المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولا) - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ٢

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌فاتحة الجزء الثاني

- ‌[الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم]

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الأديب الأريب

- ‌ذكر من ألّف في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌[ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام]

- ‌[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام]

- ‌(فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية)

- ‌(فصل في تصانيف ابن تيمية وسعة حفظه وقوة ملكته رحمة الله عليه)

- ‌(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولاً)

- ‌(فصل في تمسك ابن تيمية بالكتاب والسنة)

- ‌(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف)

- ‌(ذكر خروجه لمصر)

- ‌(ذكر ما وقع للشيخ ابن تيمية بعد عوده لدمشق المحروسة)

- ‌(ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها)

- ‌(وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه)

- ‌(ذكر انتصار علماء بغداد للشيخ)

- ‌(جواب آخر لعلماء الشافعية)

- ‌(جواب آخر لبعض علماء الشام المالكية)

- ‌(كتاب آخر لعلماء بغداد)

- ‌(فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى)

- ‌(فصل فيما رثي به الشيخ من القصائد بعد موته وذلك كثير لا ينحصر)

- ‌(خاتمة نصيحة وموعظة)

- ‌(سؤال آخر وجواب الشيخ أيضاً عنه متعلق بهذا الباب)

- ‌(ما يعارض به ما أورده النبهاني مما فيه استغاثة والتجاء بغير الله تعالى)

- ‌(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به)

- ‌(الكلام على سوء خاتمته)

الفصل: ‌(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولا)

الله المحلل والمحلل له" 1فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلداً كبيراً، وقل أن يذكر له حديث أو حكم إلا وتكلم عليه يومه أجمع، أو تقرأ بحضرته آية من كتاب الله تعالى ويشرع في تفسيرها إلا وقضى المجلس كله فيه.

وأما ما خصه الله تعالى من معارضة أهل البدع في بدعهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، ومبالغته في ذلك من دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم وانتحالهم، وتبديد شملهم وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شبههم الشيطانية، ومعارضاتهم النفسانية، بما منحه الله تعالى به من البصائر الرحمانية، والدلائل النقلية، والتوضيحات العقلية؛ فمن العجب العجيب.

ذكر هذا كله الحافظ أبو حفص عمر البزار، وقال: الحمد لله الذي مَنَّ علينا برؤيته وصحبته، ولقد جعله الله حجة على أهل عصره.

وأنا أقول: الحمد لله الذي مَنَّ علينا بمحبته، واعتقاد أنه ممن تمسك بالكتاب والسنة، والقيام بنصرهما والذب عنهما، فالله تعالى يرحمه رحمة واسعة وينفعنا به آمين.

1 حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 48، 462) والنسائي (6/ 149) والترمذي (1120) وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعود. وفي الباب عن غيره من الصحابة؛ انظر: "إرواء الغليل"(6/ 307/1897) .

ص: 207

(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولاً)

أما تعبده؛ فإنه رضي الله عنه كما قال الأئمة الناقلون عنه قل أن سمع بمثله أنه كان قد قطع جل وقته وزمانه في العبادة، حتى أنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله وما يزاوله، لا من أهل ولا من مال، وكان في ليله منفرداً عن الناس كلهم خالياً بربه عز وجل ضارعاً إليه مواظباً على تلاوة القران العظيم مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى

ص: 207

يميل يمنة ويسرة، وكان إذا رأى في طريقه منكراً أزاله، أو سمع بجنازة سارع للصلاة عليها، أو تأسف على فواتها، ولا يزال تارة في إفتاء الناس وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر مع الجماعة، ثم كذلك بقية يومه، وكان مجلسه عامّاً للكبير والصغير والجليل والحقير، ويرى كل منهم في نفسه أنه لم يكرم أحداً بقدره، ثم يصلي المغرب وتقرأ عليه الدروس، ثم يصلي العشاء، ثم يقبل على العلوم إلى أن يذهب طويل من الليل، وهو في خلال ذلك كله الليل والنهار لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده ويستغفره.

وأما ورعه؛ فكان من الغاية التي ينتهى إليها في الورع أن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها على الورع، فإنه ما خالط الناس في بيع ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة، ولا مزارعة، ولا عمارة، ولا كان ناظراً أو مباشراً لمال وقف، ولم يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان، ولا أمير، ولا تاجر، ولا كان مدّخراً ديناراً ولا درهماً، ولا متاعاً ولا طعاماً، وإنما كانت بضاعته مدة حياته وميراثه بعد وفاته رضي الله تعالى عنه العلم اقتداء بسيد المرسلين، فإنه قال:"إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر"1.

