الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
ثم إن المنصفين من أهل العلم في كل عصر لا يحيط بهم نطاق الحصر، ونحن نذكر منهم بحض من وقفنا على قوله في شيخ الإسلام، وما رآه فيه من الأحكام، ليعلم المنصف أن مصنف "جلاء العينين" ليس بدعاً فيما صنفه حتى صار غرضاً لسهام ملام النبهاني وأمثاله من الغلاة، وفتحوا عليه أفواهاً كأفواه الكلاب عند التثاؤب، بل كم قد سبقه من إمام همام، وعلماء أعلام، وها نحن ذاكرون بحوله تعالى منهم بعض الأكابر، الذين تعقد عند ذكرهم الخناصر، ليتحلى عاطل جيد هذا الكتاب بدرر ما لهم من المناقب والمآثر، وغرر ما كانوا عليه من المفاخر، فنقول:
[ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام]
منهم قاضي القضاة نور الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي رحمه الله؛. وهو الإمام العالم العلامة الحافظ المتقن شيخ العصر، أستاذ الدهر، محدث زمانه، المتفرد بالرواية والدراية، حجة الله على المعاندين، وآيته الكبرى على المبتدعين، شرح صحيح الإمام البخاري بشرح لم يسبق له نظير في شروحه، مع ما كان له من المصنفات المفيدة، والآثار السديدة، تولى القضاء في مصر، وبنى مدرسة عظيمة بالقرب من جامع الأزهر، وأنشأ فيها خزانة كتب وضع فيها كتباً نفيسة في فنون مختلفة، وكان مشغولاً بالتأليف والتدريس، وكانت وفاته سنة اثنتين وستين وسبعمائة للهجرة، وله غير شرح البخاري شروح على بعض المتون المشهورة، وله كتاب الطبقات في علماء الحنفية، وهو كتاب جامع لأحوالهم وتراجمهم، واختصر تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر، وله أيضاً تاريخ مفيد.
وبالجملة؛ كان رحمه الله من مشاهير عصره علماً وزهداً وورعاً، وممن له اليد الطولى في الفقه والحديث، وقد أسف المسلمون على فقده، وهو الحري بقول القائل:
وإني لمعذور إذا ما بكيته
…
بأكثر من قطر الغمام وأغزر
ولي عبرة لم ترق عند ادكاره
…
كما لي فيه عبرة المتفكر
وقد كان لم يحجب سناه بحاجب
…
ولم تستتر أضواؤه بمستر
فوا أسفي إن كان يغني تأسفي
…
وواحذري إن كان يغني تحذري
وكنت أراني في النوائب صابراً
…
فأعدمني صبري فأين تصبري
وإني لمقبول المعاذير في الأسى
…
ومن يعتذر مثلي إلى الصبر يعذر
وكان رحمه الله تعالى محباً لعلماء الحديث وحفّاظ السنة النبوية، لاسيما شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، فقد أثنى عليه الثناء الجميل، وذكر له مناقب جليلة، وذب عنه، وخاصم من بغى عليه واعتدى، وله تقريظ بديع على كتاب "الرد الوافر" أثنى فيه على الشيخ بما يليق بجلالة قدره، ويكفي دليلاً على جلالة قدر الشيخ، وأنه من أكابر أئمة أهل السنة: شهادة مثل هذا الإمام ونظرائه من حفّاظ الأنام رحمة الله عليهم أجمعين، وقد أثنى على الشيخ ابن تيمية ثناء لا مزيد عليه ونوه بشأنه وأطنب في بيان مناقبه، ومن ذلك ما كتبه على كتاب "الرد الوافر"1 في مناقب الشيخ أيضاً، وهذا نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم " إن أضوع زهر تفتق عنه أكمام ألسن الأنام، وأبدع ذكر يعبق منه طيب الأفهام حمد من أجرى ماء التبيان في عود اللسان لحمل ثمار المعاني والبيان، وكشف ضياء الأوهام بشمس الحقائق، وأبان ما في القلوب بأقمار الدقائق، وأشرع أسنة الخواطر والأفكار، بأيدي أنوار البصائر والأبصار، إلى ثغر العلوم والأخبار، وأقلع عنا بنسائم ألطافه عجاجة الظنون والشكوك ووقع
1 انظر ترجمته في "شذرات الذهب"(9/418- 420- ط. دار ابن كثير) و"الضوء اللامع "(10/131) و " النجوم الزاهرة"(16/8)
لنا مناشير الصدق في السلوك وأراحنا في ركوب أعناق الكلام من العثرات والملام، وأزاحنا عن الوقوع في تيار العبرات إنه ولي الإنعام، وعصمنا من سلوك مسالك لا يؤمن فيها العثار، ومحالات تستحيل فيها الأعذار، والصلاة والسلام على من ختمت به النبوة والرسالة، المخلوق من طينة الفصاحة والبسالة، الذي أصعدته ذروة الملكوت وأعطته الكتاب، وقرنت بطاعته ومعصيته الثواب والعقاب، محمد المصطفى المستأثر بالشفاعة يوم الحساب، وعلى اله الذين استأسدوا في رياض نبوته وأصحابه الذين تقلدوا بسيوف النصرة في دعوته، وعلى علماء الأمة الذين استظهروا على صدمات الدهر وصولته، بنزع ألسنتهم من تفويق سهام الطعن إلى أغراض العصبية، وإقلاع أسنة خوضهم في أعراض الأنفس الأبية، فلذلك صاروا أنجماً للاهتداء، وبدوراً للإقتداء، فأجدر بهم أن يفوه لهم بمشايخ الإسلام، وأنصار شرائع خير الأنام.
