الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
ترجمة هذا الأديب الأريب
" 1
قد كتبت لهذا الفاضل ترجمة مفصلة في كتاب "بدائع الإنشاء" حيث أنه ممن جرت بيني وبينه مكاتبة من الأدباء، ومجمل ما قلت فيها: إن هذا الأديب كان على جانب عظيم من علو الهمة، وشرف النفس، ولين الجانب، ومعرفة الأدب، ورقة النثر، وجزالة الشعر، وذكاء الطبع، وسخاء الغريزة، وسرعة الفهم، وسرعة الذهن، وبعد النظر، وغور الفكر.
متيقظ الأفكار يدرك رأيه
…
ما لم يكن بالظن والتخمين
من أسرة رغموا الأنوف وأصبحوا
…
من أنف هذا المجد كالعرنين
قوم يصان من الخطوب نزيلهم
…
ونوالهم بالبر غير مصون
اللابسون من الفخار ملابسا
…
ومن الوقارسكينة بسكون
له خلق أرق من النسيم، وأعذب من التسنيم، لطيف المؤانسة، طيب المفاكهة، لا يمله جليسه، ولا يرغب عنه أنيسه.
ورأيت من أخلاقه بوجوده
…
ما أبدع الخلاق بالتكوين
ولكن تجلى بالمسرة فانجلى
…
صدأ الهموم بقلبي المحزون
حيث السعادة والرياسة والعلى
…
تبدو بطلعة وجهه الميمون
وكانت له اليد الطولى باللغة العربية، كما كان سباق غايات بين فرسان اللغة التركية.
أقلامه افتخرت على سمر القنا
…
فرأيت كل الفخر للأقلام
خط يسر الناظرين ولم يزل
…
في العين أحسن من عذار غلام
وكأنما نظم النجوم قلائداً
…
في الكتب مشرقة لدى الأيام
وله من الشعر نظم كثير، وبحر غزير، ومن شعره الرائق، ونظمه الفائق،
1 ترجم له المصنف في "المسك الأذفر"(ص 224- 229) .
هذه القصيدة الغراء، بل الغادة الحوراء، قالها متحمساً بحسه، وشرف نسبه وأدبه، ذاكراً غدر أعيان وطنه به، وذلك قبيل وفاته بعدة أيام، وهي نفثة مصدور، وأنة مقهور، قد أضر به السقام، ولم يرو من غليله الأوام.
أرقت وهل يهجع المقصد
…
وليس لليل المغنى غدُ
وبتُّ أراقب سير النجوم
…
كأني بها ساهراً أرصد
بقلب قريح له لوعة
…
تشب ضراماً فما تخمد
وعين كعين تفيض الدموع
…
تسح دراكاً فما تجمد
ولي زفرات تذيب الحشا
…
وتوهي الأضالع لا تنفد
لذكر زمان هوى قد مضى
…
وخلف نار جوى توقد
وعهد صبا سلبته الخطوب
…
وأعقبه زمن أنكد
وأظعان حي حدتها النوى
…
وأعرق بي البين إذا أنجدوا
وقد كان لي فيهم مألف
…
وعيش بساحتهم أرغد
وكم لي هنالك من مجلس
…
جليسي به الرشأ الأغيد
غرير يصيد أسود الشرى
…
ويعنو له الأشوس الأصيد
وأسامره بغرامي به
…
وفوق الحسام الجراز اليد
وإخوان ضراء فارقتهم
…
وكنت بصحبتهم أسعد
قضيت بهم والمنى غضة
…
ولم يك في الدهر ما ينكد
ليالي أفدي لها جانباً
…
من العمر لو أنها عود
نأوا فظللت كئيباً لهم
…
وهيهات مثلهم يوجد
لقد كان شملي بهم جامعاً
…
وإني من بعدهم مفرد
غريب أقاسي العنا والأسى
…
ومالي خل ولا مسعد
مقيم أعاني ضروب الضنا
…
وقد ملني الأهل والعود
فسقيا لعيش بهم كان لي
…
فما العيش من بعدهم يحمد
فلولا عواد عدت جمة
…
لقلت وإن كنت لا أقصد
سقى الله بغداد صوب الحيا
…
وطالعها الطالع الأسعد
وإن لم يكن لي في شطها
…
وإن لج بي ظما مورد
ولكن تركت بها معشراً
…
لهم طارف المجد والأتلد
هم الناس إن عد أهل العلى
…
وإن ذكر الأصل والمحتد
وما منهم غير قرم عليـ
…
ـه خناصر أهل النهى تعقد
فيا راكباً زعلباً جسرة
…
على ما بها من وجى تسئد
إذاجئت بغداد فاحبس بها
…
ففيها لأهل الهوى معهد
وفي الكرخ لي كبد غودرت
…
وقلب أضيع فما ينشد
لقيت من الدهر ما بعضه
…
يذوب له الحجر الجلمد
ولست لأحداثه ضارعاً
…
ولا أنا مكتئب مكمد
ولكنني أنا جار على
…
مدى همة شأوها أبعد
ولي سيف عزم إذا النائبا
…
ت تفاقمن صمصم لا يغمد
ولست أبالي إذا الحادثا
…
ت عظمن إلى أيها أعمد
وقومي الألى الصيد سادوا
…
الورى وشادوا من المجد ما يخلد
سموا في سماء العلى رتبة
…
دنى دونها النجم والفرقد
على أن فخري بنفسي إذا
…
بنوا الدهر أجدادهم عددوا
وحسبي فخراً إذا ما فخر
…
ت وكان لأهل العلى مشهد
مقالي أني عبد الحميـ
…
ـد وإن أبي المجتبى أحمد
همام إذا رقد الغافلون
…
عن الخير والمجد لا يرقد
هو الحلو طعماً لأحبابه
…
وللشانىء الأرقم العربد
فتعساً لدهر أخوه اللئيم
…
وأكبر أعدائه الأمجد
أنا العلم الفرد في رتبتي
…
إذا شئت قلت فمن يجحد
تكنفني من كلا جانبي
…
صدق النجابة والسؤدد
على رغم كلب عوى حاسداً
…
وهل يخفض السؤدد الحسد
عجبت لنذل يناوي الكرام
…
وهمته عنهم تفقد
يسامي رعان جبال سمت
…
وموضعه الغائط الأوهد
يرى الفخر والفضل من جهله
…
دراهم في كفه تنقد
يخال السفاهة رأس العلى
…
فليسن إلى غيرها يخلد
فلولا الترفع عن مثله
…
لكان له عندنا موعد
على أنه حسبه خزيه
…
بما فيه أفعاله تشهد
وقد عرض في هذه الأبيات الأخيرة بنقيب بغداد، فإنه عدو لأهل الكمالات والأمجاد، وكان رحمه الله له مشاركة في كثير من العلوم، واشتغل مدة مديدة في المنطوق منها والمفهوم، وله محبة ومزيد ميل إلى آثار السلف، ولم يزل يسخف رأي الغلاة الذين هم بئس الخلف، ولم يبلغ من العمر إلا نحو خمس وأربعين سنة إلا واخترمته المنية، ووجد عليه والده أعظم وجد حتى لحقه بعد مدة جزئية، وقد كنت كتبت له أعزيه بهذه الفاجعة المؤلمة، وهذه الحادثة الملمة، فأجابني بقوله:
بالله المستعان وعليه التكلان، وبه أستعين، وهو في كل شدة نعم المعين، لا ملجأ إلا إليه، ولا معول إلا عليه، وله الحمد على كل حال، وإليه المرجع والمآل، لقد صرت للحوادث غرضاً منصوباً، وللنوائب جملاً ركوباً، تتنصل فيَّ ماضيات نصالها، وتحمل عليَّ مثقلات أحمالها، فلله قلبي ما أصبره وأقساه، وجسمي ما أصلبه وأقواه، فلو كان قلبي حديداً لذاب، أو كان وجودي صخراً لتصدع من عظم المصاب، ولعمري لقد فل المنون شباتي، وأفسد علي حياتي، وثكلني لذاتي، فما هو إلا قمص الصبر أتدرعها، وغصص الموت أتجرعها، وتأبى زفرات الحزن إلا تصعدا، وجمرات الوجد إلا توقداً، ولكن ما الحيلة وقد حل البلاء، وفرض العزاء، وكتب الرضاء والتسليم، عند حلول الأمر الجسيم، فلا تسخط لقدر الله وهو عدل، ولا تكره لقضائه وهو فصل، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، تسليماً لما أمضاه، ورضى بما قضاه، ولقد تشرفت بكتابكم الشريف، فتناولته بكف التكريم، وأنامل التبجيل والتعظيم، وفضضته من خط تسكب منه العبرات، ولفظ تتجاذب من خلاله الحسرات يشهد بمشاركة مولاي أطال الله تعالى بقاءه في هذه المصيبة مشاركة من لا يتميز عنه في محنه ولا منحه وسروره وحزنه،
فأبقاك الله للعلم تعمر مدارسه، وتجدد دارسه، وللأخوان تكون له معوناً في حوادث الزمان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في (5) ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، الداعي مفتي البصرة أحمد بن عبد الحميد الشاوي.
وقد توفي أيضاً في البصرة ودفن في مقبرة الزبير رضي الله عنه.
وقد بقي أفاضل كثيرون ممن قرظ "جلاء العينين" وأثنى عليه بما هو مطبوع مع الكتاب وبما ورد بعد الطبع، ولو استقصينا جميع ذلك مع تراجم المقرظين لاحتمل أن يكون سفراً كبيراً، وما ذكرناه كاف في المقصود، وهو إبطال قول النبهاني المخذول في شأن كتاب "جلاء العينين" وتبين أنه كذب وافترى فيما ذكره في كتابه.
وأما قوله: فيجب أن يعاملوه معاملة الكتب المخالفة لمذهبهم إلخ..
فقد ذكرنا سابقاً أن ما اشتمل عليه "جلاء العينين" هو عين مذهب الأئمة سواء كان في الأصول أم في الفروع، وقد ذكرنا نصوصهم في مسألة العلو وغير ذلك بما لا مزيد عليه.
وأما قوله: وترجيحه كثيراً مما يخالف عقائد جمهور المسلمين أهل السنة والجماعة.. إلخ.
فهذا دليل على جهله، حيث لم يفرق بين الإيمان والشرك، وأقوال أهل الحق من أهل الباطل، وظن أن أهل السنة والجماعة هم الذين على مسلكه وعلى باطله وضلاله، وقد ذكرنا غير مرة حقيقة حالهم وأن الفرقة الناجية هم التابعون لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
وأما القول بالجهة فقد قلنا إن كتب الشيخ كلها ناطقة بخلاف ذلك، ومسألة العلو والاستواء قد سبق الكلام عليها، ء وذكرنا أقوال من قال بها من الأئمة وغيرهم.
ومنها أنه قال: وأنا والله في حيرة من أمره، إن قلت إن ذلك اعتقاده يعارضني أني أعرفه حنفي المذهب، من عائلة علم وسيادة، كلهم من أهل السنة والجماعة، وأن ما اعتمده في هذا الكتاب- مما أيد به زلاّت ابن تيمية- هو مذهب الوهّابية لا مذهب الحنفية. .. إلخ.
فيقال لهذا المخذول: لِمَ تتحير في أمرك وأنت لست بمسؤول عن غيرك، وكل امرىء بما كسب رهين، وبما عمل مجازى بيقين، هلاّ نظرت إلى نفسك قبل حلول رمسك، قد قضيت عمرك بالضلال وفاسد الأعمال، والحكم بالطاغوت والإعراض عما شرعه ذو الجلال، تارة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل زمان وفي كل مكان، وأخرى تدعي أن كل من لم يدع المخلوق ولا استغاث به فهو من المبتدعين، وأن الإسلام هو دعاء غير الله والغلو في الصالحين، وأخرى تقول بالحلول والاتحاد، وتعتقد ما يعتقده أهل الإلحاد، ومع ذلك لم تتحير في أمرك بل تحيرت في أمر غيرك، وما دخولك بين العلماء وأنت من أضل الجهلاء؟!
اقرأ كتابك واعتبره قريباً
…
وكفى بنفسك لي عليك حسيبا
ومن الفصيح كلام إخوان الصفا
…
إن خاطبوا جعلوا الخطاب خطوبا
ما كان عذرك لو أتيت بمثله
…
أو كنت فيما تشتهيه مجيبا
وما أحسن ما يقول القائل:
مناضلة الدني مع الأديب
…
بلا داع من العجب العجيب
أيأمر بالمكارم من بعيد
…
ويجنح للدنية من قريب
وينهي عن طباع السوء صبحاً
…
ويأتي بالإساءة في الغروب
يعلّم غيره طرق المعالي
…
وتذجبه النقيصة للعيوب
وإن يأتي الفتى ما عنه ينهى
…
فذاك النهي وعظ من كذوب
سكوت الحر حتم عن سفاه
…
وصون العرض يقضي بالوجوب
وماذا النفع في إتعاب فكر
…
يقوم بنصرة الطبع الغضوب
لثلم العرض في كلمات سوء
…
تطير بهن عاصفة الهبوب
وما أليق ما يقول القائل بحال النبهاني أيضاً:
معارضة الغريب إلى القريب
…
بلا حق من السفه العجيب
وإزراء الغبي على ذكي
…
حري أن يعد من النعيب
فهلا أيها الناهي برأي
…
سخيف ليس بالرأي المصيب
أتحسب لا حسبت بأن شتماً
…
محاورة الأديب مع الأديب
مساجلة الكرام بكل فن
…
متى كانت تعد من الذنوب
وتنقص كاملاً وتذم شهماً
…
رويدك جئت بالأمر الغريب
وأنت فما دخولك بين قوم
…
من العلماء بالوعظ الكذوب
وإن تجادل العلماء يوماً
…
بما علموه من حسب حسيب
ليعرف كامل الفضلاء منهم
…
إذا عرضوا على فطن لبيب
وتلك لحالة فيها لأهل الـ
…
ـزكا والفضل تبصرة القلوب
فأي تطاول فيه افتخار
…
إذا لم يبد من شهم نجيب
ألا إن التطاول في كمال
…
به يمتاز ذو الباع الرحيب
متى كانت بنبهان كرام
…
يقون العرض من ذم مريب
وأي نقيبة لهم استبانت
…
قديماً أو حديثاً من نقيب
فربع كما لهم قدماً جديب
…
ولم نعهده بالربع الخصيب
أيجتنب الكريمة طبع حر
…
لأمر فيه إغضاب الرقيب
فهل غير المسرة للقريب
…
وهل غير الإساءة للجنيب
فكف اللوم يا ذا اللوم واحذر
…
يروعك صولة الأسد المهيب
وحاذر أن يصيبك ذو كمال
…
بشفرة مقول منه ذريب
ثم ما الموجب لهذه الحيرة وقد صرح الصبح لذي عينين، وقد قلنا إن جميع ما اشتمل عليه "جلاء العينين" هو مذهب الأئمة، وأساطين الأمة، لاسيما مذهب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة والرضوان، فكتب مذهبه طافحة برد بدع
الغلاة1، ومثل ذلك كتب الشافعية، والمالكية وغيرهم، ومن مشهور مذهب أهل المدينة سد الذرائع والبدع، وقد ذكر علماء السادة الحنفية في مسألة الإقسام على الله بمخلوق ما تقر به عين الموحد، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك، فقال أبو الحسين القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، قال: وأكره أن يقول بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، وأكره أن يقول أسألك بمعقد العز من عرشك. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم، لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه، وأما قوله بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف، قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك، قال ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته فكأنه سأله بأوصافه.
وقال ابن بلدجي في، "شرح المختار": ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول في دعائه أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه أكره كذا هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب.
وفي فتاوى أبي محمد بن عبد السلام؛ أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم، وتوقف في نبينا صلى الله عليه وسلم لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث.
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه. واحترامه وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم
1 انظر "أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة" للشيخ الفاضل محمد الخميس- حفظه الله- طبع دار الصميعي بالرياض.
ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً يعكف علية، ويوقد علية القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له والطواف به، وتقبيله واستلامه، والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم.
وأبعد المراتب المبتدعة- عند القبور- عن الشرع أن يسأل الميت حاجة ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، وهم من جنس عبدة الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذا السجود للقبر والتمسح به.
وفي كتاب "الطريقة المحمدية" للإمام محمد البركوي- وكان من أكابر علماء الحنفية الأتراك- شيء كثير من هذا القبيل، وكذلك فيما ذكره في رسالته المؤلفة في زيارة القبور، فإنها تشفي العليل وتروي الغليل، وتحق الحق، وتبطل الأباطيل.
في كتاب "الفتاوى البزازية"- وهو من أجل كتب الحنفية قدس الله أرواحهم الزكية-: من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي- في كتاب "الرد على من ادّعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة"-: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، لمستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، قال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه
الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة، وفي التنزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 ثم قال: فأما قولهم أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 2 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 3. ونحو ذلك من الآيات الدالات على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره، تصرفاً وملكاً وإحياء وإماتة وخلقاً، وقد تمدح الرب تعالى بملكه في آيات من كتابه، كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 4 {َالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 5 وذكر آيات كثيرة في هذا المعنى، ثم قال: فقوله في الآيات كلها "من دونه" أي من غيره. فإنه عام يدخل فيه من اعتقده من ولي وشيطان يستمده، فإن لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره، إلى أن قال: إن هذا القول وخيم وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} 6 وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} 7 وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 8 {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 9.
1 سورة النساء: 115.
