المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف) - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ٢

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌فاتحة الجزء الثاني

- ‌[الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم]

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الأديب الأريب

- ‌ذكر من ألّف في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌[ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام]

- ‌[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام]

- ‌(فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية)

- ‌(فصل في تصانيف ابن تيمية وسعة حفظه وقوة ملكته رحمة الله عليه)

- ‌(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولاً)

- ‌(فصل في تمسك ابن تيمية بالكتاب والسنة)

- ‌(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف)

- ‌(ذكر خروجه لمصر)

- ‌(ذكر ما وقع للشيخ ابن تيمية بعد عوده لدمشق المحروسة)

- ‌(ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها)

- ‌(وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه)

- ‌(ذكر انتصار علماء بغداد للشيخ)

- ‌(جواب آخر لعلماء الشافعية)

- ‌(جواب آخر لبعض علماء الشام المالكية)

- ‌(كتاب آخر لعلماء بغداد)

- ‌(فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى)

- ‌(فصل فيما رثي به الشيخ من القصائد بعد موته وذلك كثير لا ينحصر)

- ‌(خاتمة نصيحة وموعظة)

- ‌(سؤال آخر وجواب الشيخ أيضاً عنه متعلق بهذا الباب)

- ‌(ما يعارض به ما أورده النبهاني مما فيه استغاثة والتجاء بغير الله تعالى)

- ‌(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به)

- ‌(الكلام على سوء خاتمته)

الفصل: ‌(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف)

(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف)

قلَّ من يسلم من أهل الفضل والدين في هذه الدنيا بلا محنة وابتلاء وخوض فيه حيث لم يداهن الناس ويصانعهم، ولذا قل صديقه على حد قوله:"ما ترك الحق من صديق لعمر".

وقال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يثني عليه جيرانه فاعلم أنه مداهن ".

وما وقع من المحنة للأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والبخاري مشهور كما بينته في كتابنا "تنوير بصائر المقلدين في مناقب الأئمة المجتهدين، وأكثروا من الخوض في أبي حنيفة رحمه الله، حتى أنه رُئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي بكلام الناس فيّ ما ليس فيه. هذا وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله امتحن بمحن وخاض فيه أقوام ونسبوه للبدع والتجسيم وهو من ذلك بريء.

فأول محنة- كما نقله الثقات- في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة بسبب عقيدته الحموية الكبرى، وهي جواب سؤال ورد من حماه فوضعها ما بين الظهر والعصر في ست كراريس بقطع نصف البلدي، فجرى له بسبب تأليفها أمور ومحن رجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين وشنع عليهم.

فمن يعض قوله في مقدمتها: "ما قاله الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وفي غيره.

ومن المحال أن لكون خير الأمة وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه، ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث

ص: 221

فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.

أما الأول؛ فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟ هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضاً عن الله وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع في أولئك.

وأما كونهم كانوا معتقدين غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم.

ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم بالله من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء- ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها- من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فإن هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.

فهذا الظن الفاسد أوجبه اعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله، كيف يكون هؤلاء المتأخرون- لاسيما

ص: 222

والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم، حيث يقول الإمام فخر الدين الرازي:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر

على ذقن أو قارعاً سن نادم

وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم مثل قول بعض رؤسائهم:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ويقول آخر منهم: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 1 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3 {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 4 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتدراكني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي.

ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحابُ الكلام.

ثم إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص

1 سورة فاطر: 10.

2 سورة طه: 50.

3 سورة الشورى: 21.

4 سورة طه: 110.

ص: 223

المعرفة به خير ولا وقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المنقوصون المحجوبون المفضولون المسبوقون الحيارى المتهوكون، أعلم بالله وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة؟؟!

ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟

أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟؟!

وإنما قدمت هذه المقدمة لأن من استقرت عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره ".

وأطال رحمه الله الكلام ثم قال:

"إن كان الحق فيما يقول هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة بالكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً؛ فكيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً حتى يجيء أبناء الفرس والروم وفروخ الهنود والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة؟

فإن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب- وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة ظاهراً- لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة، أهدى

ص: 224

لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر- على ما يقوله هؤلاء- إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله ولا ما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات في عقولكم فصفوه به سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به، وقد صرح طائفة منهم بما مضمونه أن كتاب الله لا يُهْتَدَى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله ". وأطال الكلام، ثم قال:

"يا سبحان الله كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر ولا أحد من سلف الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم.

