المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الكلام على سوء خاتمته) - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ٢

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌فاتحة الجزء الثاني

- ‌[الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم]

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الأديب الأريب

- ‌ذكر من ألّف في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌[ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام]

- ‌[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام]

- ‌(فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية)

- ‌(فصل في تصانيف ابن تيمية وسعة حفظه وقوة ملكته رحمة الله عليه)

- ‌(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولاً)

- ‌(فصل في تمسك ابن تيمية بالكتاب والسنة)

- ‌(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف)

- ‌(ذكر خروجه لمصر)

- ‌(ذكر ما وقع للشيخ ابن تيمية بعد عوده لدمشق المحروسة)

- ‌(ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها)

- ‌(وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه)

- ‌(ذكر انتصار علماء بغداد للشيخ)

- ‌(جواب آخر لعلماء الشافعية)

- ‌(جواب آخر لبعض علماء الشام المالكية)

- ‌(كتاب آخر لعلماء بغداد)

- ‌(فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى)

- ‌(فصل فيما رثي به الشيخ من القصائد بعد موته وذلك كثير لا ينحصر)

- ‌(خاتمة نصيحة وموعظة)

- ‌(سؤال آخر وجواب الشيخ أيضاً عنه متعلق بهذا الباب)

- ‌(ما يعارض به ما أورده النبهاني مما فيه استغاثة والتجاء بغير الله تعالى)

- ‌(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به)

- ‌(الكلام على سوء خاتمته)

الفصل: ‌(الكلام على سوء خاتمته)

(الكلام على سوء خاتمته)

قال النبهاني: الخاتمة في الجواب عما اعترض به ابن تيمية وأمثاله على بعض أولياء الله تعالى من الألفاظ الموهمة، ونقل عن كتاب (البحر المورود) للإمام الشعراني أنه قال أخذ علينا العهود أن نجيب عن أئمة الإسلام- من العلماء والصوفية- جهدنا، ولا نصغي قط لقول من طعن فيهم، لعلمنا أنه ما طعن فيهم إلا وهو قاصر عن معرفة مداركهم، ونقل كلامه في تبرئة الجنيد والغزالي، والشيخ محيي الدين بن عربي، ونقل أيضاً كلامه على ما اعترض عليه من كلمات القوم، كقول الشيخ: أبي يزيد طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك. وقول الجنيد: العارفون لا يموتون، وإنما ينقلون من دار إلى دار. وقول الشبلي: إن ذلي عطل ذل اليهود. وقول الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقول الشيخ محيي الدين بن عربي: حدثني قلبي عن ربي، أو حدثني ربي عن قلبي، أو حدثني ربي عن نفسه!!

ثم إن الشعراني وجه هذه الأقوال بتوجيهات رآها، ثم نقل عن القوم أقوالاً ثبتت عنهم- ولم يعين قائلاً- كقولهم: اللوح المحفوظ هو قلب العارف، وقولهم: دخلنا حضرة الله، وخرجنا من حضرة الله! وأبدى لمثل هذه الأقوال معاني صحيحة، ثم إن بعض أقوال نسبت إلى بعض أولئك القوم، قال لم تصح نسبتها إليهم وكذبها، ونقل النبهاني أيضاً عن الفتاوى الحديثية بعض المسائل المتعلقة بمثل تلك الأقوال سئل عنها فأجاب بما أجاب وختم به كتابه.

والجواب عن ذلك كله أن يقال: إنه لم يسلم أحد من الاعتراض عليه،

ص: 441

وإلقاء التهمة بين يديه، وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الذين ذكر من أقوالهم ما ذكر إن لم يكن لها وجه، فهي لا تزري بعلو شأنهم، ومزيد عرفانهم، فهم لم يكونوا معصومين، ولا أنبياء ولا مرسلين، وقد قيل إن الصارم قد ينبو، والجواد قد يكبو، والسعيد من عدت سقطاته، وقلت غلطاته، وما أحسن ما قيل:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معائبه

هذا إذا لم يكن لما قالوه وجه وجيه، فكيف وغالب أقوالهم قد صححها بعض أهل العلم.

والنبهاني قد افترى على شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في قوله: إن ابن تيمية اعترض على تلك الأقوال التي ذكرها، فعلى أي قول منها اعترض؟ وفي أي كتاب ذكر ذلك؟

والبهتان قد صار ديدناً وديناً للنبهاني، كما قد قررنا ذلك مراراً، وابن تيمية لم يزل يذب عن العلماء الربانيين، والعلماء العاملين، وألف كتاباً سماه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وآخر في الذب عن الأئمة الأربعة، وآخر في الانتصار للإمام أحمد، وآخر وآخر، مما سبق بيانه.

