الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخفت أهل الشرك حتى أنه
…
لتخافك النّطف التي لم تخلق
وهذا كما لا يخفى أمر مستحيل، لأن قيام العرض الموجود وهو الخوف بالمعدوم وهي النطف التي لم تخلق لا يمكن عقلا ولا عادة.
ومنه قول ابن هانئ الأندلسي في مطلع قصيدة يمدح بها المعز لدين الله الفاطميّ:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
…
فاحكم فأنت الواحد القهار
فادعاء أن مشيئة المعز فوق مشيئة الأقدار وأنه هو الواحد القهار غلو يوهم الكفر.
ومنه قول المتنبي في مدح سيف الدولة:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
…
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
فعلم الغيب مما استأثر الله به، فالزعم بأن إنسانا كائنا من كان يعلم الغيب إفراط في الغلو يؤول بقائله إلى الكفر.
الإيغال
والإيغال ضرب من المبالغة، إلّا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها.
والإيغال مشتق من الإبعاد، يقال: أوغل في الأرض إذا أبعد فيها. وقيل إنه سرعة الدخول في الشيء يقال: أوغل في الأمر إذا دخل فيه بسرعة.
فعلى القول الأول كأن الشاعر قد أبعد في المبالغة وذهب فيها كل الذهاب، وعلى القول الثاني كأنه أسرع الدخول في المبالغة بمبادرته القافية.
والإيغال الذي هو ضرب من المبالغة مقصور على القوافي يعني أن
الشاعر إذا انتهى إلى آخر البيت استخرج قافية يريد بها معنى زائدا، فكأنه قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه، وبلغ مراده فيه إلى زيادة عن الحد.
وهذا النوع من المبالغة مما فرّعه قدامة بن جعفر وعرّفه بقوله: «هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعرا أفاد بها معنى زائدا على معنى البيت» (1).
وعرف أبو هلال العسكري الإيغال بقوله: «هو أن يستوفي معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، ثم يأتي بالمقطع فيزيد معنى آخر يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا حسنا» (2).
سئل الأصمعي: من أشعر الناس؟ قال: الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيرا، أو يأتي إلى المعنى الكبير فيجعله خسيسا، أو ينقضي كلامه قبل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى، فسئل: نحو من؟ فقال:
نحو الأعشى إذ يقول:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
…
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل (3)
فقد تم المثل- أي التشبيه- بقوله: «وأوهى قرنه» فلما احتاج إلى القافية قال «الوعل» . فسئل: وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قنّة الجبل على قرنه فلا يضيره.
ثم سئل: نحو من؟ قال: نحو ذي الرّمة بقوله:
(1) خزانة الأدب لابن حجة الحموي ص 234.
(2)
كتاب الصناعتين ص 380.
(3)
الوعل بكسر العين: ذكر الشاة الجبلية.
قف العيس في أطلال مية واسأل
…
رسوما كأخلاق الرداء المسلسل
أظن الذي يجدي عليك سؤالها
…
دموعا كتبديد الجمان المفصل (1)
ففي البيت الأول تمم الشاعر كلامه بقوله «كأخلاق الرداء» ثم احتاج إلى القافية، فقال «المسلسل» فزاد شيئا على المعنى.
وفي البيت الثاني تمّ كلامه بقوله «كتبديد الجمان» ثم احتاج إلى القافية فأتى بما يفيد معنى زائدا وهو «المفصل» (2).
ويقال: إن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى، أي الإيغال، وذلك بقوله يصف الفرس:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه
…
تقول هزيز الريح مرت بأثأب (3)
فالمعنى هنا أن الفرس إذا أجرى شوطين وابتلّ جانبه من العرق سمعت له صوتا وخفقا كخفق الريح إذا مرّت بشجر الأثأب. فالشاعر بالغ في وصف الفرس وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شوطين ويبتل عطفه بالعرق، وقد تم المعنى بقوله «مرت» ثم زاد إيغالا في صفته بذكر الأثأب الذي يكون للريح في أضعاف أغصانه
حفيف عظيم وشدة صوت.
