المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام] - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ٢

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌فاتحة الجزء الثاني

- ‌[الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم]

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الأديب الأريب

- ‌ذكر من ألّف في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌[ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام]

- ‌[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام]

- ‌(فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية)

- ‌(فصل في تصانيف ابن تيمية وسعة حفظه وقوة ملكته رحمة الله عليه)

- ‌(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولاً)

- ‌(فصل في تمسك ابن تيمية بالكتاب والسنة)

- ‌(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف)

- ‌(ذكر خروجه لمصر)

- ‌(ذكر ما وقع للشيخ ابن تيمية بعد عوده لدمشق المحروسة)

- ‌(ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها)

- ‌(وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه)

- ‌(ذكر انتصار علماء بغداد للشيخ)

- ‌(جواب آخر لعلماء الشافعية)

- ‌(جواب آخر لبعض علماء الشام المالكية)

- ‌(كتاب آخر لعلماء بغداد)

- ‌(فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى)

- ‌(فصل فيما رثي به الشيخ من القصائد بعد موته وذلك كثير لا ينحصر)

- ‌(خاتمة نصيحة وموعظة)

- ‌(سؤال آخر وجواب الشيخ أيضاً عنه متعلق بهذا الباب)

- ‌(ما يعارض به ما أورده النبهاني مما فيه استغاثة والتجاء بغير الله تعالى)

- ‌(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به)

- ‌(الكلام على سوء خاتمته)

الفصل: ‌[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام]

والتابعين والأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين أن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 ليس معناه أنه مختلط بالمخلوقات وحال فيها، ولا أنه بذاته في كل مكان، بل هو سبحانه وتعالى مع العبد أينما كان، يسمع كلامه ويرى أفعاله، ويعلم سره وخفاه، رقيب عليهم، مهيمن عليهم، بل السموات والأرض وما بينهما كل ذلك مخلوق لله ليس الله بحال في شيء منه سبحانه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل، فلا تمثل صفاته بصفات خلقه، ومذهب السلف إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وقد سئل الإمام مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

فهذا الإمام كما رأيت عقيدته وكاشفت سريرته، فمن كان على هذه العقيدة كيف ينسب إلى الحلول والاتحاد والتجسيم، أو ما يذهب إليه أهل الإلحاد، أعاذنا الله وإياكم من الزيغ والضلال والفساد، وهدانا إلى سبيل الخير والرشاد، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. حرره منمقاً فقير رحمة ربه العلي الغني، أبو محمد محمود بن أحمد العيني عامله الله بلطفه الخفي والجلي، بتاريخ الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وثمانمائة بالقاهرة المحروسة".

1 سورة الحديد: 4.

2 سورة الشورى: 11.

3 سورة طه: 5.

ص: 160

[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام]

ومنهم الإمام الحافظ محمد بن أبي بكر بن ناصر الدين الدمشقي الشافعي رحمه الله، وكان رحمه الله تعالى من أعلم العلماء العاملين، والحفاظ المتقنين، قد بلغ بشامخ فضله عنان السماء، وأفاد المستفيدين فوائد جلت عن الإحصاء،

ص: 160

وكان ذا رسوخ وتمكين، واعتقاد رصين، ذا أخلاق سنية، وصفات مرضية، وكان له ذهن وقاد، وفطنة أدرك بها مرتبة الاجتهاد، وعلم ما خفي على غيره من العباد، إليه تنتهي الحقائق، وعنه تروى الدقائق، له التصانيف المفيدة، والكتب الفريدة، وكان ذا تواضع وإنصاف، وديانة وعفاف، يحب الانتصار للحق وأهله، ويذعن لما يدل عليه البرهان من غير قدحه ولا تعليله، وقد أثنوا عليه بما يليق بمقامه االرفيع، وترجمه جماعة من الأفاضل واتفق على فضله الجميع، وممن ترجمه العلامة الحافظ قطب الدين الخضيري الدمشقي عليه الرحمة في كتابه الذي ألفه في طبقات الشافعية، وذكر نبذة من أوصافه الحميدة، ومزاياه المرضية، وكان من الموالين لشيخ الإسلام، والعارفين بقدر ذلك الإمام، لم يزل يجادل عنه خصومه، ويذب عنه اعتراضاتهم الموهومة، وقد ألف بعض الزائغين السالكين مسلك السبكي من غلاة الشافعية الناكبين عن المحجة البيضاء والسنة النبوية كتابة ذكر فيه تكفير من يطلق على ابن تيمية شيخ الإسلام بسبب منعه الاستغاثة بغير الله، وقوله بما اختاره من الأحكام، فرد عليه الحافظ الدمشقي هذا رداً شفى به صدور المؤمنين، وذكر في رده من مناقب الشيخ وعلومه ومن أثنى من أكابر الأئمة ما تقر به عيون المسلمين، وسمّى كتابه هذا (الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية شيخ الإسلام كافر) والكتاب مفصل، وفيه مسائل مهمة، قرظه مشاهير علماء عصر مصنفه، وأكابر أئمة المذاهب الأربعة، كالحافظ ابن حجر العسقلاني، وقاضي القضاة الإمام نور الدين العيني، وقد سبق ذكر ما قالاه، والإمام البلقيني الشافعي، والإمام قاضي القضاة عبد الرحمن التفهني الحنفي، والإمام شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي وغيرهم، وسنذكر تقاريظهم إن شاء الله، والكتاب نادر الوجود، ومنه نسخة جيدة في خزانة كتب ولي الدين في جامع السلطان بايزيد في دار السلطنة العثمانية المحروسة موسومة بعدد تسع وأربعين وأربعمائة وألف، نسأله تعالى أن يوفق نشر هذا الكتاب وينعم على المسلمين بمعرفة فوائده.

ما قاله الإمام العلامة قاضي القضاة شيخ الإسلام صالح بن عمر البلقيني

ص: 161

الشافعي عليه الرحمة1:

"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم صل على سيدنا محمد سيد السادات، من أهل الأرضين والسموات، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ويسر والطف واختم بخير، آمين.

وبعد؛ فقد وقفت على هذا التصنيف الجامع، والمنتقى البديع المطرب للمسامع، وعملت بشروط الواقفين من استيفاء النظر، فوجدته عقداً منظماً بالدرر، يفوق عقود الجمان، ويزري بقلائد العقيان، ويضوع مسك الثناء على جامعه مدى الزمان، وقال لسان الحال في حقه ليس الخبر كالعيان، وكيف لا وهو مشتمل على مناقب عالم زمانه، والفائق على أقرانه، والذاب عن شريعة المصطفى باللسان والقلم، والمناضل عن الدين الحنيفي وكم أبدى الحكم، صاحب المصنفات المشهورة، والمؤلفات المأثورة الناطقة بالرد على أهل البدع والإلحاد، القائلين بالحلول والاتحاد، ومن هذا شأنه كيف لا يلقب بشيخ الإسلام، وينوه بذكره بين العلماء الأعلام، ولا عبرة بمن يرميه بما ليس فيه، أو ينسبه بمجرد الأهواء لقول غير وجيه، فلم يضره قول الحاسد، والباغي والطاعن والجاحد.

وما ضر نور الشمس إن كان ناظراً

إليها عيون لم تزل دهرها غمضا2

غير أن الحسد يحمل صاحبه على اتباع فواه، وأن يتكلم فيمن يحسده بما يلقاه.

لله در الحسد ما أعدله

بدأ بصاحبه فقتله

وما أحق هذا الغالم بقول القائل:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا علمه

فالقوم أعداء له وخصوم

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار

1 "الرد الوافر"(ص 249- وما بعدها) .

2 في "الرد الوافر": "عمياً".

ص: 162

الحطب، أو قال: العشب"1. أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف، وكيف يجوز أن يكفر من لقب هذا العالم بشيخ الإسلام ومذهبنا أن من كفر أخاه المسلم بغير تأويل فقد كفر، لأنه سمى الإسلام كفراً.

ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين ابن السبكي في ترجمة أبيه الشيخ تقي الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب بخطه لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه وللشيخ تقي الدين أبن تيمية وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر، فلولا أن ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه المنقبة التي نقلها ولو كان ابن تيمية مبتدعا أو زنديقاً ما رضي أن يكون أباه قريناً له.

