الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبالغة، والالتفات، وإن كان قدامة قد خص الأخير بشق واحد من شقي «الالتفات» عند ابن المعتز.
وإذا كان الاثنان قد التقيا في خمس محسنات بديعية، مع اختلاف في تسمية بعضها واتفاق في تسمية البعض الآخر، فإن قدامة يكون في الواقع قد اهتدى إلى تسعة أنواع جديدة من أنواع البديع، هي: الترصيع، والغلو، وصحة التقسيم، وصحة المقابلات، وصحة التفسير، والإشارة، والإرداف، والتمثيل، والإيغال.
وبعد فقد سمى قدامة كتابه «نقد الشعر» فهل نستطيع حقا أن نعتبره هو وكتاب «البديع» لا بن المعتز من كتب النقد؟.
وإجابة على السؤال نقول: على الرغم من التسمية فإن الكتابين بعيدان عن النقد الذي هو فن دراسة الأساليب، وأقرب إلى أن يكون كلاهما كتابا علميا يرمي إلى إيضاح مبادئ، واستنباط أنواع من البديع، ووضع تقسيمات. وكل ما يمكن قوله إنهما يمدان الناقد بعنصر من العناصر التي تعينه في عملية نقد العمل الأدبي وإصدار الحكم عليه.
أبو هلال العسكري:
ثم ظهر في القرن الرابع مع قدامة وعاش بعده أكثر من نصف قرن عالم آخر، هو أبو هلال العسكري، الذي حاول في واحد من أهم مؤلفاته، وأعني به كتاب «الصناعتين- الكتابة والشعر» أن يحقق هدفين.
أحدهما أن يتم في توسع ما بدأه قدامة من بحث صناعة الشعر ونقده، سالكا في ذلك- كما يقول- مذهب صناع الكلام من الشعراء والكتاب لا مذهب المتكلمين والمتفلسفة كما فعل قدامة.
أما ثاني الهدفين، فهو ألا يقف بالبحث الأدبي عند حد الشعر، وإنما
يتعداه- غير مسبوق في هذا الباب- إلى بحث صناعة الكتابة أو النثر بصفة عامة، فليس الأدب شعرا فحسب، وإنما هو شعر ونثر معا.
وأبو هلال هذا هو الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، نسبة إلى مدينة «عسكر مكرم» من كور الأهواز بين البصرة وفارس. وكان من أبنائها علماء أعلام خدموا الثقافة العربية وأضافوا إليها ما لديهم من معرفة.
ومن هؤلاء العلماء أبو أحمد العسكري (1) المحدث (293 - 382 هـ) وأبو هلال العسكري الأديب، صاحب كتاب «الصناعتين» ، والأول خال الثاني وأستاذه.
وقد غلب الأدب والشعر على أبي هلال العسكري إنتاجا وتأليفا، وكتبه المنشورة بين الناس تدل على تمكنه من علوم العربية أو علوم الأدب الثمانية، وأعني بها: اللغة، والنحو، والصرف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم.
وهذه العلوم عند الأقدمين لم تكن تعني «الأدب» وإنما تعني أنها لازمة لثقافة الأديب، ولحاجة الأديب إليها في تكوينه عدوها من الأدب ..
ولا ريب في أنه بمقدار جهل الأديب بأي من هذه العلوم يكون نقصه في الأدوات التي تؤهله بتمكن لممارسة الأدب في أية صورة من صوره.
ومؤلفات أبي هلال العسكري لا تدل على تبحره في علوم العربية، فحسب، وإنما تدل أيضا على غزارة إنتاجه وتنوعه، فقد خلف لنا عشرين
(1) انظر ترجمة أبي أحمد وأبي هلال في معجم الأدباء لياقوت ج 8 ص 223 - 267.
كتابا عالج فيها، كما يفهم من أسمائها، موضوعات شتى في اللغة والأدب والبلاغة والنقد والتفسير، وكلها تنم عن نوع ثقافته وثقافة العصر الذي عاش فيه.
على أن ما انتهى إلينا من إنتاجه لم يزد حتى الآن على ثلاثة كتب هي: «كتاب الصناعتين- الكتابة والشعر» ، وكتاب «ديوان المعاني» من جزأين، وكتاب لغوي اسمه «المعجم في بقية الأشياء» ، أما بقية كتبه فلا يزال الموجود منها مخطوطات في مكتبات العالم، تنتظر من يتوفر على تحقيقها ونشرها.
أبو هلال العسكري إذن كان في عصره إماما في العلم والأدب، إماما وعى كثيرا من معارف سابقيه وأضاف إليها، وأثر بها فيمن جاء بعده. ولئن كانت أجيال كثيرة تتلمذت عليه في حياته، فإن أجيالا أكثر وأكثر ظلت على توالي العصور وإلى اليوم تتلمذ من بعده على آثاره العلمية التي تميزت بالأصالة.
ولكن لعل من العجيب المؤلم حقا أن مثله لم يكن بليغا في حياته الخاصة بمقدار ما كان بليغا في حياته العلمية. فهو على ما كان له من قدم راسخة في العلم وولاء له، واشتغال دائم به، قد قضى حياته مغمورا خامل الذكر مضيقا عليه في الرزق، يلتمسه من احتراف البزازة وبيع الثياب في الأسواق!.
