الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ازداد بباطله غراماً:
وذي سفه يواجهني بجهل
…
فأكره أن أكون له مجيباً
يزيد سفاهة فأزيد حلماً
…
كعود زاده الإحراق طيباً
وحاله هذا حال إخوانه وسلفه، إذ حكى الله تعالى عنهم ما حكى في كتابه الكريم، قال عز من قائل:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1 ولنضرب عن كلامه هنا صفحاً اكتفاء بما سبق منا.
1 سورة البقرة:120.
[الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم]
وكتاب "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان " هو كتاب مشهور من كتب السنة، أودعه مؤلفه رحمة الله مهمات المطالب، وأبطل به حبائل الشيطان ومصائده، ودسائسه ومكائده، فلا بد إن نفرت منه جنوده، واضطربت منه أعوانه وأولياؤه، والله لا يصلح عمل المفسدين.
قال النبهاني في فصل ذكره بعد كلامه السابق: وليت ابن القيم زاد في كتابه المذكور فصلاً قال فيه: ومن مصائده أنه يسول إلى بعض العلماء الغلو في الدين، ويحسن تضليل المسلمين بالاستغاثة والزيارة لقبور الأنبياء والصالحين، ويدخل عليهم بحيله الشيطانية، أن في ذلك شركاً برب العالمين، والأمر على خلاف ما أوحاه إليهم هذا اللعين، فقد أضر بهم ضرراً فاحشاً في الدين، إلى آخر هذيانه.
جوابه أن يقال: من قبل من يوحد الله ولا يشرك بعبادته أحداً- اخسأ يا عدو الله؛ إن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي، والذي أضر بالمسلمين عبادتهم للقبور، وتلاعبهم بما يعملون في المشاهد والزوايا من المنكرات، وأعراضهم عما استوجبته شريعتهم من اكتساب ما يستوجب السعادتين، فيا أيها الداعي لعبادة
غير الله تعالى كلامك هذا دل عليك أنك من جند إبليس، بل قد ارتقى بك الحال حتى صار إبليس من جندك، كما قيل في أخيك ومن يشابهك ويضاهيك:
وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده
فنحن بحمد الله لم نزل ممتثلين لما ورد من الأوامر في الشريعة الغراء، منتهين عما نهى الله عنه ورسوله وسائر الأنبياء، لا ندعو غير الله، ولا نسأل في المهمات سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1.
فنحن عند المهمات نقول: اللهم يا من تحل به عقد المكاره، ويا من يسكن به حد الشدائد، ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج، ذلت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب، وجرى بقدرتك القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة، أنت المدعو للمهمات، وأنت المفزع في الملمات، لا يندفع منها إلا ما دفعت، ولا ينكشف منها إلا ما كشفت، فلا مصدر لما أوردت، ولا صارف لما وجهت، ولا فاتح لما أغلقت، ولا مغلق لما فتحت، ولا ميسر لما عسرت، ولا ناصر لمن خذلت.
وحيث أن ما ذكره النبهاني هو وحي شيطاني، قال تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 2 وقال تعالى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 3 وجب أن نستعيذ منه، فإن شياطين الإنس أشد ضرراً من شياطين الجن. فنقول: اللهم إنا نعوذ بك من نزغات الشيطان الرجيم ومكائده، ومن الثقة بأمانيه ومواعيده، وغروره ومصائده، وأن يطمع نفسه في إضلالنا عن طاعتك، وامتهاننا بمعصيتك، وأن يحسن عندنا ما حسن لنا، وأن يثقل علينا ما كره إلينا، اللهم اخسأه عنا بعبادتك، واكبته بجدنا في محبتك، واجعل بيننا وبينه ستراً لا يهتكه، وردماً مصمتاً لا يفتقه، اللهم أشغله عنا ببعض
1 سورة آل عمران: 85.
2 سورة الأنعام: 121.
3 سورة الأنعام:112.
أعدائك، واعصمنا منه بحسن رعايتك، واكفنا خطره، وولنا ظهره، واقطع عنا أثره، اللهم ومتعنا من الهدى بمثل ضلالته، وزودنا من التقوى ضد غوايته، واسلك بنا من التقى خلاف سبيله من الردى، اللهم لا تجعل له في قلوبنا مدخلاً، ولا توطن له فيما لدينا منزلاً، اللهم وما سوَّل لنا من باطل فعرفناه، وإذا عرفتنا فقناه وبصرنا ما نكايده به، وألهمنا ما نعده له، وأيقظنا عن سنة الغفلة بالركون إليه، وأحسن بتوفيقك عوننا عليه، اللهم وأشرب قلوبنا إنكار علمه، وألطف لنا في نقض حيله، وحول سلطانه عنا، واقطع رجاءه منا، واذرأه عن الولوع بنا، واجعلنا. منه في حرز حارز، وحصن حافظ، وكهف مانع، وألبسنا منه جنناً واقية، وأعطنا عليه أسلحة ماضية، اللهم واعمم بذلك من شهد لك بالربوبية، وأخلص لك بالوحدانية، وعاداه لك بحقيقة العبودية، واستظهر بك عليه في معرفة العلوم الربانية، اللهم احلل ما عقد، وافتق ما رتق، وافسخ ما دبر، وثبطه إذا عزم، وانقض ما أبرم، اللهم واهزم جنده، وأبطل كيده، واهدم كهفه، وأرغم أنفه، اللهم اجعلنا في نظم أعدائه، واعزلنا عن عداد أوليائه، لا نطيع له إذا استهوانا، ولا نستجيب له إذا دعانا، نأمر بمناواته من أطاع أمرنا، ونعظ بمتابعته من اتبع زجرنا، اللهم وأعذنا مما استعذنا منه، وأجرنا مما استجرنا بك من خوفه، واسمع لنا ما دعونا به، وأعطنا ما أغفلناه، واحفظ لنا ما نسيناه، وصيرنا بذلك في درجات الصالحين ومراتب المؤمنين، آمين يا رب العالمين.
ثم إن ما نُسِبَ إلى الأولياء مما يحبه ويهواه من الباطل والضلال سنتكلم عليه إن شاء الله، ونبطل دعواه فيه، ولاسيما ما نسب للشيخ عبد القادر وسنذكر من كلامه ما يدل على أنه كان أحرص الناس على التوحيد.
وتعبيره عن المسلمين- الذين أخلصوا وجوههم لله- بالألقاب المستكرهة هو من خصال أهل الجاهلية من المشركين والكتابيين، فلقَّب أهل الهدى تارة بالوهابية، وأخرى الحشوية، ومرة بالمجسمة، كما كان أسلافه يسمون من خرج عن دينهم بالصابي، وسموا رسول الله صلى الله عليه وسلم صابئياً، كما ورد ذلك في عدة أحاديث صحيحة، تنفيراً للناس عن اتباع غير سبيلهم، وهكذا تجد كثيرا من هذه الأمة
يطلقون على من خالفهم في بدعهم وأهوائهم أسماء يكرهها الناس، ويستبشعها العوام، وجميع ما ذكر النبهاني في هذا المقام مما يتعلق بالسفر إلى الزيارة والاستغاثة بغير الله قد مر الكلام على إبطاله.
قال النبهاني في الرد على ما منعه ابن القيم من ضرب المثل بالملك وقضاء حاجات المستشفعين له بوزرائه وخواصه لله تعالى في قضاء حاجات المشتفعين له بأنبيائه وعباده الصالحين، وبعد نقل منعه، قال النبهاني: ومنعه ممنوع، لأن ذلك من قبيل التشبيه، وهو واقع في القرآن بقوله تعالى:{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} 1.
إلى أن قال: وإنما حمل ابن القيم على منعه الإطالة في تهجينه كون ذلك يفيد جواز الاستغاثة بخواص عبيده المقربين، من الأنبياء والصالحين.
ثم نقل لابن القيم عبارة ذكرها في "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" في الفائدة التاسعة والثلاثين من فوائده، مما يفيد بزعمه تشبيه الخالق بالمخلوق، ونقل عن القسطلاني والشعراني وعلى الخواص وغيرهم ما يفيد أيضاً جواز قياس الخالق على المخلوق وتشبيهه بخلقه.
جوابه: أن النبهاني هذا قد لبس في هذه المسألة وحرّف وأوهم، فلزم نقل عبارة ابن القيم أولاً وما يوافقها، ثم الكلام على باطل النبهاني وجهله.
فنقول: قال الحافظ ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان"2 في فصل الفرق بين زيارة الموحدين للقبور وزيارة المشركين:
"أما زيارة الموحدين فمقصودها ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ، ص وقد أشار النبي عليه السلام إلى ذلك لقوله:"زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة".
1 سورة النور: 35.
(1/ 337- وما بعدها) ط. المكتب الإسلامي.
الثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك،. فالميت أولى، لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهله ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة أو إهداء قربة ازداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لهم، ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه بإتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول عليه السلام، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.
وأما الزيارة الشركية؛ فأصلها مأخوذ من عُبّاد الأصنام. قالوا: الميت المعظّم الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به. وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها. وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها.
وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شق، وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء
المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به.
فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم".
ثم سرد عدة آيات ونصوص من ذلك، وتبين منها أن المشركين إنما عبدوا من عبدوا بسبب اتخاذ من سوى الله وسائط بينهم وبينه، فإذا أشرك بهم المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب وما يجب له وما يمتنع عليه، فإن هذا ممتنع، إذ كيف يقاس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج؟ وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي، والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره، فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقص طاعتهم لهم ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضى، فأما الغنى الذي
غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون بقهره مصرَّفون بمشيئته لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة. ثم ذكر الدلائل القرآنية على ذلك مما يطول ذكره فراجع كتابه وهو بين الأيدي.
فتبين مما نقلناه من عبارته ما لبس به النبهاني وحذف ليروج غرضه الفساد، وهو اتخاذ الوسائط بينه وبين الله بناء على ما جوزه من قياس الخالق على المخلوق، وعلى كلامه الفاسد ينبغي أن تجوز كل عبادة لله أن تجعل لغيره، ويقال إنه واسطة كما أن الوزير واسطة بين الناس وبين الملك.
هذا الذي ذكره ابن القيم قد سبقه به شيخه، وذكر مثله في مواضع، منها ما قاله في رسالة الواسطة حيث نص فيها: أن من أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار -مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه- فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار، لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها حق، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1. وذكر نصوصاً أخر، إلى أن قال: "ومثل هذا كثير في القران، ومن سوى الأنبياء -من مشايخ العلم والدين- فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم؛ فقد أصاب في ذلك، وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة، وإن تنازعوا في شيء رُدَّ إلى الله والرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل واحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظّ وافر"2. وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين
1 سورة السجدة: 4.
2 حديث صحيح بشواهده. أخرجه أحمد (5/ 196) أو رقم (21806، 21807- قرطبة) وأبو = داود (1 364! والترمذي (2682) وابن ماجه (223) وغيرهم.
وانظر: تعليقي على الحديث رقم (7، 8) من كتاب "أخلاق العلماء" للآجري.
خلقه كالحُجّاب الذين بين الملك ورعيته -بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسْأَلُونهم هم يَسألون الله، كما أن الوسائط عند الملك يسألون الملك الحوائج للناس لقربهم منه، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب من الطالب للحوائج- فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وهؤلاء مشبهون لله شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً قال: وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة:
إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يحرفونه، ومن قال إن الله تعالى لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بها بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
والوجه الثاني: "أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلا بد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 1 وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
1 سورة سبأ: 22.
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 1. وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك، والله تعالى ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
والوجه الثالث:- أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه، أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه ويخافه؛ تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه، والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا أو يدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع من إرادة الدعاء والإحسان والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلم، أو من يرجوه الرب ويخافه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت؛ ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له "2. والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه- وذكر الآيات الدالة على ذلك- إلى أن قال: فبيَّنَ أن كل من دُعِيَ من دونه ليس له نصيب ولا شرك في الملك، ولا هو ظهير، وإن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له، وهذا بخلاف الملوك، فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك، وقد يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم معاوناً لهم على ملكهم، وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك وهم وغيرهم، والملك يقبل شفاعتهم تارة
1 سورة الإسراء: 111.
2 أخرجه البخاري (7477) ومسلم (2679) .
لحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافآتهم لإيفائهم عليه، حتى أنه يقبل شفاعة ولده وزوجته، لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد، حتى لو أنه أعرض عنه زوجته وولده لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة ملوكه فإنه إذا لم يقبل شفاعته خاف أن لا يطيعه أو أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبته أو رهبته، فالله تعالى لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني"1.
