الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية)
قد أكثر أئمة الإسلام من الثناء على هذا الإمام، كالحافظ المزي، وابن دقيق العيد، وأبي حيان النحوي، والحافظ ابن سيد الناس، والعلامة كمال الدين ابن الزملكاني، والحافظ الذهبي، وغيرهم من أئمة العلماء.
قال جمال الدين أبو الحجاج المزي ممن ابن تيمية: ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه.
وقال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وقلت له: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك.
وقال الشيخ إبراهيم الرقي: الشيخ تقي الدين يؤخذ عنه ويقلد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علماً وهو على الحق، ولا بد ما يعاديه الناس فإنه وارث علم النبوة.
وقال قاضي القضاة: أبو عبد الله بن الحريري: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟
وقال أبو حيان شيخ النحاة لما اجتمع بابن تيمية: ما رأت عيناي مثله، ثم مدحه أبو حيان على البديهة في المجلس وقال.
لما أتينا تقي الدين لاح لنا
…
داع إلى الله فرداً ماله وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا
…
خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهرنا حبراً
…
بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
…
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره درست
…
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ
…
هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
وقال العلامة ابن الوردي ناظم البهجة في رحلته- لما ذكر علماء دمشق وترك التعصب والحمية-: وحضرت مجالس ابن تيمية فإذا هو بيت القصيدة، وأول الخريدة، علماء زمانه فلك هو قطبه، وجسم هو قلبه، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر، حضرت بين يديه يوماً فأصبت المعنى، وكناني وقبل بين عيني اليمنى، وقلت:
إن ابن تيمية في
…
كل العلوم أو حد
أحييت دين أحمد
…
وشرعه يا أحمد
وقال الحافظ فتح الدين أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري المصري- بعد أن ذكر ترجمة الحافظ المزي-: وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، تبرز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دبّ إليه من أهل بلده داء الحسد، وألب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً أوسعوه بسببه ملاماً، وفوقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، يسومونه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، ولم يزل بمجلسه إلى حين ذهابه إلى رحمة الله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ثم قال: قرأت على الشيخ الإمام حامل راية العلوم ومدرك غاية الفهوم تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله، بالقاهرة
قدم علينا، ثم ذكر حديثاً من جزء ابن عرفة.
وقال الشيخ علم الدين البرزالي في "معجم شيوخه ": أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الشيخ تقي الدين أبو العباس الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه، قرأ القرآن وبرع فيه والعربية والأصول، ومهر في علم التفسير والحديث، وكان إماماً لا يلحق غباره في كل شيء وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين، وكان إذا ذكر التفسير بهت الناس من كثرة محفوظه وحسن إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل علم كان الحاضرون يقضون منه الحجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد من أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة يفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه وطهارة أنفاسه وصدق نيته وصفاء ظاهره وباطنه وموافقة قوله لعمله وأناب إلى الله تعالى خلق كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر والتقلل من الدنيا رحمه الله تعالى.
وقال العلامة الزملكاني أحد أئمة الأعلام: لقد أعطى ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب، والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداوود الحديد، كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، ووقعت مسألة فرعية في قسمة جرى فيها اختلاف بين المفتين في العصر فكتب فيها مجلدة كبيرة، وكذلك وقعت مسألة في حد من الحدود كتب فيها مجلدة كبيرة أيضاً، ولم يخرج في كل واحدة عن المسألة، ولا طول بتخليط الكلام والدخول في شيء والخروج من شيء وأتى في كل واحدة بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وقال عن كتاب "بيان الدليل على بطلان التحليل": من مصنفات سيدنا وشيخنا وقدوتنا الشيخ السيد الإمام العالم العلامة الأوحد البارع الحافظ الزاهد الورع القدوة الكامل العارف تقي الدين شيخ الإسلام، مفتي الأنام، سيد العلماء، قدوة الفضلاء، ناصر السنة، قامع البدعة، حجة الله على العباد، راد أهل الزيغ والعناد، أوحد العلماء العاملين، آخر الأئمة المجتهدين، أبي العباس أحمد بن تيمية، حفظ الله على المسلمين طول حياته، وأعاد عليهم من بركاته، أنه على كل شيء قدير.