وقد كان رحمه الله على جانب من الإنصاف عظيم، يعرف قدر أهل العلم، ويعطي كل ذي حق حقه، نعم اعترض على بعض مسائل لأبي حامد مخالفة للكتاب والسنة ذكرها في "الإحياء" وغيره من كتبه، كما هو شأن أئمة الأمة المحمدية، فإنهم كما وصفهم نبيهم لا يجتمعون على ضلالة، وقال فيه: إنه مات والبخاري على صدره، نعم إنه تكلم في الشيخ محيي الدين وأضرابه ممن قال بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، كما سبق بيانه، وله فيهم رد كبير، وذكر منه في كتابه (الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن) ما نقلنا بعضه فيما سبق، وهو ليس أول من قرع هذا الباب من أولي الألباب، فكم وكم له من سلف، وذلك من الواجب على مثله أن يقوم على ساق المناضلة والذب عن الشريعة الغراء،

ص: 442

ومن أعطاه الله علماً فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 1. والشيخ محيي الدين قد ألف فيه كتب كثيرة، وردوا على أقواله التي في الفصوص والفتوحات وغيرهما.

وممن ألف في الرد عليه العلامة الثاني سعد الدين التفتازاني، والحافظ العسقلاني، والشيخ أبو عبد الله البخاري، والملا علي القاري، والعلامة العضد، وغيرهم ممن لا يحصون كثرة، وإنهم أصابوا في الرد عليه، ولولا أن يطول الكلام لذكرنا كلامهم فيهم، ولعلنا إن شاء الله نفرد له كتاباً يكون قسيماً لهذا الكتاب.

ثم إن ما نقله النبهاني عن الشعراني في توجيه قول الشيخ محيي الدين فهو غير مقبول، لأنه لا يدل اللفظ عليه لا حقيقة ولا مجازاً، ولقد تجرأ على القول به بعض من لا خلاق له ممن ينتسب إلى العلم والصلاح من الغلاة، فحصل منه من المفاسد ما حصل.

قال العلامة الشيخ عبد اللطيف في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) عند الكلام على بدع القبوريين ما نصه:

"ومن المحن أن مشايخ المذاهب الأربعة وفقهاءهم جزموا بوجوب هدم القباب، ونهوا عن الطواف بالقبور ودعاء أربابها، بل ودعاء الله عندها، ومنعوا من الذبح لها والغلو فيها، بل وعن عبادة الله بالصلاة عندها، فإذا عُمل بمقتضى أقوالهم عامل وألزم بها الناس نسبة هؤلاء الجهال إلى الاستخفاف بالأنبياء والصالحين وإلى مخالفة العلماء، لأن العلم في عرفهم ما هم عليه من أقوال أسلافهم ومشايخهم من المتأخرين، قال وقد حدثني من يقبل حديثه أنه سمع هذا العراقي بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يوم قدوم الحاج يقول

1 سورة آل عمران: 187.

ص: 443

في مجمع من الناس: إنما الرجل من يقول حدثني سري عن ربي، لا من يقول: حدثنا فلان وفلان.

فانظر هذا الاستخفاف العظيم برسل الله، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن من يأخذ عن الأنبياء المعصومين وعن رسل الله المبلغين أفضل وأكمل ممن يأخذ عن سره ووارده، بل هذه الواردات كلها موقوفة ومردودة إلا بشاهد عدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد لها بالصحة وأنها حق يؤخذ به.

وقد قال شيخ الطريق الجنيد بن محمد رحمه الله: إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة.

وغالب هذه الواردات التي تخالف الشرعيات، ويشير إليها أهل التصوف والتعبدات- إنما هي من وحي الشيطان لا عن الله رب العالمين، وبهذا تعلم أن هذا العراقي وأمثاله هم أهل التنقص للرسل التاركون لما جاؤوا به، وحاصل أمرهم عزل الكتاب والسنة في باب الاعتقادات والعمليات، واتباع ما تهوى الأنفس من الغلو والإطراء والجهل والضلالات، وهذا الاعتراض محشو من ذلك لا تكاد تعد فيه كلمة واحدة سيقت على القانون الشرعي والمنهاج المرضي، وما أحسن ما قال شيخ الإسلام فيما كتب على المحصل للرازي:

محصل في أصول الدين حاصله

من بعد تحصيله جهل بلا دين

بحر الضلالات والإفك المبين وما

فيه فأكثره وحي الشياطين

انتهى كلام صاحب المنهاج، ومنه يعلم أن قول محيي الدين إن صح عنه فهو قول باطل لا يفيد فيه ما ذكره الشعراني من التأويل العليل.