2 سورة النمل:60.
3 سورة المائدة: 120.
4 سورة فاطر: 3.
5 سورة فاطر: 13.
6 سورة الزمر:30.
7 سورة الزمر: 42.
8 سورة آل عمران: 185.
9 سورة المدثر: 38.
وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" 1 الحديث، وجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره، فإنه سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 2.
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات من الكرامات فهو من أعظم المغالطة لأن الكرامات شيء من الله تعالى يكرم بها أولياءه وأهل طاعته، لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم ابنة عمران- وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد؛ فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمة قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 3 {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 4.
وذكر الآيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه جل ذكره كرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطر، وأنه المستغاث به لذلك كله، وأنه القادر على رفع الضر القادر على إيصال الخير فهو المتفرد بذلك، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب االظاهرة العاديه من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة أو التأثير أو في الأمور المعنوية من
1 أخرجه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 سورة البقرة: 140.
3 سورة النمل: 62.
4 سورة الأنعام: 63.
الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله تعالى لا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا جرف من السعير.
وأما كونهم "مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشا للهَّ أن يكون أولياء الله تعالى بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كما أخبر الرحمن: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1 {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شيئاً وَلا يُنْقِذُونِ} 3. فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي أو ولي أو غيره على وجه الإمداد منهم شرك مع الله تعالى، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.
قال: وأما ما قالوه إن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتاداً ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس؛ فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية". انتهى باختصار.
ومثل ذلك كثير في كتب الحنفية وغيرهم من المذاهب، فرحم الله علماء السنة فلقد كفونا مؤونة كشف ما أورده الخصوم من شبهات المبطلين، فلله الحمد والمنة على عظيم النعمة.
فانظر أيها النبهاني ما نقلناه إليك من أقوال الحنفية وغيرهم فهل خالفت ما
1 سورة يونس: 18.
2 سورة الزمر: 3.
3 سورة يس: 23.
اشتمل عليه "جلاء العينين" وما ذهب إليه المحققون من الفريقين فلم أخذتك الحيرة واعترتك الوساوس الكثيرة؟!
وأعجب من ذلك قولك: وإن ما اعتمده في هذا الكتاب- مما أيد به زلاّت ابن تيمية- هو مذهب الوهابية لا مذهب الحنفية، ولا مذهب آبائه وأجداده السادة الشافعية.. حيث لم يعرف النبهاني المسكين النحل ولا المذاهب، فبقي يخبط خبط عشواء، ويبدي ويعيد، ويكرر قوله البعيد، حتى زعم أن ما ذهب إليه ابن تيمية وموافقوه ليس مذهب أهل السنة بل هو مذهب المبتدعين، وبينا خطأه سابقاً أوضح بيان، وأقمنا على ما قلناه الحجة والبرهان، وأن مذهب أهل السنة هو ما عليه أهل الحديث، وذكرنا سابقاً أن ما عليه أهل نجد ليس مخالفاً لما عليه الأئمة الأربعة، بل ما هم عليه هو الذي جاء به الدين المبين، وإطلاق الخصوم عليهم اسم الوهابية مع كونه غلطاً هو من باب التنابز بالألقاب، وبينا أن مثل ذلك من المثركين في شأن المسلمين إذ كانوا يسمونهم صابئة:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} 1.
وأهل نجد مذهبهم على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل نَضَّرَ الله وجهه، وقد رأيت رسالة مختصرة يحفظها صبيانهم وشبانهم في العقائد من تصانيف أبي عبد الله العلامة الشيخ محمد رحمه الله، وليس فيها ما يصادم الكتاب والسنة وما عليه أئمة الإسلام، وهي هذه:
"بسم الله الرحمن الرحيم اعلم رحمك الله أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء
القلوب المريضة، وهو من أهم ما وجب عليك، والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار، وأنه يجب عليك أربع مسائل.
الأولى: معرفة الله تعالى، ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
1 سورة الفتح: 23.
الرابعة: الصبر على الأذى فية.
والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لو لم ينزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم.
قال الإمام البخاري: باب العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 1 الآية.
وأعلم رحمك الله أن الله أوجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والعمل بهن:
الأولى: أن الله خلقنا لعبادته ولم يتركنا هملاً، وأرسل إلينا رسولاً فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} 2
الثانية": أن اللهَّ لا يرضى أن يشرك في عبادته أحداً لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، والدليل قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3.
الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله فلا يجوز له موالاة من حاذ الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4 الآية. وعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام أن تعبد الله مخلصاً له الدين، كما قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5. ومعنى يعبدون يوحدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله تعالى
1 سورة محمد: 19.
2 سورة المزمل: 15.
3 سورة الجن: 18.
4 سورة المجادلة: 22.
5 سورة الذاريات: 54.
بالعبودية،. وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو دعاء غير الله تعالى معه، والدليل قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 الآية.
فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: الأصل الأول معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني بنعمته وربى جميع العالمين، وهو معبودي ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم.
وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، فمن آياته الليل والنهار، والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السموات السبع ومن فيهن وما بينهما، والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما، والدليل قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} 2 الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 الآية، والرب هو المعبود، والدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآيتين4.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.
وأنواع العبادة التي أمر الله تعالى بها: مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنها الدعاء، والرجاء، والخوف، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى، والدليل قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5 فمن صرف شيئاً من هذه لغير وجه الله فهو
1 سورة النساء: 36.
2 سورة فصلت: 37.
3 سورة الأعراف: 54.
4 سورة البقرة: 21- 22.
5 سورة الجن: 18.
مشرك كافر، والدليل قوله تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1. ولحديث "الدعاء مخ العبادة" 2. والدليل على الدعاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية 3، ودليل الخوف قوله تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 ودليل الرجاء قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 5. ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} 6.
ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} الآية 7، ودليل الاستعانة قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفي الحديث: "إذا استعنت فاستعن باللَّه ".
ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية8. ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 9. والدليل من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله " 1 0.
ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 11.
1 سورة المؤمنون: 117.
2 تقدم أنه ضعيف بهذا اللفظ، والصحيح:"الدعاء هو العبادة".
3 سورة غافر:60.
4 سورة آل عمران: 175
5 سورة الزمر: 53.
6 سورة البقرة: 150.
7 سورة الزمر: 056
8 سورة الأنفال: 9.
9 سورة الأنعام: 162-163.
10 أخرجه مسلم (1978) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
11 سورة الإنسان: 7.
الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكل مرتبة لها أركان.
أما أركان الإسلام فخمسة، والدليل من السنة حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام"1.
فدليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2.
ومعناه لا معبود بحق في الوجود إلا الله وحده لا شريك له. "النفي": نافياً جميع من يعبد من دون الله، "إلا الله": مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته،- كما أنه لا شريك له في ملكه، وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} الآية3. ودليل أن محمداً رسول الله قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية4. وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 5.
ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 6.
1 أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) .
2 سورة آل عمران: 18.
3 سورة الزخرف: 26- 27.
4 سورة الفتح: 29.
5 سورة الأحزاب:40.
6 سورة البينة: 5.
ودليل الصيام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.
ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 2.
المرتبة الثانية: الإيمان، "وهو سبع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.
وأركانه ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله.
والدليل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 3.
ودليل الركن السادس قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4.
المرتبة الثالثة: الإحسان ركن واحد وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن فإنه يراك، والدليل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 5.
والدليل من السنة، حديث جبريل عليه السلام المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد؛ أخبرني عن الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله
1 سورة البقرة: 183.
2 سورة آل عمران: 97.
3 سورة البقرة: 285.
4 سورة القمر: 49.
5 سورة النحل: 128.
وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً "،. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر". قال: صدقت قال: أخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". قال: صدقت. قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ". قال: أخبرني عن أماراتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ". فمضى، فلبث ملياً، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"1.
الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً نبىء باقرأ، وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، بعثه الله بالإنذار عن الشرك والدعوة إلى التوحيد.
والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 2.
ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} : يعني أنذر عن الشرك وادع إلى التوحيد، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك من الشرك، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز الأصنام، وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها، وفراقها وأهلها، وعداوتها وأهلها، أخذ على هذا عشر سنين، وبعد العشر عرج به إلى السماء، وفرض عليه الصلوات الخمس، وبقي بمكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة، والهجرة الانتقال من بلد الشرك، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله
1 أخرجه مسلم (8) .
2 سورة المدثر: 1-7.
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ً} إلى {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 1، وقوله:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} الآية2.
والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"3.
فلما استقر في المدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخذ على ذلك عشر سنين.
وتوفي صلوات الله وسلامه عليه ودينه باق، وهذا دينه لا خير إلا دلّ الأمة عليه، ولا شر إلاّ حذرها عنه، والخير الذي دل عليه التوحيد وما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذّر عنه، الشرك وما يكرهه الله ويأباه، بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض طاعته على جميع الخلق؛ الجن والإنس، والدليل قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 4 وأكمل الله له الدين، والدليل قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 5.
والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} 6 والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 7 وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ
1 سورة النساء: 97- 99.
2 سورة العنكبوت: 56.
3 أخرجه أبو داود (2479) وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2166) .
4 سورة الأعراف: 158.
5 سورة المائدة: 3.
6 سورة الزمر: 30- 31.
7 سورة طه:55.
الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} 1.
وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 2.
ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3.
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 4.
وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم النبيين، لا نبي بعده.
والدّليل على أن نوحاً أول الرسل قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} الآية5.
وكل أمة بعث الله إليها رسولاً من نوح إلى محمد عليهما السلام ة، يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6.
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال ابن القيم رحمه الله: معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
والطواغيت كثيرة ورؤؤسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض،
1 سورة نوح: 17-18.
2 سورة النجم: 31.
3 سورة التغابن: 7.
4 سورة النساء: 165.
5 سورة النساء: 163.
6 سورة النحل: 36.
ومن ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن دعا إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. وهذا معنى لا إله إلا الله، وفي الحديث: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" والله أعلم.
هذا آخر رسالة الشيخ أبي عبد الله في العقائد.
فانظر أيها النبهاني إليها واقرأها من أولها إلى آخرها؛ فهل الذي يعتقد هذا الاعتقاد يعد من المبتدعين السالكين غير سبيل الرشاد؟ أم المبتدع هو الذي غيّر وبدل، وحرّف وأوّل، واتبع غير سبيل المؤمنين، وليس عليه دليل في دين المسلمين، كما ابتدعت أيها الزائغ من الغلو العظيم في حق النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وكمل التسليم، ثم عملت بغير شريعته، وسلكت غير سنن سنته.
فيا أيها النبهاني، والشيخ الشيطاني، من الأحق أن يكون من المبتدعين؟ أأنت ومن على شاكلتك من الغواة الضالين؟ أم حزب الرسول الذين سمعت عقيدتهم في الدين المبين؟!.
وأقسم بالله العلي الشأن؛ أن النبهاني ليس له معرفة بدينه كمعرفة أولئك- الصبيان، وليته جدد إيمانه على يد واحد من حزب الرسول، وقرأ عنده تلك العقائد من الأصول، ليخرج عن جادة ضلاله ذلك الزائغ الجهول.
وأما قول النبهاني: وإن قلت: إن ذلك ليس اعتقاده الحقيقي
…
إلخ.
فيقال له: إن هذا من بعض الظن الذي قال الله تعالى فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} 2 على ما بينه المفسرون وأطنبوا فيه.
1 سورة البقرة 256.
2 أخرجه أحمد (5/231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) والنسائي في "الكبرى"(6/428/11394) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وهو حديث صحيح بشواهده.
انظر كلام الحافظ ابن رجب الحنبلي عليه في "جامع العلوم والحكم"- الحديث التاسع والعشرون-، وانظر "إرواء الغليل"(2/138/413) .
فإن مصنف "جلاء العينين" إنما صنّفه قبل أن تكون بينه وبين السيد صديق حسن نواب بهوبال معارفة ومكاتبة، ومصنف "جلاء العينين" لما سافر إلى مكة المكرمة شرفها الله تعالى سنة ثنتين وتسعين ومائتين وألف من الهجرة، اجتمع ببعض أصحاب ذلك الإمام الهمام، بل ملك العلماء الأعلام، فذكر له عن أحواله وبيان منزلته من معرفة الحديث وسائر علوم الدين، فوسطه في أخذ إجازة منه بما صح لديه، وبعد عود الهندي إلى الهند اجتمع بالنواب، وذكر له عن مصنف "جلاء العينين" ما شاهده من فضله، وطلب منه أن يرسل إليه الإجازة، فكتب إليه إجازة مفصلة وأرسلها إليه بعد عوده إلى وطنه، وطلب منه أن يرسل إليه نسخة من "جلاء العينين" فأرسلها إليه، والتمس منه طبع الكتاب إن كان قد وقع لديه موقع القبول، فبهره حسن وضعه، ولطافة ترتيبه، وما استودعه فيه من المطالب العالية، فأرسله إلى مصر وطبعه، والنواب رحمه الله لم يكن له حاجة لمعاونة أحد ولا خدمته، وفضله أشهر من أن ينبه عليه، ولم يكن على مذهب الوهابية فإنه ليس للوهابية مذهب يخصهم بل هم حنابلة كما سبق، والنواب رحمه الله كان من المحدثين، فكان يتبع ما صح لديه من الحديث، كما هو شأن أهل الحديث والأثر وأتباع سيد البشر، ومثله كثيرون في البلاد الهندية قبل عصره وبعده.
ومنها أنه قال: ولست أعترض عليه بجوابه عن ابن تيمية أن بعض أقوال ابن تيمية التي نقلها ابن حجر واعترض عليها لم تصح نسبتها إليه إلى قوله منذ مئات من السنين.
جوابه: أن مصنف"جلاء العينين" أحسن العبارة في ابن حجر كل الإحسان، ونوه به في ترجمته حيث قال: هو واحد العصر، ثاني القطر، علامة المنقول، فهامة المعقول، شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر- نسبة على ما قيل إلى جد من أجداده كان ملازماً للصمت تشبيهاً له بالحجر- الهيتمي السعدي
الأنصاري الشافعي، وذكر مولده ووفاته وتصانيفه ومن أخذ عنه، فلم يترك من فضائله شيئاً إلا وذكرها، ومن حق المترجم أن يذكر لمترجمه ما له وما عليه، ولم يبين ما ذكره أهل العلم فيه من تعصّبه في مذهبه والحط على المخالفين، وافترائه على أئمة المسلمين، واضطرابه في أقواله، وعدم ثباته على قول، ومن يراجع أقواله في "الزواجر والقواطع" ثم يوازن بينها وبين أقواله في "الجوهر المنظم" و "الفتاوى الحديثية" يجد ما قيل فيه واضحاً صريحاً، ولم يذكر أيضاً جهله بالحديث الصحيح وعدم خبرته بفنه حتى شحن كتاب "الصواعق" وكتاب "تطهير الجنان في الذب عن محاوية بن أبي سفيان" وغيرهما بالأحاديث الموضوعة والخرافات المكذوبة، ولا ذكر أيضاً انتحاله لكتب آخرين فنسبها لنفسه، ولا عجبه بنفسه ورأيه، كل ذلك قد أهمله مصنف "جلاء العينين" عفا الله عنه، ولم نعلم سبب ذلك، فهل تاقى غلاة الشافعية، أم لم يقف على ما ذكرناه مع شهرته، نعم سمعت أنه كتب رداً على كتاب "تطهير الجنان" وبيّن ما اشتمل عليه من مواقع النظر، وسمى ما كتبه "بصادق الفجرين في الجواب عن سؤال أهل البحرين" وبلغني أن هذا الكتاب متداول في الأنحاء العراقية، وأما "الصواعق" فقد رد عليها غير واحد.
والمقصود؛ أن كلام النبهاني هذا لا ورود له أصلاّ، بل هو محض عدوان اقتضاه منه عدم الإيمان، وأما ما أورده في تضاعيف كتابه من عدم تصحيح بعض نقوله فهو من مقتضيات قوانين المناظرة، كما لا يخفى على الخبير بها، العالم بأقسامها وضروبها.
ومنها قوله: وكذلك عامل بسوء هذا الصنيع- من قبيح التشنيع والتقريع- الإمام تقي الدين السبكي، حتى أنه لم يعبر عنه بلفظ الإمام ولا بلفظ شيخ الإسلام، بل إما أن يقول قال السبكي أو القاضي السبكي، وهو في الحقيقة المستحق للفظ شيخ الإسلام، لأنه كان قاضي قضاة الشام، مع كونه من أئمة العلماء الأعلام، ولقب شيخ الإسلام إنما كانوا يلقبون به قاضي القضاة، فابن تيمية بحسب هذا الاصطلاح لا يستحق لقب شيخ الإسلام، وإن كان من أكابر
شيوخ المسلمين وأئمة العلماء الأعلام.