وبعد، فإن مؤلف كتاب "الرد الوافر" قد جد في هذا التصنيف البديع الزاهر، وجلا بمنطقه السحار الرد على من تفوه بالإكفار على علماء الإسلام، والأئمة الأساطين الأعلام، الذين تبّوؤا الدار في رياض النعيم، واستنشقوا رياح الرحمة من رب كريم، فمن طعن في واحد منهم أو نقل نقلاً غير صحيح قيل عنهم فكأنما نفخ في الرماد، أو اجتنى من خرط القتاد، وكيف يحل لمن يتسم بالإسلام أو ينتسم نسمة من علم أو فهم أو إفهام؛ أن يكفر من قلبه عن ذلك سليم بهيج، واعتقاده لا يكاد إلى ذلك يهيج؟! ولكن من لم يوازنه طبعه في القريض لم يزل يجد العذب مراً كالمريض، والعائب لجهله شيئاً يبدي صفحة معاداته، ويتخبط خبط العشواء في محاوراته، وليس هو إلا كالجعل باشتمام الورد يموت حتف أنفه، وكالخفاش يتأذى ببهور سنى الضوء لسوء بصره وضعفه، وليس لهم سجية نقادة، ولا روية وقادة، وما هم إلا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم صلمعة بن قلمعة، وهيان بن بيان، وهي بن بي، وضل بن ضل، وضلال بن التلال.
ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية من شم عرانين الأفاضل، ومن جم براهين الأماثل، الذي كان له من الأدب مآدب
تغذي الأرواح ومن نخب الكلام له سلافة تفز الأعطاف المراح، ومن يانع ثمار أفكار ذوي اليراعة طبعه المعلق في الصناعة الخالية عن وصمة الفجاجة والبشاعة، وهو الكاشف عن وجوه مخدرات المعاني حجاب نقابها، والمفترع عرائس المباني بكشف جلبابها، وهو الذاب عن الدين ظن الزنادقة والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين، وللمأثورات عن الصحابة والتابعين، فمن قال هو كافر فهو كافر حقيق، ومن نسبه إلى الزندقة فهو زنديق، وكيف يكون ذلك وقد سارت تصانيفه إلى الآفاق، وليس فيها شيء مما يدل على الزيغ والشقاق، ولم يكن بحثه فيما صدر عنه في مسألة الزيارة والطلاق إلا عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور مثاب، وليس فيه شيء مما يلام أو يعاب، ولكن حملهم على ذلك حسدهم الظاهر، وكيدهم الباهر، وكفى للحاسد ذماً آخر سورة الفلق، في احتراقاته بالقلق، ومن طعن في واحد ممن قضى نحبه منهم أو نقل غير ما صدر عنهم فكأنما أتى بالمحال، واستحق به سوء النكال، وهو الإمام الفاضل البارع التقي النقي الورع الفارس في علمي الحديث والتفسير والفقه والأصولين بالتقرير والتحرير، والسيف الصارم على المبتدعين، والحبر القائم بأمور الدين، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ذو همة وشجاعة وإقدام فيما يروع ويزجر، كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة، خشن العيش ذو القناعة من دون طلب الزيادة، وكانت له المواعيد الحسنة السنية، والأوقات الطيبة البهية، مع كفه عن حطام الدنيا الدنية، وله المصنفات المشهورة المقبولة، والفتاوى القاطعة غير المعلولة، وقد كتب على بعض مصنفاته قاضي القضاة كمال الدين ابن الزملكاني رحمه الله تعالى:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة
…
هو بيننا أعجوبة الدهر
ثم ذكر ترجمة ابن الزملكاني، ثم قال: أفلا تكفي شهادة هذا الحبر لهذا الإمام، حيث أطلق عليه حجة الله في الإسلام، ودعواه أن صفاته الحميدة لا يمكن حصرها ويعجز الواصفون عن عدها وزبرها؟.