واستشهد بنصوص كثيرة على ذلك وأطنب في الكلام.
فتبين مما نقلناه؛ أن قياس الخالق على المخلوق في غاية الفساد، بل هو قياس مع الفارق من وجوه كثيرة، ومنه يعلم سقوط كلام النبهاني الغبي، وأنه لا يعلم من فن الأصول شيئاً أصلاً، ولا عرف باب القياس ولا دراه.
وأما قوله بعد زكره منع ابن القيم: وممنوع. اإلخ.
فهي عبارة تدل على أنه لم يمارس شيئاً من العلوم، ولا قرأ ما يقرؤه المبتدئون في طلب العلم، وهو علم آداب البحث والمناظرة، إذ لو شم رائحته لعلم أن المنع لا يمنع، إذ من قواعده أن منع المنع ومنع ما يؤيده لا يفيد، ولولا أن هذه القاعدة من أشهر مسائل هذا الفن لتكلمنا عليها بكلام أكثر من ذلك.
فالحمد لله الذي جعل أعداء الحق وخصماء السنة من أجهل الناس بما يوجب السعادة، وأضلهم عن سواء السبيل.
وأما ما نقله من الفائدة عن كتاب "جلاء الأفهام" وزعم أنها تناقض ما ذكره ابن القيم في إغاثته من الرد على من قاس الخالق على المخلوق؛ فنقول: ليس الأمر كما زعم، ولا مخالفة بين العبارتين، ومن نقل الفائدة بنصها يتبين ما قلناه من أن النبهاني غالط في كلامه، فقد قال ابن القيم في الكتاب المذكور بعد أن عد تسعاً وثلاثين فائدة ما نصه:
1 "مجموعه الفتاوى"(1/ 96- 98) الطبعة الجديدة.
"الأربعون: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان:
أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
والثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه، ويزيد في تشريفه وتكريمه، وإيثاره ذكره ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابه هو، بل. كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وأثرها عنده، فقد اثر ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما يحبه هو، فقد آثر الله ومحابه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن اثر الله على غيره أثره الله على غيره، واعتبر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب إليهم والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المطاع أن ينعم على من يعلمونه أحب رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشريفه علت منزلتهم عنده وازداد قربهم منه وحظوتهم، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبه، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالاً ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه، هذا أمر مشاهد بالحس ولا يكون منزلة هؤلاء ومنزلة من يسأل المطاع حوائجه هو، وهو فارغ من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه واحدة، فكيف بأعظم محب وأجله لأكرم محبوب وأحقه بمحبة ربه له؟ ولو لم يكن من فوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفاً" 1 إلخ.
هذه هي عبارة "جلاء الأفهام" وهي الفائدة الأربعون لا التاسعة والثلاثون كما وهم النبهاني، وأنت تعلم أن ما أسقطه ولم ينقله شيء كثير، والذي حذفه هو الذي يوضح المسألة، وهكذا شأنه يحذف ما عليه وينقل ما لا فائدة له فيه.
وابن القيم رحمه الله أجل من أن يتكلم بما يخالف الكتاب والسنة وما كان
1 "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام"(ص 624- 625- ط. ابن الجوزي) .
عليه السلف، وكلامه يصدق بعضه بعضاً، ويبين بعضه بعضاً فما ذكره في إغاثته من منع اتخاذ الوسائط في الالتجاء إليه تعالى والعبادة والتوكل والنذر وغير ذلك لم يتكلم بخلافه في كتاب من كتبه، فلا يجوز أن يطلب الرزق من مخلوق ويقصد جعله واسطة في حصول رزقه، ولا أن يطلب كشف الضر أو تحويله من ملك أو بشر بقصد أن يكونوا وسائط عند الله في هذا المرام كما يستشفع بالوسائط عند الملوك والأكابر، لما سبق أن هذا قياس مع الفارق وأن اتخاذ الوسائط إلى الله فيما لا يقدر عليه إلا الله هو شرك المشركين، وهو الذي أرسل الله لمحوه الأنبياء والمرسلين، وما ذكره في "جلاء الأفهام" من أن سؤال الرب سبحانه أن يثني على رسوله ويشرفه ويتعطف عليه هو آثر عنده من أن يطلب السائل شيئاً لنفسه.
ثم لتوضيح المسألة قال: "واعتبر ذلك بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم".. إلخ. أي: قِسْ سؤال الله أن يتفضل على خليله وحبيبه وأنه آثر من السؤال أن يتفضل على السائل بسؤال الرعايا للملك، أن يتفضل بإلطافه على من يعلمون أن الملك يحبه من أمير أو وزير أو أحد الرعايا، إذا قسته تجد الأمر كما وصف من أن الملك يؤثر لديه هذا السؤال، وكذلك يقال إذا كان لأب واحدة عدة بنين ومنهم من هو أحب إليه من غيره، فلا شك أن أحد الأبناء إذا سأل أباه أن يخص الابن الذي هو أحب أبنائه بإحسان وعطية كان ذلك آثر لدى الأب من أن يسأله أحد الأبناء شيئاً لنفسه، وهذا من باب ضرب المثل وتوضيح المسألة، ومن أين هنا اتخاذ الوسائط والالتجاء إلى غير الله؟! وههنا القياس صحيح والجامع موجود، فإن الله سبحانه يؤثر لديه سؤال العبد ما هو مرغوب له تعالى على سؤال العبد ما تعود مصلحته إليه كما أن المحسوس كذلك.
فانظر إلى غباوة هذا الملحد الزائغ حيث لم يفرق بين ما ذكر في "الإغاثة" وبين ما ذكر في "جلاء الأفهام" مع أن الفرق كما بين النور والظلام.
ثم إن ما نقله عن الشيخ محيي الدين من أنه استعمل هذا القياس في "الفتوحات المكية" وهو قوله: "لما كان الحق تعالى هو السلطان الأعظم، ولا بد
للسلطان من مكان يكون فيه حتى يقصد بالحاجات - مع أنه تعالى لا يقبل المكان- اقتضت المرتبة أن يخلق عرشاً، ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج منه كل ذلك رحمة بعباده وتنزلاً لعقولهم". انتهى؛ لا يدل على مقصده بل على نقيضه، فإن النبهاني قصد من صحة القياس اتخاذ الوسائط ليقربوه إلى الله زلفى، وهو عين معتقد أهل الشرك.
والشيخ محي الدين بين سبب خلق العرش، وأن الله استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج، والفرق جلي بين المقامين، ولا مناسبة بين الكلامين.
وما نقله عن "مسالك الحنفاء" للقسطلانى مما يؤيد اتخاذ الوسائط قياساً على ملوك الدنيا مردود على قائله، والقسطلاني أيضاً كان من الغلاة، وكلامه ليس بحجة على المسلمين، ومدار الاستدلال الكتاب والسنة، ومفاسد سوء الفهم أكثر من أن تحصى.
قال النبهاني: ثم بعد كتابتي هذا رأيت عبارة للإمام أحمد هي من أقوى الأدلة المقنعة لابن القيم وغيره في جواز هذا التشبيه، وهي مذكورة في كتاب "منهاج السنة" وهي أن الإمام أحمد قال: قالت الجهمية -لما وصفنا الله تعالى بهذه الصفات- إذ زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته، قلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر. فقال: لا تكونون موحدين أبداً حتى تقولوا كان الله ولا شيء.
فقلنا: نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟ وضربنا لهم في ذلك مثلاً، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله تعالى- وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات
لا يقدر حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق لنفسه علماً والذي لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول:
لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلاً كافراً اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 1 وقد كان هذا الذي سماه الله وحيداً له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيداً بجميع صفاته، فكذلك الله تعالى- وله المثل الأعلى- هو بجميع صفاته إله واحد.
قال النبهاني: انتهى كلام الإمام أحمد بحروفه، فأنت تراه لم يجعل التشبيه؛ الذي شبهه- بقوله فكذلك الله تعالى- بملك له وزراء، وإنما جعل ذلك التشبيه بجماد وهو النخلة وكافر وهو الوليد بن المغيرة، فإذا جاز ضرب الجماد والكافر مثلاً لله تعالى وصفاته العلية أفلا يجوز ضرب المثل لله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين بملوك الدنيا ووزرائهم وخواصهم؟ ولعمري إن جواز ذلك أوضح من أن يتردد فيه مثل ابن القيم مع وفرة فهمه ودقة علمه، ولكن هواه في نصرة تلك البدعة كان حجاباً عن ذلك. إلخ.
أقول: جوابه؛ أن هذا النقل عن الإمام صحيح، وهو من كتابه في "الرد على الجهمية" وهم أصحاب جهم بن صفوان الذي كان يقول بنفي الصفات عن الله تبارك وتعالى، والإمام أحمد رد عليه وعلى أصحابه برسالة مختصرة، وهي متداولة بين الأيدي، وقد طبعت في الهند، وليس فيما نقله النبهاني ما يمس مطلبه والاستدلال بمثل ذلك على جواز اتخاذ الوسائل بين العبد وبين الله في الالتجاء إليه والاستعانة به وغير ذلك، ويكفي هذا الفهم دليلاً على جهل النبهاني وغباوته وإفلاسه من كل فضيلة، ومن العجب أني رأيت كل من كان على هذا المسلك المعوج ذا غباوة وجهل وحجاب على بصريته، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ *َختَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
1 سورة المدثر: 11.
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وقوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ *) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2
إن الإمام أحمد قدس الله روحه كان من أجلّ مشايخ الموحدين، كيف ويقول بجواز اتخاذ الوسائط والوسائل وهو مذهب المشركين؟ ولكنه تناظر مع الجهمية فيما خالفوا به أهل السنة، ومن جملة ما ناظرهم به مسألة الصفات، وقبل هذه العبارة التي نقلها النبهاني عن الشيخ عبارة أخرى، وبها يتضح المراد.
قال الإمام: "وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} 3 أليس الله هو القائل؟ قالوا: يكون الله شيئاً يعبر عن الله كما كوّن شيئاً فعبر لموسى.
فقلنا: فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 4 أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون شيئاً يعبر عن الله.
فقلنا لهم: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تنطق ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان. فلما ظهرت عليهم الحجة؛ قالوا إن الله قد تكلم لكن كلامه مخلوق.
قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فشبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً، فجمحتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة علواً كبيراً، بل نقول: إن الله لم يزل
1 سور البقر: 6-7.
2 سورة الملك: 10- 11.
3 سورة المائدة: 116.
4 سورة الأعراف: 6- 7.
متكلما إذا شاء، ولا نقول إنه قد كان لا يتكلم حتى خلق كلاماً، ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول إنه قد كان ولا نور حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة.
فقالت الجهمية لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات: "إن زعمتم أن الله ونوره والله وعظمته والله وقدرته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره إلى آخر ما سبق نقله". انتهى.
فالمقصود من كلام الإمام أحمد من ضرب النخلة والوحيد مثلاً؛ أن الذات المتصفة بصفات تتصف بالوحدانية، لأن الصفات لا تستقل بنفسها، ولا يمكن انفكاكها عن الذات إلا في الذهن، واعتراض الجهمية والمعتزلة لا يرد على أهل السنة، ومذهب النصارى لا يصلح نقضاً، فإنهم أثبتوا الأقانيم الثلاثة وكل منها مستقل، فالتعدد متحقق، وأما المثبتون للصفات فعندهم أن الذات لا تنفك عنها أصلاً، والتعدد منتف، وتفصيل ذلك في كتب الكلام. والإمام مثّل لصحة إطلاق الواحد على الذات المتصفة بالصفات بما هو أبلغ منه وهو إطلاق اسم النخلة على ما تركب من جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، وسمى الوليد بن المغيرة المخزومي وحيداً مع ماله من الأعضاء والأجزاء المحسوسة، وهكذا الحائط، والمركب، والسرير، والكتاب، إلى ما لا يحصى من الأشياء التي استحقت إطلاق لفظ الواحد مع تعدد ما تركبت منه، فكيف لا يتحد ولا يطلق الواحد على المتصف بالصفات؟!
فالإمام أحمد لم يشبه رب العالمين بالنخلة ولا بالوليد ولا بغيرهما من المخلوقات- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- إنما شبه إطلاق الواحد على الله بإطلاقه على أشياء تركبت من أمور كثيرة كان ينبغي أن لا يطلق عليها ذلك، فإطلاقه على الذات المتصفة بالصفات أولى بالجواز والصحة.