نعم نسب الشيخ تقي الدين إليه أشياء أنكرها عليه معاصروه، وانتصب للرد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق، وأفرد كلاً منهما بتصنيف، وليس في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلاً، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر- يعني النبي صلى الله عليه وسلم والسعيد من عدت غلطاته، وانحصرت سقطاته، ثم إن الظن بالشيخ تقي الدين أنه لم يصدر منه ذلك تهوراً وعدواناً- حاش لله- بل نعله لرأي رآه وأقام عليه برهاناً، ولم نقف إلى الآن بعد الفحص والتتبع على شيء من كلامه يقتضي كفره ولا زندقته، وإنما نقف على رده على أهل البدع والأهواء وغير ذلك مما يظن به براءة الرجل وعلو مرتبته في العلم والدين، وتوقير العلماء والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2.

وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا" 3 وفي رواية "حق كبيرنا

1 حديث ضعيف. أخرجه أبو داود (4903) . وقال البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 272- 273/ 876) بعد ذكره: "لا يصح". وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1902) .

2 سورة الزمر: 9.

3 أخرجه أحمد (2/ 185) والبخاري في "الأدب المفرد"(354،358،363) وأبو داود (3943) والترمذي (1920) وغيرهم، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.

ص: 163

وكيف يجوز أن يقدم على رمي عالم بالفسق أو الكفر ولم يكن فيه ذلك وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك" 1، ثم كيف يجوز الإقدام على سب الأموات بغير حق وهو محرم، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"2. وكيف يجوز أذى المؤمن بغير حق والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 3 وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"4.

فالواجب على من أقدم على رمي هذا العالم بما ليس فيه الرجوع إلى الله تعالى، والإقلاع عما صدر منه، ليحوز الأجر الجزيل بالقصد الجميل، وإن اطلع على أمر يحتمل التأويل فلا يقطع بما يخالف ذلك التأويل بغير دليل، وإن صح عنده أمر جازم عنه يقتضي إنكاره فينكره قاصداً للنصيحة، ولا يهضم مقام الرجل مع شهرته بالعلم والفضل والتصانيف والفتاوى التي سارت بها الركبان، والله تعالى يحفظنا من الخطأ والخطل، ويحمينا من الزيغ والزلل، والحمد لله رب العالمين، وكتب في اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة 835".

ومنهم الإمام العلامة قاضي القضاة عبد الرحمن التفهني الحنفي عليه الرحمة، كان علامة عصره، وفهامة مصره، أتقن علوم الدين، وعلم حقائق

1 أخرجه أحمد (5/ 181) أو (21654) بهذا اللفظ. ونحوه عند البخاري (3508، 6045) ومسلم (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

2 أخرجه البخاري (1393) .

3 سورة الأحزاب: 58.

4 أخرجه البخاري (10) ومسلم (41) .

ص: 164

اليقين، حتى كان تذكرة الإمام، وعليه مدار أصحاب مذهبه في الأحكام، له التصانيف التي لم يسبقه إليها غيره من الأفاضل، والفوائد التي هي واسطة عقد الفضائل، وكان على منهج السلف الصالح، ويعد مخالفتهم من أفضح الفضائح، ولم يزل يثني على المحدثين، ويصوب آراءهم في عقائد الدين، وأفرد المصنفون له تراجم مفصلة، وأثنوا عليه بعباراتهم المطولة، وذكروا أنه كتب في مناقب شيخ الإسلام ما يليق بشأنه من الكلام، وقد قرظ كتاب "الرد الوافر" وذكر من مناقبه نحو ما ذكره الأكابر، وهذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله الذي جعل قلوب العلماء كنوز لطائف الحكم، وألسنتهم مكفوفة عما فيه نقص أو جرح أو ألم، وأسماعهم عن سماع قول الفحش في صمم، وخصهم بين الأنام بجلائل النعم، وجعلهم محفوظين عن الخوض في الأعراض، متجانبين عما يؤدي إلى ظهور الأغراض، وصلى الله على سيدنا محمد المبعوث للعرب والعجم، وعلى آله وأصحابه ذوي الكرم والهمم.

وبعد، فإن صاحب هذا التأليف قد أمعن النظر وأجاد وبين وأتقن وأفاد فيما هو المقصود والمراد، من الرد على من أكفر علماء الإسلام، وهم الأئمة الأعلام، بنسبتهم الشيخ العالم الناسك تقي الدين ابن تيمية إلى كونه شيخ إسلام.

فنقول بالله التوفيق: إن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان على ما نقل إلينا من الذين عاشروه وما اطلعنا عليه من كلام تلميذة الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق؛ كان عالماً متقناً متفنناً، متقللاً من الدنيا معرضاً عنها، متمكناً من إقامة الدليل على الخصوم، حافظاً للسنة عارفاً بطريقها، عالماً بالأصلين أصول الدين وأصول الفقه، قادراً على الاستنباط لاستخراج المعاني، لا يلويه في الحق لومة لائم، قائم على أهل البدع المجسمة، والحلولية والمعتزلة، والروافض وغيرهم، والإنسان إذا لم يخالط ولم يعاشر يستدل على أحواله وأوصافه بآثاره، إلا أن ما اتصف به تلميذه ابن القيم من العلم يكفي ذلك دليلاً على ما قلناه، وما نقل إلينا مما اجتمع في جنازته من الخلائق التي لا تحصى حتى

ص: 165

شبهت جنازته بجنازة الإمام أحمد رضي الله عنه عبرة لمن اعتبر، وما نقل إلينا من تسلطه على الجان المردة عبرة أيضاً.

قال تلميذه ابن قيم الجوزية- عند كلامه على الصرع في "الطب النبوي" 1: "واختياره أن الصرع على قسمين: صرع يتعلق بالأخلاط، وصرع يتعلق بالأرواح الخبيثة- كان شيخنا ابن تيمية يأتي إلى المصروع ويتكلم في أذنه بكلمات فيخرج ولا يعود إليه بعد ذلك " وحكايته مع الذي اختطفت زوجته معروفة، ومع الذي كان يرتفع إلى السقف معروفة أيضاً؛ فمن كان متصفاً بهذه الأوصافت كيف لا يلقب بشيخ الإسلام بأي معنى أريد منه، وكيف يحل أن ينسب مثل هذا الشيخ أو واحد من المشايخ المذكورين في هذا التأليف أو واحد من المتصفين بالإسلام- ولو في الظاهر- إلى الكفر، مع ما عليه أهل السنة والجماعة من أن مقترف الكبيرة عمداً لا يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، وأنه إن مات ولم يتب كان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بقدر ذنبه وإن شاء غفر له وعفا عنه، وأنه لا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة، وذلك أعم من أن يكون سنياً أو بدعياً أو معتزلياً أو شيعياً أو من الخوارج، وهو المروي عن أبي حنيفة، فإنه سئل عن طائفة من الخوارج معينين، فقال: هم أخبث الخوارج، فقيل هل تكفرهم؟ فقال لا. وهكذا المروي عن الشافعي والأشعري وأبي بكر الرازي رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذه المسألة مشهورة في موضعها.

ومما يدل على هذا ما قاله الفقهاء حيث قالوا وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، وإنما تقبل شهادتهم لإسلامهم، واستثنوا الخطابية لأنهم يعتقدون جواز الكذب في الشهادة، فإذا كان الحكم فيما ذكرناه هكذا فكيف بمسلم متصف بالأوصاف الحسنة المتقدمة.

وقد أخبرني من حضر مجلس هذا الكفر فقال إن ابن تيمية كافر مجوسي،

1 الطب النبوي جزء من كتاب ابن القيم الماتع "زاد المعد في هدي خير العباد".

وانظر: (4/66-69) ط. الرسالة.

ص: 166

النصارى واليهود خير منه، فإن النصارى واليهود لهم كتاب وابن تيمية لا كتاب له.