وأما زهده؛ فقد جعله الله شعاراً عن صغره، ولقد اتفق كل من رآه خصوصاً من مال إلى ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، واشتهر عنه ذلك حتى لو سئل عامي من أهل بلد بعيد: من أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدنيا وأحرصهم على طلب الآخرة؛ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية، وما اشتهر بذلك إلا لمبالغته في الزهد مع تصحيح النية، لم يسمع أنه رغب في زوجة حسناء، ولا سرية حوراء، ولا حرص على دينار ولا درهم، ولا رغب في دواب ولا نعم، ولا ثياب فاخرة ولا حشم، ولا زاحم في طلب الرياسات، ولا رؤي ساعياً في تحصيل المباحات، مع أن الملوك والأمراء والتجار والكبراء كانوا طوع

1 تقدم تخريجه.

ص: 208

أمره خاضعين لقوله، وادين أن يتقربوا إلى قلبه مهما أمكنهم مظهرين لإجلاله، فأين حاله هذا من حال من أغراهم الشيطان بالوقيعة فيه، أما نظروا ببصائرهم إلى صفاتهم وصفاته، وسماتهم وسماته، وتحاسدهم في طلب الدنيا وفراغه عنها، ومبالغته في الهرب منها، وخدمتهم للأمراء واختلافهم إلى أبوابهم وذل الأمراء بين يديه وعدم اكتراثه بهم، وقوة جأشه في محاوراتهم؟ بلى والله ولكن قتلتهم الحالقة حالقة الدين لا حالقة النعم.

وأما إيثاره مع فقره؛ فكان رضي الله عنه مع رفضه للدنيا وتقلله منها مؤثراً بما عساه يجده منها قليلاً كان أو كثيراً، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به، فقد كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء، وكان يستفضل من قوته الرغيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نفسه.

وذكر الشيخ صالح زين الدين علي الواسطي أنه أقام بحضرة الشيخ مدة طويلة، قال: فكان قوتنا أنه يأتيني بكرة النهار ومعه قرص قدره نصف رطل بالعراقي فيكسره بيده لقماً ويأكل، ثم يرفع يده قبلي، ولا يفرغ باقي القرص من بين يدي حتى أشبع إلى الليل، وكنت أرى ذلك من بركة الشيخ، ثم بعد عشاء الأخيرة يؤتى بعشائنا فيأكل هو معي لقيمات ثم يؤثرني بالباقي، وكنت أسأله أن يزيد على أكله فلا يفعل، حتى أني كنت في نفسي أتوجع له من قلة أكله، وكان هذا أكلنا في غالب مدة إقامتي عنده، وما رأيت نفسي أعز منها في تلك المدة، ولا رأيتني أجمع هماً مني فيها.

وحكى غير واحد ما اشتهر عنه من كثرة الإيثار وتفقد المحتاجين والغرباء واجتهاده في مصالحهم وصلاتهم ومساعدته لهم بل ولكل أحد من العامة والخاصة ممن يمكنه فعل الخير معه وإسداء المعروف إليه بقوله أو فعله ووجهه وجاهه.

وأما كرمه، فكان رضي الله تعالى عنه مجبولاً على الكرم ولا يتنطعه ولا

ص: 209

يتصنعه بل هو له سجية، وكان لا يرد من يسأل شيئاً يقدر عليه من دراهم ودنانير وثياب وكتب.

وقال الحافظ ابن فضل الله العمري: كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث فيهب ذلك بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئاً إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه.

وقال في موضع آخر: كان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى، فينفقه جميعه آلافاً ومئين، لا يلمس منه درهماً بيده، ولا ينفقه في حاجته، بل كان إذا لم يقدر يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إلى السائل، وذلك مشهور عند الناس من حاله.

حكى من يوثق به قال: كنت يوماً جالساً بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه فجاء إنسان فسلم عليه فرآه الشيخ محتاجاً إلى ما يعتم به فنزع الشيخ عمامته من غير أن يسأله الرجل فقطعها نصفين واعتم بنصفها ودفع النصف الآخر لذلك الرجل ولم يحتشم للحاضرين عنده.