فانظر إلى سوء فهم النبهاني كيف فهم من عبارة الإمام ما فهم، وأوقعه جهله
في مهواة من الضلال حتى زعم أن الإمام شبّه إله العالمين بالنخلة ونحوها، كل ذلك غراماً منه باتخاذ الواسطة وعبادة غير الله تعالى، قاتله الله ما أضله وأكفره.
ثم إن من زيد جهله جعل النخلة من الجماد، ولا يصلح ذلك لغة ولا عرفاً، ولا حقيقة ولا مجازاً، بل النخلة هي من الشجر، وبذلك ورد الحديث الصحيح حيث شبهها بالمؤمن1، والحمد لله الذي جعل أعداء السنة والحق من الذين لا يفرقوّن بين النبات والجماد، وشبهوا الخالق بالمخلوق، وخبطوا في أعمالهم وعقائدهم خبط عشواء.
والكلام على استدلال النبهاني بقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} 2 كالكلام على ما سبق، على أن في المراد بالنور أقوالاً ليس هذا موضع ذكرها.
قال النبهاني: وقد قال ابن القيم نفسه في كتابه "طريق الهجرتين" في فصل مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها: "وهم ثماني عشرة طبقة؛ الطبقة الأولى- وهي العليا على الإطلاق-: مرتبة الرسالة، فأكرم الخلق على الله وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده " إلى أن قال: "ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه اختصهم لوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده وخصهم بأنواع كراماته، فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً علياً على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى الجنة إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً بكرامة إلا على أيديهم، فهم أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه، وأكرمهم عليه، وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على
1 كما في "المسند"(2/199) و"المستدرك"(1/ 75-76) و"سنن النسائي الكبرى"(6/376/11278) وصحيح ابن حبان (رقم: 247، 5230) و "المعجم الكبير"(7/ رقم: 459، 460) وأمثال الحديث " للرامهرمزي (رقم: 30- بتحقيقي) .
وانظر: "الصحيحة" رقم (356) .
2 سورة النور: الآية 35.
أيديهم، وبهم عرف الله، وبهم عبد وأطيع، وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض، وأعلاهم منزلة أولوا العزم منهم المذكورون في قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 1 وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم ".
قال النبهاني: "انتهت عبارته رحمه الله، فإذا كان هو بنفسه يصفهم بهذه الأوصاف الجميلة التي هم أهلها ومحلها، وقد صرح فيها بأنهم واسطة بينه تعالى وبين عباده، وأنهم أقرب الخلق إليه تعالى وسيلة، وأن خير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم، فما الذي جرى له بعد ذلك حتى تبع شيخه ابن تيمية في منع الاستغاثة بهم إلى الله تعالى، وجعلهم واسطة بين العباد وبينه عز وجل، ووسيلة إلى قضاء حوائجهم الدنيوية والأخروية، أفلا يعد هذا من ابن القيم تناقضاً؟ " انتهى.
أقول في الجواب: إن ابن القيم رحمه الله وكذلك شيخه ومن على منهاجهم من أكثر الناس حباً للأنبياء والرسل عليهم السلام، وكتبهم طافحة ببيان ما يجب لهم من التوقير والاحترام، وفي كتاب "مفتاح دار السعادة" بحث مفصل في بيان حاجة الناس إليهم وما يجب من العمل بهديهم، حتى قال:"إن العالم لو خلا من هديهم فسد وخرج عن نظامه " إلى آخر ما تكلم به. ومن مزيد محبتهم له وتوقيرهم إياه حافظوا على هديهم وسننهم وما جاؤوا به من عند الله، ومن هديهم تخصيص الله تعالى بالعبادة والالتجاء إليه، والنذر له والتوكل عليه، وندائه في المهمات، والاستعانة به في طلب الحاجات، إلى غير ذلك من تخصيصه بخصائص الربوبية والألوهية.
وما نقله النبهاني عن ابن القيم هو معتقد كل مسلم حنيف يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فضلاً عن شيخ الإسلام، ومن كان على سننه
1 سورة الشورى: 12.
من الأئمة الأعلام ولا شك أن رسل الله هم الوسائط العظمى بين الله وبين المكلفين من عباده في تبليغ شرائعه وما يريده سبحانه من عباده، وبيان أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، لا أنهم وسائط بالمعنى الذي فهمه الغبي النبهاني، حتى زعم أن ذلك مراد ابن القيم، وأخذ يوبخه بقوله فما الذي جرى له بعد ذلك حتى تبع شيخه ابن تيمية في منع الاستغاثة بهم إلى الله
…
إلخ، بل المراد بالوسائط في كلامه بالمعنى الذي ذكرناه، وعليه أئمة الدين، وأكابر الموحدين.
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه- في الجواب عن سؤال فيه أن رجلين تناظرا، فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك-: "الحمد لله رب العالمين، إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة يبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه، وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى عباده، فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة.
وأما المخالفون للرسل فإنهم ملعونون، وهم عن ربهم ضالون محجوبون، قال الله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} 2
1 سورة الأعراف: 35- 36.
2 سورة طه: 123- 126.
قال ابن عباس: تكفل الله تعالى لمن قرأ القران وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وقال تعالى عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} 1. وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2
وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 3 وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 4 ومثل هذا في القرآن كثير.
وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله تعالى أمره وخبره.
قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 5 ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل.
1 سورة الملك: 8- 9.
2 سورة الزمر: 71.
3 سورة الأنعام: 48- 49.
4 سورة النساء: 163- 165.
5 سورة الحج: 75.
والسور التي أنزلها الله تعالى بمكة- مثل الأنعام والأعراف وذوات الر. وحم وطس. ونحو ذلك هي متضمنة لأصول الدين، كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وقد قص الله تعالى قصص الكفار الذين كذبوا الرسل، وكيف أهلكهم ونصر رسله والذين اَمنوا، قال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 1 وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} .2
فهذه الوسائط تطاع وتتبع ويقتدى بها كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ} 3 وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 6 وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 7.
قال: وان أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار -مثل أن يكن واسطة في رزق العبد ونصرهم وهداهم، يسألونه ذالك ويرجعون إليه فيه-؛فهذا من أعظم الشرك الذي كفر اللَّه به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار" إلى آخر ما نقلنا سابقاً من كلام شيخ الإسلام عليه الرحمة8.
1 سورة الصافات: 171- 173.
2 سورة غافر: 51.
3 سورة النساء: 64.
4 سورة النساء: 8.
5 سورة آل عمران: 31.
6 سورة الأعراف: 157.
7 سورة الأحزاب:21.
8 انظر "مجموعة الفتاوى"(1/ 92- 94) .
وبه علم أن النبهاني مخطىء فيما فهم من كلام ابن القيم، ومعناه الصحيح ما ذكره شيخ الإسلام وجمهور أهل الإيمان، وإن كان بعيدا عن فهم النبهاني وسائر الغلاة.
قال النبهاني: "ومثل تناقضه هذا تناقضه الواقع في عبارته السابقة الشنيعة المعبرة عن القبر المزار بالوثن وأوصاف الزائرين التي ذكرها هي أوصاف زواره صلى الله عليه وسلم، وقد اتبع الحق بقصيدته النونية، فذكر فيها أن الله تعالى قد استجاب دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" فاسجاب الله دعاءه، وهذه أبيات ابن القيم:
ولقد نهانا أن نصير قبره
…
عيدا حذار الشرك بالديان
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي
…
قد ضمه وثنا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه
…
وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه
…
في عزة وحماية وصيان
وجميع الأوصاف الجميلة التي ذكرها في عبارته السابقة للأنبياء عليهم السلام لا شك أنها تؤهلهم لرتبة الاستغاثة بهم إلى الله لقضاء حوائج المستغيثين" إلى آخر كلامه.
أقول: جوابه: أن ما ذكره هذا المعترض من النقل والتصرف فيه مما هو من شأن القبوريين والغلاة كافة، ويزيد عليهم هذا بما في كلامه وتصرفه في كلام غيره من الخطأ والتلبيس، والقصور في الفهم، والتقصير في النظر، كفهمه من كلام العلماء ما لم يريدوه، ومخالفته لهم فيما قصدوه، وإلزامه لهم ما لم يعتقدوه، وحكمه عليهم بالظن الكاذب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"1. بل دأب هذا الضال- كأسلافه- التمسك بالأمور المتشابهة الخفية، والإعراض عن الأشياء المحكمة الواضحة، كما أن عادته الاعتماد على حديث ضعيف أو مكذوب، أو خبر متشابه لا يدل على المطلوب، وليس هذا طريق
1 أخرجه البخاري (6066) ومسلم (1985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
العلماء القاصدين لإيضاح الدين، وإرشاد المسلمين، نعوذ بالله من اتباع الهوى.
زعم هنا النبهاني أن الشيخ ابن القيم تناقض كلامه في كتابين حيث ذكر في إغاثته أن الاستغاثة بغير الله شرك ودعاء غير الله ضلال، وبرهن على ذلك بما هو معلوم لأهل العلم والنظر، ففهم منه أن من استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره فقد عبده من دون الله، فلزم أن يكون قبره وثناً. وفي "النونية" وهي منظومته المسماة "بالكافية الشافية" يقول ما معناه: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، وأن الله تعالى استجاب دعاءه، ولم يجعل قبره وثناً يعبد. ففهم من كلامه أن الله استجاب دعاءه؛ وأن ما يفعله الزائرون من الاستغاثة والتوسل وسائر الأعمال ليس كما يزعمه المانعون من أنها شرك، هذا حاصل ما توهمه النبهاني في كلام ابن القيم من التناقض والمخالفة.
وهذا هو اللائق بفهم النبهاني ومن ختم الله على قلبه وجعل على سمعهم وأبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم، وقد مر الجواب عما فهمه هذا الغبي فيما نقلناه من كلام شيخ الإسلام المتعلق بزيارة القبور، ومنه قوله: إن لفظ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده، ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده لا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره فإنهم دفنوه في الصحراء، كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً فدفن في بيته، لئلا يتخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً. فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح، عن عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم يبلغني حيث كنتم". وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال: "الهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت
بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً؛ دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكن في حياتها أحد يدخل لذلك إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لما أدخلت في المسجد سدت وبني الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره سواء كانت سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره البتة، ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم، فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلم يعبروا عن وجوده، وقد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله تعالى أن لا يجعله وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة وهم أعلم الناس بمثل ذلك، ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الإخبار بلفظ تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطق بلفظه، لكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره، وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة، كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض الجهال ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه، إلى آخر ما قدمناه من الكلام النفيس.
وبما نقلناه يتبين أنه لا تناقض ولا مخالفة في كلام الشيخ ابن القيم، وأن ما هذى النبهاني به سقط من أصله، وكان من أوضح الدلائل على ضلاله وجهله.
قال النبهاني. في فصله الثاني في الكلام على كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" للحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي، ألفه في الرد على كتاب "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" منتصراً لشيخه ابن تيمية في بدعته ومنعه الاستغاثة والسفر لزيارته صلى الله عليه وسلم، قال:"وكنت حين ابتدأت بمطالعته تعجبت من شدة جرأته على هذا الإمام، بل على سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، إذ رأيته قد بذل أقصى ما في وسعه ليثبت أن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم لا مزية له بعد موته، وأنه مثل أحاد الناس، وكل حديث أو أثر أو قول عالم ورد بعكس عقيدته يجتهد في تأويله، أو إثبات أنه موضوع، وكان السبكي أثبت بتلك الأحاديث والآثار مناقب أحد أعدائه، فهو يبذل جهده في تزييفها، ويتكلف في كثير منها بحيث يظهر لكل من طالع كتابه أنه شديد التكلف والتعصب والتعسف وأنه رجل متهور، مراده المحاماة عن بدعة شيخه بحق أو باطل، ومع ذلك لم يخطر لي أن أكتب شيئاً في هذا الشأن- مع ظهور إساءته في ذلك وإحسان السبكي كل الإحسان لأن التحكك بالبدعة يزيدها اشتهاراً وذكرها ولو للرد عليها يزيدها انتشاراً، وقلت كفى الحسن إحسانه والمسيء إساءته" إلى آخر ما قال.
هذا نقد النبهاني على كتاب "الصارم المنكي" وهو لا يستحق الجواب عن كلامه هذا لفساد مبناه ومعناه، وعبارته ركيكة جداً ليست بعبارة تصدر عن طلبة العلم فضلاً عمّن يدّعي دعواه، وهذا الرجل كما بيّنا سابقاً جهله عند بيان سقطاته وغلطاته عار عن كل فضيلة، لا علم ولا أدب، ولا فضل ولا حسب، ولا حياء ولا إيمان، ولا تقوى ولا عرفان، ونحن نبين ذلك إن شاء الله كما بيّناه سابقاً بالبرهان.