فنعوذ بالله من هذه النزغة الشيطانية المفظعة القبيحة، مع أنه لم ينقل عن ابن تيمية كلام يقتضي كفراً ولا فسقاً ولا ما يشينه في دينه، وقد كتبت في زمنه محاضر لجماعة من العلماء العدول اطلعنا عليها بأنه لم يقع منه شيء مما يشينه في دينه، ووصفوه في تلك المحاضر بأعظم مما قلناه من أوصافه المتقدمة، وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي الزيارة والطلاق، وقضية من قام عليه مشهورة، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان، وإنما هما من أصول الشريعة التي أجمع العلماء على أن المخطىء فيها مجتهد مثاب لا يكفر ولا يفسق، والشيخ كان يتكلم في المسألتين بطريق الاجتهاد، وقد ناظر من أنكر عليه فيهما مناظرة مشهورة بأدلة يحتاج من عارضه فيها إلى التأويل، وهذا ليس بعيب، فإن المجتهد تارة يخطىء وتارة يصيب، وهو مثاب على اجتهاد وإن كان مخطئاً، ولو اشتغل هذا المكفر بالله، وبما يجب عليه من طاعته، وصان لسانه ومنع نفسه من الاشتغال بما لا يعنيه، وحمل أحوال المسلمين على الصلاح، واقتدى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألستتهم"1. وبقول عيسى عليه السلام حين عارضه خنزير في بعض الطرق، فقال: "اذهب يا مبارك، فقيل له في ذلك! فقال: إني أعوّد لساني الخير". وبقول عمر رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها من الخير محملاً.

واعلم أنه إذا نقل إلينا كلام أخد وثبت أنه كلامه بالطريق الصحيح الشرعي ونظرنا في ذلك الكلام فلم نجد له وجه صحة وإنما وجدناه مصادماً للشريعة من كل وجه؛ فإن كان المنقول عنه ذلك الكلام ميتاً ولم يثبت عندنا رجوعه نسبناه إلى ما يقتضي كلامه، وإن كان حياً قمنا عليه، فإن تاب وإلا رتبنا عليه ما تقتضي

1 حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 236، 248) . وانظر "جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب (ص 506- ط. ابن الجوزي) الحديث التاسع والعشرون. و"الإرواء"(رقم: 413)

و"الصحيحة" رقم (1122) و"الصمت لابن أبي الدنيا"(رقم: 6- تحقيق الشيخ الحويني) .

ص: 167

الشريعة المحمدية- لما أكفر واحداً من أهل القبلة كما في هذه القضية، وكما وقع له مثل ذلك في حق شخص ممن اجتمع الناس على علمه وخيره ودينه وتبحره في العلوم، وهو الشيخ شمس الدين البساطي قاضي قضاة المالكية، في الديار المصرية، فنسأل الله تعالى أن يتوب عليه، وأن يصون لسانه عن الزلل، وأن يجعل ما نحن فيه خالصاً لله تعالى، وأن يدخلنا الجنة بمنه وكرمه، قال ذلك عبد الرحمن التفهني عامله الله بلطفه الخفي في رابع عشر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وثمانمائة"1.

ومنهم الإمام العلامة قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي عليه الرحمة، وكان من أكابر رجال المالكية وفقائهم، وأجلّ مشايخهم وعلمائهم، أخذ العلم عن أئمة لهم لسان صدق في الأمة، وأخذ عنه جماعة من علماء عصره وأجلاه مصره، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو في جميع شؤونه بصير حازم، مع تواضع ولين جانب، وفكاهة هي من أعجب العجائب، وله مصنفات في فنون مختلفة، هي فريدة في بابها من بين الكتب المصنفة، وقد حسده أيضاً جماعة من أهل عصره، ورموه بالعظائم كما فعلوه مع أهل الفضل غيره، وكان ممن عرف قدر شيخ الإسلام، وكتب في مناقبه ما تلتذ به المسامع والإفهام، وقد عثرنا على تقريظ له على كتاب" الرد الوافر" 2 ومنه يعلم ما كان عليه من الفضائل والمآثر، وهو قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.

وبعد؛ فقد نظرت في هذا الكتاب الدال على أن مصنفه من الحفاظ المطلعين، وأنه قد وفى بما قصد إليه إما صراحة وإما إشارة، مع أن الإمامة للشيخ تقي الدين ابن تيمية في العلم مما لا يحتاج إلى الاستدلال عليه لحصول العلم الضروري عن الأخبار المتواترة بذلك، وأما قول من قال إنه كافر وأنه من قال في

1 " الرد الوافر"(ص 225- 257) .

(ص 258-259) .

ص: 168

حقه أنه شيخ الإسلام فهو كافر، فهذه مقالة تقشعر منها الجلود، وتذوب لسماعها القلوب، ويضحك إبليس اللعين عجباً بها ويشمت، وتنشرح أفئدة المخالفين وتتثبت، ثم يقال له: لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي هذا في حقه فما مستندك في الكلام الثاني، وكيف تصح لك هذه الكلية المتناولة لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة، وهل يمكنك أن تدّعي أن الكل اطلعوا على ما اطلعت عليه، وهل هذا إلا استخفاف بالأحكام، وعدم مبالاة ببني الأيام، والواجب أن يطلب هذا القائل ويقال له لم قلت وما وجه ذلك؟ فإن أتى بوجه يخرج به شرعاً من العهدة فبها، وإلا برح تبريحاً يردع أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين، وكتبه محمد بن أحمد البساطي المالكي عفا الله عنه، والحمد لنه وحده، وذلك سنة خمس وثلاثين وثمانمائة من الهجرة".

ومنهم الإمام الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي البزار عليه الرحمة، وهو أحد الأئمة الذين تبوؤا قمة الجوزاء، وبلغت شهرتهم في علو الدرجة إلى السماء، فضله السلسبيل، والبحر الطويل، والأصيل ابن الأصيل، الذي ترك عبد الحميد في أبيجاد، والحريري في حومة الأولاد، وابن العميد ساقط العماد، الجامع بين الرقة واللطافة، والنزاهة والظرافة، وبدائع الأفكار، ودقائق الأنظار، والمعاني الرائقة، والنكات الفائقة، مع فصاحة تخرس لها الألسان طوع القلم، وسبح طويل ببحر القرطاس تقف بساحله الأمم، وبلاغة يتحلى بها جيد الدهر، ويتمنطق بها خصر العصر، وكان له من المصنفات ما تجاوز العد، وقد جمعت حسن السبك، وسهولة العبارة، والفوائد العجيبة، وهي في فنون مختلفة، ومنها كتاب أفرده في مناقب شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أبي العباس تقي الدين ابن تيمية، أودع فيه من مناقب ذلك الإمام ومزاياه ومآثره ما لم يجتمع في كتاب، وأتى فيه بالعجب العجاب بل بفصل الخطاب، وذلك من آيات إنصافه وإذعانه للحق، وقلما يتفق ذلك لأهل العلم وغالبهم من تحمله عصبية رجال مذهبه على الميل عن الحق والإضراب عنه، كما كان من السبكي وابنه وابن حجر، غير أن الله سبحانه وتعالى خص هذه الأمة بخصائص، منها أنها لا تجتمع

ص: 169

على ضلالة، وذلك مما استوجبت به أن تكون خير أمة أخرجت للناس وقد لخص بعض أبواب هذا الكتاب الشيخ مرعي الحنبلي في كتاب مناقب شيخ الإسلام، وسنذكره إن شاء الله تعالى.

ومنهم أوحد الأدباء وشيخ الفضلاء شهاب الدين أحمد العمري الشافعي عليه الرحمة، كان فائقاً في عصره على الأقران، بما حواه من الأدب والعرفان، بل هو ملك أنس تكونت ذاته من نور، وفلك فضل على قطب الكمال يدور، تألقت في سماء المعالي كواكبه وزاحمت العيوق من غير عائق مناكبه في وتناولت عنقود الثريا سواعده، وتأسست فوق المجرة قواعده، فرفع من العلوم منارها، وقدح زند فكره بصوانة البلاغة فأورى نارها، وبزغ قمر كماله من فلك الفصاحة، ونبع غصن نجابته من دوحة الكرم والسماحة، ودأب في طلب العلوم فأحرز منها ما أحرز، ووشى حواشي مطول فضله بمعاني بديع بيانه وطرز، وغاص فكره بقاموس العلوم فاستخرج من عباب المنطوق والمفهوم أصداف فوائد ملئت بصحاح الجواهر، وقلدها في نحور الطالبين فأفحم بمعجز البراهين كل مباحث ومناظر، هو تحفة للناظرين، وروضة للطالبين وغنية للمبتدئين، وهو الفقيه الذي ليس له أشباه ولا نظائر، والبليغ الذي يشهد المسامر أنه الزاخر، تقر له بالإعجاز الصدور والإعجاز، فتحريره الروض الرائق، وفكره كنز الدقائق، وتقريره الدر المختار، وتعبيره تنوير الأبصار، وحكاياته ربيع الأبرار، والمحدث الذي ألحق الأحفاد بالأجداد، وأتى من فنون الإسناد ما سلسل به الرواية فملأ بروايته الورّاد، قام على أقدام التحقيق، وأبرز عرائس المخدرات من خدور التدقيق.