ثم الرسول أخبر أن أمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال:"إني تارك فيكم ما تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله "1. وقال في صفة الفرقة الناجية: "هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 2 فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة، وإن كان قد نبغ أصل هذه المقالة في أواخر عصر التابعين، ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والنصارى، فإن أول من قالها في الإسلام الجعد بن درهم، وأخذها عنه جهم بن صفوان، والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأبان عن طالوت، وطالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون، لا نتجاوز به القرآن

1 أخرجه مسلم (2408) من حديث زيد بن أرقم. وفي الباب عن غيره من الصحابة. انظر تخريج أحاديثهم في "الصحيحة"(1761) .

2 تقدم تخريجه.

ص: 225

والحديث، ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل " ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى جملاً نافعة وأصولاً جامعة في إثبات الصفات والرد على الجهمية، وذكر من النقول عن سلف الأمة ما يطول ذكره.

ثم قال في آخر كلامه: "وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولون تجري على ظواهرها، وقسمان يقولون هي على خلاف ظاهرها، وقسمان يسكتون.

أما الأولون " فقسمان: أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليه توجه الرد بالحق.

والثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى كما يجري اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق، إما جوهر وإما عرض، فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضى والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض والوجه واليد والعين في حقه أجسام.

فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة وكلاماً ومشيئة وإن لم تكن أعراضاً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين جاز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه وهو أمر واضح- فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ثابتة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين، ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس

ص: 226

كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه، وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا أو كيف يداه ونحو ذلك؟

فقل له: كيف هو في نفسه؟

فإذا قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري غير معلوم للبشر.

فقل له: والعلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن نعلم كيفية صفة لموصوف لم نعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" 1 فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما الظن بالخالق سبحانه، وهذه الروح قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطؤوا في اللفظ، وأنى لهم بذلك؟

وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها ويقولون هي على خلاف ظاهرها؛ فقسم يتأولونها ويعيّنون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو

1 أخرجه البخا ري (4779) ومسلم (2824) .

ص: 227

المكانة والقدرة، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين.

وقسم يقولون: الله أعلم ما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه.

وأما القسمان الواقفان؛ فقسم يقولون يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله تعالى ويجوز أن لا يكون صفة لله، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.

وقسم يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقريرات.

فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها، والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة.

ثم قال: فأما المتوسط من المتكلمين فيخاف عليه ما لا يخاف على من لم يدخل فيه وعلى من قد أنهاه نهايته، فإن من لم يدخل فيه هو في عافية، ومن أنهاه فقد عرف الغاية فما بقي يخاف من شيء آخر، فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله، وأما المتوسط فمتوهم بما تلقاه من المقالات المأخوذة تقليداً، وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا لمسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان، ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، يعلم الذكي منهم العاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست بينة وإنما هي كما قيل فيها:

حجج تهافت كالزجاج تخالها

حقاً وكل كاسر مكسور

ويعلم العالم البصير أنهم من وجه يستحقون ما قال الشافعي رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

ص: 228

ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر- والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم ورققت عليهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوماً، وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ومن كان عليماً بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد إلا بعداً.

فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين ".

هذا آخر الحموية الكبرى، ألفها الشيخ رحمه الله وعمره دون الأربعين سنة، ثم انفتح له بعد ذلك من الرد على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع ما لا يوصف ولا يعبر عنه، وجرى له من المناظرات العجيبة والمباحثات الدقيقة مع أقرانه وغيرهم في سائر أنواع العلوم ما تضيق عنه العبارة ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه.

قال الحافظ الذهبي في أثناء كلامه في ترجمة الشيخ ابن تيمية: "ولما صنف المسألة الحموية في الصفات سنة ثمان وتسعين وستمائة تحزبوا له، وآل بهم الأمر إلى أن طافوا بها على قصبة من جهة القاضي الحنفي ونودي عليه بأن لا يستفتى، ثم قام بنصرته طائفة آخرون وسلمه الله تعالى، فلما كان سنة خمس وسبعمائة جاء الأمر من مصر بأن يسأل عن معتقده، فجمع له القضاة والعلماء بمجلس نائب دمشق الأفرم ثم وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد" انتهى.