أما مصنف كتاب "الصارم المنكي" فهو الفقيه الحنبلي المقريء المحدث
الحافظ الناقد النحوي المتفنن الجبل الراسخ عليه الرحمة والرضوان، قال المؤرخون -ومنهم صاحب "الشذرات"1-: ولد في رجب سنة أربع أو خمس أو ست وسبعمائة، وتوفي سنة أربع وأربعين في جمادى الآخرة، وعمره أربعون سنة أو أقل، وسمع من خلق كثير، منهم الحجار، وعني بالحديث وفنونه، وبرع في ذلك وأفتى، ودرس ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية مدة، وأخذ عن الذهبي وغيره، وقد ذكره في "طبقات الحفاظ "2 قال:"وصنف التصانيف الكثيرة، بعضها كمل وبعضها لم يكمل لهجوم المنية عليه، وله توسع في العلوم والفقه والأصلين، وذهن سيال، وعدة محفوظات، وعدّ له ابن رجب في طبقاته ما يزيد على سبعين مصنفاً، ودفن بسفح جبل قاسيون". انتهى ملخصاً.
ومن أعدل الشواهد على فضله، وكمال إطلاعه ومزيد انصافه؛ كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" فقد أجاد فيه وأفاد، وميز الحق من الإلحاد، ولو لم تكن له حسنة سوى هذا الكتاب لكفاه ثواباً يوم الحساب، وبه ظهر زيف السبكي وما بهرج به من الباطل، وتبين أنه كان من أجهل الناس بعلم الحديث، ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة.
ومن طالع كتاب الصارم- وكان من أهل الفضل والإنصاف- علم أن ما قلناه هو غيض من فيض، وقطرة من بحر، فالله تعالى المسؤول أن يجزيه عن كتابه "الصارم المنكي" خير الجزاء، وينفع به المسلمين في كافة الأقطار والأنحار.
ولا بدع من النبهاني الضليل، إذ صدر منه ما صدر في حق هذا الفاضل الجليل، وما أحسن ما قيل:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
وفي هذا المعنى قول الآخر:
1 "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 245- ط. دار ابن كثير) .
2 "تذكرة الحفاظ"(4/ 1508) .
لقد زادني حباً لنفسي أنني
…
بغيض إلى كل امرىء غير طائل
وأني شقيّ باللئام ولا أرى
…
شَقِيّاً لهم إلا كريم الشمائل
وكل امرىء ألفى أباه مقصراً
…
عدو لأهل المكرمات الأفاضل
وقال آخر:
إذا ما نالت السفهاء عرضي
…
ولم يخشوا من العلاء لوماً
كسوت من السكوت فمي لثاماً
…
وقلت نذرت للرحمن صوماً
ومما يحسن أن ينشد على لسان الفاضل صاحب الرد على السبكي من تطاول مثل هذا المخذول:
لقد صبرت على المكروه أسمعه
…
من معشر فيك لولا أنت ما نطقوا
وفيك داريت قوماً لا خلاق لهم
…
لولاك ما كنت أدري أنهم خلقوا
أيها النبهاني قد سمعت ما سمعت من خطابي وبياني:
ولقد أقول لمن تحرش بالهوى
…
عرضت نفسك للبلا فاستهدف
أما سمعت قول الإمام الشافعي رضي الله عنه حيث قال:
إذا رمْتَ أن تحيا سليماً من الأذى
…
وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرىء
…
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أرتك يوما نقيصة
…
لناس فقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
…
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
كان الأليف بحالك أن لا تسلك هذه المسالك، فما أنت وهؤلاء القوم، وهم المشهورون بالفضل من عصرهم إلى اليوم.
وللحروب رجال يعرفون بها
…
وللدواوين حساب وكتاب
أما سمعت قول القائل:
أضحى يسد فم الأفعى بأصبعه
…
يكفيه ماذا يلاقي منه أصبعه
لقد فات ما فات، وهيهات تدارك ذلك وهيهات.
إذا ما أراد الله ذل قبيلة
…
رماها بتشتيت الهوى والتخاذل
وأول خبث الماء خبث ترابه
…
وأول لؤم القوم لؤم الحلائل
ثم إن النبهاني ذكر عبارة القسطلاني عن كتاب "شفاء السقام" للسبكي أن مصنفه شفى به صدور المؤمنين، ونقل عن ابن حجر ما قاله في كتابه "الجوهر المنظم" من التلويح بذم "الصارم المنكي".
فنقول له: إن هذا ليس بمستغرب، فالكل عن مشرب واحد، ولقد تشابهت قلوبهم، وهذا بعض ما تكن صدورهم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، وقد حكى الله سبحانه عن إخوانهم ما هو من هذا القبيل، قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} 1
ثم ذكر حاصل ما اشتمل عليه الكتاب وأن الأحاديث التي ضعفها كلها صحيحة، وإنما فعل ذلك ترويجاً لبدعة شيخه ابن تيمية.
فنقول: قد سبق الجواب عن كل ذلك، وذكرنا معنى السنة والبدعة، ومن الأحق أن يسمى مبتدعاً؛ من يوحد الله ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، أم من أعرض عن الله وعبادته، والتجأ إلى أهل القبور، الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟!..
قال النبهاني: وما مثل من رد على الإمام السبكي لاسيما في مثل هذا المقام إلا:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
…
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
1 سورة البقرة: 26.
ومع ذلك فقد رأيت الصواب في مثله. الإهمال، وعدم التعرض له بحال من الأحوال. إلى أن قال: ثم رأيت له عبارة لا يجوز السكوت عليها لانتشار كتابه وطبعه قد رد بها على الإمام السبكي في عبارة بين فيها وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت من اللازم ذكر العبارتين، وبيان ما في عبارته من الخطأ والشين. ثم إنه أورد أولاً عبارة السبكي فقال:
عبارة الإمام السبكي قال: والقران كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والمبالغة في ذلك، ومن تأمل القرآن وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه صلى الله عليه وسلم وما كان الصحابة يعاملونه به من ذلك امتلأ قلبه إيماناً.
ثم أورد النبهاني العبارة الأخرى فقال:
عبارة ابن عبد الهادي: "وقوله- يعني السبكي-: إن المبالغة في تعظيمه واجبة، أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً- حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء- فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين". انتهت عبارته.
ثم قال النبهاني معترضاً عليه: إنه قد كذب في بعض عبارته على أهل السنة وهو في بعضها من أقبح المكابرين، أما ما كذب به فقوله: حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به، فهذا من أشنع الكذب الظاهر، والاختلاق الفاحش، فإنه لم يقل أحد بجواز شيء من ذلك من أهل السنة والجماعة القائلين بأن السفر لزيارته صلى الله عليه وسلم من أجل القربات، وأعظم الطاعات، فكيف جاز له التعبير بتلك العبارات، ومعلوم بأن أجهل المسلمين يفرق بين. حج البيت الحرام وزيارة
خير الأنام، بأن الحج فرض والزيارة سنة. وكذلك لا يعتقد أحد مشروعية الطواف به كالطواف بالبيت الحرام. وكذلك السجود له لم يجوزه أحد، ثم أطال الكلام.
وحاصل ما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على غيوب كثيرة، وذكر بعض أكاذيب: منها أن شيخه أخبره بالغيب، إلى أن قال: وأما كونه صلى الله عليه وسلم يعطي ويمنع ويقضي حوائج السائلين إلخ.. فهو لا شك فيه، ولا يتردد بصحته ووقوعه إلا كل من تراكم على قلبه الجهل والظلام، قال: ومن يشك أنه صلى الله عليه وسلم يعطي بالله، ويمنع بالله، ويقضي حوائج السائلين بالله، ويفرج كربات المكروبين بالله، ويشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء بتشفيع الله له فيهم، ولم يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم أحد من المسلمين أنه يفعل من ذلك شيئاً بنفسه، ثم ذكر وقوع ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. ونقل في ذلك عدة حكايات من كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" لأبي عبد الله محمد بن النعمان المغربي التلمساني المالكي، وكتاب "بغية الأحلام" للشيخ نور الدين علي الحلبي صاحب السيرة، وأورد حديث "حياتي خير لكم".
وحديث الشفاعة، إلى آخر كلامه.
ونحن نجيب بتوفيق الله تعالى وإعانته فنقول: الجواب عما اعترض به من وجوه:
أما أولاً: فإن السبكي جعل السفر لزيارة القبر وإعمال المطي لها والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم من باب تعظيمه وتوقيره. وابن قدامة رحمه الله تعالى رد عليه وقال ما حاصله: إنه ليس كل تعظيم مشروعاً، فالسجود فيه تعظيم مع أنه لغير الله تعالى كفر، والطواف بالقبر تعظيم وهو أيضاً منهي عنه واعتقاد أنه يعلم الغيب فيه تعظيم وهو من خواص الألوهية وهكذا جمع ما هو من خواص الإله سبحانه فيها تعظيم وتوقير ولا يجوز إثباتها لغير الله تعالى، لا لملك مقرب ولا لنبي ولا لرسول، وما ذكره السبكي من هذا القبيل، وليس مراده أن القائلين به يفعلون هذه الأمور المنكرة حتى يرد ما ذكره النبهاني أنه قد كذب على أهل السنة في بعض عبارته وهو في بعضها من أقبح المكابرين..إلخ.
وكم من عائب قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيم
الحاصل؛ أن ما نهى الله عنه وزجر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز فعله وإن كان من الأفعال التعظيمية، وامتثال أمره صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه هو تعظيمه، وفيه توقيره، وهو الموجب لسعادة الدارين، والظفر بما يكون سبباً لقرة العين، وأما الأعمال المضادة لما جاء صلى الله عليه وسلم به- وإن قصد فاعلها التعظيم بها- فهي موجبة لغضب الرب والحرمان من محبة الرسول، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1
وأما ثانياً: فإن الحافظ ابن قدامة لم ينسب ما ذكر من الأعمال المنكرة لأهل السنة، بل لو نسبها لنسبها إلى الغلاة الخارجين عن الدين، المارقين عن سبيل المؤمنين، فإن الدعاء مخ العبادة، فمن دعا غير الله والتجأ إليه، وتوكل عليه، واستعاذ به، واستعان به، فيما لا يقدر عليه إلا الله وغير ذلك؛ فقد عبده، ومن عبد غيره تعالى فليس هو من الدين في شيء، وأهل السنة في عرف النبهاني وأضرابه من الغلاة هم الذين على منواله وليس الأمر كما زعم، بل هم الذين يعملون بما ورد في الكتاب والسنة، وكانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وقد ذكرنا ذلك غير مرة.
وأما ثالثاً: فقول النبهاني: إما ما كذب به فقوله: لم حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به. فهذا من أشنع الكذب الظاهر؛ هو دعوى ليس عليها برهان بل يكذبها العيان.
وليس يصح في الأعيان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
هذه المشاهد المشهودة اليوم قد اتخذها الغلاة أعياداً للصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، وقضاء الديون،
1 سورة آل عمران: 29.
وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، ومن لم يصدق ذلك فليحضر مشهداً من مشاهد العراق، حتى. يرى الغلاة وقد نزلوا عن الأكوار والدواب -إذا رأوها من مكان بعيد- فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسراناً، فلغير الله- بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام، الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين.
قال ابن القيم- بعد أن حكى ما ذكرناه- ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم، ولا استقصينا جميع بدعتهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال.
وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله تعالى: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار مثل تعظيم القبور وإلزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى
بالحوائج، وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته الصديق أبو بكر أو محمد وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر" انتهى.
والنبهاني ذكر في فصل ما لا ينبغي فعله للزائر ما نقله عن المرزوقي مما هو من قبيل هذه البدع بل أفظع، فكيف يقول: إن ابن عبد الهادي كذب في ذلك؟ وقد صان الله أهل الحديث وحفاظ السنة من الكذب والحمد لله. نعم إن المتصوفة والمتشيخين هم بيت الكذب ومعدنه.
ونقل النبهاني عن ابن حجر أنه قال: ويكره أيضاً الانحناء للقبر الشريف، وأقبح منه تقبيل الأرض ذكره ابن جماعة. ولفظه: قال بعض العلماء: إن ذلك من البدع أي القبيحة، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض له صلى الله عليه وسلم لأنه لم يفعله السلف الصالح والخير كله في اتباعهم، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف واستشهد لذلك بالشعر، قال السيد السمهودي: ولقد شاهدت بعض جهال القضاة فعل ذلك بحضرة المنلا وزاد بوضع الجبهة كهيئة الساجد.