والإمام أبو حامد الغزالي اعترض على كتبه كثير من العلماء الربانيين، منهم الإمام أبو عبد الله المازري، قال تاج الدين ابن السبكي في "طبقاته" عند ذكره كلام الطاعنين على هذا الإمام ورده: قال الإمام أبو عبد الله المازري المالكي- مجيباً لمن سأله عن حال كتاب إحياء العلوم ومصنفه- هذا الرجل- يعني الغزالي-: وإن لم أكن قرأت كتابه فقد رأيت تلامذته وأصحابه، فكل منهم يحكي لي نوعاً من

ص: 444

حاله وطريقته، فأتلوح بها من مذهبه وسيرته ما قام لي مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حال الرجل وحال كتابه، وذكر جمل من مذاهب الموحدين والفلاسفة والمتصوفة وأصحاب الإشارات، فإن كتابه متردد بين هذه الطرائق لا يعدوها، ثم أتبع ذلك بذكر حيل أهل مذهب على أهل مذهب آخر، ثم أبين عن طرق الغرور، وأكشف عما دفن من حبال الباطل ليحذر من الوقوع في حباله صائده. ثم إنه أثنى على الغزالي في الكشف، وقال: هو أعرف بالفقه منه بأصوله، وأما علم الكلام الذي هو أصول الدين فإنه صنف فيه أيضاً وليس بالمستبحر فيها، ولقد فطنت لسبب عدم استبحاره وذلك أنه قرأ علم الفلسفة قبل استبحاره في فن أصول الدين، فأكسبته قراءة الفلسفة جراءة على المعاني، وتسهيلاً للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها، وليس لها حكم شرعي ترعاه، ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها، وعرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ومصنفها فيلسوف قد خاض في علم الشرع والعقل، فمزج ما بين العلمين، وذكر الفلسفة وحسنها في قلوب أهل الشرع بأبيات يتلوها عندها وأحاديث يذكرها، ثم كان في هذا الزمان المتأخر رجل من الفلاسفة يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تآليف في علم الفلسفة، وهو فيها إمام كبير، وقد أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره، وقد رأيت جملاً من دواوينه ورأيت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه من الفلسفة.

ثم قال: وأما مذاهب الصوفية فلست أدري على من عول فيها، ثم أشار إلى أنه عول على أبي حيان التوحيدي.

ثم ذكر توهية أكثر ما في الإحياء من الأحاديث وقال: عادة المتورعين أن لا يقولوا قال مالك قال الشافعي فيما لم يثبت عندهم، ثم أشار إلى أنه يستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له، مثل قوله في قص الأظفار أن تبدأ بالسبابة لأن لها الفضل على بقية الأصابع لكونها المسبحة إلى آخر ما ذكر من الكيفية، وذكر فيه أثراً، وقال: من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الباري قديم مات مسلماً إجماعاً،

ص: 445

قال: ومن تساهل في حكاية هذا الإجماع الذي الأقرب أن يكون فيه الإجماع بعكس ما قال فحقيق أن لا يوثق بما نقل.

وقد رأيت له أنه ذكر أن في علومه هذه ما لا يسوغ أن يودع في كتاب، فليت شعري أحق هو أو باطل، فإن كان باطلاً فصدق، وإن كان حقاً وهو مراده بلا شك فلم لا يودع في الكتب؟ ألغموضة ودقته؟ قال: فإن كان هو فما المانع؟ (هذا ملخص كلام المازري على ما قاله ابن السبكي) .

(ومنهم أبو الوليد الطرطوشي) قال تاج الدين: وسبق المازري إلى قريب منه من المالكية أبو الوليد الطرطوشي، فذكر في رسالته إلى ابن مظفر: فأما ما ذكرت من أمر الغزالي فرأيت الرجل وكلمته فرأيته رجلاً من أهل العلم قد نهضت به فضائله واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول زمانه، ثم بدا له الانصراف عن طريق العلماء ودخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كان ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها ولا خبير بمعرفتها فسقط على أم رأسه وشحن كتابه بالموضوعات.

(ومنهم الشيخ تقي الدين ابن الصلاح) فقد تكلم أيضاً في الغزالي بكلام قادح فيه، وطعن على كتبه بأنها مشتملة على خرافات وأكاذيب وموضوعات، قال ابن السبكي: وللشيخ تقي الدين في حق الغزالي كلام لا نرتضيه، ذكره علماء المنطق، تكلمنا عليه في أوائل شرحنا للمختصر لابن الحاجب، ونقل عن عفيف الدين ما كتبه إليه من جملة رسالة: وأما ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن الصلاح من عند نفسه ومن كلام يوسف الدمشقي والمازري فما أشبه هؤلاء الجماعة رحمهم الله تعالى إلا بقوم متعبدين سليمة قلوبهم، قد ركنوا إلى الهوينا، فرأوا فارساً عظيماً من المسلمين قد رأى عدداً عظيماً لأهل الإسلام، فحمل عليهم وانغمس في صفوفهم، وما زال في غمرتهم حتى فل شوكتهم وكسرهم، وفرق جموعهم شذر مذر، وفلق هام كثير منهم، فأصابه يسير من دمائهم وعاد سالماً، فرأوه وهو يغسل

ص: 446

الدم عنه، ثم دخل معهم في صلاتهم وعبادتهم، فتوهموا أيضاً أثر الدم عليه فأنكروا عليه، هذا حال الغزالي وحالهم، انتهى ما هو المقصود.