فيقال له أولاً: فهذا الكلام مخالفة للحقيقة، فإن مصنف "خلاء العينين" قال - لما ذكر ترجمته- وهو- على ما في كتاب الشذرات وغيره- الإمام العلاّمة شيخ الإسلام علم الأعلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي الأصولي اللغوي البياني الجدلي الخلافي النظار، ثم نقل عن الإمام السيوطي تاريخ مولده ومن قرأ عليه، وقوله: وتخرج به خلق في أنواع العلوم، وأقر له الفضلاء، وولي قضاء الشام بعد الجلال القزويني، وصنف الكتب المطولة والمختصرة، ونقل بعض الأبيات من شعره، وذكر تاريخ وفاته وسؤاله أن يولى القضاء مكانه ولده تاج الدين وأنه أجيب إلى ذلك وترحم عليهما، فماذا يقول: بعد ذلك القول؟ فلم يبق إلا أن يقول وكان يوحى إليه، أو أن ملائكة السماء كانت تقرأ عليه وتأخذ عنه العلوم، أو أن الخضر كان يتلقى عنه العلم اللدني، كما ادّعى ذلك لغيره، ونخو ذلك من القول الباطل، والهذيان العاطل، والغلو الذي اعتاده من لا خلاق له، حتى يرضى الشيخ النبهاني، والهيكل الصمداني، حيث لم يكتف بهذه المبالغات، واستقل تلك العبارات في السبكي وابن حجر، حتى قال عنها هناك أنه شنع على ابن حجر بألفاظ لا يحسن استعمالها في حق بعض طلبة العلم وكذلك عامل بسوء هذا الصنيع إلخ مع إحسانه العبارة في الاثنين، ومعاملته لهما بما لا يستحقانه عند الفريقين، فأي عبارة استعملها وهي لا تليق بهما، مع أن الله تعالى قال في كتابه الكريم:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} 1. فليراجع تفسير هذه الآية.
وأما ثانياً: فيقال له: إنا لو سلّمنا أنه لم يكن مبجلاً لهما كما يحب النبهاني في عباراته ولا أعطاهما حقهما في تعبيراته فهو ليس بملام على ذلك، لأنه بصدد مؤاخذتهما فيما افترياه على الشيخ، ورد ما اعترضا عليه، وأن كلامهما فيه مما لا
1 سورة آل عمران: 188.
يقبل، لأنهما كانا من ألد خصمائه، فليس المقام مقام مدحهما، والإطراء عليهما، كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بفن البلاغة.
وأما ثالثاً: فيقال: إن عدم تعبيره مرة أو مرتين بشيخ الإسلام في السبكي لا يستوجب سجود السهو، لا عند الحنفية، ولا عند الشافعية، ولا المالكية، ولا الحنابلة، ولا الظاهرية، ولا، ولا، بل ولا أظن أن عليه شيئاً في قانون الجزاء الذي حكم بمواده- شطراً من عمره في بيت الله المقدس- النبهاني الخبيث، بل ليس ذلك من الواجبات الدينية، ولا المشروعات الإسلامية، بل لو قال قائل: قال أبو بكر، أو قال عمر، أو قال عثمان، أو قال علي، أو روى أبو هريرة، أو حدثنا شعبة، وهكذا جميع الصحابة، أو قال: روي عن أبي حنيفة، أو مالك، أو الأوزاعي، أو غيرهم من المجتهدين، أو ذكر نحو هؤلاء من الأئمة فقط ولم يزد لفظ شيخ الإسلام، فماذا يجب عليه من اللوم؟ نعم قال بعضهم: من المستحسن الترضي عند ذكر أحد من الصحابة، والترحم على العلماء وصلحاء الأمة ونحو ذلك على ما قرره الشهاب في شرحه على الشفاء، ونسأل الشيخ النبهاني هل ورد شيء في الكتاب أو السنة في وجوب التعبير عن السبكي بنحو الإمام أو شيخ الإسلام فإن تركهما أحد وجب تعزيره بل لا بد أن يكون أحدهما جزءاً من هذا العلم؟ أما يستحي النبهاني من التكلم بمثل هذا الكلام، أما يخجل أن يهذي بهذا الهذيان بين الأنام، نعم ورد في الحديث الصحيح:"أن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت"1 فعياذا بك اللهم من عدم الحياء.
وأما رابعاً: فليمت شعري بأي فضيلة استحق السبكي أن يعبر عنه بشيخ الإسلام، هل بإغرائه العوام على عبادة غير الله والمغالاة في الدين، أو بنيابته في الشام بعد أن تقلدها بالرشوة حتى حرص عليها وعض عليها بالنواجذ وطلب أن تكون لولده من بعده، أو بشتمه خيار عباد الله، أو بجهله بما ورد في الكتاب
1 تقدم تخريجه في الجزء الأول من الكتاب.
والسنة كما نبه عليه ابن عبد الهادي الحافظ الشهير على ما سبق، وهو في كل ذلك لا يستحق هذا التعبير، فلا أرى اللائق به إلا أن يلقب بشيخ الغلاة، ومصنف "جلاء العينين" عفا الله عنه لم يعط خصوم الشيخ وأعداء الحق حقهم من سوء التعبير اللائق بضلالهم، ففي الحديث:"إذا مدح الفاسق غضب الرب"1.
ومن العجيب قول هذا الزائغ العنيد، النبهاني البليد، إن لقب شيخ الإسلام إنما كانوا يلقبون به قاضي القضاة، فابن تيمية بحسب هذا الاصطلاح لا يستحق لقب شيخ الإسلام..إلخ.
فإنه قد ذم إمامه من حيث لا يشعر، حيث كان هذا اللفظ فارغاً من المعنى، وادّعى اسماً بلا مسمى، كما هو شأنه اليوم في أمثاله، فإنا نسمع أن لهذا العصر مشايخ للإسلام كثيرين ولا مسمى لهم، ونراهم يقولون: فلان صاحب الفضيلة، وفلان صاحب السماحة، وفلان صاحب السحادة، وفلان صاحب العزة، وهلم جراً، ولا فضيلة ولا سماحة ولا سعادة ولا عزة لمن قيل له ذلك، كما هو معلوم لدى كل ذي فهم، ويتحرجون من إطلاق تلك الألفاظ على من اتصف بتلك المعاني حقيقة، حيث يصدهم عنه اصطلاح العصر، وهذا كما اصطلح أهل اللغة في عرفهم على تسمية الفلاة مفازة، والأعمى بصيراً، واللديغ سليماً. ونحو ذلك مما هو مذكور في موضعه.
وذكر العلامة ابن خلدون في الفصل الثاني والثلاثين من مقدمته2- في بيان التلقيب بأمير المؤمنين وأنه من سمات الخلافة وأنه محدث من عهد الخلفاء- قال: "فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية، حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم، مثل شرف الدولة، وعضد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، ونصير الدولة، ونظام الملك، وبهاء
1 حديث منكر؛ انظر: "الضعيفة"(595) .
2 مقدمة تاريخ ابن خلدون (1/228- 229- ط. إحياء التراث) .
الدولة، وذخيرة الملك، وأمثال هذه، وكان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة، فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب، وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها، وعدولاً عن سماتها المختصة بها، شأن المتغلبين المستبدين، ونزع المتأخرون أعاجم المشرق- حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدولة والسلطان وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة- إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك، مثل الناصر، والمنصور وزيادة على ألقاب يخصون بها قبل هذا الانتحاب مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط، فيقولون: صلاح الدين، أسد الدين، تور الدين، قال: وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها فتلقبوا بالناصر، والمنصور، والمعتمد، والمظفر، وأمثالها، كما قال ابن أبي شرف ينعي عليهم:
مما يُزَهِّدُني في أرض أندلس
…
أسماءُ معتمدٍ فيها ومعتضدِ
ألقابُ مملكة في غير موضعها
…
كالهِرِّ يحكي انتفاخاً صَوْرَةََ الأسد1
ثم أطال في الكلام ابن خلدون.
فالشيخ النبهاني قصد هذا المعنى وجعل إمامه- بإطلاق هذا اللقب عليه اصطلاحاً- كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد، فلله دره ما أدق فكره، وأبعد نظره؟! ونقول له: إذا كان الأمر كما ذكر فنحن لا نلقب ابن تيمية بشيخ الإسلام اصطلاحاً فارغاً عن معناه، بل نطلقه عليه لغة وشرعاً لا اصطلاحاً، وهو بحمد الله في غنى عن التعبيرات الاصطلاحية الفارغة عن المعاني، على أن آثار ابن تيمية وفضائله التي أقر بها المخالف والموافق تغنيه عن إطلاق مثل هذه الألفاظ، وفي كتاب "الرد الوافر" الذي ألفه العلامة الحافظ الإمام ناصر الدين الشافعي في بيان من أثنى على الشيخ ابن تيمية من أكابر الأئمة وأطلق عليه شيخ الإسلام ما يرغم أنف هذا المخذول.
1 انظر ديوان القيرواني الحسن بن رشيق (ص 59- 60) و"نفح الطيب"(1/ 214) .
ومنها ما قاله في شأن الشيخ ابن تيمية وهو رجل مطعون في عقيدته.. إلخ. وقد مرَّ الكلام على مثل هذا الكلام مراراً فلا نتعب الأسماع بإعادة الجواب عنه.
ولله در من قال -وهو الشيخ أبو العلاء المعري في قصيدته المشهورة-:
وقال السهى للشمس ضوءك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة
…
وعير قساً بالفهاهة باقل1
ويقول ابن سند:
وما على العنبر الفواح من حرج
…
إن مات من شمه الزبال والجعل
أو هل على الأسد الكرار من ضرر
…
أن ينهق العير مربوطاً أو البغل
أو هل على الأنجم الخضراء منقصة
…
إن عابها من حصى الخضراء منجدل
ومنها أنه قال: فما الذي حمل صاحب "جلاء العينين" على معاملتهما أسوأ المعاملة، والميل كل الميل مع ابن تيمية، وهو يدعي أنه من أهل السنة والجماعة، لا والله بل هو من أهل البدعة، والأرواح جنود مجندة، فروحه هي من أجناد روح ابن تيمية، فلا تأتلف مع هؤلاء الأئمة الأعلام، ولذلك كان منه في حقهم ما كان.. إلى قوله: بل حكم لجميع الوهابية.
جوابه من وجو:
الوجه الأول: يقال للنبهاني الزائغ: "نسألك ما حمل ابن حجر والسبكي وكل
1 تمام الأبيات:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً
…
تجاهلتُ حتى قيل إني جاهلُ
فواعجباً كم يدّعي العلم ناقص
…
ووا أسفاكم يُظهر النقص فاضِلُ
إذا وصف الطائيَّ بالبخل مادرٌ
…
وعيّر قساً بالفهاهة باقلُ
وقال السهى للشمس أنت خفية
…
وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة
…
وفاخرت الشهب الحصاء والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
…
ويا نفس جُدّي إن دهرك هازلُ
منهما كان منه ما كان في حق الشيخ ابن تيمية وأصحابه وجماعة من حفاظ الحديث، من شتمهم أقبح شتم، وسبهم ولعنهم بما هو مشهور في كتبهم، حتى أن ابن حجر لم يكتف بذلك في كتاب واحد من كتبه، بل ذكر ذلك في تحفته، وفي فتاواه الفقهية، وفي فتاواه الحديثية، وفي غيرها، حتى قال في كتابه "الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم" من جملة كلام: إن ابن تيمية عبد أضله الله وأغواه، وألبسه رداء الخزي وأرداه، وبوأه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان، ثم قال: ولقد تصدى شيخ الإسلام، وعالم الأنام، المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته: التقي السبكي- قدس الله روحه ونور ضريحه- للرد في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد وأصاب، وأوضح بباهر حججه طريق الصواب، فشكر الله مسعاه، وأدام عليه شآبيب رحمته ورضاه، قال: ومن عجائب الوجود ما تجاسر عليه بعض السدجى من الحنابلة فغبر في وجوه مخدراته الحسان، التي لم يطمثهن إنس من قبله ولا جان، وأتى بما دل على جهله، وأظهر عوار غباوته وعدم فضله، فليته إذ جهل استحيا من ربه، وعساه إذا فرط رجع إلى لبه، ولكن إذا غلبت الشقاوة استحكمت الغباوة، فعياذاً بك اللهم من ذلك، وضراعة إليك أن تديم لنا سلوك أوضح المسالك، هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذكر- وإن كان عثرة لا تقال أبداً، ومصيبة يستمر عليه شؤمها دواماً وسرمداً- ليس بعجب، فإنه سولت له نفسه وهواه وشيطانه أنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك على أئمتهم- سيما الخلفاء الراشدين- باعتراضات سخيفة شهيرة، وأتى من نحو هذه الخرافات بما تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس، المنزه عن كل نقص والمستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهر للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين، حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله، أو بحبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، فخمدت تلك البدع،
وزالت تلك الظلمات، ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً، بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". انتهى كلام ابن حجر.
ومثل ذلك كثير في كتبه، وقد أدينا له حقه فيما كتبناه عليه صاعاً بصاع، وبينا ما زوره وافتراه، وأقمنا عليه الحجج والبراهين في هدم ما بناه.
والمقصود أن يقال للنبهاني: ما حمل ابن حجر أن يتهور ذلك التهور والغل الذي أبداه للذين آمنوا ومن سبقه بالإيمان؟ فبأي جواب يجيب عن ابن حجر أجبناه عن مصنف "جلاء العينين" بمثله، مع علمه أنه لم يلعن ابن حجر ولم يشتمه، ولم يقل فيه وفي أضرابه من الغلاة ما قاله الله في اليهود {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} مع أن ابن تيمية وأصحابه دعوا إلى الله وعملوا صالحاً، وذبوا عن دينه، وجاهدوا في الله، وعظموا رسوله صلى الله عليه وسلم كمال التعظيم، وهدموا أركان البدع والضلال والكفر، وهذه كتبهم التي تتداولها الأيدي تشهد بذلك، وتكذب ابن حجر، وتسود وجهه بسواد لا يبيض، أهكذا جزاء الإحسان؟ أهكذا يقال في حفظة السنة والقران؟
والنبهاني إن كان يحسن قراءة العبارة يعلم أن مصنف "جلاء العينين" لم يقصر في حسن التعبير والتبجيل الذي ذكره في ابن حجر، مع أن كل منصف يعلم أنه ليس أهلاً لذلك
الوجه الثاني: يقال للنبهاني: إن صَدَرَ من مصنف "جلاء العينين" شيء من
ذلك فالذي حمله عليه إنصافه ومزيد إطلاعه على أقوال الأئمة، وما ورد في الكتاب والسنة، والامتثال لقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 وما ورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من علمه الله علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نار". وهو لم يَمِلْ إلا إلى
1 سورة آل عمران: 110.
الحق كما هو شأن أهل السنة، فإنهم يتبعون ما ورد ولا يصرفون النصوص إلى ما تهواه أنفسهم، بل يَرُدُّونَ المتشابهَ إلى المُحْكَمِ منها، وهذا من علائم أهل الحق الناجين يوم القيامة.
وقد سبق بيان معنى السنة والبدعة، وذكرنا هناك من الأحق بالاتباع ومن المستحق أن. يكون من أهل الابتداع، ومصنف "جلاء العينين" كان ممن يعتقد أن الله واحد أحد، فرد صمد، لا يغيره الأبد، ليس له والد ولا ولد، وأنه سميع بصير، بديع قدير، حكيم خبير، علي كبير، ولي نصير، قوي مجير، ليس له شبه ولا نظير، ولا عون ولا ظهير، ولا شريك ولا وزير، ولا ند ولا مشير، سبق الأشياء فهو قديم بقدمها، وعلم كون وجودها في نهاية عدمها، لم تملكه الخواطر فتكيفه، ولم تدركه الأبصار فتصفه، ولم يخل من علمه مكان فيقع به التايين، ولم يعدمه زمان فينطلق عليه التاوين، ولم يتقدمه دهر ولا حين، ولا كان قبله كون ولا تكوين، ولا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال، ولا يدخل في الأمثال والأشكال، صفاته كذاته، ليس بجسم في صفاته، جل أن يشبه بمبتدعاته، أو يضاف إلى مصنوعاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلائق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا سمي له في أرضه وسماواته، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وعلمه محيط بالأشياء، والقرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته غير محدث ولا مخلوق، كلام رب العالمين، في صدور الحافظين، وعلى ألسن الناطقين، وفي أسماع السامعين، وبأكف الكاتبين، وبملاحظة الناظرين، برهانه ظاهر، وحكمه قاهر ومعجزه باهر. وأن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وتجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً، وأنه خلق النفوس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، والإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وأن مع كل عبد رقيباً وعتيداً، وحفيظاً وشهيداً، يكتبان حسناته، ويحصيان سيئاته، وأن كل
1 سورة الشورى: 11.
مؤمن وكافر، وبر وفاجر، يعاين عمله عند حضور منيته، ويعلم مصيره قبل ميتته وأن منكراً ونكيراً إلى كل أحد ينزلان سوى النبيين، فيسألان ويمتحنان، عما يعتقده العبد من الإيمان، وأن المؤمن يخبر في قبره بالنعيم، والكافر يعذب بالعذاب الأليم، وأنه لا محيص لمخلوق من القدر المقدور، ولن يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله جل اسمه يعيد خلقه كما بداهم، ويحشرهم كما ابتداهم، من صفايح القبور وبطون الحيتان في تخوم البحور، وأجواف السباع وحواصل الطيور، وأن الله تعالى يتجلى في القيامة لعباده الأبرار، فيرونه بالعيون والأبصار، وأنه يخرج أقواماً من النار فيسكنهم دار القرار، وأنه يقبل شفاعة محمد المختار، في أهل الكبائر والأوزار، وأن الصراط حق تجوزه الأبرار، وأن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم حق يرده المؤمنون ويذاد عنه الكفار، وأن الإيمان هو قول باللسان، وإخلاص بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالأوزار، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأفضل المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين، وأفضلهم القرن الذين شاهدوه، وآمنوا به وصدقوه، وأفضل القرن الذين صحبوه أربع عشرة مائة بيعة الرضوان بايعوه، وأفضلهم أهل بدر نصروه، وأفضلهم أربعون في الدار كنفوه، وأفضلهم عشرة عزروه ووقروه، شهد لهم بالجنة، وقبض وهو عنهم راض، وأفضل هؤلاء العشرة الأبرار، الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة الأخيار، وأفضل الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليهم الرضوان، وأفضل القرون بعدهم القرن الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يتبعونهم، وأن نوالي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأسرهم، ولا نبحث عن اختلافهم في أمرهم، ونمسك عن الخوض في فكرهم إلا بأحسن الذكر لهم، ولا ندخل فيما شجر بينهم، اتباعاً لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1 ثبتنا الله تعالى على ذلك، وأدامنا على السلوك في أقوم المسالك.