قال ابن حجر: ووقع من بعض الصالحين نظير ذلك في بعض قبور الأولياء بحضرتي، لكن الظاهر أنه كان في حال أخرجه عن شعوره، ومن تحقق منه الوصول لذلك لا يعترض عليه إلخ. انتهى.
فانظر أيها المنصف إلى معاندة النبهاني وأتباعه لهواه فإنه هو الذي نقل ذلك في كتابه عمن يعتقد في إمامته، ثم ينكر وقوع ذلك ويكذب حفاظ الحديث
الصادقين، قاتله الله ما أقسى قلبه وأبعده عن قبول الحق، نسأله تعالى أن يقلل في المسلمين أمثاله، ويطهر منهم الأرض. ويكفي المسلمين شرهم.
وأما رابعاً: فما قاله النبهاني في مسألة علم الغيب فليس موافقاً للصواب جميع ما ذكره، وفي المسألة تفصيل وقال وقيل، والحق ما نذكره في هذا المقام مما دل عليه الكتاب والسنة وأفاده الأئمة الأعلام.
اعلم أن الغيب قسمان: قسم استأثر الله تعالى به، فلا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي ولا رسول، ولا صفي ولا ولي، ولا منجم ولا كاهن، ولا عرّاف ولا غيرهم، وهو المذكور في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1 فكل من هذه الأمور لم يطّلع الله عليه أحداً من أنبيائه وأصفيائه، والكلام على هذه الآية مفصل في كتب التفاسير، ولا مجال لنا لذكره في هذا المقام.
وأما القسم الثاني: فهو الذي يجوز أن يعرفه غير الله ويطّلع غليه وهو ما عدا الخمسة السابقة، وله أسباب كثيرة: منها الوحي، والكهانة، والطرق، والزجر، ونحو ذلك، وقد تكلم ابن خلدون في المقدمة على المدارك الغيبية وأتى بما تستلذه الأسماع والأفواه، ومن ذلك قوله: إن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها، ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الأتقياء بما فطروا عليه من ذلك، ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك، ولا من التصورات، ولا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركة، ولا بأمر من الأمور، ويعطي التقسيم العقلي أن ههنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل، وهو صنف من البشر مفطور على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عند ما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه، فيتشبث لأعمال الحيلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة، كالأجسام الشفافة،
1 سورة لقمان: 34.
وعظام الحيوان، وسجع الكلام، وما سنح من طير أو حيوان، ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له، وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة، ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر مر إدراكها الكليات، وتكون مشتغلة بها غافلة عن الكليات، ولذلك كثيراً ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة، وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة، وهي، لها كالمرآة تنظر فيها دائماً، ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس، ويقوى في الجملة على ذلك الانسلاخ الناقص، فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه، وربما صدق ووافق الحق، وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم، فيعرض له الصدق والكذب جميعاً، ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه، وتمويهاً على شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ولا استعانة بأجنبي كان صادقاً في جميع ما يأتي به، وكان الصديق من خواص النبوة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن الصياد- حين سأله كاشفاً عن حاله بقوله: كيف يأتيك هذا الأمر؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب- خلط عليك الأمر يريد، نفي النبوة عنه بالإشارة إلى أنها مما لا يعتبر فيه الكذب بحال.
وإنما قيل: أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات، وتدل خفة المعين على قرب ذلك الانسلاخ والاتصال، والبعد فيه عن العجز في الجملة، ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين، بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخاً غير تام، واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لا تحجب عنه الحوادث المستقبلة وغيرها، فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم
إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة، ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته، لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة، ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وسواس المطامع بحصول النبوة لهم، كما وقع لأمية بن أبي الصلت، فإنه كان يطمع أن يكون نبياً، وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما، وربما تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان، كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب، وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان. وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهاناً أو غيرهم- للإخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلاماً طويلاً حاصله: أن النفس الإنسانية ذات روحانية، ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة، لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها، لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني، وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة، إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم، أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص، كالكهنة أهل السجع، وأهل الطرق بالحصى والنوى، والناظرين في الأجسام الشفافة، من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها، وقد يلحق بهم المجانين، أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية، أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية، فتلفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى، لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود، وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل، وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله، فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علماً، وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة، ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. انتهى.
ولا يخفى أن فيه ذهاباً إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى، وكثيراً ما يسمونه عالم المجردات، وقد يسمونه عالم العقول، وهي مذكورة في المشهور
عنهم في عشرة، ولا دليل لهم على هذا الحصر، ولذا قال بعض متأخريهم بأنها لا تكاد تحصى، وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لا يتسع هذا الموضع لذكره.
وبالجملة؛ علم الغيب لله سبحانه فلا يقال لغيره عالم الغيب، ومن اطلع على شيء منه بواسطة وحي أو غيره يقال أطلعه الله، وما من أحد من المسلمين إلا ويعرف غيوباً كثيرة- كالأخبار التي وردت في أحوال البرزخ والحساب والجنة والنار- ولا يقال لأحد منهم عالم الغيب، وكثير من المتصوفة يدعون أن مشائخهم يعلمون الغيب، وهذا تعبير شنيع، وربما قالوا بالكشف، وكل ذلك مما لا أصل له، فإن صح منه شيء فلعله بمثل ما ذكره ابن خلدون أو بواسطة قرينة من القرائن، وإلا فالكشف مما لا أصل له.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 1 وما أخبر به من الغيوب فبوحي من الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2 وهكذا الأنبياء والرسل. هذا نوح لما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك لم يعلم السبب في صنعها، وموسى لم يدر قبل لقي فرعون ماذا يكون من أمره حتى قال:{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} 3 وإبراهيم أعلمه الله وأوحى إليه أن يذبح إسماعيل فبادر إلى ذلك، فلم يعلم هو ولا إسماعيل أن الله ينسخ هذا الحكم، ويعقوب بقي يبكي على ولده يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن ولم يعلم بحال يوسف، وداود لم يعلم بحقيقة من تسوروا المحراب، وقالوا:{خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} 4 القصة، وما حكم به في مسألة الحرث، وتفهيم سليمان لها دونه، وما كان من ضيف لوط وقومه ولم يعلم بحقيقتهم حتى قال:{هؤلاء ضيفي فلا تخزون} ، وما كان من قصة يونس حين ذهب مغاضباً، فكان من أمره ما كان، ولو كان له إطلاع على
1 سورة الأحقاف: 9.
2 سورة النجم: 3-4.
3 سورة الشعراء: 14.
4 سورة ص: 14.
العاقبة وكشف على الحقيقة لما ذهب حتى ألقي في البحر، وساهم وكان من المدحضين، ولو استوعبنا ذلك لطال الكلام، انظر إلى القرآن الكريم وما أخبر فيه سبحانه عن أنبيائه ورسله تجد الأمر واضحاً، قال تعالي:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} 2 {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 3 إلى غير ذلك من الآيات الناصة على عدم علم الأنبياء لما لم يعلمهم الله به.
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} ثم قال: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} 4 يعني الهدهد، فقال سليمان المتوعد له بالذبح عقوبة له، والعقوبة لا تكون إلا على المعصية لبشري ادمي لم تكن عقوبته الذبح، فدل ذلك على أن المعصية إنما كانت له ولا تكون المعصية لله إلا ممن يعرف الله، أو ممن كان يمكنه أن يعرف الله تعالى فترك ما يجب عليه من المعرفة، وفي قوله لسليمان:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} 5 ثم قال بعد أن عرف فضل ما بين الملوك والسوقة، وما بين النساء والرجال، وعرف عظيم عرشها وكثرة ما أوتيت في ملكها، قال:{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 6 فعرف السجود للشمس وأنكر المعاصي، ثم قال:{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} 7 ويتعجب من سجودهم لغير الله، ثم علم أن الله يعلم غيب السموات
1 سورة التوبة:42.
2 سورة التحريم: 1.
3 سورة الأنفال: 67.
4 سورة النمل: 20- 22.
5 سورة النمل: 22- 23.
6 سورة النمل: 24.
7 سورة النمل: 25.
والأرض، ويعلم السر والعلانية ،ثم قال:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1 وهذا يدل على أنه أعلم من ناس كثير من المميزين المستدلين الناظرين، قال سليمان:{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2 ثم قال: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 3 {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 4 وذلك أنها: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 5. قال سليمان للهدهد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِين * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 6.
وأطال الجافظ الكلام -على هذه الآيات؛ إلى أن قال: ثم طعن في ملك سليمان ناس من الدهرية، وقال: زعمتم أن سليمان سأل ربه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 7 وأن الله تعالى أعطاه ذلك، فملكه على الجن فضلاً عن الإنس، وعلمه منطق الطير، وسخر له الريح، فكانت الجن له خيولاً، والرياح له مسخرة، ثم زعمتم - وهو إما بالشام وإما بسواد العراق- أنه لا يعرف باليمن ملكة هذه صفتها، وملوكنا اليوم دون سليمان في القدرة لا يخفى عليهم صاحب
1 سورة النمل: 26.
2 سورة النمل: 27.
3 سورة النمل: 28-31.
4 صورة النمل: 36.
5 سورة النمل: 34- 35.
6 سورة النمل: 37-40.
7 سورة ص: 35.
الخزر، ولا صاحب الروم ، ولا صاحب الترك،ولا صاحب النوبة، وكيف يجهل سليمان موضع هذه الملكة مع قرب دارها، واتصال بلادها، وليس دونها بحار ولا أوعار، والطريق نهج الخف والحافر والقدم، فكيف والجن والإنس طوع يمينه؛ ولو كان حين أخبره الهدهد بمكانها أضرب عنها صفحاً لكان لقائل أن يقول: ما أتاه الهدهد إلا بأمر يعرفه، فهذا وما أشبهه دليل على فساد أخباركم؟
فأجاب الجاحظ بقوله: قلنا: إن الدنيا إذا خلاها الله وتدبير أهلها ومجاري أمورها وعاداتها كان لعمري كما تقولون، ونحن نزعم أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان أنبه أهل زمانه لأنه نبي ابن نبي، وكان يوسف وزير ملك مصر ومن النباهة بالموضع الذي لا يدفع وله البرد وإليه يرجع جواب الأخبار، ثم لم يعرف يعقوب مكان يوسف ولا يوسف مكان يعقوب دهراً من الدهور مع النباهة والقدرة واتصال الدار، وكذلك القول في موسى بن عمران ومن كان معه في التيه، فقد كانوا أمة من الأمم يتسكعون أربعين عاماً في مقدار فراسخ يسيرة، ولا يهتدون إلى المخرج وما كانت بلاد التيه إلا من ملاعبهم ومنتزهاتهم، ولا يعدم مثل العسكر الأدلاء والجمالين والمكارين والفيوح والرسل والتجار، ولكن الله صرف أوهامهم ورفع ذلك القصد من صدورهم.
وكذلك القول في الشياطين الذين يسترقون السمع في كل ليلة فنقول: إنهم لو كان كلما أراد مريد منهم أن يصعد ذكر أنه قد رجم أو رجم صاحبه، وأنه كذلك منذ كان لم يصل معه أحد إلى استراق السمع كان محالاً أن يروم ذلك أحد منهم مع الذكر والعيان إلى آخر ما قاله.
والكلام في هذه المسائل طويل الذيل، وما ذكرناه كاف في المرام، وما نقله عن مشايخه من الكشف لا أصل له، نعم ورد "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" 1 وما عدا ذلك فوسواس الشياطين ولجاهلية العرب في هذا الباب أخبار
1 أخرجه الترمذي (3127) وغيره، وهو حديث ضعيف؛ انظر تفصيل الكلام عليه في "السلسلة الضعيفة"(1821) .
ممتعة مبسوطة في غير هذا الموضع.
وأما خامساً: فما ذكره في بيان كونه صلى الله عليه وسلم يعطي ويمنع ويقضي حوائج السائلين
…
إلخ؛ فهو مردود، وذلك لأن الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية قد وردت بخلافه، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً *} 1 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2.
وقال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى لهم أن الأنبياء والملائكة لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلاً، وأنهم يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3.
فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار- مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات- فهو كافر بإجماع المسلمين.
وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} 4 وقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ
1 سورة الإسراء: 56- 57.
2 سورة سبأ: 22- 23.
3 سورة آل عمران: 79- 80.
4 سورة فاطر: 2.
ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1. وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِه} 3. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه يعطي ويمنع، ويقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه الذي يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء. وكذلك الأحاديث الصحيحة الواردة في هذه المعنى، كحديث ابن عباس الذي فيه:" واعلم أن الأمة لو اجتمعت أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"4. وكذلك النفع، وحديث البخاري الذي فيه: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً" وغير ذلك.
فالآيات ولأحاديث وأقوال السلف تدل على أن الله تعالى هو المتفرد بملك الضر والنفع، والنبهاني يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي ويمنع، ويضر وينفع، وهكذا الأنبياء والرسل، وهكذا صالحوا أممهم، واستدل على ذلك بمنامات وخرافات، وبأقوال أمثاله من الغلاة، فبقي الخلاف بين الله وبين النبهاني، أن الله تعالى يقول لا يملك الضر والنفع غيره سواء كان ملكاً أو نبياً أو رسولاً أو صفِيًّا، والنبهاني قاتله الله يقول لا ليس الأمر كما قاله الله ورسوله، بل إن النبي أو الولي يُسْتَغَاثُ به ويُرْجَى ويُطْلَبُ منه كل ما يطلب من الله، وها نحن نحيل المحاكمة بين النبهاني وبين الله تعالى إلى ذوي الإنصاف والفهم، ولا شك أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما أقوال النبهاني، وآراء كل مبتدع شيطاني، فمردودة عليه، وملقاة بين
1 سورة الزمر: 38.
2 سورة الأعراف 188.
3سورة يونس: 107.
4 تقدم تخريجه في الجزء الأول من الكتاب.
يديه، والكلام في الاستغاثة مر مفصلاً وسيأتي له تتمة إن شاء الله.
قال النبهاني: ذكر في بعض النسخ أن "الصارم المنكي" هو بالميم والنون وهو غير صحيح، لأن أنكى الرباعي غير وارد ولا وجود له في كتب اللغة، والوارد هو نكا الثلاثي بالهمز والتسهيل، يقال: نكا العدو ونكاه نكاية أصاب منه.
قال: إذا علمت ذلك تعلم أن اشتهار الكتاب بلفظ "المنكي" هو خطأ لأن المؤلف من أكابر العلماء الذين لا يخفى عليهم مثل هذه اللفظة، فلا يحمل الخطأ عليه بل على النساخ، واسم الكتاب الذي سماه به مؤلفه هو "المبكي" بالباء كما ذكره في "كشف الظنون".
ولقائل أن يقول إنه لا مانع من أن يكون ابن عبد الهادي مع تبحره في علم الحديث ضعيفاً في علم العربية فجاز عليه الخطأ بهذا اللفظ، لاسيما والتعبير بالنكاية هو الذي يناسب رده على عدوه، أو أنه يكون ماهراً في علم العربية أيضاً ولكن الله تعالى قد طمس على بصيرته في تسمية هذا الكتاب كما طمس على بصيرته في مسماه ليحصل الخطأ في الاسم والمسمى جميعاً، والدليل على جواز هذا الاحتمال أن خطأه في المسمى وهو نفس الكتاب أفحش وأظهر من خطئه في الاسم، ولكني تبعت بتسميته بالمبكي "كشف الظنون" وهو الصواب، والله أعلم.
هذا كله كلام النبهاني؛ وسبحان من أنطقه بكل باطل، وأظهر خاله للعالمين وأنه من كل خير عاطل، وكشف حقيقته لأولي الفضائل، وأبان إفلاسه من كل العلوم فلم يبق في جهله قول لقائل، صغار الطلبة يعلمون ما خفي على هذا الجاهل، والمبتدئون في العربية لم يخف عليهم ما خفي على النبهاني الغافل، ولا بد من الكلام على هذيانه والتنبيه على خطئه فنقول:
الجواب عن اعتراضه من وجوه:
الوجه الأول: أن العلم كما حققه علماء الوضع من قسم الموضوع بالوضع
الخاص لموضوع له، كذلك والمقصود من الوضع تعيين المسمى بحيث لا يشاركه غيره في هذا الوضع، فلا ترد الأعلام المشتركة لأن كلاً منها لا يشاركه آخر في الوضع له، فإذا كان الغرض تعيين المسمى وتمييزه عما عداه حصل بكل لفظ طابق الأصول أم لا، فإذا سمي شخص باسم ليس له في اللغة العربية نظير ولا معنى جاز، وعليه انقسام العلم إلى قسمين: منقول: ومرتجل، كما في الخلاصة:
ومنه منقول كفضل وأسد
…
وذو ارتجال كسعاد وادد
فما هذى به النبهاني ساقط من أصله، ولا يحتاج بيان خطئه إلى جواب آخر، ولكنا نزيد المقام وضوحاً تتميماً للفائدة.
الوجه الثاني: أن العلم. المنقول لا يبقى منه ألمغنى الأصلي بعد "وضعه علماً، ولذلك جعلوا عبد الله عَلََماً مفرداً، وهو ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، ولو بقي على معناه الأصلي لعد مركباً إضافياً، فإن جزء اللفظ يدل على جزء المعنى الإضافي، وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه بعد وضعه اسماً للكتاب خرج عن كونه مركباً تقييداً وصار من قسم المفردات، فلا يلاحظ في الجزء منه دلالة على المعنى حال العلمية، ولم يقصد المعنى الأصلي إلا لأجل الكناية كما ذكروه في أبي جهل وأبي لهب على ما فصل في كتب المعاني، وكذلك الألقاب المشعرة بمدح أو ذم، وهكذا الأسماء المنقولة عن صفات وأفعال لا يراد منها بعد العلمية معانيها الأصلية، نعم قد تدخل اللام على بعض الأعلام المنقولة عن المشتقات للمح الصفة كالفضل والحارث والنعمان ونحو ذلك، فبطل كلام المعترض.
الوجه الثالث: وهو من أحسن الأجوبة؛ أني وجدت لذلك فائدة في كتاب "الضرائر وما يسوغ للناظم دون الناثر" وقلت: المسألة العاشرة ما يلحق بالضرائر الشعرية، ثم قلت: اعلم أن الأئمة ألحقوا بالضرائر الشعرية ما في معناها وهو الحاجة إلى تحسين النثر بالازدواج، فلا يقاس على ما ورد منه لذلك في السعة،
كما لا يقاس على الضرائر الشعرية في متسع الكلام. ونقلت ما يناسب المقام عن "درة الغواص" للحريري، فقلت: ويقولون قد حدث أمر، فيضمون الدال من حدث مقايسة على ضمها في قولهم: أخذه ما حدث وما قدم، فيحرفون بنية الكلمة المنقولة ويخطئون في المقايسة المعقولة، لأن أصل بنية هذه الكلمة حدث على وزن فَعَلَ بفتح العين، كما أنشدني بعض أدباء خراسان لأبي الفتح البستي رحمه الله:
جزعت من أمر فظيع قد حدث
…
أبو تميم هو شيخ لا حدث
قد حبس الأصلع في بيت الحدث
وإنما ضمت الدال من حدث حين قرن بقدم لأجل المجاورة والمحافظة على الموازنة، فإذا أفردت لفظة حدث زال السبب الذي أوجب ضم دالها في الازدواج، فوجب أن ترد إلى أصل حركتها وأولية صيغتها.
ثم قال الحريري: وقد نطقت العرب بعدة ألفاظ غيرت مبانيها لأجل الازدواج وإعادتها إلى أصولها عند الانفراد، فقالوا: الغدايا والعشايا إذا قرنوا بينهما، فإن أفردوا الغدايا ردوها إلى أصلها فقالوا الغدوات، وقالوا: هنأني الشيء ومرأني، فإن أفردوا مرأني قالوا أمرأني، وقالوا: فعلت به ما ساءه وناءه، فإن أفردوا قالوا أناءه، وقالوا أيضاً: هو رجس نجس، فإن أفردوا لفظة نجس ردوها إلى أصلها وقالوا: أنجس، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} 1 وكذلك قالوا للشجاع الذي لا يزايل مكانه: أهيس أليس، والأصل في الأهيس الأهوس لاشتقاقه من هاس يهوس إذا دق، فعدلوا به إلي الياء ليوافق لفظة أليس.
وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ راعى فيها حكم الموازنة، وتعديل المقارنة فروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء المتبرزات في العيد:"ارجعن مأزورات غير مأجورات"2 وقال في عوذته للحسن والحسين عليهما السلام: "أعيذكما
1 سورة التوبة: 28.
2 الحديث في "سنن ابن ماجه"(1578) من، حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس، فقال:"ما يُجلسكُنَّ "؟ قلن: ننتظر الجنازة. قال: "هل تَغْسِلْنَ"؟ قلن: لا. قال: "هل تحملن"؟ قلن: لا. قال: "هل تُدلين فيمن يدلي"؟ قلن: لا. قال: "فارجعن مأزورات غير مأجورات ". وضعفه العلامة الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه""رقم 308- ط. المعارف".
بكلمات الله التامة؛ من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة"1.
والأصل فتي مأزورات موزورات لاشتقاقها من الوزر، كما أن الأصل في لامة ملمة لأنها فاعل من أَلَمَّتْ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام قصد أن يعادل بلفظ مأزورات لفظ مأجورات، وأن يوازن بلفظ لامة لفظتي تامة وهامة، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام:"من حفنا أو رفنا فليقتصر" أي: من خدمنا أو أطعمنا، وكان الأصل: أتحفنا، فأتبع حفنا رفنا.
ويروى في قضايا عليّ أنه قضى في القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثاً، وتفسيره: أن ثلاث جوار ركبت إحداهن الأخرى فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة ووقصت، فقضى للتي وقصت أي اندق عنقها بثلثي الدية على صاحبتيها، وأسقط الثلث باشتراك فعلها فيما أفضى إلى وقصها، والواقصة هنا بمعنى الموقوصة، وأنشد الفراء في هذا النوع:
هناك أخبية ولاج أبوبة
…
يخلط بالجد منه البر واللينا
فجمع الباب على أبوبة ليزاوج لفظة أخبية". انتهى ما نقل عن الحريري.
وفي الخلاصة:
وفي اضطرار وتناسب صرف
…
ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
وفي الكافية:
ولاضطرار وتناسب صرف
…
ما يستحق حكم غير المنصرف
ورأى أهل الكوفة الأخفش في
…
إجازة العكس اضطراراً يقتفي
وبعضهم أجازه اختياراً
…
وليس بدعاً فدع الإنكار
1أخرجه البخاري (3371) .
ومثل الشراح للمصروف للتناسب "سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً""قواريراً قواريراً" على قراءة نافع والكسائي، " ولا يغوثا ويعوقا ونسرا" على قراءة الأعمش وابن مهران. وقسموا التناسب إلى قسمين تناسب لكلمات منصرفة انضم إليها غير منصرف تحو سلاسلاً وأغلالاً، وتناسب لرؤوس الآي كقوارير الأول فإنه رأس آية، فنوّن ليناسب بقية رؤوس الآي في التنوين أو بدله وهو الألف في الوقف، وأما قوارير الثاني فنوّن ليشاكل قوارير الأول، والفرق في ذلك بين الضرورة والتناسب أن الصرف واجب في الضرورة وجائز في التناسب، وقد علمت أن التناسب غير التشاكل للازدواج. هذا ما كتبته من مسائل كتاب الضرائر، وبه علم أن اسم "الصارم المنكي في الرد على السبكي" بعد الميم نون كما هو المتواتر عن المصنف وهو الصواب، غير أن النبهاني قد تعود على التحريف والتبديل، فأراد أن يخرف الأسماء كما حرف نصوص القرآن والسنة الغراء، وقد فضحه الله تعالى بالجهل في سائر الأقطار والأنحاء، والحمد لله الذي نصرنا على الأعداء.
الوجه الرابع: أن التسمية بالصارم المبكي بباء بعد الميم تسمية لا معنى لها إذا لمحنا إلى الأصل المنقول عنه، فإن الصارم إنما يوصف في كلام العرب بالنكاية لا بأنه يبكي، فإن العصا أيضاً تبكي المضروب بها، بخلاف الصارم فإنه إذا ضرب به أحد هلك وفني وهي النهاية في النكاية، ولكن النبهاني مقصوده تسويد القراطيس، كما سود الله وجهه بإتباعه لوساوس إبليس.
وبالجملة فكل ما اعترض به على كتاب "الصارم المنكي" فهو اعتراض مردود عليه وكل ما انتقده فهو مدفوع عنه، وكان ما اعترض به عليه من شواهد جهله وآيات حرمانه.