ثم إن ابن السبكي أجاب عن بعض ما اعترض به المازري والطرطوشي بأجوبة ارتكب التعسف فيها كما هي عادته من التعصب لأهل مذهبه، ومع ذلك لم يمكنه إنكار جهل الغزالي بالحديث، فإنه قال: وأما ما عاب به الإحياء من توهية بعض الأحاديث فالغزالي معروف بأنه لم تكن له في الحديث يد باسطة، وعامة ما في الإحياء من الأخبار والآثار مبدد في كتب من سبقه من الصوفية والفقهاء، ولم يسند الرجل لحديث واحد، وقد اعتنى بتخريج أحاديث الإحياء بعض أصحابنا، فلم يشذ عنه إلا اليسير، قال وسأذكر جملة من أحاديثه الشاذة استفادة، ثم إنه بعد كلام استشهد بقوله:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

ثم قال بعد كلام طويل: ولقد وقعت في بلاد المغرب بسبب الإحياء فتن كثيرة وتعصب أدى إلى أنهم كادوا يحرقونه، وربما وقع إحراق يسير، قال والشيخ أبو الحسن لما وقف على الإحياء وتأمله قال هذا بدعة مخالفة للسنة، وكان شيخاً مطاعاً في بلاد المغرب، فأمر بإحضار كل ما فيها من نسخ الإحياء وطلب من السلطان أن يلزم الناس بذلك، فكتب إلى النواحي وشدد في ذلك وتوعد من أخفى شيئاً منه، فأحضر الناس ما عندهم واجتمع الفقهاء ونظروا فيه، ثم أجمعوا على إحراقه يوم الجمعة، وكان ذلك يوم الخميس، ثم ذكر ابن السبكي قصة رؤيا أبي الحسن المكذوبة وزعم أنه ترك إحراقه لتلك الرؤيا، وأنه بعد ذلك رغب فيه. انتهى كلامه ملخصاً.

(ومنهم العلامة الشيخ عبد اللطيف الحنبلي) قال رحمه الله تعالى في رسالة له كتبها لبعض أصحابه يحذره عن كتب أبي حامد الغزالي ويذكر له أنها مخالفة للكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وهي هذه بنص عبارته ولفظه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ في الله

ص: 447

عبد الله بن معيذر سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قوام للإسلام إلا به، وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة يعرفها أولوا الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها، بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين، وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيراً من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل.

قال شيخ الإسلام: "ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة"..

ورد عليه شيخ الإسلام في "السبعينية" وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد، ورد عليه غيره من علماء الدين.

وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي: "شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة ثم أراد الخروج فلم يحسن، وكلام أهل العلم معروف في هذا لا يشكل إلا على من هو مزجي البضاعة، أجنبي عن تلك الصناعة- إلى أن قال: "سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت كيف ينهانا عن هذا فلان؟ أو يأمر بالإعراض عن هذا

ص: 448

الشان؟ كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة وقد يكون ما أطربك وهز أعطافك وحركك فلسفة منتنة، وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية- إلى أن قال-: ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد".

ثم ذكر كلاماً طويلاً للذهبي في ترجمته للغزالي، قال: ومن معجم أبي علي الصدفي في تأليف القاضي عياض له، قال: الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف الفظيعة، غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تأليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون الأمة والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها فامتثل ذلك.

وقال الذهبي أيضاً: "قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب "التهافت" وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظناً منه أن ذلك حق أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء وخيار المخلصين لتلف.

فالحذر الحذر من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادات التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم يغفر له، وينجو إن شاء الله " انتهى.

والكلام على أبي حامد1 وبيان ما اعترض به عليه لا يسع المقام تفصيله، وما ذكرناه كاف في المقصود، ومن العجب أن بعض الجهلة ممن يدعي العلم والصلاح وهو عار عنهما وقد تزيا بزي أهلهما، وقد كور عمامته وسرح لحيته:

1 انظر "أبو حامد الغزالي والتصوف " للشيخ عبد الرحمن دمشقية.

ص: 449

يحسبه الجاهل ما لم يعلما

شيخاً على كرسيه معمما

قد راج سوقه على العوام، بما يقصه عليهم في الوعظ من الأكاذيب والأوهام، ورأي أنه لا معارض له من أولئك الأنعام، كما يتكلم المتكلم بين المقابر بما شاء من الكلام، حتى تخيل لذلك أنه من العلماء الأعلام، وما درى أنه أجهل من ابن ثلاثة أيام، قد ذكر "إحياء العلوم" وشرع يمدحه بأعظم المدائح ويقرظه بكل ما خطر له من الثناء، فقلت له: إنه اشتمل على أحاديث موضوعة ومسائل فلسفية خارجة عن الشريعة، وآراء محضة مخالفة للسنة النبوية، وبناء على ذلك أن أهل العلم الموثوق بعلمهم لا يقيمون لهذا الكتاب وزناً، حتى أن بعضهم ألف كتاباً في بيان حال ما فيه من الأحاديث.