1 سورة الحشر:10.
هذا مما كان يعتقده مصنف "جلاء العينين" منذ ميز بين اليمين والشمال، وعرف الحرام من الحلال، إلى أن وضع في لحده، وهي بعض من عقيدة صنفها والده صاحب التفسير الشهير رحمه الله تعالى، فما الذي سوغ للنبهاني وأحل له أن يجعل من يعتقد هذه العقيدة من المبتدعة، ثم ما كفاه ذلك حتى حلف يميناً، وقال: إن صاحب "جلاء العينين" ليس من أهل السنة بل هو والله من أهل البدعة بسبب انتصاره لابن تيمية وعدم تجويزه الاستغاثة بغير الله ودعاء المخلوقين؟! وقد حنث في يمينه ووجب عليه الكفارة إن كان من أهل الإيمان والأيمان، مع أن ما هو عليه من الضلال البعيد، والغيّ الذي ليس عليه من مزيد، وما دل عليه شعره من غلوه وإلحاده،. ومسلكه الذي هو سالك فيه مدة حياته وعليه يموت، ينادي كل ذلك بأفصح لسان، على أنه قد خرج عن ربقة الإيمان، ومع ما هو عليه قد فتح فاه في ثلب أهل التوحيد، كالكلب عند التثاؤب وشتم خيار عباد الله، فسبحان إله الخلق ما أحلمه، وما أجل شأنه وأعظمه.
الوجه الثالث أن من سلف من إخوانه كانوايقولون مثل مقالته، ويعتقدون أن ما هم عليه هو الحق، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} 1الآية، وقال:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 2. أخبر سبحانه في الآية الأولى أن كلاًّ من اليهود والنصارى يزعمون أنهم على الحق دون غيرهم من غير دليل ولا تحكيم للعقل تقليداً لأسلافهم، وهم يتلون الكتاب، وفيه أن الحق ما قام عليه الدليل واقتضاه البرهان، لا أنه بالدعاوي الكاذبة، وهكذا النبهاني وأضرابه من الغلاة يعتقدون أن الحق ما تلقوه عن أسلافهم، وما ورثوه عن مشايخهم وإن قام الدليل على خلافه.
1 سورة البقرة 113.
2 سورة البقرة: 120.
والآية الأخرى دلت على أن اليهود والنصارى لا يرضون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن به، حتى يتبعون ضلالهم وغيهم الذي قامت الحجة على فساده، ودل البرهان على بطلانه، وهم لا ينظرون إلى ما يدل عليه الدليل، بل قلّدوا فيما هم عليه آباءهم، فأخبر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم أنه إن اتبع أهواءهم بعد ما حصل له من العلم واليقين- بأن ما هو عليه هو الحق وما عليه المخالفون هو الباطل- لم يكن له معين ولا ناصر، ولا ملجأ ولا وزير يدفع عنه ما يستحقه المعرضون عن الحق والزائغون عن الصراط المستقيم. وهكذا النبهاني لا يرضى عن كل من خالف باطله وضلاله، واتبع الحق الصريح الذي دل عليه كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، حتى يتّبع إلحاده وزيغه الذي دل على فساده ما يزيد على ألف دليل، مع أن الحق أحق بالاتباع، ورضى الله ورسوله مقدم على رضى أعدائه وخصوم دينه، فلا بدع إذا شتم النبهاني أهل الحق وعبر عنهم بالعبارات الفظيعة، فإن له سلفاً بذلك، ولله در من قال:
إذا رضيت ص عني كرام عشيرتي
…
فلا زال غضباناً عليّ لئامها
الوجه الرابع: أنه قال: والأرواح جنود مجندة، فروحه هي من أجناد روح ابن تيمية فلا تأتلف مع أرواح هؤلاء الأئمة الأعلام، ولذلك كان منه في حقهم ما كان مع كونهم في جانب تعظيم جده الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإمامه ابن تيمية بعكس ذلك، ولكن الشرف والحسب لا يغني عن العلم والأدب
…
إلى آخر عبارته التي لا يتكلم بمثلها صغار الطلبة.
فنقول: إن ما ذكره في هذا المقام كلمة حق أريد بها باطل، وذلك أن الله
ومعنى الآية على ما في التفسير: ومن يطع الله بالانقياد لأمره ونهيه،
1 سورة النساء: 69-. 7.
والرسول المبلّغ ما أُوحِيَ إليه منه باتباع شريعته والرضا بحكمه "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه "من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين".
وفي الحديث: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل بهذه الآية1.
ومعنى الصدّيق والشهيد والصالح مفصل في التفسير.
وفي الآية فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم، وأرفع ما تمتد إليه أعناق أمانيهم، وتشرئب إليه أعين عزائمهم، من مجاورة أعظم الخلائق مقداراً، وأرفعهم مناراً، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة، ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة، بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما، ومنهم من قال لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا
1 أخرجه الطبراني في " الأوسط"(6/ 16/ 3308- مجمع البحرين) وفي "الصغير"(1/ 26) أو رقم (52- بتحقيقي) والواحدي في "أسباب النزول"(ص 166- ط. الحميدان) وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 240) . من طريق: أحمد بن عمرو الخلال المكي، ثنا عبد الله بن عمران العابدي، ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/7) : "رجاله رجال الصحيح؛ غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة".
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "العجاب في بيان الأسباب "(2/ 914- ط. ابن الجوزي) :" رجاله موثقون".
وصححه العلامة أحمد شاكر- رحمه الله في "عمدة التفسير"(3/ 217) . وأورده العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي- رحمه الله في "الصحيح المسند من أسباب النزول"(ص80) .
يرى أنه أرغد منه عيشاً، ولا أكمل لذة، لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصاً في ملكه أو حطاً من قدره. وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون.
والشيخ ابن تيمية- قدس الله روحه من أكثر الناس طاعة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه كتبه، ككتاب "الصارم المسلول" وغيره، حتى أنه كابد ما كابد من خصومه في الله سبحانه، هذا مع ما كان عليه من التقوى والزهد والورع الذي شهد له به خصومه، وهكذا أصحابه وتلامذته رضي الله تعالى عنهم، وقد شهد له كبراء الأمة أنه كان من أكابر المجتهدين، ومن أئمة الدين، ومن أخيار المسلمين، وخواص المؤمنين على ما سنذكر ذلك في مناقبه، وفي الحديث "أنتم شهداء الله في أرضه"1. فمن المرجو من لطف الله تعالى وفضله أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم، وكذلك حديث الجنازة التي مرت فأثنوا عليها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم: "وجبت " يؤكد هذا الرجاء.
فمصنف "جلاء العينين" يرجى له أن تكون روحه مع روح هذا الرجل الذي أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أيضاً كان ممن أطاع الله وذب عن دينه، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأوذي حياً وميتاً من أعداء الدين وخصوم الموحدين، ومنهم هذا النبهاني عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه القويم.
والحديث الذي ذكره رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"2. قال الخطابي في بيان معنى هذا الحديث- على ما ذكر في "فتح الباري"-3 يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر، والصلاح والفساد، وإن الخير من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير
1 تقدم الحديث في الجزء الأول.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه"(3336) - معلقاً- ووصله في الأدب المفرد (900) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه مسلم (3638) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 الفتح (6/426) .
ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت. قال: ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خُلِقَتْ قبل الأجسام، وكانت تلتقي فتتشام، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم ". قلت: القول بتقدم خلف الأرواح على الأجساد غير مرضي عند العهد المتقدم ".
قلت: القول بتقدم خلق الأرواح على الأجساد غير مرضي عند السلفيين فلا التفات لهذا الاحتمال. وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين، ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت حسبما خلقت عليه الأرواح في الدنيا.
قال الحافظ العسقلاني: "ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا لأنه محمول على مبدأ التلاقي فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسباً لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء، وقوله: "جنود مجندة" أي: أجناس مجنسة، أو جموع مجمعة.
قال ابن الجوزي: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه.
وقال القرطبي: الأرواح هان اتفقت في كونها أرواحاً لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة، ولذلك تشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر، وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها" انتهى.
فتبين مما ذكر في معنى الحديث: أن روح النبهاني الخبيث، لم تتعارف مع
أرواح أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وحفاظ الحديث، المتبعين للسنن المعادين للبدع والأهواء، المعرضين عن الدنيا وزخرفها، الطالبين وجه الله ورضاه، وهم أهل الأرواح الطيبة الطاهرة، فكانت مما تناكر، فلذلك خالفهم وعاداهم وشحن كتابه بثلبهم وسبهم، وكيف تتعارف روحه الخبيثة مع تلك الأرواح الطيبة وقد صرف عمره في الأحكام الطاغوتية، وترويج الأمور الشيطانية، والميل إلى الظلمة والمجرمين، ومعاداة المسلمين، والله تعالى يقول حكاية عن بعض أصفيائه. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} 1.
وقد قال بعض أهل الفضل والتقوى: على العالم أن يتصف بالحلم والزهد والقناعة بالقليل وترك الدنيا، لأن، ذلك سيرة الأنبياء، وهو اللائق بحال العلماء، فإن كثيراً من النصوص مشتملة على ذم الدنيا وطلبها، فطلبها للعالم زيادة على الكفاية جمع بين المتنافيين، وإغراء للعامة على الانهماك فيها، وأن يقتصر في حاجته على قاضي الحوائج، المعطي على التحقيق، الذي بيده مقاليد السموات والأرض، كيف وقد تكفل بالرزق قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 2. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3. وأن يكون بعيداً من ولاة الأمور داعياً لهم بالنصر والتأييد والعدل والتوفيق، وبعيداً من الظلمة لأن قرب العالم منهم والتردد إليهم لأجل السحت وتحسينه لهم ما هم عليه فتنة له ولهم ولغيره.
ولما خالط الزهري ولاة الأمور كتب إليه صديق له من العلماء يقول:"عافانا الله وإياك من الفتن، ونجّانا وإياك من المحن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت، أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً،
1 سورة القصص: 17.
2 سورة هود: 6.
3 سورة الطلاق: 2-3.
ولم يترك باطلاً، حتى قربك وأدناك، وأكرمك وواساك، اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلماً يتوصلون بك إلى ضلالتهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويصطادون بك قلوب الجهلاء
فما أيسر ما عمروا منك في جنب ما خربوا عليك، وما أدنى ما أصلحوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يشك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم:
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} 1 فإنك تعامل من لا يهمل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم شديد، وهي زادك فقد حضر السفر البعيد، ولا يخفى على الله من شيء وهو الحفيظ المجيد" انتهى.
والنبهاني الضليل ليس من أولئك والقبيل، بل خسته مشهورة، ودناءته مذكورة، مع ما ضم إلى ذلك الضلال من العقائد الفاسدة في الإله عز اسمه، حيث أنه ممن قلد القائلين بالحلول والاتحاد، والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم حتى اعتقد فيه أنه موجود في كل زمان ومكان، والإغراء على دعاء غير الله والالتجاء إلى ما سواه، وكل ذلك من متفرعات القول بوحدة الوجود، فإن القائلين بها لم يخطئوا عبدة الأصنام في عبادتها، وكل كلام الله تعالى ينطبق على كلام غيره، فعندهم أن ما تكلم به الإنسان نظماً أو نثراً فهو كلامه، وعليه قول الشيخ محيي الدين:
وكل كلام في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
فلا شك أن روح النبهاني الخبيثة من جنود هذه الأرواح، وقد تعارفت مع أرواح الغلاة فأتلفت وتناكرت مع أرواح الأصفياء الطاهرة المقدسة فاختلفت، فالحديث كما يصدق على خصمه فهو صادق عليه.
أفلا يستحي من هذا حاله، ووصفه واعتقاده، وجهله وضلاله، أن يخاصم أهل الحق، وفرسان العلم، وأئمة الإسلام، وبحور الفضل، وورثة الأنبياء، وهو ليس من قبيل هؤلاء الرجال، بل ولا ممن يعد في صف النعال، وقد حمله شيطانه
1 سورة مريم: 59
على إلقاء نفسه في هذه المهالك، وقاده إلى هذه المعارك، وما أحسن ما قال القائل:
ولقد أقول لمن تحرش بالهوى
…
عرضت نفسك للبلا فاستهدف
وقال آخر:
أقول لمحرز لما التقينا
…
تنكب لا يقطرك الزحام
ثم إن قوله: مع كونهم في جانب تعظيم جده.. إلخ.
جوابه: أن تعظيم جده إنما يكون بالذب عن شريعته، والمحافظة على سنته لا بمخالفته فيما أمر به ونهى عنه، فهذا هو العصيان وعدم المحبة، قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1. وتعظيمه وتوقيره إنما يكون بالإتباع لا بالابتداع، ولا بمخالفة ما جاء به هو وغيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام من المحافظة على التوحيد وعدم إثبات خصائص الألوهية لغير الله، ألا ترى أن الفاطميين من العبيديين كانوا يزعمون أنهم من العترة فلما أحدثوا ما أحدثوا وابتدعوا ما ابتدعوا خرجوا عن دينه وصاروا من أعدائه بسبب الإعراض عن شريعته، على أن الحق يقبل من أي شخص كان، فالنظر إلى ما قاله القائل لا إلى القائل، ومما ينسب إلى الإمام علي كرم الله وجهه: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال. والله عز اسمه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2.
فالبيت الذي أورده هو صادق عليه لا على مصنف "جلاء العينين" فقد كان رحمه الله هاشمياً علماً وعملاً وقولاً وفعلاً.
وباهلة من قيس عيلان، وهو في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها، وقولهم باهلة بن أعصر،
1 سورة آل عمران: ا 3.
2 سورة الحجرات: 13.
إنما هو كقولهم: تميم بنت مر. فالتذكير للحي، والتأنيث للقبيلة سواء كان الاسم في الأصل لرجل أو لامرأة.
وفي كتب الحنفية: وقريش بعضهم أكفاء بعض، ولا تفاضل فيما بينهم من الهاشمي والنوفلي والتيمي والعدوي وغيرهم وبقية العرب بعضهم أكفاء بعض، فالباهلي كفو للتميمية والطائية والقيسية وغير ذلك.
فالنبهاني المخذول إن كان منتسباً لنبهان بن جرم بن عمر بن الغوث، وبنو نبهان بطن من طي، فليس لقبيلته فضل على بني باهلة، بل هم سواء في نظر الشرع والعقل، هذا إن سلم له دعوى هذا النسب. وإن قلنا إنه نبطي من أنباط الشام، أو من الجرامقة- كما هو الظاهر- وأن النسبة إلى نبهان جبل مشرف على حق عبد الله بن عامر بن كريز ويتصل به جبل رنقاء إلى حائط عوف، فلا خفاء في كونه حينئذ أخس بني آدم، فضلاً عن أن يكون أخس العرب.
والمقصود أن النبهاني على كلا النسبتين لا رجحان لقومه على بني باهلة، ومن جعل بني باهلة أخس العرب، وأنهم ليسوا كفواً للعرب، فهو غالط فإن النص الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تفصيل فيه، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم، وقد أطلق وما رموا به إن صح عنهم، فليس بعيب شرعي، كما أن التعبير بشرب ألبان الإبل وأكل لحومها كذلك كما قال شاعرهم:
تعيرنا ألبانها ولحومها
…
وذلك عار يا ابن ريطة زائل
وكما كانت تعير قريش بالسخينة، وهو طعام كانوا يتخذونه أيام الجدب، وكل ذلك بسبب ما كانوا عليه من الجاهلية، وإلا فالعيب هو الذي يجعله الشرع عيباً، كالعيوب التي كانت في بني نبهان منها عبادتهم للفلس، وهو صنم لهم كان بنجد قريباً من فيد، وكان سدنته بني بولان، وهم وبنو نبهان أبناء عم، وكانوا يعبدونه ويهدون إليه ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه خائف إلا أمن، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت ولم تخفر حويته، وبولان ابن عم نبهان هو الذي بدا بعبادته، فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليه
علي بن أبي طالب فهدمه، وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان قلده إياهما، يقال لهما مخذم ورسوب، وهما اللذان ذكرهما علقمة بن عبدة، فقدم بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلقد أحدهما ثم دفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فهو سيفه الذي ط ن يتقلده.
ولهم أصنام أخرى ليس هذا المقام موضع ذكرها.
