن الممدوح لأعدائه حالة ارتمائهم، وإلى ضربه إياهم حالة طعنهم، وإلى اعتناقه حالة مضاربتهم. فهو في كل حال يتقدم خطوة على أقرانه.
ومنه قول طريح الثقفي:
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا
…
شرا أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذبوا
فهنا أضاف الشاعر إلى سماع الخير حالة إخفائه، وإلى سماع الشر حالة إذاعته، وإلى عدم سماعهم خيرا أو شرا حالة الكذب.
…
والأمر الثالث الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في التقطيع، ويقصد به تقطيع ألفاظ البيت الواحد من الشعر إلى أقسام تمثل تفعيلاته
(1) القنا: الرماح، كنى بها الشاعر عن نفسه، وبالمشايخ عن أصحابه، لا يفارقهم اللثام ولا ترى لحاهم فكأنهم مرد. واللثام في الحرب عادة العرب، لئلا تسقط عمائمهم.
العروضية، أو إلى مقاطع متساوية في الوزن. ويسمى التقسيم حينئذ «التقسيم بالتقطيع» .
ومن أمثلة ذلك وهو من بحر الطويل قول المتنبي:
فيا شوق ما أبقى ويالي من النوى
…
ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا
فقد جاء المتنبي بهذا البيت مقسما على تقطيع الوزن، كل لفظتين ربع بيت.
ومنه وهو من بحر البسيط قول المتنبي أيضا:
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا
…
والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
فقد جاء البيت مقسما مقطعا إلى أربعة مقاطع متساوية في الوزن.
ومنه وهو من بحر الخفيف قول البحتري:
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا
…
أو معينا أو عاذرا أو عدولا
فالبيت هنا مقسم مقطّع إلى ستة مقاطع كل واحد منها يمثل تفعيلة من تفعيلات بحر الخفيف.
وقد يجيء التقسيم بالتقطيع مسجوعا، كقول مسلم بن الوليد:
كأنه قمر أو ضيغم هصر
…
أو حية ذكر أو عارض هطل
وكقول أبي تمام من قصيدة يمدح فيها المعتصم ويذكر فتح عمورية:
لم يعلم الكفر كم من أعصر كمنت
…
له المنية بين السّمر والقضب (1)
تدبير معتصم بالله منتقم ..
…
لله مرتقب في الله مرتغب
(1) السمر: الرماح، والقضب: السيوف، وعمورية إحدى مدن الروم الشهيرة وكانت عندهم أشرف من القسطنطينية، وقد فتحها المعتصم في معركة شهيرة.