وقال الشيخ علم الدين: وفي شهر ربيع الأول من سنة ثمان وتسعين وستمائة وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين بن تيمية، وكان الشروع فيها من أول الشهر واستمرت إلى آخر الشهر.

وملخصها: أنه كتب جواباً لسؤال سئل عنه من حماه في الصفات، فذكر فيه

ص: 229

مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين، واجتمع به سيف الدين جاغان في حال نيابته بدمشق وقيامه مقام نائب السلطنة، وامتثل أمره وقبل قوله، والتمس منه كثرة الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعته مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية الشيخ، وما ألمهم بظهوره وذكره الحسن، فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغاً إلى الكلام فيه لزهده، وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه وجودة أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم، فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحداً واحداً، وأوغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم وحاشاه من ذلك، ووافقهم على ذلك جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذ ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية، وطلب حضوره وأرسل إليه فلم يحضر، وأرسل إليه في الجواب أن العقائد ليس أمرها إليك وأن السلطان إنما ولاّك لتحكم بين الناس، وأن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي فوصلت إليه هذه الرسالة فأوغروا خاطره، وشوشوا قلبه، وقالوا لم يحضر ورد عليك، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة، فنودي في بعض البلد، ثم بادر سيف الدين جاغان وأرسل طائفة فضرب المنادي وجماعة ممن حوله وأخرق بهم، فرجعوا مضروبين في غاية الإهانة، ثم طلب سيف الدين من قام في ذلك وسعى فيه، فدارت الرسل والأعوان عليهم في البلد فاختفوا.

ثم اجتمع الشيخ ابن تيمية بالقاضي إمام الدين الشافعي وواعده لقراءة العقيدة الحموية، فاجتمعوا يوم السبت رابع عشر الشهر من بكرة النهار إلى نحو الثلث من ليلة الأحد- ميعاداً طويلاً- وقرأ فيه جميع العقيدة، وبين مراده من مواضع أشكلت ولم يحصل إنكار عليه من الحاكم ولا ممن حضر المجلس، بحيث انفصلوا والقاضي يقول: كل من تكلم في الشيخ فأنا خصمه.

ص: 230

وقال أخوه جلال الدين بعد هذا الميعاد: كل من تكلم في الشيخ نعزره، وخرج الناس ينتظرون ما يسمعون من طيب أخباره، فوصل إلى داره في ملأ كثير من الناس، وعندهم استبشار وسرور به، وكان سعيهم في حقه أتم السعي، وتكلموا في حقه بأنواع الأذى وبأمور يستحي الإنسان من الله تعالى أن يحكيها فضلاً عن أن يختلقها ويلفقها، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ورأى جماعة من الصالحين في هذه الواقعة وعقيبها مرائي حسنة جليلة لو ضبطت لكانت مجلداً تاماً. انتهى.

ثم سكنت هذه الفتنة، ثم بعد ذلك بمدة طويلة ظهر الشيخ نصر المنبجي بمصر، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية إنه اتحادي هانه ينصر ابن عربي وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال هذا مبتدع، وأخاف على الناس من شره، وقام معه في ذلك القاضي ابن مخلوف المالكي، واستعانوا بركن الدين الجاشنكير، فحسن القضاة للأمراء طلبه إلى القاهرة وأن يعقد له مجلس بدمشق فلم يرضَ نصر المنبجي، وقال ابن مخلوف: قل للأمراء إن هذا يخشى على الدولة منه كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب.

فورد مكتوب السلطان إلى دمشق بسؤال الشيخ عن عقيدته، فلما كان ثماني رجب من سنة خمس وسبعمائة طلب القضاة والفقهاء، وطلب الشيخ تقي الدين إلى القصر إلى مجلس نائب السلطنة الأفرم، فلما اجتمعوا عنده سأل الشيخ تقي الدين وحده عن عقيدته وقال هذا المجلس عقد لك وقد ورد مرسوم السلطان أن أسألك عن اعتقادك، فأحضر الشيخ عقيدته الواسطية، وقال هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام، فقرئت في المجلس وبحث فيها، وبقيت مواضع أخرت إلى مجلس آخر.