وقال عن كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد، العابد القدوة، إمام الأئمة، وقدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة ومن عظمت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة: تقي الدين أحمد ابن تيمية، أعلى الله مناره، وشيد به من الدين أركانه، ثم قال:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة
…
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة
…
أنوارها أربت على الفجر
وقال الشيخ الإمام القدوة الزاهد، عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي: شيخنا السيد الإمام، العلامة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق، ومؤصلها بالأصول الشرعية للطالب الفائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلى قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم وسبيلهم، فكان في دارس نهجهم سالكاً، ولأعنة قواعده مالكاً: الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن
عبد السلام بن تيمية، فوالله ثم والله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثله علماً وحالاً، وخلقاً واتباعاً، وكرماً وحلماً في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً، وأعلاهم- في انتصار الحق وقيامه- همة وأسخاهم كفاً، وأكملهم اتباعاً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأطال في ترجمة الشيخ.
وقال الحافظ الناقد أبو عبد الله شمس الدين الذهبي: نشأ- يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله في تصون تام، وعفاف وتأله، وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال، ومات والده وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، فدرس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكان يورد الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح، وكان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، رأساً في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعة وسخاء وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وكثرة تصانيف، وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى، وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير والأصول، وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها، ودقها وجلها، فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمى المتكلمون فهو فردهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلسهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدين، فالله تعالى يغفر له ويسكنه أعلى جنته، فإنه كان رباني الأمة، وفريد الزمان، وحامل
لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، رأساً في العلم، يبالغ في إطراء قيامه في الحق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لاحظتها من فقيه. قال: وكان له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها أقوال المذاهب الأربعة وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج له بالكتاب والسنة.
ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته وينص على أسماء جملة منها، فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه، بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث يكون، وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر منه من الورع وكمال الفكر وسرعة الإدراك والخوف من الله العظيم والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم.
وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، ولقد أقامه في نوبة غازان وقام بأعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وبخطلو شاه، وببولاي، وكان فنجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب، وهو كبر من
أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والقمام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه.
وقال في مكان آخر في ترجمة طويلة: وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم، وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظ لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهر عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف فيه من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي.
وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة، وإذا رآه القمري تحير فيه، ولفرط طول باعه في التفسير وعظمة إطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة، وينصر قولاً واحداً موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحواً من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد، وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد، ثم ذكر بعض تصانيفه رحمه الله.
وكتب الذهبي طبقة بخطه يقول فيها: سمع جميع هذا الكتاب على مؤلفه شيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد شيخ الإسلام مفتي الفرق قدوة الأمة أعجوبة الزمان بحر العلوم حبر القرآن تقي الدين سيد العباد أبي العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه.
وقال الشيخ علم الدين: رأيت إجازة بخط الشيخ تقي الدين وقد كتب تحتها الشيخ شمس الدين الذهبي: هذا خط شيخنا الإمام شيخ الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم تقي الدين، مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقرأ
القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وله نحو العشرين سنة، وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وأما حفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه.
وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيراً، وعربيته قوية جداً، وأما معرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير من المأكل والملبس. انتهى كلام الذهبي ولقد أنصف رحمه الله تعالى.