وحديث من يوثق به أن الشيخ رضي الله تعالى عنه كان ماراً في بعض الأزقة فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه فنزع ثوباً على جلده ودفعه إليه، وقال: بعه بما تيسر وأنفقه، واعتذر إليه من كونه لم يحضر عنده شيء من النفقة.

وسأله إنسان كتاباً ينتفع به فقال خذ ما تختار، فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفاً قد اشتري بدراهم كثيرة فأخذه ومضى، فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك، فقال: أكان يحسن بي أن أمنعه بعد ما سأله؟ دعه فلينتفع به. وكان رضي الله تعالى عنه ينكر إنكاراً شديداً على من ينال شيئاً من كتب العلم التي يملكها ويمنعها من السائل، ويقول ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه.

وأما لباسه؛ فكان رضي الله تعالى عنه متوسطاً في لباسه لا يلبس فاخر الثياب بحيث يرمق ويمد النظر إليه، ولا أطماراً ولا غليظة تشهر لابسها من عالم

ص: 210

أو عابد، بل كان لباسه وهيئته كغالب الناس ومتوسطيهم، ولم يكن يلبس نوعاً واحداً من اللباس، بل يلبس ما اتفق وحصل، ويأكل ما حضر، وكانت بذاذة الإيمان عليه ظاهرة، لا يرى متصنعاً في عمامة ولا لباس، ولا مشية ولا قيام، ولا جلوس، ولم يسمع أنه أمر أن يتخذ له ثوب بعينه، بل كان أهله يأتون بلباسه وقت حاجته لبدل ثيابه التي عليه، وربما اتسخت ولا يأمر بغسلها حتى يسأله أهله ذلك، وكذا كان في المأكل، فما سمع أنه طلب طعاماً قط ولا عشاء ولا غذاء ولو بقي مهما بقي لشدة اشتغاله بما هو فيه من العلم والعمل، بل كان ربما يؤتى بالطعام وربما يترك عنده فيبقى زماناً حتى يلتفت إليه، وإذا أكل يأكل شيئاً يسيراً، وما ذكر من ملاذ الدنيا ونعيمها، ولا كان يخوض في شيء من حديثها ولا يسأل عن شيء من معيشتها، بل جل همه وحديثه في طلب الآخرة وما يقرب إلى الله تعالى.

وأما تواضعه؛ فما سمع بأحد من أهل عصره مثله رحمه الله في ذلك، فكان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والفقير، ويدنيه ويكرمه ويباسطه بحديث زيادة عن الغنى، حتى أنه ربما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبراً قلبه، وكان لا يسأم ممن يستعبه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه، ولا يجبهه ولا يتفوه بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التواضع في حضوره مع الناس ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده ومشيه ومجلسه وغيره.

وأما كرماته وفراسته، فقال الشيخ الحافظ أبو حفص عمر: جرى بيني وبين بعض الفضلاء منازعة في عدة مسائل وطال كلامنا فيها، وجعلنا الشيخ المرجع، فلما حضر هممنا بسؤاله عنها فسبقنا هو وشرع يذكر لنا مسألة عما كنا فيه، ويذكر أقواد العلماء فيها ثم يرجح منها ما رجحه الدليل، حتى أتى على آخر ما أردنا، فبقينا ومن حضرنا مبهوتين متعجبين، وكنت في صحبتي له إذا خطر لي بحث يشرع يورده ويذكر الجواب عنه من عدّة وجوه.

ص: 211

قال: وحدثني الشيخ الصالح المقري أحمد، قال: لما قدمت دمشق لم يكن معي شيء من النفقة، البتة، وأنا لا أعرف أحداً من أهلها، فجعلت أمشي في زقاق كالحاير وإذا الشيخ أقبل نحوي مسرعاً فسلم وهش في وجهي ووضع في يدي صرة فيها دراهم وقال: أنفق هذه الآن واخل خاطرك مما أنت فيه فإن الله لا يضيعك، ثم انصرف فسألت من هذا فقيل ابن تيمية، وله مدة ما اجتاز بهذا الدرب، وكان جل قصدي من سفري إلى دمشق لقاءه، فتحققت أن الله أظهره عليّ وعلى حالي، فما احتجت بعدها إلى أحد مدة إقامتي بدمشق، بل فتح الله عليّ من حيث لا أحتسب.