بدا والعلم ليس له عيون

فأجراها ونورها أناسي

وأبدع في مباحثه فنوناً

رأيناهن واضحة القياس

فهو الذي رفأ خرقه وأشع في سحابه برقه، وأصدح على أفنانه ورقه، فمنار الإيمان بهدايته في إيضاح، ومشكاة الرواية في رأيه ذات مصباح، وليالي المحابر مشرقة من شمس، ومعارفه بصباح، وأعناق المشكلات بصوارم ذهنه مجزومة، وكتائب المعضلات بسمر أقلام كتبه مهزومة، ورياض العلوم به زاهرة،

ص: 170

وأفلاك الفهوم على تقريره دائرة، ونجب التوجيه بأمثال نوادره سائرة، وخدود الطروس عن غرر إبداعه سافرة، ووجوه البيان كاشفة النقاب عن محاسن تحبير جده الحالي بها هذا الكتاب، وهو من بيت فضل ومجد ودراية، وسلفنا أهل علم وعمل ورواية، نسبه بابن الخطاب متصل، وحسبه من كل جرثومة مجد منفصل.

قوم لهم بين الأنام مناقب

كالشمس في العليا على التحقيق

ما فيهم إلا نجيب كامل

ذاعت فضائله بكل طريق

ناهيك من شرف ترى أنسابهم

موصولة في حضرة الفاروق

وكان هذا الفاضل مقتفياً أثر سننهم، وآخذاً بفروضهم وسننهم، يلوح من فرقه سيما جده الإمام الفاروقي، ويرشح من قلبه السليم بعقارب الأقارب رشحات الترياق الفاروقي، وهو منذ أميطت عنه التمائم ولاحت له من أثر أسلافه العلائم اشتغل بقراءة الفقه والحديث والتفسير والأصول، وشرع في طلب العلوم من المعقول والمنقول، إلى أن صار العلم المفرد، ولم يسبقه من أهل عصره أحد.

وفي تاريخ أبي الفدا ما نصه: "في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبعمائة بلغنا وفاة القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري بدمشق بالطاعون، ومنزلته في الإنشاء معروفة، وفضيلته في النظم والنثر موصوفة، كتب السر للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة بعد أبيه محي الدين، ثم عزل بأخيه القاضي علاء الدين وكتب السر بدمشق، ثم عزل وتفرغ للتأليف والتصنيف، حتى مات عن نعمة وافرة. قال أبو الفدا: دخل رحمه الله قبل وفاته بحدة معرة النعمان فنزل في المدرسة التي أنشأتها ففرح لي بها، وأنشد فيها بيتين أرسلهما لي بخطه، وهما:

وفي بلد المعرة دار علم

بنى الوردي منها كل مجد

هي الوردية لحلواء حسناً

حمدت الله إذا بك تم مجدي

فأجبته بقولي

ص: 171

أمولانا شهاب الدين إني

حمدت الله إذ بك تم مجدي

جميع الناس عندكم نزول

وأنت جبرتني ونزلت عندي

انتهى ما قاله.

وله مصنفات كثيرة ليس هذا موضع استيفائها، ومن أجلّها قدراً كتابه المسمى بـ "مسالك الأبصار في الممالك والأمصار" وهو كتاب مفصل لم يؤلف نظيره في بابه في بضع وعشرين مجلداً، أودعه أحوال البلاد والدول بتحقيق وتدقيق وتفاصيل لم يشتمل عليها غيره، ومن ذلك تراجم أفاضل عصره، وأفرد فصلاً طويلاً في مناقب شيخ الإسلام، وأثنى عليه بما يليق به من الثناء الجميل، وذكر ما كان له من المزايا والفضائل ومنزلته في العلم والاجتهاد، ولو اطلع عليها الزائغ النبهاني وأضرابه الغلاة عبدة غير الله لغصوا بريقهم، وقد ذكر منها نبذاً مفيدة العلامة الشيخ مرعي الحنبلي فيما ألّفه من مناقب الشيخ على ما سنذكره.

ومنهم الحافظ الإمام شمس الدين صاحب "الصارم المنكي" عليه الرحمة، وقد سبق بيان نبذة من أحواله وفضائله عند الرد على كلامه على كتاب "الصارم المنكي" وقد ترجمه جميع من صنف من المترجمين المنصفين، وله ذكر جميل في طبقات ابن رجب والشذرات، وهو من أجلّ تلامذة شيخ الإسلام، وصنف كتاباً كبيراً في مناقب شيخه سماه "الدرة المضية في مناقب الإمام ابن تيمية" وقد نقل عنه الشيخ مرعي أيضاً في مناقبه على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.

ومنهم الحافظ الإمام الأجل الشهير بابن قيم الجوزية عليه الرحمة والرضوان وهو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي رضي الله عنه، كان واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف، وله من التصانيف ما لا يعد كثرة، منها:"أعلام الموقعين" و"بدائع الفوائد" و"جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" و"رفع اليدين" و "تحفة الودود في أحكام المولود" و"الفتح المكي" و"الفتح القدسي"، وغير ذلك.

ص: 172

وهو طويل النفس في مؤلفاته، وجرت له محن مع القضاة، منها سبب فتواه بجواز الرجوع بغير محلل، فأنكروا عليه وآل الأمر إلى أن رجع عنه، كذا في الدرر الكامنة من المائة الثامنة اقتصاراً، وفضله أشهر من أن ينبه عليه، وأظهر من أن يشار إليه، وكتبه المنتشرة اليوم أعدل شاهد على علو شأنه وطول باعه في كل علم.

وقد ألّف في مناقب الشيخ ما تقر به عين المؤمن، وينشرح له صدر كل مسلم، وذكر أيضاً نبذة مفيدة من أحواله في كثير من كتبه، لاسيما في كتابه "مدارج السالكين شرح منازل السائرين" ووفق بين أحواله وأحوال أكابر عباد الله الصالحين، وعرف منزلته ومقامه، وقد كان من أجلّ تلامذة الشيخ وأصحابه، وأدرى من غيره بشؤونه وأحواله، ودرجته من علم اليقين وبلوغه مقام المجتهدين الأعلام.

وبالجملة: إن ابن القيم نفسه كان حسنة من حسنات ابن تيمية وهو ذلك العالم الذي سارت بذكر فضائله الركبان، وهو كما قال القائل:

برغم الأعادي نال ما هو نائل

فأجدع آناف العداة وأرغما

ولو رام أن يرقى إلى النجم لارتقى

ويوشك رب الفضل أن يبلغ السما

ولا غرو أن يعلو وها هو قد علا

ولا بدع أن يسمو وها هو قد سما

عزائمه كالمشرفية والظبا

وآراؤه ما زلن في الخطب أنجما

يصيب بها الأغراض مما يرومه

ولا يخطىء المرمي البعيد إذا رمى

ومنهم العلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس عليه الرحمة، وكان آية في علم الحديث والتفسير والأصلين والتصوف وأحوال الرجال، كما كان مشهوراً بالإنصاف من بين علماء مصره، ومن أوضح الدلائل على إنصافه هذا، وقد رد المنكرين عليه وذب عنه ما هو بريء منه، وذكر دلائل ما اختاره من الأقوال، وسمّى ذلك الكتاب "القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي".