وقال يعض قدماء أصحاب الشيخ ابن تيمية وقد ذكر نبذة من سيرته: أما مبدأ أمر، ونشأته فإنه نشأ من حين نشأ في حجور العلماء، راشفاً كؤوس الفهوم، راتعاً في رياض التفقه ودوحات الكتب الجامعة لكل فن من الفنون، لا يلوي إلى غير المطالعة والاشتغال والأخذ بمعالي الأمور وخصوصاً علم الكتاب العزيز والسنة النبوية ولوازمهما، ولم يزل على ذلك خلفاً صالحاً سلفياً، متألهاً عن الدنيا صيناً تقياً، براً بأمه ورعاً عفيفاً، عابداً ناسكاً صواماً قواماً ذاكراً لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، راجعاً إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم ولا ترتوي من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال ولا تكل عن البحث، وقل أن يدخل في علم من العلوم من باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك مستدركات في ذلك العلم على حذاق أهله مقصودة بالكتاب والسنة، ولقد سمعته في مبادىء أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة
أو الشيء أو الحالة التي تشكل علي فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينجلي إشكال ما أشكل، قال: وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي، قال: ولقد كنت في تلك المدة وأول النشأة إذا اجتمعت بالشيخ ابن تيمية في ختمة أو مجلس ذكر خاص مع المشائخ وتذاكروا وتكلم مع حداثة سنة أجد لكلامه صولة على القلوب، وتأثيراً في النفوس، وهيمنة مقبولة، ونفعاً يظهر أثره وتنفعل له النفوس التي سمعته أياماً كثيرة 4 حتى كأن مقاله بلسان حاله، وحاله ظاهر في مقاله.
وقال الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي في كتابه المناقب: لم يبرح شيخنا- يعني ابن تيمية- في ازدياد من العلوم، وملازمة للاشتغال وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبيل الخير، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم، والإنابة والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والأمانة، والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق ونفع الخلق والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير.
وكان رحمه الله سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحراً لا تكدره الدلاء، وحبراً يقتدي به الأخيار الألباء، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأمصار، واشتغل بالعلوم، وكان ذكياً كثير المحفوظ، إماماً في التفسير وما يتعلق به، عارفاً بالفقه واختلاف العلماء والأصلين والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفاً به متقناً له، وأما الحديث فكان حافظاً له، مميزاً بين صحيحه وسقيمه، عارفاً برجاله
مضطلعاً من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، وأثنى عليه وعلى فضائله جماعة من علماء عصره.
وقال الشيخ الإمام الفاضل الأديب أحمد شهاب الدين بن فضل الله العمري الشافعي في تاريخه المسمى "بمسالك الأبصار في مسالك الأمصار" في ترجمة الشيخ ابن تيمية- وهي طويلة تبلغ كراسة فأكثر-: ومنهم أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني، العلامة الحافظ الحجة المجتهد المفسر، شيخ الإسلام، نادرة العصر، علم الزهاد، تقي الدين، أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي أتيته، رضع ثدي العلم منذ فطم، وطلع وجه الصباح ليحاكيه فلطم، وقطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أنسى السلف بهداه، وأنأى الخلف عن بلوغ مداه، على أنه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، وتسنأت منه عظماء على مشاهير الشهور، فأحيا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فننه الرطيب ما غرس، وأصبح في فضله آية إلا أنه آية الحرس، عرضت له الكدى فزحزحها، وعارضته البحار فضحضحها، ثم كان أمة وحده، وفرداً حتى نزل لحده، جاء في عصر مهول بالعلماء، مشحون بنجوم السماء، تموج في جانبيه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم، وتشرق في أنديته بدور دجنة، وصدور أسنة، إلا أن صباحه طمس تلك النجوم، وبحره طم على تلك الغيوم، ففاءت سمرته على تلك التلاع، وأطلت قسورته على تلك السباع، ثم عبيت له الكتائب فحطم صفوفها، وخطم أنوفها، وابتلع غديره المطمئن جداولها، واقتلع طوده المرجحن جنادلها، وأخمدت- أنفاسهم ريحه، وأكمدت شرارهم مصابيحه.
تقدم راكباً فيهم إماماً
…
ولولاه لما ركبوا وراه
فجمع أشتات المذاهب وشتات الذاهب، ونقل عن أئمة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها، ومثل صورهم الذاهبة وأحضرها، فلو شعر أبو حنيفة بزمانه وملك أمره لأدنى عصره إليه مقترباً، أو مالك لأجرى وراءه
أشهبه ولو كبا، أو الشافعي لقال ليت هذا كان للأم ولداً وليتني كنت له أباً، أو الشيباني ابن حنبل لما لام عذاره إذ غدا منه لفرط العجب أشيبا، لا بل داود الظاهري وسنان الباطني لظنا تحقيقه من منتخله، وابن حزم والشهرستاني لحشر كل منهما ذكره في نحله، أو الحاكم النيسابوري والحافظ السِّلفي لأضافه هذا إلى مستدركه وهذا إلى رحله، ترد إليه الفتاوى ولا يردها، وتفد عليه فيجيب عنها بأجوبة كأنه كان قاعداً لها يعدها.