وقال: وحدثني الشيخ العالم المقري تقي الدين عبد الله قال: لما سافرت إلى مصر- حين كان الشيخ مقيماً بها- فقدمتها ليلاً وأنا مريض مثقل، فأنزلت في بعض الأمكنة فلم ألبث أن سمحت من يناديني باسمي وكنيتي فأجبته وأنا ضعيف، فدخل إليَّ جماعة من أصحاب الشيخ فقلت: كيف عرفتم بقدومي هذه الساعة، قالوا: أخبرنا الشيخ أنك قدمت وأنت مريض فأمرنا أن نسرع بنقلك، وما رأينا أحداً جاءه ولا أخبره بشيء، قال: ومرضت بدمشق فلم أشعر إلا والشيخ عند رأسي وأنا مثقل بالحمى والمرض، فدعا لي وقال جاءت العافية، ومشيت من وقتي.

وقال الشيخ عماد الدين المقري المطرز: قدمت على الشيخ ومعي حينئذ نفقة فسلمت عليه فرد علي ورحب بي وأدناني ولم يسألني هل معك نفقة أم لا، فلما كان بعد أيام وقد نفدت نفقتي أردت أن أخرج من مجلسه بعد أن صليت مع الناس وراءه، فمنعني وأجلسني دونهم، فلما خلا دفع إليَّ جملة دراهم، وقال أنت الآن بغير نفقة فعجبت من ذلك.

ولما نزل المغول بالشام لأخذ دمشق رجف أهلها، وجاء إليه جماعة منهم وسألوه الدعاء للمسلمين، فتوجه إلى الله، ثم قال: أبشروا فإن الله يأتيكم بالنصر في اليوم الفلاني بعد ثالثة ترون الرؤوس معبأة بعضها فوق بعض، قال الذي

ص: 212

حدث: فوالذي نفسي بيده ما مضى إلا ثلاث منذ قوله حتى رأينا رؤوسهم كما قال الشيخ على ظاهر دمشق معبأة بعضها فوق بعض.

وكان الشيخ يعود المريض، فمرض شاب بدمشق فكان يعوده في كل يوم فجاء يوماً الشاب فدعا له فشفي سريعاً، وقال له عاهد الله أن تعجل الرجوع إلى بلدك أيجوز أن تترك زوجتك وبناتك ضيعة وتقيم ههنا؟ قال الشاب: فقبلت يده وقلت: يا سيدي إني تائب إلى الله، وعجبت مما كاشفني به وكنت قد تركتهن بلا نفقة، ولم يكن عرف بحالي أحد من أهل دمشق.

ومضى بعض الفضلاء متوجهاً إلى مصر لِيَلِيَ القضاء وعزم على قتل رجل صالح بها إذا وصل، فلما بلغ الشيخ ذلك قال إن الله لا يمكنه ما قصد ولا يصل إلى مصر حياً، فبقي بين القاضي وبين مصر قدر يسير وأدركه الموت.

وذكر الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة أن الشيخ لما أفتى بمسألة شد الرحال للقبور اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ، فقال أحدهم ينفى فنفي القائل، وقال آخر يقطع لسانه فقطع لسان القائل، وقال اخر يعزر فعزر القائل، وقال آخر يحبس فحبس القائل، قال: وأخبرني بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها.

وبالجملة؛ فكرامات الشيخ رحمه الله تعالى كثيرة جداً، قالوا: ومن أظهر كراماته أنه ما سمع بأحد عاداه أو تنقصه إلا وابتلي بلايا غالبها في دينه، قالوا: وهذا ظاهر مشهور لا يحتاج فيه إلى شرح صفته، قالوا ومن أمعن النظر ببصيرته لم ير عالماً من أهل أي بلد شاء موافقاً له مثنياً عليه إلا ورآه من اتبع علماء بلده للكتاب والسنة، وأشغلهم بطلب الآخرة والرغبة فيها، وأبلغهم في الإعراض عن الدنيا والإهمال لها، ولا يرى عالماً مخالفاً له منحرفاً عنه إلا وهو من أكبرهم نهمة في جمع الدنيا، وأكثرهم رياء وسمعة، والله أعلم.

