الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 1 والنصر المطلق هو خلق ما به يغلب العدو، ولا يقدر عليه إلا الله، ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة فإنه يكون إما كافراً وإما فاسقاً وإما عاصياً، إلا أن يكون مؤمناً مجتهداً مخطئاً فيثاب على اجتهاده ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة، فإن الله تعالى يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 2 وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها فإنه يعاقب بحسب ذلك إما بالقتل وإما بدونه، والله أعلم".
(سؤال آخر وجواب الشيخ أيضاً عنه متعلق بهذا الباب)
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث بالله فيه، وأن من نفى الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم يكفر، لأنه نقص من قدره وما يستحقه، إلى آخر ما قال.
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "الحمد لله رب العالمين، لم يقل أحد من المسلمين أنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى لا بنبي ولا بملك ولا صالح ولا غير ذلك، بل هذا ما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه، ولم يقل أحد أن التوسل بشيء هو الاستغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم نتوسل إليك بحق الشيخ فلان أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم أو بالكعبة أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما
يطلب
به، وكل أحد يفرق بين المدعو به والمدعو، والاستغاثة طلب الغوث وهو إزالة الشدة، والاستنصار طلب النصرة، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه، كما قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّين} 1 وقال: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2 وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 3 وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله.
ولهذا كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به ويتوسلون به، كما في صحيح البخاري "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"4. وفي سنن أبي داود: "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال: شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"5. فأقره على قوله ونستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك، وقد اتفق المسلمون على أن نبينا صلى الله عليه وسلم شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وعند الوعيدية إنما يشفع في زيادة الثواب.
وقول القائل: إن من قال أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغيث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على التصرف به، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في
1 سورة الأنفال: 72.
2 سورة القصص: 15.
3 سورة المائدة: 2.
4 تقدم تخريجه.
5 تقدم.
مثل ذلك، ولو قال قائل لمن يستغيث به أسألك بفلان أو بحق فلان لم يقل أحد أنه استغاث بمن توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله.
ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال، والتوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم سواء سمي استغاثة أو لم يسم لا يعلم أحد من السلف فعله، ولا يروي فيه أثر، ولا يعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ عز الدين من المنع.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، رواه النسائي والترمذي وغيرهما؛ "أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي، قال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصل ركعتين وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: أتوسل إليك بنبيك، يا محمد إني أتشفع إليك في رد بصري اللهم شفعه فيّ". فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له فسأل الله أن يشفعه فيه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك حاجة فمثل ذلك" فرد الله بصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ عز الدين بن عبد السلام التوسل به.
وللناس في معنى ذلك قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: "كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فأسقنا فيسقون". فقد ذكر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به بحيث يدعو ويدعون معه ويكون وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة به بعد موته ولا في مغيبه، والنبي كان في مثل ذلك شافعاً داعياً.
القول الثاني: أن التوسل به يكون في حياته وبعد موته ومغيبه وحضرته، ولم يقل أحد من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية وليست أدلتها جلية، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المجمع عليها، واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا
يشرع كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح، وليس ذلك من مسائل السبب.
وأما من قال: إن من نفى التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله- فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين، لاسيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".
وأما من قال مالا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون- لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس:"إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله".
وإذا نفى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه أمراً كان هو الصادق المصدوق في ذلك كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيماً له أشبه النصارى الذين كذبوا المسيح بإخباره عن نفسه بالعبودية تعظيماً له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، والله أعلم".
ففي كلام الشيخ ما يرد على النبهاني من وجوه كثيرة، فإن النبهاني لم يفرق في شبهه التي أوردها بين التوسل والاستغاثة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جعل كلا من التوسل والصلاة التي ذكرها العلماء في أحزابهم استغاثة، وقال إن العلماء استغاثوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق أيضاً بين قسمي الاستغاثة اللذين ذكرهما الشيخ.
والحاصل: أن في كلام الشيخ ما يرد على القبوريين من وجوه:
الوجه الأول: أن قول الشيخ: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن يريد بالتوسل ما ذكره هو في كلامه، لا يريد التوسل في عرف النبهاني وعباد القبور، وهو دعاء المخلوق والاستغاثة به، وإنما يريد به سؤال الله تعالى أن يشفع عبده فيه بإجابة دعائه لهذا السائل، وأرشده في هذا التوسل إلى الله بالصلاة التي هي أفضل العبادات البدنية، وأن يوحده بالدعاء والمسألة في أن يقبل شفاعة نبيه أي دعاءه له، وهذا ليس الكلام فيه، وليس من توسل عباد القبور، وتقدم قول الشيخ أن هذا لا يسمى استغاثة، وفرق بين التوسل والاستغاثة.
الوجه الثاني: أن الذي رجح الشيخ ومن وافقه من المحققين أن هذا خاص في حياته، لأن المقصود به شفاعته بالدعاء، كما كان يستغفر لأصحابه ويدعو لهم، وهذا هو الذي فهمه الفاروق، وناهيك به، فإنه قال:"كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا" وهو صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم فتجاب دعوته، وبعد موته لا يشرع طلب الدعاء منه، لأن عمر عدل إلى العباس ولم ينكره منكر، ولم يذهب إلى القبر الشريف أحد من أفاضل الأمة وأكابرها، مع أن قبره صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وهذا اتفاق على تصويب عمر ومتابعته، وهذا من باب التنزل، وإلا فعدم مشروعية هذا في سائر الكتب السماوية معلومة من الدين بالضرورة.
الوجه الثالث: أن الحديث إن صح فهو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم عند من قال بالجواز كابن عبد السلام، فسؤال الله بغيره لم يقل به أحد ممن حكى الشيخ قولهم بالجواز، قال الشيخ: ولا يعلم أحد من السلف فعله، ولا روي فيه أثر، ولا يعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ عز الدين من المنع، وعباد القبور يسألون الله بجاه من اعتقدوا فيه، بل آل الأمر إلى أن يسأل الله تعالى بجاه كل من رفع قبره وجعلت عليه قبة، بل وبالبله والمجانين الذين يعتقدهم عباد القبور.