أبداً على طرف اللسان جوابه
…
فكأنما هي دفعة من صيب
وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ قليل النسيان، قلما حفظ شيئاً فنسيه، وكان إماماً في التفسير وعلوم القرآن، عارفاً بالفقه واختلاف الفقهاء والأصوليين، والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق وعلم الهيئة، والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، وكان حفظه للحديث مميزاً بين صحيحه وسقيمه1، عارفاً برجاله، فتضلعاً من ذلك، وله تصانيف كثيرة، وتعاليق مفيدة، وفتاوى مشبعة في الفروع والأصول والحديث، ورد البدع بالكتاب والسنة. وأطال في ترجمة الشيخ رحمه الله تعالى فاقتصرنا على ذلك خوف التطويل.
وقال الشيخ الإمام الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزار في كتابه "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية": أما غزارة علومه فمعرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه ونقله لأقوال العلماء في تفسيره واشتهاره بدلائله وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه وفنون حكمه وغرائب نوادره وباهر فصاحته وظاهر ملاحته فإن فيه من الغاية التي ينتهي إليها والنهاية التي يعول عليها، ولقد كان إذا قرىء في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها
1 وأعمل الآن على كتاب أجمع فيه كلام شيخ الإسلام على بعض الأحاديث التي تكلم عليها ووسمته بـ"الأحاديث والآثار التي تكلم عليها شيخ الإسلام تصحيحاً وتضعيفاً"- يسّر الله إتمامه على خير.
فينقضي المجلس بجملته والدرس برمته وهو في تفسير بعض آية منها، وأما معرفته وبصره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته وسراياه وبعوثه وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه والمنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم وأحوال مجاهداتهم في دين الله وما خصوا به من بين الأمة فإنه كان رضي الله عنه من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضاراً لما يريده منه، فإنه قل أن ذكر حديثاً في مصنف أو فتوى أو استشهد به أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرهما، وذكر اسم راويه من الصحابة، وقل أن سئل عن أثر إلا وبيّن في الحال حاله وحال أكثره وذاكره، ولا والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى كان إذا أورد شيئاً من حديثه في مسألة ويرى أنه لم يجد غيره من حديثه يعمل ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائناً من كان، ومنحه الله تعالى بمحرفة اختلاف العلماء ونصوصهم وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل وما روي عن كل منهم من راجح ومرجوح ومقبول ومردوده في كل زمان ومكان، ونظره الصحيح الثاقب الصلب للحق مما قالوه ونقلوه وعزوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه، حتى كان إذا اشتغل عن شيء من ذلك كان كأن جميع المنقول فيه عن الرسول وأصحابه والعلماء من الأولين والآخرين متصور ومسطور بإزائه يقول منه ما يشاء ويذر ما يشاء، وهذا قد اتفق عليه كل من رآه، وقل كتاب من فنون العلوم إلا وقد وقف عليه، فكأن الله تعالى قد خصه بسرعة الحفظ وبطء النسيان، لم يكن يقف على شيء ويسمع بشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه ع وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن له مستعاراً بل كان له شعاراً ودثاراً، جمع الله له ما خرق له العادة، ووفقه في جميع عمره لإعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته من أكبر شهادة، حتى اتفق كل ذي عقل سليم أنه ممن عني نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر
دينها"1. فلقد أحيا الله تعالى به ما كان قد درس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين، والحمد لله رب العالمين ".
وبالجملة؛ فكلام الأئمة بالثناء عليه مما يطول، وفيما ذكرناه كفاية تدل على علو رتبته ورفيع شأنه ومرتبته رضي الله تعالى عنه آمين.