فنظر إليَّ شزراً، وكادت تزهق روحه الخبيثة، فقال: كيف تقول هذا الكلام وقد شرحه العلامة الزبيدي، وخرّج أحاديثه، وبيّن أسراره؟

فقلت له: إن الزبيدي ليس من أهل هذا الفن، ولا هو من رجال هذا الميدان، إنما هو رجل له بعض الإطلاع على اللغة وبعض العلوم العربية، وكلام مثله في باب الجرح والتعديل غير ملتفت إليه، وكان من غلاة القبوريين والدعاة لمبتدعاتهم. فلما سمع ما سمع أعرض ونأى بجانبه، ولم يلتفت إلى ما قلته ولا أصغى إلى ما ذكرته، فقلت:

علي نحت القوافي من معادنها

وما علي إذا لم تفهم البقر

والكلام الحق اليوم ثقيل على الأسماع، لاسيما على أهل الزيغ والابتداع، وعلى المنصف موافقة الحق والاتباع.

والمقصود من هذا الكلام كله أن الشيخ تقي الدين قدس الله روحه لم يتكلم في شأن أبي حامد كما تكلم غيره فيه، والنبهاني افترى عليه وكذب، بل إنه شهد له بحسن العاقبة والخاتمة، وقال في غير موضع من كتبه أنه في آخر عمره استقر أمره على الحيرة والوقوف بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهادة، وفي آخر عمره

ص: 450

اشتغل بالحديث كصحيحي البخاري ومسلم، انتهى.

فانظر إلى هذه التزكية الحسنة، فإن الأعمال بخواتيمها، ولم يتكلم بمثل هذا الكلام في شأنه حتى من ينتصر له كتاج الدين وأضرابه، وقد سلكوا كل مسلك في تعديله والحث على كتبه، وارتكبوا التعسفات في تأويل ما زل به قلمه.

وأما قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن محمد القرطبي فقد قال: إن بعض من يعظ- ممن كان ينتحل رسم الفقه ثم تبرأ منه شغفاً بالشرعة الغزالية والنحلة الصوفية- قد أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من تشنيع مناكيره وتضليل أساطيره المبانية للدين، وشريعة سيد المرسلين، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعة ولا يفوز بإطلاعه إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته، التي رفع لهم أعلامها وشرع أحكامها، قال أبو حامد: وأدنى من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئاً، فاعرض من قوله على قوله، ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، فإن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه والتدثر بكسائه فيسمع نداء الحق، فهو يقول ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به.

قال القاضي: وقال أبو حامد. وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيراً من إحياء عشرة لإطلاقة ألفاظاً، ونقل عن بعضهم أنه قال للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام، ثم قال الغزالي: إن لم يرد إبطال النبوة بهذا في حق الضعفاء فما قال ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفىء نور معرفته نور ورعه.

وقال أيضاً: العارف يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرمورة والمحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة

ص: 451

التي نحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم إذا رأيته في البدايه قلت صديقاً، فإذا رأيته في النهاية قلت زنديقاً، ثم فسره الغزالي فقال: إن اسم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل.

وقال: ذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية، فيجلس فارغ القلب مجموع الهم يقول الله الله الله على الدوام فيفرغ قلبه ولا يشتغل بتلاوة ولا كتب حديث، فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة ببيت مظلم ويدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قلت إنما سمع شيطاناً أو ما لا حقيقة له.

وقال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذباً منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. انتهى.

هذا ما أورده صاحب كتاب البيان والله المستعان، وقد رأيت ما اشتمل عليه هذا الكلام من الهذيان، ونسأله تعالى أن يغفر له ويرحمه بسبب ما فاز به من حسن الخاتمة، واشتغاله آخر عمره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مسكي الختام.

وقد ذكر العلامة السيد صفي الدين في كتابه "القول الجلي" في الجواب عمن قال أن ابن تيمية تكلم في الأولياء كالغزالي وابن عربي وعمر بن الفارض وأضرابهم: أما سبب تكلمه في حجة الإسلام الغزالي فالله أعلم أنه ذكر في كتابه (المضنون) أشياء توافق عقايد الفلاسفة وتخالف الشرع، حتى أن بعض العلماء أنكر نسبة ذلك إليه، كذا ذكر بعضهم، وقد تكلم فيه القاضي عياض وابن الجوزي وغيرهما فله أسوة بهم، وإن كنا لا نسمع في الغزالي كلاماً بعد، كيف وهو حجة الإسلام وملك العلماء الأعلام.