والمقصود أن بني نبهان وبني باهلة كانوا على منهج واحد، فما يذم به أحدهما يذم به الآخر، بل ربما كان في بني باهلة رجال أكابر، تعقد عند ذكرهم الخناصر، في العلم والدين والشجاعة والفروسية وغير ذلك من الشيم والسخاء والكرم، ولم يكونوا في الجاهلية جميعاً معروفون بالخساسة، بل فيهم الأجواد رفيعوا العماد، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ذلك لا يسري في حق الكل، فتعبير القبيلة بعيب صدر عن واحد منهم من خصال الجاهلية، كما عيروا بني فزارة بما فعل واحد منهم فعلاً منكراً فقال قائلهم:
لا تأمنن فزارياً خلوت به
…
على قلوصك واربطها بأسيار
هذا كله إن قلنا بصحة النسب إلى نبهان الطائي، وصدقنا دعواه الكاذبة، وإن قلنا إنه نبطي منسوب إلى ذلك فبنو باهلة أفضل منه وأشرف في الحسب والنسب، بل في الدين والأدب.
ومنها ما قاله في صاحب "جلاء العينين" أيضاً: وليس حكمه على ابن حجر فقط والسبكي وابنه بل على جميع أهل السنة والجماعة، من الشافعية، والحنفية، والمالكية، وجمهور الحنابلة أيضاً، ومن طالع كتابه هذا بإنصاف يعلم يقيناً أنه أخطأ فيه حق نفسه وحق أبيه وحق المسلمين عموماً وسيد المرسلين خصوصاً، وأنه لوث نفسه بأقذار البدع الوهابية التي لا يغسلها عنه بحار الدنيا إلى يوم القيامة، وكما آذى نفسه بذلك أشد الأذى آذى كل من اطلع على كتابه من المسلمين أهل المذاهب الأربعة- حتى المنصفين من الحنابلة- بذمهم إياه، وخوضهم في عرضه ما بقيت الدنيا وبقي فيها هذا الكتاب، نعم قد استعاض عن
ذلك برضا صديق حسن عنه وطائفته الوهابية فهذا هو ربحه من تلبيسه على المسلمين بهذا الكتاب، وتوهيمهم أن ما عليه ابن تيمية وطائفته من البدعة الشنيعة في مسألة الزيارة والاستغاثة وغيرهما مما خالفوا به أهل السنة هو الحق، وتطاوله على أئمة المسلمين مثل السبكي وابنه وابن حجر، إلى قوله: هذا لعمري مما لا يختاره عاقل لأخيه فضلاً عن نفسه وأبيه.
فيقال للنبهاني: هذا مبلغ علمك، دأبك تكرير هذيانك، وقد أجبنا عن ذلك كله في غير موضع من هذا الكتاب، مع كونه صرير باب، أو طنين ذباب، بل إنه أشبه شيء بنبح الكلاب، وقلنا: إنه لم بحكم على من ذكرهم بحكم، بل نقل ما كان بين الفريقين وما ذكره أهل العلم الأكابر وأئمة المسلمين في المسائل التي تنازعوا فيها، ولو لم يصنف صاحب "جلاء العينين" كتابه هل كانت تبقى تلك المسائل مجهولة لأهل العلم والأفاضل المدققين، ألم تكن هذه المسائل مفصلة في الكتب ومذكورة فيها على أتم وجه؟ هذا كتاب "القول الجلي" الذي صنفه السيد صفي الدين قبل أن يخلق صاحب "جلاء العينين" بمدة من السنين قد اشتمل على جميع ما اشتمل عليه "جلاء العينين" إجمالاً. وكذلك "الدرة المضية" وكذلك "الرد الوافر" للحافظ ابن ناصر الدين الشافعي، وكذلك "إفاضة العلام" من مصنفات الشيخ إبراهيم الكوراني "ومسلك السداد" له، إلى غير ذلك من الكتب المصنفة في هذا الباب قديماً وحديثاً، فلم لم يذكر النبهاني تلك الكتب ومصنفيها، وما الذي حمله أن يتخذ "جلاء العينين" ومصنفه سبابة المتندم وأكثر عليه الهياط والمياط، حتى يتخيل للناظر في كلامه هذا أن السماء انفطرت، وأن الكواكب قد انتثرت، وأن القبور بعثرت، وأن الوحوش حشرت، فما هذه المسائل التي ذكرها مصنف "جلاء العينين" وقد قامت على النبهاني منها قيامته الكبرى؟ وما أهمية زيارة القبور والاستغاثة بالموتى حتى يقام لها ويقعد، ويهاج ويعربد؟ وما أرى ذلك إلا من مزيد الحسد، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله، ومن الحري أن ينشد على لسان صاحب "جلاء العينين":
إن يحسدوني فإني غير لائمهم
…
قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم
…
ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
ثم إن قوله ومن طالع كتابه هذا بإنصاف يعلم يقيناً أنه أخطأ فيه.. إلخ.
مردود؛ فقد طالعه كثير من أهل الفضل المنصفين فاستصوبوه، وأثنوا عليه، وعرفوا الحق الذي فيه، وحسنوا ظنهم بأئمة المسلمين وخيار المؤمنين، ودعوا له ولوالديه ولمن نشر كتابه، واستفادوا الفوائد التي لم يكونوا عارفين بها ولا واقفين عليها، وعدوا ذلك خدمة للمسلمين عموماً ولسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم خصوصاً، حيث ذب عن دينه وشريعته الغراء ما كدر صفوها، وأماط الأذى عنها، وقالوا كما قال الإمام أحمد نصر الله وجهه1:" الحمد لله الذي جعل في كل زمان قترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدّعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله عز وجل الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين" انتهى.
فانظر أيها المنصف إلى وصف الجاهلين الذي في هذه الخطبة، وطبقه على ما يقوله النبهاني تجد الإمام نضر الله وجهه كأنه قد عناه وقصده بلفظه ومعناه، وفي الحديث:"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"2.
وإني قد طالعت كثيراً من كتب هؤلاء الغلاة الجهلة ولم أر فيها كالهذيان الذي هذى به هذا الزائغ، ومع ذلك رددتها بتوفيق الله، وشفيت منها صدور المؤمنين، وكلام هذا الزائغ ظلمات بعضها فوق بعض، فكل ما كتبته عليه من الرد
1 في مقدمة كتاب "الرد على الزنادقة والجهمية".
2 تقدم تخريجه.
أراني قد أتيت بقليل من كثير ما استوجب، فالله المستعان عليه.
وقد تذكرت عند وصولي إلى هذا المقام ما كان يقوله سلف النبهاني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت ذكره هنا، وإدراجه في الكتاب، ليعلم الناظر البصير أن أعداء الحق في كل عصر على وتيرة واحدة، وقلوبهم متشابهة فيما يرد عليها من الخواطر والشؤون.
ألا إنما الأيام أبناء واحد
…
وهذي الليالي كلها أخوات
فلا تطلبن من عند يوم ولا غد
…
خلاف الذي مرت به السنوات
روى الإمام أحمد من حديث- محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحي بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال قالت له:"ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته، قال: حَضَرْتُهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحِجْرِ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، قد سَفَّهَ أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّقَ جماعاتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم- أو كما قالوا- فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه تتعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: تسمعون يا معشر قريش؛ أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف انصرف يا أبا القاسم؛ انصرف راشداً فوالله ما كنت جهولاً. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به، يقولون له: أنت الذي يقول كذا وكذا، لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم؟ قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك. قال:
فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه وقام أبو بكر الصديق دونه يقول- وهو يبكي- أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه1.
وعن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: "أراد صاحب اليمن أن يؤوي النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه الوليد فزعم أن محمداً ساحر، وأتاه العاص بن وائل فأخبره أن محمداً تعلم أساطير الأولين، وأتاه آخر فزعم أنه كاهن، وآخر أنه شاعر، وآخر زعم أنه مجنون، فأهلكهم الله، كل منهم أصابه عذاب سوى عذاب صاحبه" وذكر تفصيل عذابهم.
والكلام على ما كابد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم من مشركي العرب مذكور في غير هذا الموضع، وقد نصره الله عليهم، وانتقم منهم كما ينتقم من أعداء ورثته والعاملين بسنته ويهلك خصومهم، كالنبهاني وغيره من الغلاة الذين هم على طريقة أسلافهم عبدة الأصنام، وعلى مسلكهم المذموم، وفي كتب السير قد بين ما أصاب أعداء الرسول من البلاء المبين، قال الشيخ قد كتابه (الجواب الصحيح2: "ويدخل في هذا الباب ما لم يزل الناس يرونه ويسمعونه من انتقام الله ممن يسبه ويذمه ويذم دينه بأنواع من العقوبات، وفي ذلك من القصص الكثيرة ما يضيق هذا الموضع عن بسطه، وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه؛ من انتقام الله ممن يؤذيه بأنواع من العقوبات العجيبة، التي تبين كلاءة الله لعرضه، وقيامه بنصره، وتعظيمه لقدره، ورفعه لذكره، وما من طائفة من الناس إلا وعندهم من هذا الباب ما فيه عبرة لأولى الألباب. قال: ومن المعروف المشهور المجرّب عند عساكر المسلمين بالشام إذا حاصروا بعض حصون أهل الكتاب أنه يتعسر عليهم فتح الحصن ويطول الحصار إلى أن يسب العدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يستبشر المسلمون بفتح الحصن وانتقام الله من العدو، فإنه يكون ذلك قريباً، كما قد جربه المسلمون غير مرة، تحقيقاً لقوله تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} . ولما مزق كسرى كتابه مزق الله ملك الأكاسرة كل ممزق،
1 أخرجه البخاري (2856) وأحمد (1/104) .
(1/195-196) .
ولما أكرم هرقل والمقوقس كتابه بفي لهم ملكهم" انتهى.
فها نحن ننتظر انتقام الله تعالى من النبهاني وأضرابه الغلاة، فقد عادوا أهل الحق ورثة نبيهم صلى الله عليه وسلم وحفاظ دينه، وأن يعاملهم بعدله، فقد أساؤوا القول فيهم، وافتروا عليهم، ورموهم بالعظائم، ولا باعث لذلك سوى الدعوة إلى الله وتوحيده وإفراده بالعبادة، والنبهاني منهم يقول إن كل ذلك ليس من خصائص الإله مع كونه من أعداء الله ورسوله، حيث خالف الشريعة الغراء، وصرف شطراً من عمره في حكمه بالقوانين المخالفة لما شرعه الله تعالى، مع ما اتصف به من المساوي والمنكرات.
ومنها أنه قال:، وقد لعقري آذى أباه وعقه بتلك النقول التي كان الناس عنها في غفلة، لأنها مفرقة في تفسيره فجمعها في كتابه مفتخراً بها، ومثبتاً عند صديق حسن وطائفته أن أباه هل! أيضاً على مذهبهم ومشربهم في ذلك، وقد سمعت بسبب هذا- من بعض علماء مكة- كلاماً فظيعاً في حقه وحق أبيه" إلى آخر ما قاله في هذا الباب.
فيقال له: إن ما ذُكِرَ في "روح المعاني" من المسائل التي خالف فيها الغلاة أهل الحق- كمسألة دعاء غير الله، والالتجاء إلى ما سواه، والحلف بغيره، والنذر لغيره، ونحو ذلك مما هو من خصائص الإله المعبود- هي مذكورة صريحاً في القرآن العظيم، وكتب الحديث الصحيحة، ومصنفات الأئمة طافحة بها، وكذلك مسألة الكلام والعلو وسائر ما ورد من الصفات فيها كتب كثيرة، ومصنفات شهيرة- على ما سبق بيانه، ومضى دليله وبرهانه- فصاحب "جلاء العين" ذكر منها نبذة يسيرة، والمسائل التي فاتته منها كثيرة، و "روح المعاني" ليس منفرداً بذكر ما قام على صحته الحجج القطعية، والبراهين العقلية والنقلية، ومن طالع البيضاوي، والكشاف، وتفسير ابن جرير، وغير ذلك؛ يجد الأمر واضحاً كفلق الصباح، ولولا أن يطول الكتاب لنقلنا كل ذلك، غير أن هذه التفاسير تتداولها الأيدي، والمنصفون من أهل البصائر يحلمون ذلك، فمصنف "جلاء العينين" لم يعق والده، بل نشر فضله وسعى في انتفاع الناس به، وأنه سلك مسلكه في حب
انتفاع إخوانه المسلمين ونصيحتهم.
بابه اقتدى عدي في الكرم
…
ومن يشابه أبه فما ظلم
وقد كان صاحب "روح المعاني" رحمه الله تعالى سلفي الاعتقاد مشاراً إليه بالبنان في العلم والعمل من بين علماء الأقطار والبلاد، وقد رأيت له رسالة بخطه ألفها في بيان عقيدته ومذهبه، وكيفية اشتغاله وإجازاته في العلوم العقلية والنقلية، وتراجم من أخذ عنهم العلم، وترجمة أئمة مذهبه الإمام الشافعي والإمام الأشعري رحمهما الله تعالى، وبين فيها- بعد أن ذكر عقيدته التي تلقاها من الكتاب والسنة وادعى أنها عين اعتقاد الإمام الأشعري- أن اعتقاد الإمام الأشعري لا يخالف ما عليه الإمام أحمد رحمه الله، ونص عبارته:
"فإن قلتَ: ليس جميع ما ذكرته مذهب الإمام الأشعري كفا يفصح بذلك تتبع الكتب، بل هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ قلت: مذهب الإمام الأشعري عند المحققين والعلماء المنصفين هو مذهب الإمام، كما يبين ذلك كتابه "الإبانة في أمور الديانة" وهو آخر كتاب صنفه وعليه تعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه.
قال فيه: "فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة" فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرّفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل- نضّر الله وجهه ورفع درجته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله تعالى به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله تعالى عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفخم.
وجملة قولنا: أنا نقر بالله تعالى، وملائكته، وكتبة، ورسله وبما جاء من عند الله تعالى، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئاً، وأنه واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 2 وأن له يدين بلا كيف كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 وأن له يدين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 4 وأن من زعم أن أسماء الله تعالى غيره كان ضالاً، وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب، وأن القلب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل، ونصدق بجميع الروايات التي رواها وأثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول:"هل من سائل؟ هل من مستغفر"؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لأهل الزيغ والتضليل، ونقول إن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 5 وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف شاء، كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6 وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 7. انتهى ملخصاً.
قال صاحب "تفسير روح المعاني" رحمه الله: "وقد ذكر ابن عساكر في كتابة
1 سورة طه: هـ.
2 سورة الرحمن: 27.
3 سورة المائدة:64.
4 سورة القمر: 14.
5 سورة الفجر: 22.
6 سورة ق: 16.
7 سورة النجم: 8- 9.
"تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام الأشعري" ما يقرب من ذلك وإن لم يكن بلفظه، ثم قال عقبه: هذا ما عليه إمامنا الأشعري ومتقدموا أصحابه، لكن كثرت المقالة بين متأخري الأشاعرة والحنابلة حتى أدى ذلك إلى تضليل كل من الفريقين صاحبه، وذلك في مسائل تمسكت فيها الحنابلة بظواهر الكتاب والسنة كالاستواء والنزول والقدم والوجه والعينين وغير ذلك من أحاديث الصفات، قال: ولقد أجاد ولي الله بلا نزاع، وحامل لواء الشريعة والحقيقة بلا دفاع؛ الملا إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكوراني الشهراني الشهرزوري الكردي نزيل المدينة الشافعي بالفحص عن كل ما ينسب إلى الحنابلة، فجمع رسائل عديدة وكتباً مفيدة وطالعها ودقق النظر فيها، ثم ألف رسالة في ذلك، وقال فيها: لما أمعنت النظر في رسائل القوم ومصنفاتهم وجدتهم برآء من كثير مما رمتهم أصحابنا الشافعية من التجسيم والتشبيه، وإنما القوم متمسكون بمذهب كبراء المحدثين، كما هو المعروف من حال إمامهم رضي الله تعالى عنه من إبقاء الآيات والأحاديث على ظواهرها، والإيمان بها كذلك، مفوضون فيما أشكل معناه، وهذا لا يذمه أحد من الأشعرية، بيد أن الحنابلة مشددون في رد التأويل في كل ذلك، مجهلون من يذهب إليه، فيقولون: الله تعالى ورسوله وسلف الأمة أدرى بمعاني الآيات والأحاديث من هؤلاء المؤولين، وما ورد عنهم أنهم أولوا شيئاً من ذلك، فإما أن يكون ذلك لأن معناه خفي عليهم فكيف ظهر لهؤلاء ما خفي على أولئك؟ وإما لأنها على ما يظهر من معناها لأن الشرع جاء بلغة العرب فمراد الله تعالى بهذه الألفاظ هو المعاني التي تريدها منها العرب في لغتهم، وتطلق بحسب ما يليق به، فالمراد بالاستواء والفوق والنزول معانيها المقصودة في كلام العرب، فإذا قلت: زيد فوق السرير" فمعناه مستقر عليه متمكن منه مستعل، ولما علمنا أن زيداً جرم من الأجرام والسرير كذلك تحقق لنا أن الفوقية في حقه واستقراره فوق السرير يوجب مماسته له، وتحيزه في جهة من جهاته، وغير ذلك من الأوصاف التي توجب استقرار جرم على جرم، وأما المولى جل جلاله فماهية ذاته غير مدركة لأحد من الخلق فكيف يقال بأن استقراره فوق العرش يوجب مماسته له وتحيزه في
جهة لأن ذلك استقرار الجسم؟ وأما استقرار من ليس بجسم فلا نحكم بأنه يوجب كذا وكذا حتى نعلم ماهيته، والماهية غير معلومة، فنثبت له استقراراً حقيقياً فوق كل عرشه، لأنه أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه يليق بذاته، ويقتضيه كمال صفاته، وكذلك يقولون في النزول ونظائره ".