وأثنى عليه كثير من الفضلاء بالقصائد في حال حياته فمن ذلك قصيدة نجم الدين إسحاق بن أبي بكر التركي وهي:
ذراني من ذكرى سعاد وزينب
…
ومن ندب أطلال اللوى والمحصب
ومن مدح آرام سنحن برامة
…
ومن غزل في وصف سرب وربرب
ولا تنشداني غير شعر إلى العلى
…
يظل ارتياحاً يزدهيني ويطبي
وإن أنتما طارحتماني فليكن
…
حديثكما في ذكر مجد ومنصب
بحب المعالي لا بحب أم جندب
…
أقضي لبانات الفؤاد المعذب
خلقت امرءاً جلداً على حملي الهوى
…
فلست أبالي بالقلى والتجنب
سواء أرى بالصول تقريض جؤذر
…
أو إعراض ظبي ألعس الثغر أشنب
ولم أصب في عصر الشبيبة والصبا
…
فهل أصبون كهلاً بلمة أشيب
يعنفني في بغيتي رتب العلى
…
جهول أراه راكباً غير مركبي
له همة دون الحضيض محلها
…
ولي همة تسمو على كل كوكب
فلو كان ذا جهل بسيط عذرته
…
ولكنه يدلي بجهل مركب
يقول علام اخترت مذهب أحمد
…
فقلت له إذ كان أحمد مذهب
وهل في ابن شيبان مقال لقائل
…
وهل فيه من طعن لصاحب مضرب
أليس الذي قد طار في الأرض ذكره
…
وطبقها ما بين شرق ومغرب
إلى أن قال:
إمام الهدى الداعي إلى سنن الهدى
…
وقد فاضت الأهواء من كل مشعب
وأصحابه أهل الهدى لا يضرهم
…
على دينهم طعن امرىء جاهل غبي
1 تقدم تخريجه.
هم الظاهرون القائمون بدينهم
…
إلى الحشر لم يغلبهم ذو تغلب
لنا منهم في كل عصر أئمة
…
هداة إلى العليا مصابيح مرقب
فأيدهم رب العلى من عصابة
…
لإظهار دين الله أهل تعصب
وقد علم الرحمن أن زماننا
…
تشعب فيه الرأي أي تشعب
فجاء بحبر عالم من سراتهم
…
لسبع مئين بعد هجرة يثرب
يقيم قناة الدين بعد اعوجاجها
…
وينقذها من قبضة المتغصب
فذاك فتى تيمية خير سيد
…
نجيب أتانا من سلالة منجب
عليم بأدواء النفوس يسوسها
…
بحكمته فعل الطبيب المجرب
بعيد عن الفحشاء والبغي والأذى
…
قريب إلى أهل التقى ذو تحبب
يغيب ولكن عن مساو وغيبة
…
وعن مشهد الإحسان لم يتغيب
حليم كريم مشفق بيد أنه
…
إذا لم يطع في الله لله يغضب
يرى نصرة الإسلام أكرم مغنم
…
وإظهار دين الله أربح مكسب
وكم قد غدا بالقول والفعل مبطلا
…
ضلالة كذاب ورأي مكذب
ولم يلف من عاداه غير منافق
…
وآخر عن نهج السبيل منكب
لقد حاولوا منه الذي كان رامه
…
من المصطفى قدما حي بن أخطب
ولكن رأوا من بأسه مثل ما رأى
…
من المرتضى في حربه رأس مرحب
تمسك أبا العباس بالدين واعتصم
…
بحبل الهدى تقهر عداك وتغلب
ولا تخش من كيد الأعادي فما هم
…
سوى حائر في أمره ومذبذب
جنودهم من طامع ومضلل
…
مسيلمة منهم يلوذ بأشعب
وجندك من أهل السماء ملائك
…
يمدك منهم موكب بعد موكب
لئن جحدت علياء فضلك حسد
…
لعمر أبي قد زاد منهم تعجبي
وهل ممكن في العقل أن يجحد السنا
…
ضحى وضياء الشمس لم يتحجب
أيا مطلباً حزناه من غير مهلك
…
وكم مهلك صد الورى دون مطلب
ربيب المعالي يافع الجود والندى
…
فتى العلم كهل الحلم شيخ التأدب
بسيط معان في وجيز عبارة
…
بتهذيبه تعجيز كل مهذب