وأما شجاعته وجهاده؛ فأمر متجاوز للوصف، فكان رضي الله تعالى عنه كما قال الحافظ سراج الدين أبو حفص في مناقبه: هو من أشجع الناس وأقواهم قلباً،

ص: 213

ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه، ولا أعظم في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم، وأخبر غير واحد أن الشيخ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم، إن رأى من بعضهم هلعاً أو جبناً شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيّن له فضل الجهاد والمجاهدين، وكان إذا ركب الخيل يجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، وينكي العدو من كثرة الفتك بهم، ويخوض بهم خوض رجل لا يخاف الموت، وحدثوا أنهم رؤوا منه في فتح عكة أموراً من الشجاعة يعجز الوصف عن وصفها، قالوا ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره.

ولما ظهر السلطان ابن غازان على دمشق المحروسة جاءه ملك الكرج وبذل له أموالاً كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق فوصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره وشجع المسلمين، ورغبهم في الشجاعة، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن، وزوال الخوف، فانتدب منهم رجلاً من وجوههم وكبرائهم وذوي أحلامهم، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غزان، فلما رأى الشيخ أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة، حتى أدناه منه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه في عكس رأيه من تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكره ووعظه، فأجابه إلى ذلك طائعاً، وحقنت بسببه دماء المسلمين، وحميت ذراريهم وصين حريمهم.

وقال الشيخ كمال الدين ابن الأنجا قدس الله روحه: كنت حاضراً مع الشيخ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان ويقرب منه في أثناء حديثه، حتى لقد قرب أن يلاصق بركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه، وإن السلطان من شدة ما أوقع الله له في قلبه من المحبة والهيبة سأل من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله ولا أثبت قلباً منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه، فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل، فقال

ص: 214

الشيخ للترجمان قل للغازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت، ثم خرج من بين يديه مكرماً معززاً بحسن نيته الصالحة من بذل نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه الله تعالى ما أراده، وكان أيضاً سبباً لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهليهم وحفظ حريمهم، وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة التجاسر، وكان يقول: لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه، فإن رجلاً شكى إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال له: لو صححت لم تخف أحداً أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.

وأخبر قاضي القضاة أبو العباس أنهم لما حضروا مجلس غازان قدم لهم طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل لم لم تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس، طبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟

ثم إن غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع، فكان يدعو عليه وغازان يؤمن على دعائه، ونحن نجمع ثيابنا خوفاً أن يقتل فيطرطس بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له: كدت تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: وأنا لا أصحبكم، فانطلقنا عصبة وتأخر، فتسامعت به الخوانين والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا يتلاحقون به ليتبركوا برؤيته، فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحونا، فانظر- كما قال الحافظ ابن فضل الله العمري- إلى قيامه في دفع حجة القتال واقتحامه، وسيوفهم تدفق لجة البحار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان حيث لجم الأسد في آجامها، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، خوفاً من ذلك السبع المغتال، والنمرود المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرأ في نحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على

ص: 215

دعائه وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان والمغل من كل من طلع معه من سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ماله من جهاد في الله، لم يفترعه فيه طلل الوشيج، ولم يجرعه فيه ارتفاع النسيج، مواقع حروب باشرها، وطوائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم لد قطع جدالها قوي لسانه، وجلاها بسنا سنانه، وجرت له مع غازان وقطلو شاه وبولاي أمور ونوب قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله.

ولما قدم بعد ذلك عام سبعمائة التتار مع غازان لفتح الشام والاستيلاء على من بها من المؤمنين ركب الشيخ البريد إلى الجيش المصري فدخل القاهرة في ناس يوم حادي عشر جمادى الأولى، فاجتمع بأركان الدولة وحثهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث، وأخبرهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب، فاستقاموا وقويت هممهم 4 وأبدوا له عذر المطر والبرد، ونودي بالغزاة، وقوي العزم، وعظموه وأكرموه، وتردد الأعيان إلى زيارته، واجتمع به في هذه السنة ابن دقيق العيد، ثم في اليوم السابع والعشرين من جمادى الأولى المذكور وصلى الشيخ إلى دمشق على البريد، وأرسل الله على العدو من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم، فأصاب غازان وجنوده وأهلكهم، وكان سبب رحيلهم، وفرق الله بين قلوب العدو المغول والكرج والفرس والمستعربة، وألقى بينهم تعادياً وتباغضاً، كما ألقى عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود، فأرسل الشيخ كتاباً مطولاً لمصر يقول فيه: لما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو جزاء منه لبيان أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها وإن لم يصنع الفعل وإن تباعدت الديار.