قال: وقد بالغ ابن القيم عفا الله تعالى عنه ورحمه في الرد على أئمتنا الأشعرية في مثل هذا وأتى بعبارة سوء، حتى قال:"لام الأشعرية كنون اليهودية" ولقد أساء سامحه الله تعالى في الخطاب، وتنكب بمحض العصبية عن الصواب، لأن الأشعرية لم يجحدوا استوى، بل به يقرؤون وإلى الله عز وجل يتقربون، ولكن بعضهم أوَّلَ المعنى لما رأى الظاهر منه محالاً على الله تعالى، فقال: معنى استوى استولى لورود اللفظين معاً في لغة العرب، وأمثال هذه التعصبات الفاسدة هي التي أوقعت الفريقين فيما وقعوا فيه، وإلا فالكل على هدى إن شاء الله تعالى، لأن المفوض مسلّم لمراد الله تعالى تارك لما لم يكلف بعلمه1، والمتأول متّبع لما علم صحته وثبوته من الكتاب والسنة، حامل عليه ما لم يتضح معناه حتى تكون العقيدة كلها على نسق واحد، ولا يسوغ إلى فهم القاصر معنى لا يليق بالرب فيثبته له، فالتأويل لأجل هذا حسن2 حراسة عن اعتقاد ما لا يجوز اعتقاده، فإذا سمع قاصر الفهم استوى لم يتبادر إلى فهمه إلا المعنى المستحيل، فإذا سمع قول العالم معناه استولى عليه بالقهر والغلبة زالت تلك الشبهة من قلبه، وهذا الذي أولنا به الاستواء وإن لم يكن هو مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو لا شك معنى ثابت لله متصف به لا ينافي ما هو معناه عند الله تعالى، فلا كبير ضرر في ذلك ولا تحكم، إذ لم نقل ليس له معنى إلا هذا، بل نقول يحتمل أن يكون معناه هذا وهذا صدق، لأنه محتمل كما لا يخفى.
وقال أيضاً: ولقد اطلعت على رسالة للشيخ ابن تيمية وهي معتبرة عند
1 في هذا الكلام نظر؛ فتنبه.
2 بل هو سيىء؛ لأنه ليس من عمل الصحابة ولا هديهم، ولا هو من فعل الأئمة التابعين وأصحاب المذاهب والحديث من بعدهم، فكيف يكون حسناً؟!
الحنابلة، وطالعتها كلها فلم أر فيها شيئاً مما ينبذ ويرمى به في العقائد سوى ما ذكرنا من تشديده في رد التأويل، وتمسكه بالظواهر مع التفويض والمبالغة في التنزيه، مبالغة يقطع معها بأنه لا يعتقد تجسيماً ولا تشبيهاً، بل يصرح بذلك تصريحاً لا خفاء فيه، والعجب ممن يترك صريح لفظه بنفي التشبيه والتجسيم ويأخذ بلازم قوله الذي لا يقول به ولا يسلم لزومه، وعلى كل حال فهو كما قال كثير من المشائخ في الشيخ محيي الدين، قال سيدنا العلامة الشيخ عبد الله بن محمد العياشي وكثيراً ما كنت أسمع من شيخنا العلامة سيدي عبد القادر رضي الله تعالى عنه يقول: محكم كلامه يقضي على متشابهه، ومطلقه يرد إلى مقيده، ومجمله إلى مبينه، ومبهمه إلى صريحه، كما هو شأن كل كلام ظهرت عدالة صاحبه.
فالحنابلة مبرؤون مما نسب إليهم، وكذا الأشعرية أيضاً منزهون مما يرمون به من التعطيل والتحريف لكلام الله تعالى عن مواضعه، والكل على هدى يدينون دين الحق، والمخالفون شرذمة قليلة لا يعبأ بهم، كما قال الشيخ تاج الدين السبكي في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم". ثم نقل كلامه إلى آخره، انتهى كلام الكوراني.
وقال بعد أن فرغ عق نقلة: وأقول من أراد أن يشرح صدره، ويتبين له تبيناً لا مراء فيه صحة مذهب الأشعرية، وأنه مذهب أهل السنة والجماعة؛ فليطالع كتاب الإمام أبي القاسم ابن عساكر المسمى "بتبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري" فقد أتى فيه من أدلة الكتاب والسنة وأقاويل السلف والخلف مالا يمتري معه عاقل خال من التعصب أنه إمام السنة ورئيس الجماعة المضمون لها العصمة من الله تعالى.
ثم نقل صاحب "روح المعاني" في رسالته كلام الكوراني في الثناء على عقائد الأشعري وأنه على ما عليه السلف، وأطال الكلام في ذلك إلى أن قال: ولولا خوف السآمة وحذر الملامة لأتيت في هذا المقام بما يبرىء الكلام، ويروي الأوام، ولكن ما كل ما يعلم يقال، ولكل زمان دولة ورجال، بل لعمري فيما
ذكرنا كفاية للمسترشدين، وهداية للمستهدين، وأما الذين هووا في مهاوي الجهل، وعقلوا بعقال الحسد والتعصب عن التمسك بزمام العقل، واشتغلوا بالأغراض واغتروا بالأعراض، فلا ينفعهم اختصار ولا إطناب، ولا كتاب ولا خطاب، فليس لدائهم من دواء إلا السيف والدعاء.
الحمد لله هذي العين لا الأثر
…
فما الذي باتباع الحق ينتطر
وقت يفوت وأشغال معوقة
…
وضعف عزم ودار شأنها الغير
والناس ركضى إلى مهوى مصارعهم
…
وليس عندهم من ركضهم خبر
تسعى بها خادعان من سلامتهم
…
فيبلغون إلى المهوى وما شعروا
والجهل أصل فساد الناس كلهم
…
والجهل أصل عليه يخلق البشر
وإنما العلم عن ذي الرشد يطرحه
…
كما عن الطفل يوماً تطرح السرر
وأصعب الداء داء لا يحس به
…
كالدق يضعف حساً وهو يستعر
وإنما لم تحس النفس موبقها
…
لأن أجزاءه قد عمه الضرر
هذا ما نقلناه من رسالة صاحب تفسير "روح المعاني". وبه يرغم أنف الزائغ النبهاني، حيث تبين به أن الإمام الأشعري على ما عليه السلف، وأن من خالفه من المنتسبين إليه قد غير وحرف، فمصنف "جلاء العينين" إن وافق والده في تلك العقيدة السالمة من وصمة البدع فقد وافق الحق الحقيق بالقبول واتبع، غير أن النبهاني لجهله وإفلاسه من كل فضل يرى أن الحق لم يعده وأن ما هو عليه هو الفصل والعدل.
وأما قوله: وقد سمعت بسبب هذا من بعض علماء مكة كلاماً فظيعاً في حقه- إلخ.
فيقال له: عنه وعن والده هذا الكلام مردود من وجوه:
الوجه الأول: أنا نستفسر من النبهاني هذا ونسأله على فرض صدق كلامه وصحة نقله ونقول له من سلم من لسان الورى، ومن أمن معرة كلام الناس، ومن
الذي اتفق على محبته وموالاته جميع الأنام؟ هذا إله العالمين وخالق السموات والأرضين قد حكى في كتابه الكريم عن أعدائه وما تقوّلوا به في شأنه مالا يخفى على من له بصيرة؛ من ذلك ما كان من اليهود مما هو مذكور في توراتهم، وما هو مذكور في القرآن من افترائهم على الله تعالى، وعلى رسله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد جعلوا داود النبي ولد زنا، كما جعلوا المسيح ولد زنا، ولم يكفهم ذلك حتى نسبوا ذلك إلى التوراة، كما جعلوا ولدي لوط ولدي زنا، ثم نسبوا داود وغيره من أنبيائهم إلى ذينك الولدين، وقالوا إن الله استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض، فأنزل الله تعالى على رسوله تكذيبهم بقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 1. أي: تعب. وقالوا: إن الله فقير وقد حكاه سبحانه عنهم في كتابه الكريم بقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2 أنزل الله تعالى هذه الآية لما قالوا ما بنا إلى الله تعالى من فقر، وأنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا، ولما كان هذا القول منهم في غاية العظم والهول قال "سنكتب قالوا" إلخ. أي: لن يفوتنا أبداً تدوينه وإثباته.
وقالوا: إن الله بخيل ليس بجواد ولا كريم، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فرد عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 3. وقالوا: إن العُزَيْر كان ابن الله، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 4 وقال تعالى:
1 سورة ق: 38.
2 سورة آل عمران: ا 18- 182.
3 سورة المائدة: 64.
4 سورة التوبة:.3.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} 1 وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} ، فرد عليهم بقوله:{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. و {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. وقالوا: إن الله تعالى بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة. وقالوا: إن الله ندم على خلق بني آدم، وأدخلوا هذه الفرية في التوراة. وقالوا عن لوط: إنه وطىء ابنتيه، وأولدهما ولدين نسبوا إليهما جماعة من الأنبياء. وقالوا في بعض دعاء صلاتهم: انتبه كم تنام يا رب! استيقظ من رقدتك! فتجرؤوا على رب العالمين بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحتمي كأنهم يخبرونه أنه قد اختار الخمول لنفسه وأحبائه، فيهزونه بهذا الخطاب للنباهة واشتهار الصيت، وما كان منهم مع موسى عليه السلام فأمر مشهور.
وبالجملة؛ فافتراؤهم على الله ورسله وأنبيائه ورميهم لرب العالمين ورسله بالعظائم كثير جداً، وقد ذكر نبذة منه العلامة ابن حزم في كتابه "الملل والنحل" والحافظ ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى".
وأما ما كان من النصارى، فهو أنهم اعتقدوا أن رب السموات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه، ودخل في فرج امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوط، فالتحم ببطنها، وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو وبول ودم وطمث، ثم خرج إلى القماط والسرير، كلما بكى ألقمته أمه ثديها، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه، وصفعهم قفاه، وبصقهم في وجهه، ووضعهم تاجاً من الشوك على رأسه، والقصبة في يده، استخفافاً به وانتهاكاً لحرمته، ثم قربوه من مركب خص بالبلاء راكبه فشدوه عليه وربطوه
1 سورة المائدة: 8.
2 سورة آل عمران: 183.
3 سورة البقرة: 80.
بالجبال وسمروا يديه ورجليه، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حر الحديد وألم الصلب، هذا وهو بزعمهم الذي خلق السموات والأرض، وقسم الأرزاق والاّجال، ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن مكّن أعداءه من نفسه، لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذاب والسجن في الجحيم، ويفدي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه فيخرجهم من سجن إبليس، فإن روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه.
فهذا بعض كفرهم وشركهم برب العالمين ومسبتهم له، ولهذا قيل إنهم سبوا االله ورسوله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال:"شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس ذلك بأهون عليَّ من إعادته"1.
وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2 وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 3 إلى غير ذلك فن الآيات المشتملة على سوء اعتقادهم في الله.
وأما ما كان من مشركي العرب فقد قال تعالى عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4 وقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 5
1 أخرجه البخاري (3193، 4974، 4975) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 سورة الصفات: 151- 152.
3 سورة المائدة: 72.
4 سورة الأنعام: 100-101.
5 سورة الإسراء: 111.
وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 1 {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2 وقال: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ* وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3 وقال: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً * أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 4وقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 5 وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} 6. وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
1 سورة الفرقان: 1- 2.
2 سورة الأنبياء: 26- 29.
3 سوره النحل: 51- 57.
4 سورة الإسراء: 39- 42.
5 سورة الصافات: 149- 163.
6 سورة النجم:19-27.
عِبَادِهِ جُزْءاً} 1. أي: نصيباً وبعضاً، أو جعلوا لله نصيباً من الولد، تعالى الله عن ذلك، فإن الولد جزء من الوالد، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة بضعة مني"2.
وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال الكلبي: نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس شريكان، فالله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب.
وأما قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} فقيل: هو قولهم: الملائكة بنات الله، وسمى الملائكة جناً لاجتنانهم عن الأبصار، ومن الناس من قال: حيُّ من الملائكة يقال لهم الجن- ومنهم إبليس- وهم بنات الله، وقال الكلبي: قالوا- لعنهم الله- بل بذور تخرج منها الملائكة، وقوله:{وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال الثعلبي: هم كفار العرب قالوا: الملائكة والأصنام بنات الله، واليهود قالوا عزير ابن الله، إلى غير ذلك من المقالات التي سبوا بها فاطر السموات، ولنا كتاب سميناه "آراء بني آدم في إله العالم" لم يكمل بعد، وفيه ترى ما تكلم به الناس في إلههم ومعبودهم عز اسمه.
وأما ما كان من الأمم مع أنبيائهم وما صدر منهم في شأنهم من الأذى والشتم والسخرية وغير ذلك مما حكاه الله في كتابه فذلك لا يستوعبه المقام، وما كان من العرب الجاهليين- ولاسيما قريش- في حق خاتمهم صلى الله عليه وسلم مما تشيب منه لمم المداد، قد فصل في كتب السير والتواريخ.
وقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه "الصارم المسلول" فصولاً مهمة في ذلك فذكر قصة الأعمى الذي قتل أم ولد له كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة كعب بن الأشرف اليهودي، وقصة قتل العصماء بنت مروان من بني خطمة التي هجت النبي صلى الله عليه وسلم وقصة قتل أبي عفك اليهودي لهجائه أيضاً، وقصة ابن أبي سرح وقصة ابن زنيم الديلمي لهجائه أيضاً، وحديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه،
1 سورة الزخرف: 15.
2 أخرجه البخاري (926، 3110، 3714، 3767، 5230، 5278) ومسلم (2449) .
وحكاية قتل ابن خطل، والأمر بقتل من كان يهجوه ويؤذيه من شعراء قريش، وقصة قتل أبي رافع اليهودي لأجل أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصة هلاك المستهزئين، وحديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم عند تقسيمه المغانم ما أحسنت ولا أجملت، وغير ذلك مما آذوه به صلى الله عليه وسلم مما حكى في القرآن، كرميه تارة بأنه شاعر، وأخرى بأنه كاهن، ومرة بأنه مجنون، ونحوها مما مر بيانه، فانتقم الله تعالى منهم، وشفى الله بهم صدور المؤمنين.
وفي كتاب "أعلام النبوة" للماوردي: "فإن قيل: مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم وهم مأمورون بالرأفة والرحمة ومحمد جاء بالسيف وسفك الدماء وقتل النفوس فصار منافياً لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام فزال عن حكمهما في النبوة لمخالفتهما في السيرة.
قال: فالجواب: أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيراً، واللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شراً، لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية، والحقوق الدينية، ولذلك جاء الشرع بالقتل والحدود ليستقر به الخير، وينتفي به الشر، لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة، فكان القهر لها أبلغ في انقيادها من الرغبة، وكانت العرب أكثر الناس شراً وعتواً لكثرة عددهم وقوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أعظم من اللطف وأنفع منه.
ويجاب أيضاً: أنه لم يكن في جهاده بدعاً من الرسل، فقبله إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها، وحاربهم حتى هزمهم بأحزابه وأتباعه. وهذا يوشع بن نون قتل نيفاً وثلأثين ملكاً من ملوك الشام، وأباد من مدنها ما لم يبق له آثر، ولا من أهله صافر، من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم إتاوة، وساق الغنائم، وغزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلاً ولا امرأة إلا قتلهم وهو موجود في كتبهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستدعاء وحارب بعد الإباء.
ثم تكلم بكلام يتعلق بهذا المعنى إلى أن قال: وإنما تطلبت الملحدة بمثل
هذا الاعتراض القدح في النبوات، فإنهم لم يعفوا نبياً من القدح في معجزته والطعن على سيرته، حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بشعر نظفه فقال:
وفالق البحر لم يفلق جوانبه
…
إذ ضاع فيه ضياع الحر في السفل
ومدع يدعي الأشياء خلقته
…
ما باله زال والأشياء لم تزل
وآخر يدعي بالسيف حجته
…
هل حجة السيف إلا لحجة البطل
قال فحضرت حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها بقوله:
قل للذي جاء بالتكذيب للرسل
…
ورد معجزهم بالزيغ والدغل
وقال في ذاك أبياتاً مزخرفة
…
ليوقع الناس في شك من الملل
ضياع موسى دليل من أدلته
…
من بعد ما صار فرق البحر كالجبل
ليعلم الناس أن الله فالقه
…
وأن موسى ضعيف تاه في السبل
ومعجز الخلق في فلق المياه له
…
وجعله البر ما يحتاط بالحيل
وابن البتول فإن الله نزهه
…
عما ذكرت من الدعوى على الجمل
ما كان منه سوى طير يقدره
…
طيناً وربي أحياه ولم يزل
وقال إني بإذن الله فاعله
…
وأذن ربي يحيي الخلق لا عملي
وصاحب السيف كان السيف حجته
…
بعد البيان عن الإعجاز والمثل
وجاء مبتدئاً بالنصح مجتهداً
…
بمعجزات لما حارت أولو النحل
منها كتاب مبين نظمه عجب
…
فيه من الغيب ما أوحى إلى الرسل
فأفحم الشعراء المفلقين به
…
لما تحداهم بالرفق في مهل
وأنبع الماء عذباً من أنامله
…
من غير ما صخرة كانت ولا وشل
وشارف القوم وافاه وكلمه
…
وقال إني من قتلي على وجل
والذئب قد أخبر الراعي بمبعثه
…
فجاء يشهد بالإسلام في عجل
والجذع حن إليه حين فارقه
…
حنين ذات جؤار ساعة الهبل
وأخبر الناس عما في ضمائرهم
…
مفصلاً بجواب غير محتمل
ونبأ الروم عن نصر يكون لها
…
من بعد سبعة أعوام على جدل
والفرس أخبرها عن قتل صاحبها
…
برويز إذ جاءه فيروز في شغل
وإن تقصيت ما جاء النبي به
…
طال النشيد ولم آمن من الملل
انتهى ما ذكره الإمام الماوردي.