وأما سبب تكلمه في ابن عربي فإنه ذكر أشياء في فصوصه وفتوحاته تقتضي

ص: 452

الكفر، وقد كفره بذلك جماعة من العلماء، منهم الحافظ ابن حجر، وقد صنف بعض العلماء جزءاً حافلاً وجمع فيه كلام من ذم الشيخ ابن عربي، فمما قال في الجزء المذكور وذكره الذهبي في العبر وقال في ترجمته: صاحب التصانيف، وقدوة القائلين بوحدة الوجود، ثم قال الذهببي: وقد اتهم بأمر عظيم.

وقال في "تاريخ الإسلام ": هذا الرجل قد تصوف وانعزل، وجاع وسهر، وفتح عليه بأشياء امتزجت بعالم الخيال والفكرة، واستحكم ذلك حتى شاهد بقوة الخيال أشياء ظنها موجودة في الخارج، وسمع من طيش دماغه خطاباً واعتقده من الله تعالى ولا وجود له في الخارج إلى آخر ما قال.

قال في الجزء المذكور وذكره الذهبي في الميزان فقال: تصوف تصوف الفلاسفة، واحل الوحوة، وقال أشياء منكرة عدها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة إلى آخر كلامه.

ومما قال في الجزء المذكور: أنبأني الحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي، ونور الدين علي بن أبي بكر الهيتمي الشافعيان إذناً مشافهة، عن شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي إجازة إن لم يكن سماعاً، قال في كتابه شرح منهاج النووي في باب الوصية بعد ذكره حكم المتكلمين: وهكذا الصوفية منقسمون كانقسام المتكلمين فإنهما من واد واحد، فمن كان مقصوده معرفة الرب سبحانه وتعالى والتخلق بما يجوز المخلق به هنا والتحلي بأحوالها وإشراق المعارف الإلهية والأحوال السنية، فذلك من أعلم العلماء، ويصرف إليه من الوصية للعلماء والوقف عليهم، ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وأوتباعه فهم ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام فضلاً عن العلماء.

ثم قال: وجاء في وسط الأمة قوم تكلموا -كالحارث المحاسبي ونظرائه- كلاماً حسناً وهو مقصودنا بالتصوف، ثم انتهى بالآخرة إلى قوم فيهم بقايا إن شاء الله تعالى، وآخرين تسموا باسم الصوفية استمروا من البدع المضلة والعقائد

ص: 453

الفاسدة فيهم هم باسم الزندقة أحق منهم باسم الصوفية، نحن برآء إلى الله تعالى منهم، انتهى.

قال صاحب الجزء: والظاهر أنه أشار بقوله وآخرين تسموا إلى آخره إلى ابن عربي وأتباعه، قال: وقد سمعت صاحبنا الحافظ الحجة القاضي شهاب الدين أبا الفضل أحمد بن علي بن حجر الشافعي يقول: إنه ذكر لمولانا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني أشياء من كلام ابن عربي المشكل، وسأله عن ابن عربي فقال له شيخنا البلقيني هو كافر.

قال: وسمعت الحافظ شهاب الدين بن حجر يقول: جرى بيني وبين بعض المحبين لابن عربي منازعة كثيرة في أمر ابن عربي حتى تبرأت من ابن عربي بسوء مقالته، فلم يسهل ذلك بالرجل المنازع لي في أمره وهددني بالشكوى إلى السلطان بمصر بأمر غير الذي تنازعنا فيه يتعب خاطري، فقلت له. ما للسلطان في هذا مدخل، ألا تعال نتباهل وقلت ما تباهل اثنان فكان أحدهما كاذباً إلا وأصيب، فقال لي باسم الله، قال فقلت له: قل اللهم إن كان ابن عربي على ضلال فالعني بلعنتك، فقال ذلك، فقلت أنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك، وافترقنا، قال: وكان سكن الروضة فاستضافه شخص من أبناء الهند جميل الصورة ثم بدا له أن يتركهم وخرج في أول الليل مصمماً على عدم المبيت، فخرجوا يشيعونه إلى الشختور، فلما رجع أحس بشيء مر على رجله، فقال لأصحابه: مر على رجلي شيء ناعم فانظروه، فنظروا فلم يروا شيئًا، وما رجع إلى منزله إلا وقد عمي، وما أصبح إلا ميتاً، وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وسبعين، وكانت هذه المباهلة في رمضان منها، وعند وقوع المباهلة عرقت أن السنة ما تمضي عليه، وكانت بمحضر من جماعته، انتهى "

فإذا عرفت ذلك كله علمت أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية لم ينفرد بذم ابن عربي، انتهى كلام السيد صفي الدين رحمه الله تعالى.

والنبهاني عامله الله بعدله يتتبع من الكلام ما كان موافقاً لهواه، ولهذا لم يلتفت في هذا المقام إلى كلام إمامه السبكي، ولا لكلام الحافظ شهاب الدين بن

ص: 454

حجر العسقلاني المحدث الشهير، بل أخذ بكلام ابن حجر المكي لموافقته إياه في الغلو والميل إلى البدع، فلذلك تراه يترنم بأقواله ويكرره مرة بعد أخرى، والكل من الشافعية.