ص: 173

وقد تلقى كتابه هذا علماء عصره بالقبول، وقرظوه وأثنوا عليه بالثناء الجميل، وذكروا أن ما فيه هو الحق الذي قام عليه البرهان والدليل، وممن قرظه الإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن الشافعي الدمشقي الشهير بالكزبري عليه الرحمة فقال بعد الخطبة:"أما بعد؛ فقد اطلعت على هذا الجزء الشريف، وسرحت طرفي في رياض روضه المنيف، فرأيته بديعاً جامعاً لفصل القول وخطابه، معرفاً بسناء مقام الشيخ شيخ الإسلام، أحد سلاطين المحدثين الأعلام، من أذعن لغزارة علمه الموافق والمخالف، واعترف بتحقيقه وسعة إطلاعه من هو على مؤلفاته واقف، الإمام ابن تيمية أحمد تقي الدين، وأنه ممن دان بسيرة السلف الصالحين، منزه عن سوء الاعتقاد وزيغ العقيدة، سالكاً لطريقة السلف الحميدة، وأن ما يعزى إليه من بعض المخالفات في الأصول والابتداع هو منه بريء، كما يصرح به النقل من كلامه في مشهور مؤلفاته الدال على أنه بموافقة أهل السنة حري، وما يعزى إليه من المخالفات في بعض الفروع والطعن في السادة الصوفية أولي الشأن العلي فذلك مما لا نوافقه عليه، ولا نسلم شيئاً من ذلك إليه، كما حقق جميع ذلك وحرره سيدنا مؤلف القول الجلي والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وكتبه تراب أقدام أهل الحديث الشريف النبوي عبد الرحمن الشافعي الدمشقي الشهير بالكزبري عفا الله عنه وختم له بالحسنى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف من الهجرة".

وممن قرظه أيضاً الإمام العلامة الشيخ محمد التافلاني مفتي الحنفية بالقدس الشريف رحمه الله قال بعد خطبته البليغة: "وبعد؛ فقد وقفت على هذا القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية الحنبلي فودجته قولاً جلياً، وصراطاً سوياً، قد نبذ مؤلفه التعصب ظهرياً، فمن يهز نخلاته تساقط عليه رطباً جنياً، ومن ضرب عنه كشحاً يقول لمؤلفه لقد جئت شيئاً فرياً.

كلا لقد سلك مولانا صفي الدين ما يستعذبه العارفون، ومحجته بيضاء نقية لا يعقلها إلا العالمون، والخطأ في ابن تيمية معلوم، ولا ينجو منه إلا معصوم،

ص: 174

وقد اعترف له بطول الباع في العلوم الشرعية وغيرها الموافق والمخالف، ولا ينكر ذلك إلا غبي أو جاهل أو حسود أو متعصب على حجر جمود واقف، وقد أثنى عليه جمهور معاصريه، وجمهور من تأخر عنه، وكانوا خير مناصريه، وهم ثقات صيارفة حفّاظ، عريفهم في النقد دونه عريف عكاظ، وطعن فيه بعض معاصريه بسبب أمور أشاعها مشيع لحظ نفسه، أو لأجل المعاصرة التي لا ينجو من سمها إلا من قد كمل في قدسه، فخلف من بعدهم مقلدهم في الطعن فتجاوز فيه الحد، ورماه بعظائم موجبة للتعزير أو الحد، ولو قال هذا المقلد كقول بعض السلف حين سئل عما جرى بين الإمام علي ومعاوية فقالوا: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا أفلا نطهر منها ألسنتنا لنجا من هذا العناء، وقول الآخر لما سئل عن ذلك فأجاب {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.

وهذا الإمام تصانيفه قد ملأت طباق الثرى، واطلع عليها القاصي والداني من علماء الورى، فما وجدوا فيها عقيدة زائغة، ولا عن الحق زائغة، وكم سل السيوف الصوارم على فرق الضلال، وكم رماهم بصواعق محرقة كالجبال، تنادي صحائفه البيضاء بعقيدة السلف، ولا ينكر صحتها وأفضليتها من خلف منا ومن سلف، شهد له الأقران بالاجتهاد، ومن منعه له فقد خرط بكفه شوك القتاد، وما سوى العقائد نسبت إليه مسائل جزئية رأى فيها باجتهاده رأي بعض السلف، لدليل واضح قام عنده، فكيف يحل الطعن فيه بسهام الهدف، وهذا محمد بن إسحاق قال فيه إمام دار الهجرة: ذاك دجال من الدجاجلة، ومع ذلك وثقه تلميذه الإمام المجتهد محمد بن إدريس، وروى عنه حديث القلتين، ووصفه بالدجاجلة لم يبق من الذم شيئاً، ولم يرمه أحد بكفر ولا زندقة ولا فسق، وأمثال هذه القضية جرت في الأعصر الأول وبعدها مراراً، وأشنع ما نسب إليه منع الزيارة لقبور الأنبياء، فهذه إن صحت عنه فلعله إنما منع شد الرحال إليها قصداً، وأما الزيارة لتلك القبور المقدسة تبعاً فلا يصح نسبة المنع إليه، كيف وهو مصرح باستحباب زيارة

1 سورة البقرة: 141.

ص: 175

قبور آحاد المؤمنين، ولله در الإمام حافظ الشام ابن ناصر حيث ألّف في الذب عنه رسالة هي أمضى من السيف الباتر، ولله در أمير المؤمنين الحافظ ابن حجر والحافظ الأسيوطي وأضرابهم من الأسود الكواسر، فقد شنوا الغارة على من طعن فيه فباؤوا بالأجر الوافر، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده، وثمة أشياء أخر أشيعت عنه وهي أكاذيب وفرية وما فيها مرية، وهي سنة الله في أحبابه، وأما طعنه على بعض المشهورين من الصوفية فهو ليس بفريد في ذلك، بل سلفه مثله وأعلى منه في تلك المسالك، وما قصده مع أمثاله إلا الذب عن ظاهر الشريعة، خوفاً على ضعفاء الأمة من اعتقاد أمور شنيعة، ومن كان هذا قصده يمدح ويثاب ولا يلازم، فكيف يزعم زاعم خروجه بذلك عن الإسلام.

هذا وفصل الخطاب- عند أولي الألباب- أن معتقد طريق السلف على غاية الصواب، ومن أداه اجتهاده لدليل قام عنده في فرع فقهي بعد تبحره في العلم لإيلام عرضه ولا يعاب، وإن خالف المذاهب الأربعة أو المذاهب المنقرضة الغير المتبعة، والمقلد إذا التزم مذهباً لا يجوز له الطعن في رجل برع ونال رتبة الاجتهاد {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} 1 وليس الرافل في حلل المجد في غرف القصور كخادم الباب، ورسالة مولانا صفي الدين هذه صاحبة القدح المعلى، وهي قبلة أرباب التحقيق والمصلى، هي من الضنائن الأعلى جواهرها ثمينة لا يخطبها إلا رجل كقولها ولمثلها. ولقد كشفت نقاب حسنها في زمان لا تخطب الخطاب مثلها، ولا يرشفون نهلها وعلها، إذا تليت عليهم آياتها حاصوا كحيص الحمر، وشنوا الغارة على عرج الحمير، وقالوا ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين واتخذوها هجراً وصمموا على النكير، وما ذاك إلا أصحاب الهمم إلا النادر، وقليل ما هم في هذا الزمان الداثر، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد الذي لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه أرباب النجدة".

وممن صنف في مناقبه أيضاً الشيخ مرعي الحنبلي العلامة الشهير رحمه الله،

1 سورة الطلاق: 7.

ص: 176

وهو على ما في كتاب "خلاصة الأثر" العلامة المحبي مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي- نسبة لطور كرم قرية بقرب نابلس- ثم المقري، أحد أكابر العلماء من حنابلة مصر، كان إماماً محدثاً فقيهاً، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائق الحديث، ومعرفة تامة بالعلوم المتداولة، أخذ عن الشيخ محمد المرداوي، وعن القاضي يحيى الحجاوي، ودخل مصر وتوطنها، وأخذ بها عن الشيخ الإمام محمد الحجاوي الواعظ، والمحقق أحمد الغنيمي، وكثير من المشائخ المصريين، وأجازه شيخه فتصدر للإفتاء والتدريس في جامع الأزهر، ثم تولى المشيخة في جامع السلطان حسن، ثم أخذها منه عصريه العلامة إبراهيم الميموني، ووقع بينهما من المعارضات ما يقع بين الأقران، وألّف كل منهما في الآخر رسائل، وكان منهمكاً على العلوم انهماكاً كلياً، فقطع زمانه بالإفتاء والتدريس والتحقيق والتصنيف، فسارت بتآليفه الركبان، ومع كثرة أضداده وأعدائه ما أمكن أن يطعن فيها أحد، ولا نظر بعين الأزراء إليها، ثم إن المترجم عد له من المصنفات نحم سبعين كتاباً في فنون شتى، قال: وله غير ذلك من فتاوى ومسائل نافعة يتداولها الناس، وكان في فن النظم والنثر آية، وكتابه بديع الإنشاء والصفات في المكاتبات والمراسلات، يشهد له بطول باعه في ذلك، وله ديوان شعر منه قوله:

يا ساحر الطرف يا من مهجتي سحراً

كم ذا تنام وكم أسهرتني سحرا

لو كنت تعلم ما ألقاه منك لما

أتعبت يا منيتي قلباً إليك سرى

هذا المحب لقد ساءت صبابته

بالروح والنفس قوماً بالوصال سراً

يا ناظري ناظري بالدمع جاد وما

أبقيت في مقلتي يا مقلتي نظرا

يا مالكي قصتي جاءت

ملطخة بالدمع يا شافعي كذبتها نظرا

عساك بالحنفي تسعى على عجل

بالوصل للحنبلي يا من بدا قمرا

يا من جفا للغير موعده

يا من ويا من عقلنا قمرا

الله منصفنا بالوصل منك على

غيظ الرقيب بمن قد حج واعتمرا

وكانت وفاته بمصر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وألف رحمة الله

ص: 177

عليه، ومن جملة ما عد له من الكتب "الكواكب الدرية في مناقب الإمام المجتهد ابن تيمية" وقد اطلعت على هذا الكتاب فرأيته من أحسن الكتب المؤلفة في هذا الباب، لاسيما وقد اشتملت على غرر مناقب ذلك الإمام، ودرر مزاياه التي هي للدهر ابتسام، فما هي إلا روضة فوحاء فيحاء، وحديقة مزهرة غناء، مكللة بغرر المعاني والأقوال، مرصعة بدرر الشواهد والأمثال، تجذب السرور إلى الصدور بأمراس السطور، مشتملة على الرقة والانسجام في النثر والنظام، فما هي إلا لآلىء ويواقيت ما بين نضيد وشتيت، من رآها من الأفاضل وأهل الكمال قال هكذا هكذا فليكن المقال.

أكرم بترجمة يضوع عبيرها

تعزى إلى المشهور في الآفاق

اللوذعي اللسن الذي أضحت أفا

ضل عصره بأنامل الأحداق

تجني ثمار فنونه الغرر التي

ببراعة حرثت على الأوراق

فلله در ذلك المؤلف الأديب، والمصنف الأريب، لقد أتى بتأليف هو أبهى من إنسان العين في عين الإنسان، وأشهى من زلال العين إلى عين الظمآن، ولمثل مصنفه يقال إذ لكل مقام مقال:

مصنف لو رآه منصف فطن

لقال ما الروض إلا بعض نزهته

تظن كل أديب حين يسمعه

صبا وذا وعد من يهوى بزورته

فأين لطف الصبا مما حواه ولم

ألمم إذا قلت في تشبيه رقته

ولعمري ليست نغمات الطيور في الأسحار على شرفات القصور والأشجار بأرق منها في الأسماع الكريمة، وأوفق إلى الطباع السليمة.

إذا طرقت مسامعنا ابتهجنا

وفزنا في سرور وانبساط

وخلنا أن تاليها علينا

ينادينا إلى نادي النشاط

فيا لها من مناقب لا يمل سامعها، ولا يكل مطالعها، ولا بدع في هذا ولا عجب، فقد قال بعض أهل الأدب: إن أحاديث نجد لا تمل بتكرار فكيف وهي أحاديث مجد، ومدائح ناحية القصد، ولولا مخافة الإسهاب لما عدلنا عن

ص: 178

الإطناب، وهيهات أن يستوفي هذا التقريظ ثناء على ذلك النثر والقريض، ولكونها على اختصارها اشتملت على أحوال ذلك الإمام سنذكرها إن شاء الله تعالى بالتمام.

وقد صنف في مناقب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه غير من ذكرنا من الأفاضل، والعلماء الأكابر، وذب عنه وأخذ بأقواله واختارها في عصره وبعده، وكان ذلك من علائم بصائرهم وفطنهم، فلا تجد في عصر من الأعصار من يذب عنه ويختار قوله ويسلك مسلكه إلا وهو الفائق على غيره ذكاء وفطنة وإنصافاً، ولا تجد من يخالفه ويعاديه إلا وهو من أهل الغلو والغباوة وحب الدنيا والمخالف للسنة والمعادي للحق، وهذه منقبة لم تكن إلا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينلها أحد من أكابر المجتهدين، فمن الذي منهم ألّف في مناقبه من الكتب ما ألّف فيه!؟ فسبحان من خص بعض عباده بخصائص لم ينلها غيره بجد ولا اجتهاد {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

والثناء عليه في كل عصر من أفاضله ومشاهير علمائه لا يمكننا استقصاؤه ولا الإحاطة به، ولا سميا في هذا العصر بعد أن انتشرت كتبه ورسائله وفتاواه، ففي الهند عدد كثير من المحققين كتبوا في مناقبه، وذبوا عنه، وأخذوا بأقواله واختياراته، وفي نجد كذلك، فإن قوله لديهم متبع، ومرجح على أقوال كثير من المجتهدين، وفي مصر جمع غفير على هذا المنوال، كتبوا في مناقبه مقالات مطولة ومختصرة، وأثنوا عليه وذبوا عنه، وخطَّؤوا المنكرين عليه، والمبغضين له حسداً من عند أنفسهم، ومنهم شيخ الإسلام الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية، وهو الفاضل الذي عقم الزمان أن يأتي بمثله فضلاً وإنصافاً وذكاء وبلاغة، ونثراً وشعراً، وغيرة على الدين، قدس الله روحه ونور ضريحه.

حلف الزمان ليأتين بمثله

حنثت يمينك يا زمان فكفر

1 سورة آل عمران: 26.

ص: 179

وقد أثنى عليه تقريراً وتحريراً، ومن طالع كتبه عرف ذلك، ومنه ما كتبة في كتابه "الإسلام والنصرانية" وهكذا أصحابه وتلامذته الأفاضل الأعلام، بل كل منهم في عصره إمام.

وفي العراق أيضاً جماعة من أهل الفضل والإنصاف يعترفون بما كان عليه الشيخ من المنزلة القعساء1، والعلم الذي لا تجد أحداً يطاوله به، وأما المبغضون له في العراق فهم المنافقون الدجالون الذين اشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم، وكلهم أهل بلادة وغباوة لا يعبأ بهم، ولا يلتفت إليهم، أولئك حزب الشيطان، وقوم البهتان، وأعداء الرحمن، والسواد الأعظم من سكنة العراق على ما وصفنا، ولا بدع فبلاد العراق معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري وتواتر النقل به واشتهر من أصولهم الخمسة التي خالفوا بها أهل السنة، ومبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية غاية يسقط بها الأمر والنهي إنما نبغوا وظهروا بالبصرة، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في: الإمام علي وسائر الأئمة، ومسبة أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل هذا معروف مستفيض.

والمقصود؛ أن أهل الفضل منهم- وقليل ما هم- محبون للسنة ناصرون لأهلها معارضون لمن يخاصمهم.

وفي دمشق وسائر بلاد الشام أيضاً جماعة من أكابر علماء هذا العصر وفضلائه قد نصروا الشيخ واختاروا أقواله، وردوا على المخالفين له من الجهلة والغلاة، وأثنوا عليه ووثقوه، ورجحوه على كثير من الأئمة في كثير من الفنون، وصبروا على ما رأوه من كيد الخصوم وتحاملهم ومخاصمتهم للباطل، وهم أحق

1 المنزلة القعساء: المنزلة الرفيعة الثابتة.

ص: 180

الناس بذلك لأن الشيخ قدس الله روحه الزكية منهم، وكان جيرانهم ومن بلادهم ظهرت أنوار السنة النبوية. وفي الحديث الصحيح ما يشعر بأنهم هم المؤيدون للسنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم في الغرب ". قال بعض شراح الحديث: المراد بهم أهل الشام، فإنهم أكثر الناس اشتغالاً بالحديث، وأعناهم بحفظ السنة. قال العلامة الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" في الحديث الصحيح "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ". وفي "صحيح البخاري ":"وهم بالشام ". وقد قال كثير من علماء السلف إنهم علماء الحديث، وهذا أيضاً من دلائل النبوة، فإن أهل الحديث بالشام اليوم أكثر من سائر أقاليم الإسلام ولله الحمد، ولاسيما بمدينة دمشق حماها الله وصانها، كما ورد في الحديث أنها تكون معقل المسلمين عند وقوع الفتن ". انتهى.