وقصص الأنبياء عليهم السلام فيما كابدوه من أممهم مذكورة في كتب التواريخ والتفاسير والسير بما لا مزيد عليه.
فنقول للنبهاني: ألم يكن لصاحب. "جلاء العينين" ووالده في ذلك أسوة حسنة وهل ينقصهم بغض الخصوم شيئاً مما هم عليه من الشرف؟ كلا.
من كان فوق محل الشمس رتبته
…
فليس يرفعه شيء ولا يضعه
وقد علمت أيها النبهاني ما كان من عاقبة أعداء الله وخصوم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف فرق جمعهم، وشتت شملهم، ومحا ذكرهم، وأذل قدرهم، فإذا كان الله ورسله عليهم السلام كما ذكرنا فليس من الغريب أن يصادف ورثة رسله ما صادفوا، وما أحسن قول القائل:
قيل إن الإله ذو ولد
…
قيل إن الرسول قد كهنا
ما نجا الله والرسول معاً
…
من لسان الورى فكيف أنا
ويقال للنبهاني أيضاً: أما سمعتَ ما قال الروافض في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طعنوا به فيهم؛ هل لحق الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين مما قالوه وافتروه نقص؟ كلا؛ بل رفع الله تعالى درجتهم بسبب بغض الروافض لهم وطعنهم عليهم، وزاد الروافض بذلك بعداً عن الله ومقتاً، وباؤوا بغضب منه، وهكذا أعداء أهل الحق في كل عصر 1.
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
1 للمصنف رحمه الله كتاب ماتع في هذا الباب، وهو:"صب العذاب على من سب الأصحاب" طبع حديثاً بدار أضواء السلف بالرياض.
واعلم أن ما ينقله الروافض عن الصحابة من المثالب نوعان:
أحدهما: ما هو كذب، إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما أخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب لكلبي، وأمثالهما من الكذّابين.
النوع الثاني: ما هو صدق، وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنباً محققاً فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة، ذكر ذلك الشيخ "في المنهاج" وبيّن الأسباب المزيلة للذنوب، وذكر أصولاً جامعة نافعة في هذا الباب، وما ذكره صادق على أعداء علماء الدين وحفاظ الموحدين.
فإن النبهاني وأضرابه الغلاة لم يزالوا يتكلمون بكلام موافق لكلام الروافض، وهكذا الكلام في النواصب والخوارج وما كان منهم من التجاوز على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، ولم ينتقص به من قدر الأمير شيء، ولا لحقه وهن من ذلك، وما تكلم به النبهاني وأضرابه في شأن خصومهم بالنسبة إلى ما تكلم به أعداء الصحابة وخصومهم كنغبة من داماء، وجرعة من بحر ماء، فهو لا يورث طعناً إلا لجاهل منقوص، ولا يؤثر في البنيان المرصوص.
الوجه الثاني: أن يقال للنبهاني: إن ما كان من الطعن والبغض لمصنف "جلاء العينين" ووالده فهو لا شك من القبوريين الغلاة، بسبب ما لحقهم من هدم بنيانهم وإبطال برهانهم، لا لذنب صدر ولا لجناية لا تغفر، بل إذا كان الذنب متعلقاً بالله ورسوله فهو حق محض لله، فيجب على الإنسان أن يكون في هذا الباب قاصراً لوجه الله متبعاً لرسوله، ليكون عمله خالصاً صواباً، قال تعالى:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1 وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 2.
قال المفسرون وأهل اللغة معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله، وهو محسن في عمله، وقال الفراء في قوله تعالى:"فقل أسلمت وجهي لله" أخلصت عملي، وهذا المعنى يدور عليه القرآن، فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر. "والأول" هو إخلاص الدين والعمل لله "والثاني" هو الإحسان؛ وهو العمل الصالح، ولهذا كان عمر يقول في دعائه:"اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً" وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3 قال:"أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي؛ ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً".
والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هما أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقاً للأمر، وفي الحديث:"من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه " فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم مع الأمر، فإن لم يكن عالماً لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالماً ولم يكن رفيقاً كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ
1 سورة البقرة: 111- 112.
2 سورة النساء: 125.
3 سورة الملك: 2.
الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى لموسى وهرون:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 1 ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 2.
وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك خطيئة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً، ثم إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نسب إلى أنه مخطىء، وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم وإن كان جاهلاً سيّىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 3 فإذا لم يكن
1 سورة طه: 44.
2 سورة لقمان:17.
3 سورة الأنفال: 39.
الدين كله لله كانت فتنة، إذا عرفت ذلك كله عرفت منشأ الذم والبغضاء من الغلاة لخصوصهم في كل عصر، فحينئذ يسقط كل ما ذكره النبهاني في هذا الباب.
الوجه الثالث: وهو موضح للوجه الذي قبله وتتمة له- أن أصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة لله، والعبادة لله، والمعاداة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله، وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، ومعاداته معاداة الله، وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون- مع ذلك- معه شبهة دين أن الذين يرضى له ويغضب له هو السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً أو لغرض من الدنيا؛ لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل، وسنة وبدعة؟ ومع خصمه حق وباطل، وسنة وبدعة، وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وكفر بعضهم بعضاً، وفسق بعضهم بعضاً، ولهذا قال الله تعالى فيهم {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 1 وقال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} 2 يعني فاختلفوا كما في سورة يونس، وكذلك في قراءة بعض الصحابة، وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام، وفي تفسير عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على الكفر، وهذا ليس بشيء، وتفسير عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس، بل قد ثبت
1 سورة البينة: 4- 5.
2 سورة البقرة: 213.
عنه أنه قال: كان بين آدم ونو5 عشرة قرون كلهم على الإسلام وقد قال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} 1 فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقاً.
والاختلاف في كتاب الله على وجهين:
أحدهما: أن يكون كله مذموماً كقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} 2.
والثاني: أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 3 لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم، كقوله {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} 4.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم"5.
ولهذا فسّروا الاختلاف في هذا الموضح بأنه كله مذموم، قال الفراء: في اختلافهم وجهان: "أحدهما" كفر بعضهم بكتاب بعض. "والثاني" تبديل ما بدلوا، وهو كما قال، فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل ما بدل، فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين.
1 سورة يونس: 19.
2 سورة البقرة:176.
3 سورة البقرة: 253.
4 سورة هود: 118- 119.
5 أخرجه مسلم (1337) .
ولهذا ذكر كل من السلف أنواعاً من هذا:
أحدها: الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الاجتماع، فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة فعدلت عنه الطائفتان، فهذه أخذت السبت، وهذه أخذت الأحد، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له: الناس لنا فيه تبع، اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى"1. وهذا الحديث يطابق قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} 2.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"3.
والحديث الأول يبين أن الله تعالى هدى المؤمنين لغير ما كان فيه المختلفون، فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وهو مما يبين أن الاختلاف كله مذموم.
والنوع الثاني: القِبلة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، وكلاهما مذموم لم يشرعه الله تعالى.
والثالث: إبراهيم، قالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى. كان نصرانياً، وكلاهما كان من الاختلاف المذموم:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4.
1 أخرجه البخاري (238، 876، 896، 2956، 3486، 6624) ومسلم (855) .
2 سورة البقرة: 213.
3 أخرجه مسلم (770) .
4 سورة آل عمران: 67.
والرابع: عيسى؛ جعلته اليهود لعبة، وجعلته النصارى إلهاً، تعالى الله عن إفكهم علواً كبيراً.
والخامس: الكتب المنزلة؛ آمن هؤلاء ببعض، وهؤلاء ببعض.
والسادس: الدين، أخذ هؤلاء بدين وهؤلاء بدين.
ومن هذا الباب، قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} 1.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى. فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي قبلها"2.
واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط، فالخارجي يقول: ليس الشيعي على شيء، والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء، والقدري النافي يقول: ليس المثبت على شيء، والقدري الجبري المثبت يقول: ليس النافي على شيء، والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء، والمرجئة تقول: ليست الوعيدية على شيء.
بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة، فالكلابي يقول ليس الكرامي على شيء، والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء، والأشعري يقول ليس السالمي على شيء، والسالمي يقول ليس الأشعري على شيء، وصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتاباً في مثالب الأشعري، وصنف الأشعري كابن عساكر كتاباً يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه
1 سورة البقرة: 113.
2 أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام "(1/ 549) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 513/ 1811) وابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/208/ 1103) .
مثالب السالمية، وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لاسيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب الشافعي ومالك وأحمد شيئاً من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئاً من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة، وهذا من جنس الرفض والتشيع، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة.
والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، يدور معه على ذلك ويتبعه أين وجده، ذكر ذلك كله الشيخ، ثم إنه أطال الكلام وأتى بما تلتذ به المسامح والأفهام.
فما ذكره النبهاني ونقله عن دعواه من بعض المكيين هو من هذا القبيل، فإن كل أحد يتعصب لما تمذهب به ويتشيع لأقوال أئمته ومتبوعيه فلا شك أن الغلاة القبوريين هم أعدى الناس لمن تصدى لإبطال أقوالهم ورد مذهبهم، ومن المعلوم أن مصنف "جلاء العينين" وسلفه داروا على الحق وتبعوه، حيث قصدهم توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتفتوا إلى ما خاض به الخصوم، قال تعالى:{قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 1.
ومن ظن ممن يلاقي الحروب
…
أن لا يصاب فقد ظن عجرا
ومن كان قصده رضى الله عنه والفوز بثوابه والخلود بنعيمه لم يلتفت إلى أقوال الناس، فقد سبق لك ما كان من الفرق الإسلامية وغير الإسلامية، بل وأتباع المذاهب بعضهم مع بعض، ولولا ضيق المقام لذكرنا بعض أقاويلهم في مخالفيهم، وما أحسن قول القائل:
فيا ليت ما بيني وبينك عامر
…
وبيني وبين العالمين خراب
1 سورة الأنعام: ا 9.
إذا صح منك الود فالكل هين
…
وكل الذي فوق التراب تراب
الوجه الرابع: أن النبهاني لم يصرح بما سمعه من الطعن والقدح حتى نتكلم عليه، والظاهر أن ذلك ما يقوله بعض غلاة العراقيين كابن جرجيس وأتباعه من أنه كان على طريقة الوهابيين، وسبب ذلك أن ابن جرجيس هذا كان من غلاة الشافعية فاعترض على عبارة في كتاب "الطراز المذهب" لوالد مصنف جلاء العنين وأفرد للاعتراض رسالة هذى فيها بما تمجه الأسماع مما يتعلق بالاستغاثة والاستعانة ودعاء غير الله، فرآها صاحب جلاء العينين بعد وفاة والده- وهو إذ ذاك شاب - فكتب على تلك الرسالة رداً ألقمه به حجر السكوت، وسماه "شقائق النعمان على شقاشق ابن سليمان" يعني به داود بن جرجيس بن سليمان العاني، وكان من الجهل على جانب عظيم، ومن التجاسر على التحريف والتدليس، ما يعجز عن مثله إبليس، وقد فضحه الله تعالى بهذا الرد، وقد قرظ عليه العلماء، منهم الفاروقي شاعر عصره بقوله:
شقاشق ابن سليمان أصغت لها
…
صضمعا فأسمعني تعبيرها القججا
ومن شقائق نعمان عليه بها
…
ما منه أظهر عن إفصاحه البججا
وقال أيضاً:
مزامير داود النبي لنا بها
…
غنى عن سماع في شقاشق داود
فدع عنك يا نعمان رد اعتراضه
…
ولا ترمه إذ جاء يعوي بجلمود
وقال أيضاً:
شقاشق لابن سليمان قد
…
حكت غداة الطعن يوم الكفاح
كتيبة خضراء مهزومة
…
شقائق النعمان فيها جراح
وداود هذا هو الذي قال في كتابه صلح الإخوان أو غيره- بعد أن ذكر عدة شبه من شبهه على جواز التوسل بسائر الحيوانات، وإثبات الجاه الكثير لجملة من الجمادات- وأعظم من ذلك وأوضح دلالة ما ذكره الفقهاء في باب الاستسقاء للتوسل بها إلى الله تعالى، وقال أيضاً: لا يخفى عليك مما قدمنا أن التوسل
بالجمادات والحيوانات قد وقع في الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة عن الصحابة والتابعين، والسلف الصالحين، مما يضيق عنه نطاق الحصر. انتهى.
وكان لم يزل يهذي بمثل هذا الهذيان إلى أن أهلكه الله، ومصنف "جلاء العينين" كان سيفاً في عنقه، كم قد بحث معه فألقمه حجر السكوت، فكان هذا الزائغ وشيعته لم يزالوا يذكرونه بالألقاب المنكرة، فيقولون: إنه وهابي ومنكر، ونحو ذلك.
وكان من المنقمين علية الحاسدين له من أهل بلده آل جميل، وهم كلهم جهلة لا يميزون بين يمينهم وشمالهم، لا دين لهم، ولا يصلون، ولا يصومون، ولا يزكون، ولا يؤدون فرضاً من فرائض الله، وكان دأبهم السعي على المسلمين، والتزوير والافتراء والدعاوى الكاذبة، ومع ذلك كانوا يتزيون بزي العلماء، وهم أجهل الناس، وكانوا من أعظم الخصوم لمصنف جلاء العينين، وأشد الناس عداوة للذين آمنوا، ولم يزالوا يسعون به إلى الحكومة، ويفترون عليه أموراً لم تخطر ببال أحد، حتى أبادهم الله وأهلكهم، ولم يبق منهم اليوم على ما أعلم إلا بعض أطفال وسفهاء أحلام، ولا شك أن الله تعالى ينتقم من أعداء رسله وورثة أنبيائه، ولولا ضيق المقام لبسطنا الكلام في أحوال هذه العائلة الخبيثة، فإني قد بلغني مفصل أحوالهم وما قال فيهم شعراء بلدهم، وهم أيضاً من أهل عانات، ثم سكنوا بغداد، وقبل سنين ادعوا النسب القادري فكذبهم أهل بغداد في مجلس انعقد في حضور والي البلد، ورأوا يومئذ من الخزي. ما هم أهل له،- ومن جملة من شهد عليهم بذلك مصنف "جلاء العينين" وغيره من أكابر البلد وعلمائها، فعادوا كل من شهد عليهم.
والحاصل: أن أعداء أهل الحق كثيرون، وأزهد الناس بالعالم جيرانه وأهل بيته، كما ورد في ذلك الخبر الصحيح، ولعل المكي الذي تكلم بما تكلم في شأن مصنف "جلاء العينين" ووالده كان ابن دحلان أو بعض شيعته، فقد كان أيضاً من أعظم الناس غلواً في دعاء المخلوقين، وقد تكلم في كتابه على والد مصنف جلاء العينين في نقله عن القدوري في مسألة سؤال الله بأحد من خلقه وكذب نقله حسداً
من عنده أو جهلاً منه، وإلا فمن له أدنى إلمام بالعلم يعرف صحة ذلك النقل، وهو مذكور في كتابه بعبارة صحيحة على ما سبق، والعالم الجليل لا يخلو من حاسد وخليل، بل ترى كثيراً من الناس أخلاء، وهم في الحقيقة خلاء، وأجلاء وهم عند التأمل لا خلاء ولا ملاء، يظهرون الصلاح والوداد ويخفون- أخفاهم الله تعالى- العداوة والفساد، فلا فرج الله عنهم هماً، ولا حمد لهم بين الأنام اسماً، ولا حسن لهم حالاً ولا أصلح لهم مآلاً.
كل خليل كنت خاللته
…
لا ترك الله له واضحة
كلهم أروغ من ثعلب
…
ما أشبه الليلة بالبارحة
حسدوا فذموا، ومن يغب عن أبصارهم غابوا ونموا، ولا بدع فالكريم إذا غاب غيب، وإذا هاب هيب، على أن في ذمهم شهادة بالكمال، وإثباتاً لمزيد الفضل والإفضال، فزادهم الله تعالى حسداً، وأماتهم كدراً ونكداً، وما أحسن ما قال القائل:
أيها الحاسد المعد لذمي
…
ذم ما شئتَ رُبَّ ذمٍّ كحَمْدِ
لا فقدت الحسود مدة عمري
…
إن فقد الحسود أخبث فقد
كيف لا أوثر الحسود بشكري
…
وهو عنوان نعمة الله عندي
هذا وشرح الكلام لا يسعه أمثال هذا المقام.
وبالجملة: إن من ذمه الله ورسوله فهو المذموم، ومن رضيا عنه فهو المرضي، ومن حكما بعدالته فهو العدل.
قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى في أثناء كلام له: "إن الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل، فالكافر من جعله الله ورسوله كافراً، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقاً، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً، والعدل من جعله الله ورسوله عدلاً، والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها،
والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله، والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين، والذي يقتل حداً أو قصاصاً من جعله الله ورسوله مباح الدم بذلك، والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقاً لذلك، والمستحق للموالاة والمعاداة من جعله الله ورسوله مستحقاً للموالاة والمعادة، والحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فهذه الأمور كلها ثابتة بالشرع" انتهى.