وحكي من شجاعة الشيخ في مواقف الحروب نوبة شقحب سنة اثنتين وسبعمائة ونوبة كسروان ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال، وشجعان الأبطال، فكان تارة يباشر القتال، وتارة يحرض عليه قائماً شاكياً سلاحه ولأمة حربه يوصي

ص: 216

الناس بالثبات، ويعدهم بالنصر، ويبشرهم بالغنيمة، وركب البريد إلى مهنى بن عيسى واستحضره إلى الجهاد، وركب بعدها إلى السلطان واستنفره وواجهه بالكلام الغليظ وواجه أمراءه وعساكره، ولما جاء السلطان الملك الناصر بجيوش الإسلام للقاء القتال جعل الشيخ يشجع السلطان ويثبته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال يا لخالد بن الوليد! فقال له: لا تقل هذا، بل قل: يا الله؛ واستغث بالله ربك ووحده تنصر، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. ثم صار تارة يقبل على الخليفة وتارة على السلطان ويهديهما ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح. وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فإنك منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله. فقال إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فكان كما قال.

وحكى بحض حجاب الأمراء قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان: يا فلان؛ أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو- وهم منحدرون كالبدر تلوح أسلحتهم من تحت الغبار- وقلت له: هذا موقف الموت فدونك وما تريد، قال: فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره وحرك شفتيه طويلاً ثم انبعث وأقدم على القتال، وقد قيل إنه دعا عليهم وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة، قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، ودخل جيش الإسلام إلى دمشق المحروسة والشيخ في أصحابه شاكياً في سلاحه، عالية كلمته، قائمة حجته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرماً معظماً، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمادحين له: أنا رجل ملة لا رجل دولة، قال بعض أصحابه- وقد ذكر هذه الواقعة وكثرة من حضرها من جيوش المسلمين-: وقد اتفق كلهم وأجمعوا على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه، ولم يبق من يكون بالشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه، ونصحه لله ولرسوله والمؤمنين.

ثم لم يزل الشيخ رحمه الله تعالى قائماً أتم قيام على قتال أهل جبل كسروان وكتب إلى أطراف الشام في الحث على قتالهم، وأنها غزاة في سبيل

ص: 217

الله، ثم توجه هو بمن معه لغزوهم بالجبل صحبة ولي الأمر نائب المملكة، وما زال مع ولي الأمر في حصارهم حتى فتح الله الجبل وأجلى أهله، وكان توجه الشيخ إلى الكسروانيين أول ذي الحجة سنة أربع وسبعمائة، ورد على شيوخ روافضهم في دعواهم عصمة عليّ، وقال إن علياً وعبد الله بن مسعود اختلفا في مسائل وقعت وفتاوى أفتيا بها وعرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فصوب فيها قول ابن مسعود، ثم كتب الشيخ للسلطان يخبره بأمر الفتح وعن عقائدهم، وهي أنهم يعتقدون كفر الصحابة وكفر من ترضى عنهم، أو حرم المتعة، أو مسح على الخفين، ولا يقرون بصلاة ولا صيام ولا جنة ولا نار، ولا يحرمون الدم والميتة ولحم الخنزير، ويشتملون على إسماعيلية ونصيرية وحاكمية وباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى.

ثم قال: وتمام هذا الفتح أمر السلطان بحرمان أهل الفساد من مشايخ الدين يصلونهم ويتقدم إلى قراهم بأعمال دمشق وصعد وطرابلس وحمص وحماه وحلب بأن تقام فيهم شرائع الإسلام الجمعة والجماعة وقراءة القرآن، وتكون لهم خطباء ومؤذنون، ويقرأ فيهم الأحاديث النبوية، وتكثر فيهم المعالم الإسلامية، وأطال الكلام في كتابه، وحث السلطان على ذلك، وقال: إن غزوهم اقتداء بسيرة علي بن أبي طالب في قتاله للحرورية المارقين الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم، وقال صلى الله عليه وسلم فيهم:"يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامه، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز جناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا له معلى لسان محمد، يقتلون أهل الإسلام ويدّعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه"1.

وكان رضي الله عنه قائماً في نصر الدين وإظهار الحق بأدلة أقطع من

1 انظر "خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" للنسائي رقم (173- وما بعده) .

ص: 218