وعلى هذا فإذا كانت لفظة «أثأب» قد استدعتها القافية ليكون الكلام شعرا، فإنها في الوقت ذاته أفادت معنى زائدا، وهو المبالغة في شدة
(1) أخلاق: جمع خلق بفتح الخاء واللام: الثوب البالي، المسلسل: المهلهل دموعا كتبديد الجمان المفصل: أي دموعا تتبدد وتتناثر كتبديد وتناثر عقد الفضة المفصل، أي الذي يجعل فيه خرزة بين كل حبتين من الجمان أي الفضة.
(2)
كتاب العمدة ج 2 ص 54.
(3)
الأثأب: شجر كالائل يشتد صوت الريح وهزيزه فيه، والعطف بكسر العين: الجانب.
حفيف الفرس بتشبيهه بهزيز الريح المنبعث من اصطدامها بأغصان هذا الشجر عند مرورها من خلاله.
ومن الإيغال قول امرئ القيس أيضا:
كأن عيون الوحش حول خبائنا
…
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فهنا شبه الشاعر عيون الوحش لما فيهن من السواد والبياض بالجزع، وهو الخرز الأسود المشوب بالبياض، ولما كانت عيون الوحش لا ثقوب فيها كانت أشبه بالخرز الذي لم يثقب. فمعنى التشبيه تمّ بقوله «الجزع» وقوله «الذي لم يثقب» إيغال في التشبيه زوّد البيت بالقافية وأفاد معنى زائدا هو تأكيده التشبيه، لأن عيون الوحش غير مثقبة. ولا يخفى ما في هذه الزيادة من حسن.
ومن الإيغال في التشبيه كذلك قول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل
…
نزلن به حبّ الفنا لم يحطم (1)
والمعنى الذي عبر عنه زهير انتهى عند قوله «حب الفنا» وزيادة المعنى في قوله «لم يحطم» . فزهير شبه ما تفتت وتساقط من العهن أو الصوف الملون بحب الفنا الأحمر، ولما قال بعد تمام بيته «لم يحطم» أراد أن يكون حب الفنا صحيحا لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة. فهذا البيت شبيه ببيت امرئ القيس السابق من حيث أن الإيغال فيه زوّد البيت بالقافية، وأفاد معنى زائدا في المشبه به.
ومن الإيغال البليغ باتفاق البديعيين قول الخنساء في أخيها صخر:
(1) العهن بكسر العين وسكون الهاء: الصوف المصبوغ أي لون كان، وفتات العهن: ما تساقط من الصوف المصبوغ ألوانا، والفنا: شجر ثمره حب أحمر، وقال الفراء: هو عنب الثعلب.
وإن صخرا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
فإن معنى جملة البيت كامل من غير القافية، ووجودها زيادة لم تكن له قبلها. فالخنساء لم ترض لأخيها أن يأتمّ به جهّال الناس حتى جعلته يأتمّ به أئمة الناس، ولم ترض تشبيهه بالعلم، وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية، حتى جعلت في رأسه نارا. فهذا الإيغال البديع أكمل معنى المشبه به، وزوّد البيت بالقافية.
ومن بديع إيغال المحدثين قول مروان بن أبي حفصة:
همو القوم: إن قالوا أصابوا، وإن دعوا
…
أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
فقوله «وأجزلوا» إيغال في نهاية الحسن.
…
والإيغال ليس مقصورا على الشعر، وإنما هو يجيء في الشعر والنثر على حد سواء. ومجيئه في النثر المسجوع أكثر وذلك لإتمام الفواصل وزيادة المعنى. ومن أمثلته قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. فإن الكلام تمّ بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة أو الفاصلة الأولى، فلما أتى بها وهي لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أفاد بها معنى زائدا، وذلك لأنه لا يعلم أن حكم الله أحسن من كل حكم إلا من أيقن أنه سبحانه حكيم عادل.
ومثله قوله تعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. فإن المعنى تم بقوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ ثم ورد ما بعد ذلك وهو إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لإتمام الكلام بالفاصلة ولإفادة معنى زائد، هو المبالغة في