فما قاله النبهاني إن صدق فيه فهو مما لا يلتفت إليه، وقد ذكرنا ما كان عليه مصنف "جلاء العينين" ووالده من صحة العقيدة، وصدق النية، واتباع السنن، والعمل بما شرعه الله من الأحكام والسيرة السلفية، والذب عن الدين ومخاصمة أعدائه، والرد على خصومه، وكل ذلك مما جعله الله ورسوله من أدلة النجاة وقبول العمل، والتزكية لديه، والعدالة المرضية عنده، وأقوى برهان على الرضوان والفوز بالجنان والنجاة من النيران، ثم بعد هذا يقال وقد راعى القائل مقتضى الحال:
قل للذي يذكرني
…
بين الملا من البشر
من قال خيراً يلقه
…
ومن يقل سراً فسر
نعم إن النبهاني أبهم جرحه وأخفى قدحه ليهول به على السامعين ويعظمه على المطالعين، ومن شدة الظهور الخفاء كما هو شأن الشمس في وسط السماء، وقد قيل: لا بد للود والبغضاء من سبب كما هو المعلوم لذوي الأدب،. وذلك هو الذي لم يزل يكرره في كلامه ألا وهو الانتصار لابن تيمية في اختياراته وفي مسألة منعه من أعمال المطي لزيارة القبور الذي دل عليه الحديث الصحيح، وهذا هو الذنب الذي لا يغفر، والعيب الذي لا يستر عند النبهاني وأضرابه، والقائل به مجروح، والمنتصر له مقدوح، ومن المعلوم لدى المنصفين الواقفين على مقاصد الشرع المبين؛ أن ذلك لا يستوجب الكلام الفظيع، والقدح الشنيع، بعد أن تبين أن هذه المسائل هي أعلى مقاصد الدين، وأنها ثابتة بالنصوص القرآنية وسنة سيد
المرسلين، وقد علمت أن مدار المدح والقدح على الشريعة الغراء، فنسأله سبحانه الرضوان والعفو يوم الجزاء.
الوجه الخامس: قد صح في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنتم شهداء الله في الأرض ". وقال: "يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار" قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن، والثناء السيىء"1. فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار، وكان أبو ثور يقول: أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة ويحتج بهذا. وهذا على قول من يقول يشهد بالجنة لمن شهد له المؤمنون، ولكل مؤمن جاء فيه نص، ومنهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء، وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي، ومنهم من يقول يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص، وهذا قول كثير من أهل الحديث، فهذه ثلاثة أقوال لهم في الشهادة بالجنة، والكلام عليها مفصل في غير هذا الموضع، والقول الأول هو المشهور، وعليه جماعة من الجمهور، فإذا كان الثناء الحسن والحمد والمدح مما يعلم به عدالة من أثني عليه وحمد ومدح وأن ذلك دليل على القبول عند الله والفوز برضوان الله تعالى والفوز بجنانه علمنا بذلك أن مصنف "جلاء العينين" ووالده كانا ولله الحمد من خيار عباد الله الصالحين، والعلماء العاملين، فقد رأيت كتاباً بمجلدين ضخمين ألّفه بعض فقهاء شافعية بغداد في مناقب العلامة المفسر الشهير صاحب تفسير "روح المعاني" قدس الله روحه، سماه مؤلفه "حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين السيد محمود" ذكر فيه مؤلفه نسب المترجم وما حصله من الفنون والعلوم، وما جرى له من المباحث والمناظرات مع علماء عصره، وما وردته من دقائق المسائل، وما أجاب به عنها، وما ورد له من الكتب والرسائل من الأقطار والبلاد، وما قالته الشعراء فيه من المدائح، وما صادفه مدة عمره من التبجيل والاحترام من أهل السنة ومشاهير أتباع المذاهب، وما رثاه به العلماء والأدباء والشعراء المفلقون نظماً ونثراً مما لم يصادف مثله في هذه العصور، وذكر مشائخه ومن أخذ عنهم من المشائخ ومن أخذ عنه، وما له من المصنفات وبدائع المحررات، وما
1 أخرجه ابن ماجه (4221) وحسّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(3400) .
كان عليه من التقوى والورع والجد في العبادة والمجاهدة قي الدين والذب عنة، وغير ذلك مما يدل دلالة صريحة على أنه كان من أكابر العلماء العاملين، وعباد الله الصالحين، رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن كافة علماء المسلمين.-
وقد قرظ هذا الكتاب- أعني "حديقة الورود"- جمع من أدباء العصر، ومشاهير الشعراء، منهم الشاعر الشهير، ومن عزله النظير، الأديب الفاروقي عليه الرحمة بقوله:
وغادة قد أكسبت عادة
…
مهما تقل فإنها صادقة
وإنها مثل حذام بما
…
تقوله أولو النهى واثقة
فصيحة مستعذب لفظها
…
أشعارها جزيلة رائقة
أبو الثنا مفتي الورى كفوها
…
ليست لحبر غيره لائقة
وكم له من شيمة أصبحت
…
شمس السنا لحسنها عاشقة
وفيك يا محمود قد أرخوا
…
ترجمة أحبب بها فائقة
وقد أرَّخَهَا أيضاً الأديب الأريب الشيخ عبد الحميد الأطرقجي أحد شعراء العراق بقوله:
حديقة قد صدحت أطيارها
…
باسم الشريف السيد محمود
ومن يداه سفحت أنهارها
…
إذ هي قاموس الندى والجود
ومن نداه لقحت أشجارها
…
وأثمرت باللؤلؤ المنضود
ومن شذاه نفحت أزهارها
…
طيباً كأنفاس أريج العود
ومن سناه لمحت أقمارها
…
نوراً سرى في سائر الوجود
أنبتها مفتي الورى حتى غدت
…
بالحسن تحكي جنة الخلود
واقتبست من طبعه فأرخوا
…
طبعاً زهت حديقة الورود
وأرخها أيضاً واحد الشعراء الأديب الفاضل السيد شهاب الموصلي عليه الرحمة بقوله:
طلعت في أوج مجد طلعة
…
فأرتني الشمس منها مغرمة
فتنتني والذي صورها
…
من جمال منه روحي هائمة
عللتني بكلام لين
…
ينعش ويحيي رممه
وأشارت وسناها ساطع
…
في شهاب الدين أسنى ترجمه
هي أم للاغاني صيرت
…
نزهة الدنيا لديها كالأمة
روضة غناء يزهو زهرها
…
من معان في علاه عائمة
لربيع الفضل فيها بهجة
…
تشرح الصدر وتبري سقمه
أنبتت من كل مدح رائق
…
قد سقاه بالعطايا الدائمة
حاتمي الجود وكفا كفه
…
راح يروي عن عطاه عكرمة
حيدر والده أن ينتمي
…
أمه الزهراء حقاً فاطمة
خصه الله بمعنى جاذب
…
لقلوب الناس حباً ألزمه
خف روحاً ورجيح فضله
…
لا يوازي الشعر قدراً قيمه
وافق الغيب سداداً رأيه
…
يحسم الخطب ويمحو ظلمه
والفتاوى وجدت أحكامها
…
منذ شدت في عراه المحكمة
قد أعز الدين علماً وتقى
…
وأذل الجهل حتى أعدمة
عالم الدنيا إليه يلتجي
…
كل علم حيث أضحى علمه
والصدور العلما قد أرخوا
…
أصدر المحمود نعم الترجمة
إلى غير ذلك من تقاريظ أكابر العلماء وأفاضل العصر مما لو جمع لكان سفراً كبيراً.
ولما كان كتاب "حديقة الورود" مطنباً مفصلاً جداً؛ لخصه أجلّ تلامذة المترجم، وأحد العلماء الأعلام، شيخ الكل في الكل، الشيخ عبد السلام، أحد أكابر الشافعية في بغداد، درس نحو خمسين سنة في المدرسة القادرية، وكان جنيد زمانه صلاحاً وعفة وديانة، وعقر ما يزيد على ثمانين سنة، وله التصانيف المفيدة، وسمى رحمه الله تعالى ما لخصه "أريج الند والعود في ترجمة شيخنا العلامة أبي عبد الله شهاب الدين السيد محمود"، وهذه خطبة كتابه:
"بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله المحمود بكل لسان، الموصوف جل
شأنه بفنون المحامد "وصنوف الإحسان، والصلاة والسلام على أكمل الخليقة، ومن غدا شريف مدحه مجازاً للوصول إلى عين الحقيقة، وعلى آله وأصحابه المترجمين بألسنة سيوفهم عن الحق المبين والمتأدبين بآدابه.
أما بعد؛ فيقول العبد المفتقر إلى خفي الألطاف، مدرس الحضرة القادرية عبد السلام المنتمي إلى الشواف، إن كتاب "حديقة الورود في ترجمة حضرة شيخنا العلامة أبي الثناء شهاب الدين محمود" وإن تضمن من أزهار مدائحه قدست روحه كل منقبة عالية، وتكفل من نشر أريج فضائله بكل فضيلة غالية، قد انتظمت في سلكه الدراري والدرر، وأزهرت في رياضه ورود البلاغة ولا زهر الخمائل غب المطر، من نظم رق وراق، ونثر سما وفاق، قد اعتصر من عناقيد الإبداع، فلم يتفق مثله في عصر ومصر من حقائق الاختراع، فانتشى به عقل الدهر، غير أنه لطوله لا يقف الناظر فيه على مجمل خصال الممدوح، ولا يتضح للواقف أنموذج شمائل المترجم كمال الوضوح، فأحببت أن أحرر شريف ترجمته على سياق التراجم المعتادة في كتب التواريخ على سبيل الإجمال، وأكتب في هذه الأوراق ملخص فضائله على طرز بيان فضائل الفضلاء بموجز من المقال، ولعمري إني لا أقدر أن أؤدي ما يليق بشأنه، والحري بعلو قدره وعرفانه.
ولو أن ثوباً حيك من نسج تسعة
…
وعشرين حرفاً في علاه قصير
فنظمت هذه العقود، وقلت غير مكترث بحسود، متوكلاً على ذي الكرم والجود: إن شيخنا- طيب الله ثراه. وجعل الفردوس الأعلى مستقره ومثواه- هو المولى الحبر، ذو الفضل الممدود، أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود، نجل الفاضل النقي، والزاهد التقي، الحليم الأواه، مولانا السيد الحاج عبد الله، نجل الطيبين الطاهرين بلا اشتباه، حتى تنتهي سلسلة نسبه الشريف إلى حضرة جده الأعلى سيد العالمين، صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين، وقد كان عليه الرحمة آية من آيات الله في جميع العلوم، وأعجوبة من عجائب الدهر في المنطوق منها والمفهوم، علامة دهره في المعقول والمنقول، وفهامة عصره في الفروع والأصول.. إلى آخر ما قال من العبارات المزرية بعقود
اللالىء، وهي رسالة مفيدة، حوت على اختصارها المسائل الفريدة، وقد ترجمه كثير من الفضلاء، وأثنوا عليه بأحسن الثناء.
وأما ولده مصنف "جلاء العينين" رحمه الله تعالى ففضله مشهور، وعلم علمه على كاهل الأعلام منشور وفي الأقطار والبلاد مذكور، ومن المعلوم لدى كل أحد أن ماء الورد من الورد، والشبل في المخبر مثل الأسد، وقد ترجمه كثير من الأفاضل والأدباء وأثنوا عليه خيراً، وبلغني أنه قد جمع ما ورده من المدائح الشعرية والمقالات النثرية وما كان من ثناء أفاضل عصره من أهل مصره وغير مصره في مجموع مفرد، ليس له ثان في العدد، ولو كنت ظفرت به لنقلت منه ما تتحلى به المسامع والأفواه، وتلتذ بذكره الألسنة والشفاه، وذلك ما عدا ما قرظوا به كتبه، كتقاريظ "الشقائق" و"جلاء العينين" و"غالية المواعظ"، و"القول الفسيح في الرد على عبد المسيح مجلدين ضخمين في الرد على النصارى، وغير ذلك من المآثر الحميدة، والمناقب السديدة، مما يضيق عنه نطاق البيان، وتكل من نقله البنان.
وبالجملة؛ فما كان من ثناء العدول الثقات على مصنف جلاء العينين ووالده أوضح دليل على أنهما كانا من المقبولين عند الله تعالى، وأنهما من العدول الأخيار وقد نفع الله بكتبهم الأمة وانتشرت في جميع بلاد المسلمين، كما هو مشاهد ومحسوس لدى كل منصف، مع أنا في عصر ركدت فيه ريح الفضل، وانصرفت أفكار كثير من الناس عن الفضائل الدينية، والكمالات الإيمانية، بل إن من أنصف اعترف أن ليس في العراق من بيوتات العلم غير بيتهم، فأبناء هذا البيت اليوم قد قام على مآثرهم فسطاط الدين في العراق، كما يدلك على ذلك ما انتشر من مصنفاتهم وآثارهم الجيدة، نعم نرى في العراق كثيراً من أهل العمائم غير أنهم أعظم بلاء على الدين المبين، وأما أحسن ما قال القائل من أفاضل الأماثل:
لا تغرنك اللحى ولا الصور
…
تسعة أعشار من ترى بقر
في شجر السرو منهم شبه
…
له رواءه وما له ثمر
وليس في بلدهم من يطاولهم في فن من الفنون، وكلهم مكبون على تحصيل العلم ونشره، معرضون عن الدنيا وزخارفها، ليسوا بمنهمكين عليها كغيرهم من المنتسبين إلى العلم.
والحاصل أنهم وأسلافهم ممن يفتخر بمثلهم أهل انصاف من فضلاء المسلمين.
قال الفاروقي رحمه الله تعالى في كتابه "العقود الجوهرية" بعد أن ذكر ترجمة بعض أفاضلهم: اعلم أن هذا البيت لا تجري فيه سفن لو أن وعسى وليت.
بيت من المجد شادوه على كرم
…
وبالمجرة مدوه على طنب
أما والده- يعني المفسر الشهير صاحب روح المعاني رحمه الله فكان في الزوراء واسطة عقد الفضلاء والبلغاء، وناديه مجتمع العلماء والأدباء، حيث كانت له صلابة في الدين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وعمل في حلم، وقصد في غنى، وخشوع في عبادة، وتجمل في فهم، وصبر في شدة، وطلب في حلال ونشاط في هدى، وتحرج عن طمع، قرأت عليه بعضاً من المنطق والنحو وغير ذلك ومدحته بعدة قصائد، هي لجيد الزمان قلائد، وكاتبني وكاتبته لما كان في بلدة فروق مكاتبة الشائق إلى المشوق، وذكر جملة ذلك في رحلته "نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول" وكتاب "تزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب" وذكرها الغير في كتاب "حديقة الورود في مناقب أبي الثناء شهاب الدين محمود" فكم قطفت من شقائق نعمانها، ما يفوق من الرياض على ريحانها، وأما أبناؤه فرحم الله الماضي منهم ووفق الباقين إلى ما فيه صلاح الدنيا والدين، فإنهم بحمد الله كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، وكعز إلى السماء لا تميز منها فاها.
أيا لقيت تقل لاقيت سيدهم
…
مثل النجوم التي يسري بها الساري
وإني كنت معهم في حياة والدهم رحمه الله وبعد وفاته خلاً وفياً، وحبيباً
صفياً، آنس بهم كما يأنسون بي، وأستر بقربهم مثل ما يسترون بقربي، أستنشق من محادثتهم ريح الكمال، وأقرط آذاني بما تنشر أقلامهم من الدراري وشفاههم من الأقوال، ولا زلت أجتمع بهم في بغداد، وأفرج برؤيتهم غمتي في ذلك الناد، كما أن المترجم اليوم في القسطنطينية تهزه لعلو المقام هاتيك الأريحية ولا برحت هنا أيضاً أنزه ناظري بتلك الطلعة الزكية، والغرة الهاشمية، لا زال قطباً تدور عليه رحى أفاضل العصر وأكابر كل مصر" انتهى.
فهل سمعت أيها الشيخ النبهاني ما تلوناه عليك، وقدمناه بين يديك، فأين بقي قولك الباطل، وكلامك العاطل، فما أنت والعلماء الأخيار، وما أنت والسادة الأبرار، أما بلغك ما قيل. رحم الله امرأً عرف قدره، ولم يتعد طوره؟ أما سمعت من حملة العلوم أن لحم العلماء مسموم؟ فما جوابك إذا قال قائلهم:
إلى حكم أشكو ظلامة معتد
…
هو العدل كم أردى ظلوماً وجندلا
ثم إن الذي أوجب تطاول النبهاني انحطاط العالم الإسلامي- والأمر لله تعالى- إلى ما تراه العيون، مما كنا نظن أن لا يكون، فتنة بعد فتنة بعد أخرى وبلاء بمثله مقرون، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} 1. أن المراد "بفوقكم" أي الأمراء السوء، وبقوله: "أو من تحت أرجلكم" أي من قبل سفلتكم.
فتطاول السفلة والسفهاء على أخيار العلماء هو من علامات غضب الله على عباده، فلهذا كان من النبهاني ما كان، مع ما هو عليه من الغرور والجهل، وظنه أنه قد خلا له الجو.
وإذا ما خلا الجبان بأرض
…
طلب الطعن وحده والنزالا
وقد جرت عادة الله تعالى بمثل معاداة النبهاني وأضرابه لأهل الحق، ولذلك
1 سورة الأنعام.65.