وابن تيمية وأصحابه من أهل الشام، وقيامه بالانتصار للسنة ورد البدع أمر لا ينكر، ولا بعد أن يكون الحديث الشريف إشارة إليه وإلى أضرابه، فهو من أعلام النبوة، فتأمله فإنه دقيق.

وممن أثنى على الشيخ ابن تيمية كثير من أصحاب المجلات العلمية التي تنشر في مصر وغيرها، كالفاضل الكامل صاحب "المؤيد الأغر" الذي فاق البلغاء الأولين في تحريره وبيانه، ووقوفه ومزيد عرفانه، وهو الذي إذا حرر حبر، وإذا تكلم حير، فسح الله تعالى في مدته، وهو لم يزل يثني على الشيخ ويحث على نشر كتبه واقتنائها، ويكبح المنكرين عليه، جزاه الله عن المسلمين خيراً، وكثر أمثاله فيهم.

ومنهم صاحب "مجلة المنار" وهو الفاضل الذي ظهر فضله ظهور الشمس في رابعة النهار، ومجلته كأنها روضة نقطها الغمام قطراً، ونسيم أسحار هببن على قلب متيم قد توقد جمراً، أودع فيها دواء الأسفام الروحانية، وترياق العلل الجسمانية، قد شيد، فيها أركان الإسلام، ورفع فيها قواعد الأحكام، وكم جلا فيها عن وجه الحق ما انسدل عليه من الحجب، وأوضح دقائق الحقائق التي أجنتها

ص: 181

بطون الكتب، وأثنى على شيخ الإسلام وأشاع فضله بين الأنام، نسأله تعالى أن يحفظه من طوارق الأيام ويصونه من كيد اللئام.

ومنهم الفاضل العلامة الذي حلى جيد الفضل بما أملى، حتى غدا بكل منقبة أحرى وأولى بما أولى، الذي أسرج خيول المجد، وألجم أفواه الحساد، وأقام ما تهدم من أركان الفخر، وأقعد على الأعجاز أرباب العناد، ألا وهو رفيق بك العظم نزيل القاهرة، حرسه الله تعالى وأيد به المعالي، وحفظه من مزعجات الأيام والليالي، فإنه قال في كتابه (تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام) من جملة كلام طويل ما نصه: "لم يقف الجمود بعلماء المتأخرين عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم نكالاً وأشد، فإنهم لما اسنترسلوا بالتقليد، وحرموا على أنفسهم العمل بنصوص الكتاب والسنة- إلا ما جاء منها بالعرض عن طريق الشيوخ- وأصبحوا حيارى في مدافعة البدع والأضاليل التي خالطت أوهام المسلمين، وأدنتهم من الوثنية بمقدار ما أقصاهم عنها الإسلام؛ ألف بعضهم من هذه البدع ما ألفته نفوس العامة، ونزلته منزلة العقائد الدينية، وفيها ما يصادم أصول الدين، فجعلوا يبدعون كل منكر لهذه البدع قائل بالرجوع إلى سذاجة الدين والعمل بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين، ويستعملون في تبديع من هذا شأنه من أساليب التعسف ما يشعر بتناهي ضعف العلم وفساد ملكة الحق عند المتأخرين، يدلك على هذا أن أحدهم لما يريد تبديع منكري هذه البدع أو تكفير مجتهد بمسألة من المسائل مثلاً ويرى أن أدلتهم- من الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة وأنه لا سبيل له للإتيان بدليل منهما يضاد أدلتهم لأن نص الصحيح- لا يضاد نص الصحيح يعمد إلى حديث موضوع أو قول من أقوال الشيوخ فيجعله حجة له على أولئك بإزاء حجتهم من الكتاب والسنة الصحيحة، أو يجمع نصوصاً متفرقة يقصد كل منها بمعناه وجهاً مخصوصاً فيستنتج منه حكماً يطابق هواه مخالفاً في هذا طريقة السلف، ولم هذا؟ لأنه لم يلتمس في مناظرته بيان الحق وتمحيص الحقائق، وإنما هو يلتمس رضا العامة بمجاراة أفكارهم ابتغاء الزلفى عندهم، وتعظيمهم له، أو هو يحاول التماس المعذرة أمام النفس التي يتجلى لها الحق

ص: 182

فيصدها عنه مرغماً بحكم العادة والتقليد، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} 1.

ومن أراد شاهداً على هذا فليراجع كتاب (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) ليرى كيف أن بعض العلماء المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية كفر- تعسفاً وافتراء- هذا الشيخ الجليل المعدود من نوابغ علماء الإسلام وأئمة الهدى المصلحين، لتفرده في عصره بالإنكار الشديد على أهل البدع التي انتشرت يومئذ بين المسلمين، وبيان ما أصبحت عليه الأمة من الزيغ في العقائد عن طريق الصحابة والتابعين، حاثاً على الرجوع إلى سذاجة الدين، وتطهير العقيدة من شوائب المبتدعين، مستنداً في كل ما قاله وأملاه على الكتاب العزيز والسنة الصحيحة.

فهل بعد تكفير من يقول بمثل هذا القول من حجة على فساد ملكات العلماء وانحطاط درجة التعليم بين المسلمين؟ وهل يعجب من تدني عامة الأمة إلى الدرجة التي هم فيها اليوم من فساد العقيدة والأخلاق بعد وصول علمائهم إلى هذا الحد من سوء التعلم والتعليم؟ ". انتهى كلام هذا الفاضل.

فانظر إلى قوة هذا الكلام وإنصاف قائله، لا هتك الله له حريماً، ولا مزق له أديما.

ومنهم العلامة المفضال، المتميز بين أقرانه بالأدب والكمال، الذي أوقد للمشكلات سراجاً من فكره غدت ذبالته لمداراة فراش أذهان الطلاب قطباً، وأجرى من صخور العويصات سلسبيلاً فراتاً وماء عذباً، خلف الأوائل، وشرف الأواخر والأماثل، السيد محمد بدر الدين الحلبي، لا زالت بحار علومه تقذف بالدرر، ولا برحت غرر طروسه مزينة بالطرر، فقد أجرى من ياقوتة فكره السيالة بحاراً، وأعلى للفضل بنير ذهنه مناراً، حيث ألف كتابه الفريد في بابه، وأبدع كل

1 سورة البقرة: 170.

ص: 183

الإبدع في فصوله وأبوابه، وأتى فيه بما لم يسبق إليه، ولم يقدم أحد من السابقين عليه، وهذا الفاضل لم يزل يعطر محافل العلماء بنشر مناقب شيخ الإسلام وأصحابه، ويجادل عنه تقريراً وتحريراً انتصاراً للحق وشغفاً به، وكم ألقم الخصم الألد حجر السكوت، وتركه من غيظه وخجله يكاد يموت، متع الله تعالى بحياته أرباب الاستفادة، وأسبغ نعمه عليه حتى ينال من كل خير مراده.

ومنهم الذكي الذي أذكى بوقاد ذهنه ذبالة نبراس الفضل بعد انطفائها، والألمعي الذي لمعت أشعة فكره على دارس الفواضل فأحياها بعد فنائها، العالم الأفضل والكامل الأكمل، أبو الهمم محمد كرد علي صاحب "مجلة المقتبس" لا زالت بدور فلك العرفان مقتبسة من أنوار شمس كماله أعظم قبس، فإنه حفظه الله تعالى منذ جرى جواد قلمه في مضمار ميادين القراطيس، وشرع لسان بيانه يجول في عرصات الدرس والتدريس، لم يزل مشغوفاً بذلك الإمام، ذاكراً لمحامده ومناقبه بين الخاص والعام، قد ملأ المجلات المصرية الشهيرة بيان فضائله ومعارفه، وما كان عليه من الدرجة الرفيعة، وما بث من الدقائق في صحائفه، وكم ترك خصومه ومن ناواه حيارى، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، لا زال بالخير محفوفاً، ولا برح حائزاً من الفضائل صنوفاً.

إلى غير أولئك من الأكابر، ممن لا تستوعبهم الدفاتر، ولعل الله تعالى ييسر لنا إفراد كتاب نجمعهم فيه، ونستوعب من تكلم في مناقب الشيخ من أكابر أفاضل هذا العصر، ونذكر مالهم في هذا الباب من النصوص والعبارات، ومالهم من النظم والنثر في مديحه ليكون ذلك سفراً من أجل الأسفار، والله الموفق.