مفارقة عجيبة إذن بين ما كان عليه من غنى علمي وفقر مادي، وقد دفعه تناقض الأحوال هذا إلى السخط، السخط على نفسه، وعلى الدنيا التي تختل فيها موازين العدل بين الناس. ومن ثم لا يجد أمامه ما يفزع إليه غير الشعر يبث إليه ذات نفسه، ويفضي إليه بهمومه، ويعبر فيه عن سخطه، فيقول:
إذا كان مالي من يلقط العجم (1)
…
وحالي فيكم حال من حاك أو حجم
فأين انتفاعي بالأصالة والحجى
…
وما ربحت كفي من العلم والحكم؟
ومن ذا الذي في الناس يبصر حالتي
…
ولا يلعن القرطاس والحبر والقلم؟
ويقول من قصيدة أخرى:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري
…
دليل على أن الأنام قرود
ولا خير في قوم يذل كرامهم
…
ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة كسوتي
…
هجاء قبيحا ما عليه مزيد
على أن حياة أبي هلال لا تعنينا فيها نحن بسبيله هنا من تتبع تاريخ علم البديع، وإنما هي نبذة ترينا في هذه الدنيا حظوظ بعض من يوالون العلم وينقطعون له، ولا يسمحون لأنفسهم أن يتاجروا فيه، أو يقايضوا عليه بأي ثمن!
ولكنّ ما يعنينا هنا ونحن نتتبع تاريخ علم البديع وتطوره هو «كتاب الصناعتين- الكتابة والشعر» لأبي هلال العسكري، والذي جعله عشرة أبواب مشتملة على ثلاثة وخمسين فصلا في 462 صفحة.
وغايتنا من كتاب الصناعتين لا تنصب عليه كله، وإنما هي تنصب على الباب التاسع (2) منه، وهو الباب الذي عقده «لشرح البديع والإبانة عن وجوهه وحصر أبوابه وفنونه» . وهذا الباب يشتمل على خمسة وثلاثين فصلا، تشغل من حيز الكتاب نحو ربعه.
وقبل الشروع في الكلام على ما أورده أبو هلال العسكري في الباب
(1) العجم بالتحريك: النوى نوى التمر والنبق، يريد أن ماله يشبه مال من يلقط النوى للقوت. والغرض من التشبيه هنا بيان المقدار، أي للدلالة على مقدار ماله.
(2)
انظر كتاب الصناعتين ص 266 - 430.
التاسع من كتاب الصناعتين الذي عقده لشرح البديع والإبانة عن وجوهه، وحصر أبوابه وفنونه، نذكر استنادا على ما سبق شرحه أن أنواع البديع التي كانت معروفة في عصره وسبقه إليها غيره قد بلغت سبعة وعشرين نوعا.
والفضل في اختراع ما عرف من أنواع البديع إلى عصر أبي هلال يرجع إلى عبد الله بن المعتز وقدامة بن جعفر. فأما ابن المعتز مؤسس علم البديع فقد اهتدى إلى ثمانية عشر نوعا من البديع، وأما قدامة فقد اهتدى إلى تسعة أنواع فقط، وبذلك يكون الاثنان قد اهتديا معا إلى سبعة وعشرين نوعا من أنواع البديع، وهذا كل ما ورد إلى علمنا مما كان معروفا من فنون علم البديع إلى عصر أبي هلال العسكري الذي بلغ بها إلى سبعة وثلاثين نوعا.
ودراسة الباب التاسع من كتاب الصناعتين تظهرنا على أن أبا هلال قد أورد فيه من أنواع البديع خمسة وثلاثين نوعا.
عقد لكل نوع منها فصلا خاصا، كما أورد في الباب العاشر من كتابه نوعين آخرين هما حسن الابتداءات، والاشتقاق.
وبالنظر في أنواع البديع عند أبي هلال ومقارنتها بما جاء به كل من ابن المعتز وقدامة من أنواع البديع تتجلى الحقائق التالية:
1 -
جارى أبو هلال ابن المعتز في اعتبار الاستعارة، والكناية، من أنواع البديع، مع أنهما في الواقع من فنون علم البيان.
2 -
كذلك جارى ابن المعتز وقدامة معا في اعتبار «الاعتراض» نوعا بديعيا، كما اعتبر هو نفسه «التذييل» نوعا بديعيا آخر، مع أن
«الاعتراض» و «التذييل» أسلوبان من أساليب الإطناب الذي هو أحد أبواب علم المعاني.
3 -
جارى ابن المعتز وقدامة في أربعة أنواع بديعية اتفقا فيها وهي:
الطباق، المبالغة، رد الاعجاز على الصدور، الالتفات.
4 -
أخذ مما انفرد به ابن المعتز ستة أنواع هي: الجناس، الرجوع، تجاهل العارف، المذهب الكلامي، حسن الابتداءات، تأكيد المدح بما يشبه الذم، والذي سماه هو «الاستثناء» .
5 -
كذلك أخذ مما انفرد به قدامة تسعة أنواع هي: صحة المقابلة، صحة التقسيم، صحة التفسير، الإشارة، الإرداف، التمثيل، الغلو، الترصيع، الإيغال.
6 -
اهتدى أبو هلال نفسه إلى ستة أنواع بديعية، وقد حدد هذه الأنواع التي اكتشفها وعرفنا بها في كتابه بقوله:«وزدت على ما أورده المتقدمون ستة أنواع: التشطير، والمحاورة، والتطريز، والمضاعف، والاستشهاد، والتلطف» (1).
7 -
وأخيرا أورد أبو هلال ثمانية أنواع بديعية لم يرد لها ذكر عنده أو عند قدامة أو ابن المعتز، وهذه هي: التوشيح، والعكس والتبديل، والتكميل، والاستطراد، وجمع المؤتلف والمختلف، والسلب والإيجاب، والتعطف، والاشتقاق.
والاحتمال الوحيد بالنسبة لهذه الأنواع الثمانية أنها قد انتهت إلى علم أبي هلال مما أورده المتقدمون غير قدامة وابن المعتز. نقول ذلك لأنها
(1) كتاب الصناعتين ص 267.