وبعد ختم النبهاني كتابه بخاتمة السوء ذكر رسالة مختصرة للبكري في الرد على من منع الزيارة، وعبارة من كلام الشيخ زروق تعرض فيها لشيخ الإسلام، وكلاماً للنابلسي مختصراً مما يتعلق بالزيارة، ولما كان ذلك كله خارجاً عن كتابه وأن ما ذكرناه من الكلام على الزيارة يرد كل باطل يخالفه أعرضنا عن المناقشة فيها، ومن وقف على ما فيها من الجهل والضلال تحقق أن موحدي العرب في الجاهلية كزيد وقس بن ساعدة وأمية أسعد من هؤلاء حالاً، كما يدلك على ذلك شعرهم المذكور في كتب السير والتاريخ.

فعليك أيها الأخ المسترشد باتباع الكتاب والسنة فإنهما الإمامان اللذان أمرنا بالإقتداء بهما، والداعيان إلى سبيل الله فاشدد بيديك عليهما، ولا تنظر إلى ما ابتدعه أهل الأهواء، فإنه من أضر الأدواء، وقد سبق تفاصيل البدع بأنواعها وما ورد من النهي عنها، فمن تأملها وأمعن نظره فيما شرعه الله تعالى لنا مما تضمنه الكتاب وبينته السنة علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد عنها إلا من مرض قلبه وطاش في مهاوي الضلال لبه، وأصل الاتباع المخرج عن الابتداع يحصل بمتابعة العبادات، ولا يحصل كمال الاتباع إلا في الإقتداء به في جميع حالاته سكونه وحركاته، عباداته وعاداته، وللسلف الصالح من هذا الكمال المشرب الأصفى، والحظ الوافر الأوفى.

روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات

ص: 455

الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1.

فقد أوصانا صلى الله عليه وسلم بلزوم سنته وسنة خلفائه الراشدين الذين هم على طريقته، وحرض على ذلك بقوله:"عضوا عليها بالنواجذ" المراد به المسك بجميع الفم، إشارة إلى غاية التمسك، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم اجتهدوا على السنة والزموها واحرصوا عليها كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته. أذاقنا الله حلاوة الاتباع، ووقانا بفضله شر الفضول والابتداع، وما أحسن ما قال بعفر الأدباء الأفاضل وقد أخلص النصح فيما هو قائل:

يا باغي الإحسان يطلب ربه

ليفوز منه بغاية الآمال

انظر إلى هدي الصحابة والذي

كانوا عليه في الزمان الخالي

واسلك طريق القوم أين تيمموا

خذ يمنة ما الدرب ذات شمال

تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى

سبل الهدى في القول والأفعال

درجوا على نهج الرسول وهديه

وبه اقتدوا في سائر الأحوال

نعم الرفيق لطالب يبغي الهدى

فماله في الحشر خير مآل

القانتين المخبتين لربهم

الناطقين بأصدق الأقوال

التاركين لكل فعل سيء

والعاملين بأحسن الأعمال

أهواؤهم تبع لدين نبيهم

وسواهم بالضد في ذي الحال

ما شابهم في دينهم نقص ولا

في قولهم شطح الجهول الغالي

عملوا بما علموا ولم يتكلفوا

فلذاك ما شابوا الهدى بضلال

وسواهم بالضد في أحوالهم

تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال

فهم الأدلة للحيارى من يسر

بهداهم لم يخش من إضلال

وهم النجوم هداية وإضاءة

وعلو منزلة وبعد منال

يمشون بين الناس هوناً نطقهم

بالحق لا بجهالة الجهال

حلماً وعلماً مع تقى وتواضع

ونصيحة مع رتبة الإفضال

1 تقدم تخريجه.

ص: 456

يحيون ليلهم بطاعة ربهم

بتلاوة وتضرع وسؤال

وعيونهم تجري بفيض دموعهم

مثل انهمال الوابل الهطال

في الليل رهبان وعند جهادهم

لعدوهم من أشجع الأبطال

وإذا بدا علم الرهان رأيتهم

يتسابقون بصالح الأعمال

بوجوههم أثر السجود لربهم

وبها أشعة نوره المتلالي

ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم

في سورة الفتح المبين العالي

وبرابع السبع الطوال صفاتهم

قوم يحبهم ذووا إذلال

وبراءة والحشر فيها وصفهم

وبهل أتى وبسورة الأنفال

هذا آخر ما أردنا تحريره من الرد على كتاب النبهاني المشتمل على ما يخالف الكتاب والسنة من الهذيان والوحي الشيطاني، وقد عرفناه يومه من أمسه.