فإذا كان كذلك فكيف لا يجوز إطلاق شيخ الإسلام عليه، أو التوجه بذكره إليه وكيف يسوغ إنكار المعاند الماكر الحاسد، وليت شعري ما متمسك هذا المكابر المجازف الجاهل المجاهر وقد علم أن لفظة الشيخ لها معنيان لغوي واصطلاحي؛ فمعناه اللغوي: أن الشيخ من استبان فيه الكبر، ومعناه الاصطلاحي: من يصلح أن يتلمذ له، وكلا المعنيين موجود في الإمام المذكور في ولا رئب أنه كان شيخاً لجماعة من علماء الإسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام فإذا كان كذلك كيف لا يطلق عليه شيخ الإسلام، لأن من كان شيخ المسلمين يكون شيخاً للإسلام، وقد صرح بإطلاق ذلك قضاة القضاة الأعلام، والعلماء الأفاضل أركان الإسلام، وهم الذين ذكرهم مؤلف هذا الكتاب الرد الوافر في رسالته التي أبدع فيها بالوجه الظاهر، وقد استغنينا بذكره عن إعادته، فالواقف عليه يتأمله، والناظر فيه يتقبله، وأما مناظرات هذا الإمام فكثيرة في مجالس عديدة، فلم يظهر في ذلك لمعانديه فيما ادعوا به عليه برهان غير تنكيدات رسخت في القلوب من ثمرات الشنآن، وقصارى ذلك أنه حبس وقيد، وقد حبس الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ومات في الحبس، فهل قال أحد من العلماء أنه حبس حقاً، وحبس الإمام أحمد رضي الله عنه وقيد لما قال قولاً صدقاً، والإمام مالك رضي الله عنه ضرب ضرباً شديداً مؤلماً بالسياط، والإمام الشافعي رضي الله عنه حمل من اليمن إلى بغداد بالقيد والاحتياط، وليس ببدع أن يجري على هذا الإمام ما جرى على هؤلاء الأئمة الأعلام، وكان آخر حبسه بقلعة دمشق، وتوفي فيها في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صباحها عن عشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان مرضه سبعة عشر يوماً، وصلى عليه بباب القلعة الشيخ محمد بن تمام، ثم صلوا عليه في الجامع الأموي، ثم دفن في مقابر الصوفية إلى جنب أخيه الشيخ شرف الدين، ومولده في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران، وقدم مع والده إلى دمشق، وقد امتلأ الجامع وقت الصلاة عليه أكثر من يوم الجمعة، وحضر الأمراء والحجاب، وحملوه على رؤوسهم، وخرجوا به من باب الفرج، وامتد الخلق إلى مقابر الصوفية وختموا
غلى قبره ختمات، وبات أصحابه على قبره ليالي عديدة.
ثم ذكر شعر بعضَ من رثاه، ونبذة من شعر بعض من مدحه وأثنى عليه، كالإمام زين الدين عمر بن الوردي، وأثير الدين أبي حيان، وذكر ترجمة ابن الوردي، ولعد أن أورد شعر أبي حيان -قال:
ومثل الإمام أبي حيان إذا شهد له بأنه ناصر الشريعة، ومظهر الحق، ومخمد الشر، وأنه الإمام الذي كانوا ينتظرون مجيئه؛ فكفاه مدحاً وتزكية، فإذا كان هذا الإمام بهذا الوصف بشهادة هذا الإمام وبشهادة غيره من العلماء الكبار فماذا يترتب على من يطلق عليه الكفر، أو ينبزه بالزندقة، ولا يصدر هذا إلا عن جاهل، أو مجنون كامل، فالأول يعزر بغاية التعزير، ويشهر في المجالس بغاية التشهير، بل يؤبد فى الحبس إلى أن يحدث التوبة، أو يرجع عن ذلك بأن يحسن الأوبة، والثاني يداوى بالسلاسل والأصفاد، والضرب الشديد بلا أعداد، وهذا كله من فساد هذا الزمان، وتوانى ولاة الأمور عن إظهار العدل والإحسان، وقطع دابر المفسدين. واستئصال شأفة المدبرين، حيث يتعدى جاهل- يزعم أنه عالم- يثلب أعراض المسلمين. ولاسيما الذين مضوا إلى الحق بالحق وبه كانوا عاملين، وهذا الإمام مع جلالة قدره في العلوم نقلت عنه على لسان جم غفير من الناس كرامات ظهرت منه بلا التباس، وأجوبة قاطعة عند السؤال منه من المعضلات، من غير توقف منه بحالة من الحالات.
ومن جملة ما سئل عنه -وهو على كرسيه يعظ الناس، والمجلس غاص بأهله: ما رأيكم في رجل يقول ليس إلا الله، ويقول الله في كل مكان، هل هو كفر أم إيمان؟
فأجاب على الفور: من قال إن الله بذاته في كل مكان فهو"مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل هو مخالف للملل الثلاث، بل الخالق سبحانه وتعالى بائن من المخلوقات، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو الغني عنها البائن بنفسه بها، وقد اتفق الأئمة من الصحابة