ثم اجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رجب المذكور، وحضر المخالفون ومعهم الشيخ صفي الدين الهندي، واتفقوا على أن يتولى المناظرة مع

ص: 231

الشيخ تقي الدين فتكلم معه، ثم إنهم رجعوا عنه واتفقوا على الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، فناظر الشيخ وبحث معه وطال الكلام وخرجوا من هناك والأمر قد انفصل، وقد أظهر الله من قيام الحجة ما أعز به الشيخ ابن تيمية، واختلفت نقول المخالفين للمجلس وحرفوه ووضعوا مقالة الشيخ على غير موضعها، وشنع ابن الوكيل وأصحابه بأن الشيخ قد رجع عن قيدته فالله المستعان.

ثم بعد ذلك عزر بعض القضاة بدمشق شخصاً يلوذ بالشيخ، وطلب جماعة ثم أطلقوا، ووقع هرج في البلد، وكان الأمير نائب السلطنة قد خرج للصيد وغاب نحو جمعة ثم رجع، فحضر عنده الشيخ وذكر له ما وقع في غيبته في حق بعض أصحابه من الأذى فرسم بحبس جماعة من أصحاب ابن الوكيل، وأمر فنودي في البلد أنه من تكلم في العقائد حل ماله ودمه ونهبت داره وحانوته، وقصد بذلك تسكين الفتنة.

وفي يوم الثلاثاء سابع شعبان عقد للشيخ مجلس ثالث بالقصر ورضي الجماعة بالعقيدة، وفي هذا اليوم عزل قاضي القضاة نجم الدين ابن صصري نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني.

وفي اليوم السادس والعشرين من شعبان ورد كتاب السلطان إلى القاضي بإعادته إلى الحكم، وفيه أنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين. وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وما قصدت بذلك إلا براءة ساحته.

ثم إن الشيخ مرعي مؤلف هذا الكتاب- أعني كتاب مناقب الشيخ ابن تيمية- ذكر بعض ألفاظ ما وقع في المناظرة ناقلاً لها عما حكاه الشيخ عن نفسه، وقد أخل بنقله واختصاره، والعبد الفقير مؤلف كتاب الرد على الزائغ النبهاني قد ذكرت سابقاً ما كان في المجالس التي انعقدت لمناظرة الشيخ بنص عبارته وعين كلامه، فأغنانا ذلك عما ذكره الشيخ مرعي في هذا الباب.

ثم قال الشيخ مرعي: "فصل" في توجه الشيخ إلى مصر ومحنته بها، وسبب

ص: 232

محنته وابتلائه قيامه في الله والرد على أهل البدع والعقائد الفاسدة، فقد حث على غزو الكسروانيين الروافض وغيرهم من الدروز والنصيرية، وغزاهم بمن معه من المسلمين وفتح بلادهم، وكاتب السلطان فيهم بحسم مادة شيوخهم الذين يضلونهم، والأمر بإقامة شعائر الإسلام وقراءة الأحاديث ونشر السنة ببلادهم كما مر ذكره، وكان استئصالهم في المحرم سنة خمس وسبعمائة.

ولما كان تاسع جمادى الأولى من سنة خمس بالغ الشيخ في الرد على الفقراء الأحمدية والرفاعية بسبب خروجهم عن الشريعة بعد أن حضروا نائب السلطنة وشكوا من الشيخ، وطلبوا أن يسلم لهم حالهم وأن لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وطلبوا حضور الشيخ فلما حضر وقع بينهم كلام كثير، فقال الشيخ- في كلام طويل- إنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك ويوجد في بعضهم من التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاضرة؛ فيوجد أيضاً في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الكاذبة مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم واللأذن والزعفران وماء الورد والعسل وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، كطلي أجسامهم لدخول النار بدهن الضفاح وباطن قشر النارنج وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل، وقال لهم بحضرة نائب السلطنة أدخل أنا وهم النار ومن احترق فعليه لعنة الله ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار بالحمام، فلما زيفهم الشيخ وأظهر تلبيسهم قال حتى لو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين وطرتم في الهتواء ومشيتم على الماء لا عبرة بذلك مع مخالفة الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، وليس لأحد الخروج عن الشريعة ولا عن كتاب الله وسنة رسوله.

وذكر لهم قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء فلا

ص: 233