وكلت للخل كما كال لي

على وفاء الكيل أو بخسه

وكأني به إذا وقف على كتابي هذا ضاق صدره وازداد همه وكدره، وعضَّ بنان النادم الحصر حيث لا ينفعه ندمه، وهو الذي نكأ الجرح فكيف يتأوه ويتألم ويتظلم من مؤلم الجواب والبادي أظلم، ومن آثر أن يكون مقدماً معظماً وجب أن يكون مهذباً مقوماً، ومن أحب أن يكون مبجلاً مصدراً لزم أن يكون من الأفعال الدنية مطهراً، ومن رشح نفسه للأمور الجليلة صبر على الأعباء الثقيلة، ومن طمع في الأسباب العظيمة طالب نفسه باستعمال الأخلاق الكريمة، ودون المكارم مكاره لا يتلقاها إلا العود الباذل، وقبل المعالي عوال لا يغشاها إلا البطل الباسل، ومع المغانم مغارم لا يتحملها إلا الأكارم الأفاضل، وأمام العز الشامخ مذاهب لا تسلك إلا على جسر من التعب ممدود، وقدام الشرف الباذخ مراتب لا تنال إلا بمساورة أساود وأسود، وباني المجد يهون عليه أن يتجرع كؤوس الردى علاً ونهلاً، وجاني الشهد لا يبالي بأن يلقى دون اشتياره نحلاً، فأما الذي يشتهي الرياسة وهو خال من أبرارها ويتمنى الجلالة وهو سكيت في مضمارها، ويحب السيادة وهو عار عن أستارها، فبعيد عليه طريق منالها، ومستصعب له جد الارتقاء في ذرى جبالها.

ص: 457

وقد كان ابتدائي به أول يوم من شهر رمضان من شهور سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف من هجرة سيد ولد عدنان، وختمته بحمد الله تعالى ليلة السبت نصف الليل لأربع وعشرين ليلة خلت من شوال تلك السنة المباركة أواخر فصل الخريف، وقد كل مني البصر، ووهن العظم طلباً لمرضاة الله تعالى، وصيانة لشرعه الشريف، ممن تصدى له- خذله الله- بالتبديل والتحريف، فأسألك اللهم أن تختم بعفوك أجلي، وأن تحقق في رجاء رحمتك أملي، وأن تسهل إلى بلوغ رضاك سبلي، وأن تحسن في جميع أحوالي عملي.

اللهم ونبهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني لطاعتك في أيام المهلة، وانهج بي إلى محبتك سبيلاً سهلة، واجمع لي بها خير الدنيا والآخرة.

اللهم لا تكلني إلى خلقك، بل تفرد بحاجتي وتول كفايتي، وانظر إليَّ في جميع أموري، فإنك إن وكلتني إلى نفسي عجزت عنها ولم أقم ما فيه مصلحتها، وإن وكلتني إلى خلقك تجهموني، وإن ألجأتني إلى قرابتي حرموني، فبفضلك اللهم فأغثني وبعظمتك فانعشني وبسعتك فابسط يدي وبما عندك فاكفني.

اللهم لا تجعل لغيرك عليّ منة، ولا له عندي يداً، ولا لي إليهم حاجة، بل اجعل سكون قلبي وأنس نفسي واستغنائي وكفايتي بك.

اللهم أنطقني بالهدى، وألهمني التقوى، ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى.

اللهم اسلك بي الطريقة المثلى، واجعلني على ملتك أموت وأحي، اللهم ومتعني بالاقتصاد، واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالح العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد.

اللهم أنت عدتي إن حزنت، وأنت منتجعي إن حرمت، وبك استغاثتي إن كربت، وعندك مما فات خلف، ولما فسد صلاح، ومما أنكرت تغيير، واكفني مؤنة معرة العباد، وهب لي أمن يوم المعاد، وامنحني حسن الإرشاد، اللهم أظلني

ص: 458

في ذراك، وجللني رضاك، ووفقني إذا أشكلت علي الأمور لأهداها، وإذا تشابهت الأعمال لأزكاها، وإذا تناقضت الملل لأرضاها.

اللهم توجني بالكفاية، وسمني حسن الولاية، وهب لي صدق الهداية، ولا تجعل عيشي كداً، ولا ترد دعائي رداً، فإني لا أجعل لك ضداً، ولا أدعو معك نداً، والحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والحمد له سبحانه كما يليق بجنابه، وكما حمد نفسه في كتابه، حمداً يكون وصلة إلى طاعته وعفوه، وسبباً إلى رضوانه، وذريعة إلى مغفرته، وطريقاً إلى جنته، وخفيراً من نقمته، وأمناً من غضبه، وظهيراً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته، وعوناً على تأدية حقه ووظائفه. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي نشر رايات الوحدانية، وبشر من أذعن للأحكام القرآنية، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحزابه الذين أقاموا على الخصوم دلائلهم البرهانية، صلاة وسلاماً نسعد بهما في السعداء من أوليائه، ونصير بهما في نظم الشهداء بسيوف أعدائه، إنه ولي حميد.

في 24 شوال سنة 1325هـ.

ص: 459