فيا أيها النبهاني قد سمعت ما سمعت من تقريري وبياني فهل بقي لك لوم، على مصنف "جلاء العينين" ووالده بسبب ما كان منهما من الانتصار للحق والذب عن السنة وإبطال البدع التي هي غذاء روحك الخبيثة؟ وقد سبقهما في ذلك علماء أعلام، ومشايخ عظام، ومن كان له إنصاف من ذوي الفضل الكرام، وأظن أنه لجهله لم ير في عمره مما ألف في هذا الباب سوى كتاب "جلاء العينين" ولم يعرف معناه، بل لم يحسن أن يقرأ عبارة لفظه ومبناه، فلذلك جعله سبابة المتندم،

ص: 184

وخصه ومؤلفه بشتمه وسبه كما شتم شيخ الإسلام وأكابر أصحابه إقتداء بمشايخه السبكي وولده وابن حجر، وقلدهم تقليد أعمى، ولم يلتفت إلى الدليل، وقد كفيناه وأعطيناه حقه بل زدناه كما قد قيل:

إن السؤال والجوا مثلما

قد قيل في التمثيل أنثى وذكر

ونحن قد تطفلنا على هذا المبحث فمن الواجب أن يرد على ذلك الزائغ بعض أبناء مصنف "جلاء العينين" فقد بلغني أن فيهم أفاضل فكان من حقهم أن يذبوا عن والدهم، ويلقموا هذا الخصم الذي خطا خطوات العدوان بحجر سكوت، ولكن إعراضهم عن ذلك إما لعدم وصول الكتاب إليهم، وإما عدم مبالاة بما كان من الجاهل النبهاني، كما قال القائل:

عذرت البزل إن هي خاطرتئي

فما بالي وبال ابن اللبون

فإن نبح الكلاب لا يضر السحاب، وطنين الذباب لا يخاف منه أولو الألباب، وما أحسن ما قال ابن سند أحد سكنة العراق من علماء نجد:

يا معهد الزيغ لأحياك مبتكر

من السحاب ضحوك البرق منهمل

ولا أنني فيك فسطاط السعود ولا

أقيم فيك لأبكار الرضا كلل

ولا عداك البلى في كل آونة

حتى تزول الجبال الشم والقلل

إذ أنت دمنة خبثت طالما رتعت

فيها من الحمر الأهلية الهمل

من كل من بخثت منه ضمائره

إذا انقضى دخل منها أتى دخل

رأى خيار الورى طراً فجانبهم

كذا يجانب أرباب العلى السفل

وصار يرميهم منه بكل هجا

وما على البدر لو أزرى به طفل

وما على العنبر الفواح من حرج

إن مات من شمه الزبال والجعل

أو هل على الأسد الكرار من ضرر

أن ينهق العير مربوطاً أو البغل

أو هل على أنجم الخضراء منقصة

إن عابها من حصى الغبراء منجدل

فلا وربك لا يزري بشمس ضحى

أعابها الجدي أم قد عابها الحمل

وقد يعيب الفتى من ليس يدركه

إذ كل ضد بذم الضد مشتغل

ص: 185

كما يعيب فتاة راق منظرها

قبيحة ويعيت الصائب الخطل

والزج يحسد لؤماً خرص سمهره

كذاك يهجو الشجاع الباسل الفشل

فلا يضر أولي الفضل الألى سبقوا

من صحب خير الورى إن ذمهم سفل

مثل الأسنة والأسياف ما برحت

بطعن أعدائهم والضرب تنصقل

وقد آن أن نشرع بما وعدنا به من نقل كتاب "الكواكب الدرية" للشيخ مرعي الحنبلي، فإنها على اختصارها حوت ملخص أحوال الشيخ وما كان عليه، فإنه بعد خطبة الكتاب ذكر الكتب التي لخص منها مباحث كتابه، ثم ذكر ترجمة الشيخ ونسبه، ثم ذكر ثناء الأئمة عليه، ثم أفرد فصلاً عد فيه بعض مصنفاته وذكر سعة حفظه وقوة ملكته، ثم أورد فصلاً في ذكر بعض مآثره الحميدة وصفاته السديدة، وفصلاً آخر في تمسكه بالكتاب والسنة، وآخر في محنته وتمسكه بالطريقة السلفية، وما كان من الشيخ نصر المنبجي من العداوة، ثم أفرد فصلاً في سفر الشيخ إلى مصر وما صادفه من المحنة، ثم ذكر ما وقع له بعد عوده إلى دمشق، وما كان له من الاختيارات، ثم ذكر قصة حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى وفاته، ثم ذكر قوله في مسألة السفر إلى زيارة القبور وصورة السؤال وجواب الشيخ فيها، ثم ذكر ما كان من انتصار علماء بغداد له يومئذ، وجواب الشيخ جمال الدين الحنبلي رحمه الله، وأجوبة أخرى موافقة لقول الشيخ، وما كتبه علماء بغداد للملك الناصر من الثناء على الشيخ، ثم ذكر وفاته وما كان من الاحتفال بجنازته، ثم ذكر الشعر الذي رثوه به، ثم ختم الكتاب بالموعظة والتحذير من التعرض للعلماء.

هذا مجمل ما في الكتاب، وهي مطالب عالية، كلها شجى في أفواه الغلاة، وكلها ترد على هذيان النبهاني وأضرابه، وتبين الحق لطالبه، وتوضح الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وها نحن ننقل ما ذكره من تفصيل ذلك الإجمال، ومنه سبحانه الهداية وهو المستعان.

قال رحمه الله بعد البسملة: " الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن العلماء العاملين، والأئمة

ص: 186

المجتهدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد؛ فهذه فوائد لطيفة، وفرائد شريفة، في مناقب شيخ الإسلام، وبحر العلوم، ومفتي الفرق، المجتهد أحمد تقي الدين بن تيمية، لخصتها من مناقبه للشيخ الحافظ الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي بن عبد الحليم بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي، ومن مناقبه للشيخ الإمام العالم الأوحدي الحافظ سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن موسى البزار، ومن مناقبه للشيخ الإمام العالم أوحد الأدباء وشيخ الفضلاء شهاب الدين أحمد بن القاضي محيي الدين يحي بن العمري الشافعي.

فأقول وبالله التوفيق: ابن تيمية هو الشيخ الإمام العالم العامل الرباني، إمام الأئمة، وعلامة الأمة، ومفتي الفرق، وبحر العلوم، وسيد الحفّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، ووحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، عالم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضز بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها، كذا ترجمه بهذه الترجمة ابن قدامة المتقدم.

واختلف لم قيل ابن تيمية؟ فقيل: إن جده فحمد بن الخضر حج على درب تيماء فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتاً فقال يا تيمية يا تيمية فلقب بذلك. وقيل إن جده محمداً كانت أمه تسمى تيمية وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها.

ولد رحمه الله تعالى بحران يوم الإثنين عاشر- وقيل ثاني عشر- ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وبقي بحران إلى أن بلغ سبع سنين، ثم بعد ذلك هاجر والده به وبإخوته إلى الشام عند جور التتر، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله

ص: 187

سبحانه واستغاثوا به فنجوا وسلموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين،.. فنشأ بدمشق أتم إنشاء وأزكاه، وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه، وكانت مخائل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة، فلم يزل منذ إبان صغره مستغرق الأوقات في الجد والاجتهاد، وختم القرآن صغيراً، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك مع ملازمته مجالس الذكر، وسماع الأحاديث والآثار، ولقد سمع غير كتاب على غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة العالية، أما دواوين الإسلام الكبار كمسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، ومسلم، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود السجستاني، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، فإنه سمع كلاً منها مرات عديدة، وأول كتاب حفظه في الحديث "الجمع بين الصحيحين" للإمام الحيمدي، كذا قال الشيخ الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر- وسمع من مشايخ كابن عبد الدائم المقدسي وطبقته، وطلب بنفسه قراءة وسماعاً من خلق كثير، وقرأ الكتب الكبار، وكتب الطباق والإثبات، ولازم السماع واشتغل بالعلوم. قال ابن عبد الهادي بن قدامة: وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، وسمع مسند الإمام أحمد مرات، وسمع الكتب الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير، وعني بالحديث، وقرأ ونسخ وانتقى وتعلم الخط والحساب في الكتاب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه وقرأ في العربية، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه وأتم فهمه وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً، حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه" انتهى.

ص: 188