تعيرنا ألبانها ولحومها
…
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
فكتاب "الصارم المنكي" للإمام الذي لا يجاذب رداء فضله ولا تدور العين بين أصحابه على مثله، علامة المعقول والمنقول، وفهامة الفروع والأصول،
البحر الزاخر، وفخر الأوائل والأواخر، قدوة الفضلاء، وخاتمة الأجلاء، شيخ الإسلام، ومن اتفق على جلالته الخاص والعام، الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، طيب الله تعالى ثراه، وجعل في أعلى عليين مقره ومثواه، كتاب تشد إليه الرواحل، وتطوى دون لقياه المنازل، ليس في بابه ما يدانيه، ولا ما يماثله ويضاهيه، جمع فأوعى، وأوجز فأعجز، وما ترك لساع من مسعى، بلغ الغاية في حسن الجمعية وكمال الاختصار، وأدرك النهاية في قلة المؤنة ولياقة الحفظ والتكرار.
كلم كان الشهد من ألفاظها
…
جار وإن الطيب منها سائر
قد أرى السبكي قدره، وأدى إلية الكيل صاعاً بصاع ولم يهمله بالمرة، حتى أرغم الله به أنوف المعتدين، وشفى به صدور قوم مؤمنين، وما كان من ذم بعض الغلاة والانتقاد عليه، فلما أصابهم منه من الويل والثبور، ولم يقدروا أن يقابلوه ولا يقفوا بين يديه، فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء، حيث ذب عن الدين المبين ما كاده به الخصوم والأعداء.
قال النبهاني: الفصل الثالث في الكلام على "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" وبيان أن مؤلفه حكم لابن تيمية بالميل، وعلى ابن حجر بالمين، وقد جاوز به الحد في تعصبه الشديد ضد جماعة من أئمة الإسلام، وأفراد العلماء الأعلام، لاسيما ابن حجر الهيتمي، والتقي السبكي وابنه تاج الدين، مؤيداً ما شذ به ابن تيمية في مسائله التي خالف بها الأمة المحمدية، وكانت أصلاً لمذهب الوهابية، ومقته لأجلها جمهور أئمة الدين من أهل المذاهب الأربعة السنية.
قال: وهذا الكتاب من أضر الكتب على من اطلع عليه من عوام المسلمين، والطلبة القاصرين، فيجب عليهم أن يعاملوه معاملة الكتب المخالفة لمذاهبهم، المكدرة لمشاربهم، بالإعراض التام عنه، وعدم مطالعة شيء منه، لئلا تضر شكوكه بيقينهم، ويوقع الخلل في أمور دينهم، أما العلماء فلا يخشى عليهم منه
ذلك الضرر، لتمييزهم بين خطأ ابن تيمية وطائفة الوهابية وصواب السبكي وابن حجر وجمهور الأمة المحمدية، وتفريقهم بين ما خلط فيه مؤلفه من الحق والباطل، والمحلى والعاطل، فلا ينخدعون بما جمعه فيه من زخارف الكلام، وبهارج الأوهام، التي زعم بها أن زلاّت ابن تيمية هي ما كان عليه السلف الصالح من أئمة الإسلام، ومع ذلك فالأولى بل الصواب للعلماء أيضاً الإعراض عنه، وعدم مطالعة شيء منه إلا للرد عليه، وبيان ما حواه من الخطأ الفاحش والتعصب الشديد ضد العلماء العاملين، هداة الأمة، ومصابيح الملة، كالأئمة الثلاثة: ابن حجر، والسبكي، وابنه تاج الدين وترجيحه لكثير مما يخالف عقائد بجمهور المسلمين، كمسألة الاستغاثة والزيارة، والقول بالجهة، وغير ذلك مما خلط فيه، ولا يقدر على تمييزه إلا العلماء الأعلام، ويخشى من مطالعته وقوع الخلل في عقائد الطلبة القاصرين والعوام.
قال: وأنا والله في حيرة من أمره، إن قلت إن ذلك اعتقاده يعارضني أني أعرفه أنه حنفي المذهب، من عائلة علم وسيادة في بغداد، كلهم من أهل السنة والجماعة، وأن ما اعتمده في هذا الكتاب- مما أيد به زلاّت ابن تيمية- هو مذهب الوهابية لا مذهب الحنفية، ولا مذهب آبائه وأجداده السادات الشافعية، وإن قلت إن ذلك ليس اعتقاده الحقيقي وإنما تظاهر به خدمة لصديق حسن خان الوهابي- الشهير، ملك بهوبال في الهند صاحب التآليف المشهورة- فهذا لا يليق بمثله، وإن كان هو الظاهر من محرراته ومراسلاته، ألا ترى أن كتابه المسمى "بغالية المواعظ" لما ألفه بعد "جلاء العينين" تجده قد زيّنه بالنقل عن كتب العلاّمة ابن حجر "كالزواجر، والصواعق" ونحوهما، ولم ينقل إلا نادراً عن ابن تيمية، والله أعلم بحاله في هذا الكتاب من القصد والنية، ولست أعترض عليه بإجابته عنه أن بعض الأقوال التي نقلها ابن حجر واعترض عليها لم تصح نسبتها إليه، واستشهد على ذلك بعبارات صحيحة أو غير صحيحة، فهذا لا مانع منه وهو حسن، ولكنه لم يقتصر على ذلك بل شنّع على ابن حجر بألفاظ لا يحسن استعمالها في حق بعض طلبة العلم فضلاً عن إمام كبير من أئمة الدين وكذلك عامل بسوء هذا
الصنيع- من قبيح التشنيع والتقريع- الإمام تقي الدين السبكي، حتى أنه لم يعبّر عنه بلفظ الإمام ولا بلفظ شيخ الإسلام، بل إما أن يقول قال السبكي، أو القاضي السبكي، وهو في الحقيقة المستحق للقب شيخ الإسلام، لأنه كان قاضي قضاة الشام- مع كونه من أئمة العلماء الأعلام- ولقب شيخ الإسلام إنما كانوا يلقبون به قاضي القضاة1، فابن تيمية بحسب هذا الاصطلاح لا يستحق لقب شيخ الإسلام وإن كان من أكابر شيوخ المسلمين وأئمة العلماء الأعلام، وهو رجل مطعون في عقيدته باعتقاد الجهة فضلاً عن بدعته المتعلقة بالزيارة والاستغاثة، والسبكي هو بالاتفاق من أئمة أهل السنة والجماعة ومن أفضل أئمة الإسلام، وابنه تاج الدين هو الإمام ابن الإمام باتفاق العلماء الأعلام، فما الذي حمل مصنف "جلاء العينين" على معاملتهما أسوأ المعاملة والميل كل الميل مع ابن تيمية، وذلك دليل على أنه من أهل البدعة لا من أهل السنة، والأرواح جنود مجندة، فروحه هي من أجناد روح ابن تيمية، فلا تأتلف مع أرواح هؤلاء الأئمة الأعلام، ولذلك كان منه في حقهم ما كان مع كونهم في جانب تعظيم جده الأعظم صلى الله عليه وسلم وإمامه ابن تيمية بعكس ذلك، ولكن الشرف والحسب لا يغني عن العلم والأدب.
إلى أن قال: ومصنف "جلاء العينين" لم يحكم لابن تيمية فقط بل حكم لجميع الوهابية، وليس، حكمه على ابن حجر فقط والسبكي وابنه بل على جميع أهل السنة والجماعة من الشافعية، والحنفية، والمالكية، وجمهور الحنابلة أيضاً، ومن طالع كتابه هذا بإنصاف يعلم يقيناً أنه أخطأ فيه أفحش الخطأ في حق نفسه وأبيه والمسلمين عموماً وسيد المرسلين خصوصاً، وأنه لوث نفسه بأقذار البدع الوهابية التي لا يغسلها عنه بحار الدنيا إلى يوم القيامة، وكما آذى نفسه بذلك أشد الأذى آذى كل من اطّلع على كتابه من المسلمين من أهل المذاهب الأربعة- حتى المنصفين من الحنابلة- بذمهم إياه وخوضهم في عرضه ما بقيت الدنيا وبقي فيها هذا الكتاب.
1 انظر عن هذا اللقب "معجم المناهي اللفظية"(ص 433) .
ثم إنه هذى بما هذى، ثم قال: ويا ليت شعري كيف اختار لنفسه ولأبيه- بمقتضى ما نقل عن تفسيره "روح المعاني "- منابذة جمهور الأمة المحمدية، وما اتفق عليه أئمتها وعلماؤها- في جميع هذه الأعصار المتطاولة، من أمر الزيارة والاستغاثة، حتى صار من الأمور المعلومة بالضرورة، مع كونه هو الذي يليق بما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من التعظيم والتوقير، ولا عبرة بما قاله ابن تيمية وطائفته الوهابية، ومن شاكلهم من شذاذ المذاهب من منع ذلك، لما توهموه وتخيلوه من المحاذير التي لا تخطر عند الزيارة والاستغاثة ببال أجهل الجاهلين فضلاً عما فوقه من اعتقاد الألوهية فيمن يزورونه أو يستغيثون به، مع أن بدعة هؤلاء فيها من سوء الأدب في جانبه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى على من في قلبه أدنى نور، هذا لعمري مما لا يختاره عاقل لأخيه فضلاً عن نفسه وأبيه، وقد لعمري آذى أباه وعقه بتلك النقول التي كان الناس عنها في غفلة، لأنها مفرقة في تفسيره فجمعها في هذه المسائل في كتابه هذا مفتخراً بها، ومثبتاً عند السيد صديق حسن خان وطائفته أن أباه كان أيضاً على مذهبهم ومشربهم في ذلك.
وقد سمعت بسبب هذا من بعض علماء مكة المشرفة كلاماً فظيعاً في حقه وحق أبيه، ولما كان قد أظهر تحامله في كتابه هذا على أهل السنة ومذهبهم- ولاسيما الإمام السبكي وابنه وابن حجر- وبالغ في التعصب بمدح ابن تيمية ومذهبه وكل من كان على شاكلته؛ رأيت أن أذكر هنا الفرق بين ابن تيمية وابن حجر، ليظهر لكل أحد أنه حكم لابن تيمية بالباطل.
انتهى كلام النبهاني فيما قاله في شأن "جلاء العينين" وقد نقلته كله- وإن كان في نقله تضييع للقرطاس والمداد- لأن القصد مناقشته في جميع كلماته، وبيان ما اشتمل عليه من عواره وغلطاته.
اعلم أن جميع ما ذكره النبهاني في هذا الفصل قد تكرر غير مرة، غير أنه لما كان خالياً عن الفهم فارغاً عن العلم والفضل؛ أراد أن يتطفل على المؤلفين بتأليف كتاب، وكان مبلغ علمه ومنتهى كمالاته المباحث المتعلقة بزيارة القبور، والشعر
المشتمل على الغلو والالتجاء إلى غير الله مما يحفظه العوام الذين هم كالأنعام، ولا يدرون ما فيه مما يصادم دين الإسلام، وينشده المنشدون في المجامع، وقراءة مولد خير الأنام، وكان عنوان ما يعتقده ويدين الله به أن الاستغاثة بغير الله هي ركن الدين، ومدار توحيد المسلمين، وشتم ابن تيمية وتبديعه وتضليله، وتضليل من قال بقوله ومن انتصر له، ومن تعرض للرد على أقوال السبكي وابن حجر وسائر الغلاة.
وقد حشا كتابه من أوله إلى آخره بمثل هذا الهذيان، والزور والبهتان، وأبدى وأعاد في ذلك ليعظم حجم كتابه، وتطول متدرجات فصوله وأبوابه، ليتبجح به على أمثاله من العوام، ويفتخر على الجهلة الطغام، وقد تبين لي حاله من كتابه هذا وأنه رجل ممار عنود معجب بنفسه، منطو على حب البدع، مصر على تقليد الآراء الفاسدة، والأقوال الكاسدة، وأنه لا يفيد فيه كل كلام، ولا تؤثر فيه سهام الملام، وأرقام الأقلام، وأن جهله جهل مركب مع رعونة ونقصان عقل ودين، وقلة إيمان وعدم حياء، فهو لا ينتهي عن غيه، ولا يرتدع عن بغيه، ولا ينتهي عن جهله، ولسان حاله يقول:
لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي
…
ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
ومن اليقين عندي أن الكلام معه سدى، والرد عليه يغريه على سلوك جادة الردى، والميل إلى الصد عن الهدى، ورأيته- مع ما هو عليه من العجب ومزيد الجهل والغباوة- مملوء الإهاب من الحسد من مفرقه إلى قدمه، وهكذا كان شأن اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كفروا به حسداً من عند أنفسهم، والضالون قد تشابهت قلوبهم، ولولا حسده وتجهله لم يتطاول على "جلاء العينين" ومصنفه ذلك التطاول الشنيع، ويهذي بما هذى به من الكلام الفظيع، وإلا فما الباعث لكلامه هذا على مصنف "جلاء العينين" ووالده، وعلى الشيخ ابن تيمية وأصحابه، ومن اليقين أنه لم يتهور هذا التهور على من طوى بساط الإسلام، وهد ركن الدين، وهدم بنيان قواعد المسلمين، بل أبدى له العذر وحمل ذلك على المقاصد الحسنة الخيرية
وكل أحد يعلم أن المسائل العلمية لم تزل معترك أنظار العلماء، ومثار فرسان الفضلاء، ولو كان هذا الزائغ من أهل الفطنة والعرفان، ومن فرسان رجال ذلك الميدان: لأورد المسائل التي في "جلاء العينين" واحدة بعد أخرى، وأورد عليها ما يراه وارداً بحسب نظره الفاسد، وفهمه الكاسد، وسلك مسلك والمتناظرين لأجل إظهار الصواب، كما هو شأن الخلافيين الذين انتصروا لمذاهبهم، كما وقع من ذلك بين أصحاب المذاهب الأربعة وأتباعهم أولي الباب.
ثم إن ما ذكره في مقالته هذه في شأن جلاء العينين ومصنفه وما أورده فيها قد سبق الكلام عليه مراراً، وأبطلنا أقواله الكاسدة بحمد الله جهاراً، وتكرر معه الكلام في غير هذا المقام، ولكن الأمر كما قال القائل وهو المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه
…
ما لجرح بميت إيلام
وها أنا مع ذلك أذكر ما يرد عليها من المؤاخذات، وبيان ما فيها من الخطأ والغلطات، ليظهر جهله وفساد أقواله للناظرين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين.
فأقول من أقواله- التي هي مواقع للنظر وهدف لرمي سهام الفكر ومحل للإيراد وموقع للفساد- قوله: إن مؤلف جلاء العينين حكم لابن تيمية بالميل، وعلى ابن حجر بالمين إلخ.
جوابه: أن الأمر ليس كما قال، بل إن مصنف "جلاء العينين" أورد فيه أولاً تراجم الشيخ وبعض أسلافه الكرام، ثم ذكر بعض من ابتلي وأوذي من العلماء، ثم ذكر ما قاله ابن حجر في "الفتاوى الحديثية" مما زوره على الشيخ وافتراه، ثم ذكر تراجم بعض المنكرين عليه من خصومه وحسدته، ثم أفرد مقصداً في تراجم بعض المثنين عليه من تلامذته وغيرهم، ثم ذكر تراجم من قال ابن حجر عن الشيخ أنه تتبعهم من المتصوفة، ثم أورد فصلاً في الكلام على ما نقله الشيخ ابن حجر من عبارة شيخ الإسلام وأورد عدة تراجم لأصحاب الأقوال، ثم ذكر
اختيارات الشيخ وما لها وما عليها، وفصل الكلام في تحقيق الكلام النفسي وما ذهب إليه الحنابلة والأشاعرة وأطنب في مباحث الصفات وما ذهب إليه السلف، ثم ذكر ما اختاره من التوسط بين القولين، ثم ذكر الاستغاثة والتوسل، وعقد فصلاً لأدلة المجوزين، وفصلاً آخر في المانعين، ثم ذكر الأجوبة عما نقله ابن رجب من اختيارات الشيخ، وبها ختم الكتاب وإليه المرجع والمآب.
هذا ما كان في "جلاء العينين"، وأحال الحكم وترجيح الحق من الباطل إلى القارئين من أهل الفضل والإنصاف، لا من أهل الجور والاعتساف، على أنه لو كان الأمر كما زعم وأنه حكم بما حكم فماذا عليه بعد أن راعى في حكمه ما أدى إليه الدليل، أليس الله تعالى قال:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 1 وفي الحديث الصحيح "من علمه الله علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نار"2. وقد سبق ما أوردنا من كلام الإمام الشافعي في تفسيره سورة العصر، وأن من جملة مراتب الكمال الأربع التي اشتملت عليها السورة التواصي بالحق، بأن يعلّم بعض الناس بعضاً حقائق الأمور وما هي عليه في نفس الأمر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما استوجب خيرية الأمة المحمدية على كل أمة أخرجت للناس، وابن حجر ومن كان على منهاجه كلهم ظلموا الشيخ ابن تيمية، ولم يقصدوا في تهورهم عليه وجه الله، بل لم يكن منهم ما كان إلا تشفياً به، وقضاء لحق أهواءهم، وإلا فمن المعلوم ما كان من الروافض والنواصب والخوارج والمعتزلة والزيدية وغيرهم من الفرق الإسلامية، وممن كان قبل الإسلام، ومع ذلك فلم يلتزم ابن حجر ما التزمه في ابن تيمية، وهكذا السبكي قبله، وهكذا الغلاة في كل عصر.
ما ذكره ابن حجر المكي في فتاواه عن الشيخ؛ منه ما هو كذب وزور وبهتان
1 سورة آل عمران: 187.
2 ضعيف بهذا اللفظ. واللفظ الصحيح: "من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة". أخرجه أحمد (2/ 363، 305، 495) وأبو داود (3658) والترمذي (2649) وابن ماجه (261) وغيرهم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
منه عليه، كنسبة القول بالجسمية والجهة، وعدم تحريف التوراة والإنجيل ونحو ذلك، وكتب الشيخ المثبوتة في العلم كلها تصرح بضد ذلك، وجميع كتبه مصرحة بنفي الجهة والجسمية، وشطر من كتابه "الجواب الصحيح" في إثبات تحريف الكتابيين لكتبهم، فأي ذي دين وإنصاف لم يكذّب ابن حجر في قوله ويحكم عليه بأنه من الكاذبين، وأن الشيخ كان من المحققين؟!.
والمسائل الأخرى التي ادّعى ابن حجر على الشيخ أنه خرق بها الإجماع كلها مما قال به السلف، وقام عليها الدليل الصحيح، وألّف في اختياراته كتب مفصلة، فأي زور أكبر من هذا؟ وأي بهتان فوق هذا البهتان؟ أيليق بمن يدّعي العلم أن يسلك هذا المسلك الذي لو سلكه عامي من العوام لعيب به؟ فكيف يسوغ للمنصف أن لا يحكم للشيخ بالميل وعلى ابن حجر بالمين؟ وهل بقي في مين ابن حجر شك لذي نظر؟
ومنها أنه قال: وقد جاوز به الحد في تعصبه الشديد ضد جماعة من أئمة الإسلام، وأفراد العلماء الأعلام، لاسيما ابن حجر الهيتمي، والتقي السبكي وابنه، مؤيداً ما شذ به ابن تيمية في مسألته المعلومة..إلخ.
فيقال له: هذا هو الكلام السابق بعينه، والرد على ذاك رد على هذا، ومن يتبع الدليل ويجري على مقتضى البرهان لا يقال فيه أنه قد تجاوز الحد، بل إن من ينحرف عن الشريعة هو الذي تجاوز الحد، والحق أحق بالقبول، والإذعان له عين الإنصاف، والميل عن الجور والاعتساف، والمخالف في ذلك مكابر، بل ليس من ذوي الألباب والبصائر، وكل منصف ذي فهم يعلم أن ما قاله ابن حجر والسبكي وأضرابهما هو محض إتباع هوى ومكابرة وعناء، وإذا كان ما اختاره الشيخ أيده الدليل والبرهان وأن أقواله هي قول الله ورسوله وسلف الأمة وأكابر الأئمة كما أسلفنا جميع ذلك فكيف يقال إن تلك الأقوال مما شذ به ابن تيمية؟ وهل هذا الكلام إلا من الغباوة والمكابرة، وإنكار للضرورة وتقليد للآراء؟
ثم إن علماء المذاهب الأربعة ممن يعتد بعلمه لم يمقتوا الشيخ، وكتب
المنصفين منهم طافحة بالثناء عليه، إلا ما كان من بعض خصومه وحسدته، كالسبكي وأضرابه، ومن قلدهم في غيهم وضلالتهم من الغلاة، كما سنذكر تفصيل ذلك في الكلام على مناقبه إن شاء الله.
ومنها أنه قال: وهذا الكتاب من أضر الكتب على. من ما اطلع عليه من عوام المسلمين والطلبة القاصرين، فيجب أن يعاملوه معاملة الكتب المخالفة لمذاهبهم المكدرة لمشاربهم.. إلخ.
فيقال له: هذا كلام فاسد، قد بعثه علية حسده وحبه لهواه وضلاله وغيه، فإن كتاب "جلاء العينين" جلاء عيون الموحدين، وبهجة قلوب المؤمنين، كم من منشد وجد به ضالته، وكم من حيران أنس به هدايته، وكم من مسلم قد انتفع به، وكم من منصف عرف الحق بسببه، فهو الكتاب الذي راق لفظه ومعناه، وفاق ما سواه بمفهومه وفحواه، إذا أمعن ناقد النظر فيه شاهد منه حديقة يانعة تفوح فوائح ثراها كالمسك الأذفر، كأنها جونة عطار، وتخيله روضة رائقة تتأرج بروائح الند والعنبر، كأنها لطائم تجار، فاجتنى من بدائع معانيه زهر المروج وأنوار الربيع، واجتلى من روائع مبانيه زهر البروج وأزهار المرابيع، رائق ألفاظه أرق بل وأروق من مروقات السلاف، ورواشق تعبيراته تروح الأرواح وتهز الأعطاف، كالشهد ريقه، والنسيم رقه، واللطف على الحقيقة.
رق لفظاً فقيل خمر حرام
…
راق معنى فقيل سحر حلال
فجزى الله مؤلفه أحسن الجزاء، مما أعده لأهل طاعته المتّبعين لشريعته من الأصفياء، حيث لم يأل جهداً في تأليف هذا الكتاب، المشتمل على فصل الخطاب لدى ذوي الألباب، ولم يقصر نصحاً في ترصيف أبواب تبهر المتقدم والمتأخر من ذوي الكمالات والآداب، وأودعه نكتاً لطيفة تفوق بسناها على بدر التمام، ورصعه بفرائد تزهو في الاتساف وتروق في الانتظام.
في بطن قرطاس رخيص ضمنت
…
أحشاؤه درر الكلام الغالي
فلله در مؤلفه من عالم أبدع، وفاضل أعلن بالحق وصدع، وهذب فذهب،
وبوب فرتب، أخذه ذهباً فغدا يتوقد لهباً، وتناوله قبساً فتجلى في طر البلاغة شهباً، وزاد في حسن سبكه فهزت أعطاف ناظريه طرباً، إلى آخر ما وصفه به بعض الأفاضل حين قرظه أكابر الأماثل.
وقد أثنى محلى كتاب "جلاء العينين" وقرظه جماعة من أعيان المذاهب الأربعة المعاصرين للمصنف رحمهم الله تعالى، ولا بأس أن نذكر من كلام بعضهم نبذاً يتحلى بها وبنفائس دررها جيد هذا الكتاب، فأقول ومن الله أستمد التوفيق والإعانة:
ممن أثنى على كتاب "جلاء العينين" علامة المنقول والمعقول، وفهامة الفروع والأصول، خاتمة الأدباء، وتذكرة فحول الشعراء، فريد عصره، ووحيد دهره، الذي طار صيت مجده في الآفاق، وأشرقت شمس فضله في الحجاز والعراق، أحمد باشا الفاروقي الموصلي، طيب الله تعالى ثراه بعطر رضوانه الجلي، وقد قرظ "جلاء العينين" بتقريظ هو لدى الأدباء قرة عين، وهو تقريظ نفيس، يفعل بالألباب ولا فعل الخندريس، وذلك قوله- لا زال في بحبوحة الجنان مسكنه ومحله:
بجلاء العينين كحلت عيني
…
وأجلت الأفكار في الأحمدين
فرأيت الصواب ما قد حكاه
…
نص هذا الكتاب من غير مين
قد حوى في أصدافه خير در
…
فتراءت أوراقه من لجين
وكذاك الأشياء يظهر فيها
…
رونق الحسن جامع الضدين
أوضح الحق لدى كل راء
…
وجلا عن عيونه كل غين
وخصوصاً قد باعد البحث منه
…
بين من يدّعي الضلال وبيني
فلنا بالنعمان خير اتباع
…
ثابت الأصل محكم الطرفين
كم جلا الشك عن جليلين كانا
…
في سماء العلوم كالنيرين
خدمة ساقها لأجل رضى اللـ
…
ـه ونفى الظنون عن هذين
نسج الفكر منه حسن ثياب
…
لبستها مناكب الشيخين
حاكها بالأفكار علماً فليست
…
وشى صنعاً يحوكها باليدين