المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به) - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ٢

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌فاتحة الجزء الثاني

- ‌[الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم]

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الفاضل

- ‌ترجمة هذا الأديب الأريب

- ‌ذكر من ألّف في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌[ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام]

- ‌[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام]

- ‌(فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية)

- ‌(فصل في تصانيف ابن تيمية وسعة حفظه وقوة ملكته رحمة الله عليه)

- ‌(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولاً)

- ‌(فصل في تمسك ابن تيمية بالكتاب والسنة)

- ‌(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف)

- ‌(ذكر خروجه لمصر)

- ‌(ذكر ما وقع للشيخ ابن تيمية بعد عوده لدمشق المحروسة)

- ‌(ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها)

- ‌(وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه)

- ‌(ذكر انتصار علماء بغداد للشيخ)

- ‌(جواب آخر لعلماء الشافعية)

- ‌(جواب آخر لبعض علماء الشام المالكية)

- ‌(كتاب آخر لعلماء بغداد)

- ‌(فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى)

- ‌(فصل فيما رثي به الشيخ من القصائد بعد موته وذلك كثير لا ينحصر)

- ‌(خاتمة نصيحة وموعظة)

- ‌(سؤال آخر وجواب الشيخ أيضاً عنه متعلق بهذا الباب)

- ‌(ما يعارض به ما أورده النبهاني مما فيه استغاثة والتجاء بغير الله تعالى)

- ‌(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به)

- ‌(الكلام على سوء خاتمته)

الفصل: ‌(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به)

(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به)

قد ذكرنا سابقاً أن القرآن الكريم من أوله إلى آخره ينادي بإخلاص التوحيد لله تعالى وإفراده سبحانه بخصائصه، وقد ذكرنا مثالاً لذلك وشاهداً عليه، وحباً لزيادة الإيضاح نذكر ما هو أصرح دلالة على مقصودنا من آيات الكتاب الكريم، فلعل النبهاني وأضرابه من عبدة القبور يهتدي ببعضها، ويكشف عن قلبه حجاب الضلال.

من ذلك قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وهذه السورة العظيمة قد اشتملت على كنوز العلم، وهي تعدل ثلث القرآن، وقد بسط الكلام عليها الإمام تقي الدين بن تيمية وأفرد لتفسيرها سفراً كبيراً، وهو بحمد الله متداول. ومما قال:

" (الصمد) فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان:(أحدهما) أن الصمد هو الذي لا جوف له. (والثاني) أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة، والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين، والآثار المنقولة عن السلف بأسانيدها في كتب التفسير المسندة وفي كتب السنة وغير ذلك.

قال: وقد كتبنا من الآثار في ذلك شيئاً كثيراً بإسناده فيما تقدم.

ثم سرد أقوالاً كثيرة في معنى الصمد إلى أن ذكر فصلاً في سبب تنكير (أحد) وتعريف (الصمد) في السورة، وحاصله: أن لفظ (أحد) لم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده، وإنما يستعمل في غير الله في النفي، قال أهل اللغة: تقول لا أحد في الدار ولا تقل فيها أحد، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في غير الموجب، كقوله تعالى:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1 وكقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ

1 سورة الحاقة: 47.

ص: 366

لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} 1 وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 2 وفي الإضافة كقوله: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} 3 {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} 4. وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين كما تقدم، فلم يقل الله صمد بل قال: الله الصمد، فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال. والمخلوق هان كان صمدا من بعض الوجوه فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التفرق والتجزية، وهو أيضاً محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوها الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله، وليمس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه، فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء، كما قال في آخر السورة:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} استعملها هنا في النفي، أي ليس شيء من الأشياء كفوا له في شيء من الأشياء، لأنه أحد، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:(أنت سيدنا، فقال: السيد الله) . ودل قوله الأحد الصمد على أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فإن الصمد هو الذي لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء، فلا يأكل ولا يشرب سبحانه وتعالى، كما قال:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} 5. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 6.

1 سورة الأحزاب: 32.

2 سورة التوبة: 6.

3 سورة الكهف: 19.

4 سورة الكهف: 32.

5 سورة الأنعام: 14.

6 سورة الذاريات: 56- 58.

ص: 367

ثم تكلم في مسائل مختلفة انتقل من بعضها إلى بعض وأتى بما يبهر العقول.

والحاصل، أن كل كلمة من كلمات هذه السورة تقتضي أن يعبد الله وحده وأن لا يشرك به أحد ولا يلتجأ إلى ما سواه، فإذا كان معنى أحد أنه ليس كمثله شيء فينبغي أن يستغاث به وحده، لأنه الكامل في صفات الكمال والمنزه عن صفات النقص، وغيره ليس كذلك فكيف يسوغ الالتجاء إلى الناقص والإعراض عن الكامل؟ وإذا كان الله أحد كان هو الصمد بأي معنى فسر، فالأحدية دليل على الصمدية، فهو الملجأ لا غير، والصمدية تستلزم اتصاف الله تعالى بأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحداً، وكل جملة فهي دليل لما بعدها، فمن يلد ليس بأحد ولا صمد فلا يلجأ إليه ولا يطلب منه ما يطلب من الله الأحد الصمد الذي لم يلد، ومن يولد كذلك، ومن كان له كفو أو نظير في ذاته وصفاته فهو لا يصلح أن يسند إليه خصائص الإلهية، فهذه السورة على اختصارها جمعت من دلائل الوحدانية، ما لم تشتمل سورة أخرى عليه، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، ومن أراد تفصيل ما تضمنته من العلوم فعليه بتفسيرها لشيخ الإسلام.

ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى آخر السورة، تكلم أيضاً على هذه السورة شيخ الإسلام وتلميذه أحسن كلام، قال ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد": المقصود الكلام على هاتين السورتين- يعني المعوذتين- وبيان عظم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيراً خاصاً في رفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى التنفس والطعام والشراب واللباس، فنقول والله المستعان: قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول وهي: أصول الاستعاذة: أحدها: نفس الاستعاذة.

والثاني: المستعاذ به.

والثالث: المستعاذ منه.

ص: 368

فبمعرفة ذلك يعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين.

وقد عقد لكل أصل من هذه الأصول الثلاثة فصلاً وأطنب الكلام فيه، فمما قال في الفصل الأول: "اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منه يدل على التحرز والتحصن والالتجاء، وحقيقة معنى هذه الكلمة: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.

ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً كما يسمى ملجأ ووزراً، وفي الحديث: أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها قالت: أعوذ بالله منك، قال:"لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك"1.

فمعنى أعوذ: ألتجىء وأعتصم وأتحرز.

ثم ذكر في أصله قولين، وقال- بعد أن ذكرهما- والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معاً، فإن المستعيذ مستتر بمعاذ مستمسك به معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا شهر عدوه سيفاً وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه، وبعد فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من اللجاء والاعتصام والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة.

ونظير هذا؛ التعبير عن محبته وخشيته وإجلاله ومهابته، فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، فلا يدرك إلا بالاتصاف بذلك لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنين لم تخلق له شهوته أصلاً فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه، فإذا وصفتها لمن خلقت فيه

1 أخرجه البخاري (5256، 5257) .

ص: 369

وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق. ثم ذكر كلاماً طويلاً في الفرق بين الإعاذة والاستعاذة في غاية الدقة واللطف، وذكر سبب الإتيان (بقل) في السورتين وهو من أبدع الوجوه، ولا غرض لنا يتعلق به فإن أردته فارجع إليه.

(ثم قال في الفصل الثاني) : والمستعاذ به الله وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس، الذي لا تنبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره، وقد أخبر تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغياناً ورهقاً، فقال حكاية عن مؤمني الجن:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1.

جاء في التفسير: أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح. أي: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقاً أي طغياناً وغياً وإثماً وشراً، يقولون سدنا الإنس والجن، والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم، فزادوهم بهذه الاستعاذة غشياناً لما كان محظوراً من الكبر والتعاظم وظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.

واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بها بقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات" وهو صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق، ونظير ذلك قوله:"أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك" فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق، فكذلك قوله:"أعوذ بعزة الله وقدرته". وقوله: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات"2. وما استعاذ به النبي صلى الله عليه وسلم

1 سورة الجن: 6.

2 جزء من حديث: "اللهم إني أشكو إليك ضعفي.. ".

ذكره ابن هشام في "السيرة"(1/34) والطبري في "تاريخه"(2/ 344- 345) وأخرجه الطبراني في "الكبير"- جزء فيه ذكر أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني- لابن منده، المطبوع بآخر الجزء (25/ص 346) من طريق: ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال:.. فذكره.

وأخرجه أيضاً في "الدعاء"(2/1280/ 1036) والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/275/ 1839- الرسالة) .

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/35) : "فيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات".

وضعفه الشيخ الألباني في تخريجه لـ "فقه السيرة" للغزالي (ص126) وفي كتابه "دفاع عن الحديث النبوي"(ص 26) و"ضعيف الجامع"(1182) .

ص: 370

فإنه غير مخلوق، لا يستعيذ إلا بالله أو بصفة من صفاته.

وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس، ولا بد من أن يكون بين ما وصف به نفسه في هاتين السورتين مناسبة، وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى، فنسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين أنه ما تعوذ المتعوذون بمثلهما، ولا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضياً للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشر المستعاذ منه، فبه تتبين المناسبة المذكور ة.

وذكر في الفصل الثالث أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين، وأطنب في بيان ذلك، وأتى بالعجب العجاب.

والمقصود؛ أن كلتا السورتين تدلان على أن الملجأ والمعاذ هو الله تعالى، فمن استغاث بمخلوق ملكاً كان أو نبياً أو ولياً فقد التجأ إليه، ومن التجأ إليه في طلب ما لا يقدر عليه أحد إلا الله فقد عبده، لأن الدعاء مخ العبادة، ومن عبد غير الله فقد أشرك، والآيات القرآنية في هذا الباب كثيرة، وقد ذكرنا فيما سبق بعضاً منها، ومن قرأ القرآن وتدبر معناه تحقق ذلك.

وأما ما ورد من السنة النبوية فهو البحر الذي لا ساحل له، فقد كان صلى الله عليه وسلم خصماً للمشركين، وعدوا للكافرين، وقد بعثه الله تعالى لمحق ما كان عليه أهل

ص: 371

الجاهلية وإبطال ضلالاتهم الشركية، وقد كان خلقه القرآن، وما أنزله الله عليه من البيان، وقد نظرنا إلى الكتب المؤلفة في أذكاره وأدعيته فلم نر فيها دعاء التجأ فيه إلى غير الله، هذا كتاب (الأذكار) للنووي فيه من الأدعية السنية ما هو معلوم الصحة، وهذا كتاب (نزل الأبرار في الأدعية والأذكار) 1 وهذا كتاب (الكلم الطيب والعمل الصالح) لشيخ الإسلام، وهذا كتاب (الحصن الحصين) للشيخ محمد الجزري، جميع ما في هذه الكتب من الأدعية كلها من الله تعالى، ليس فيها كلمة دالة على الطلب من غيره تعالى، والله تعالى يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 2 فينبغي أن يتأسى كل مسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتدي به في أقواله وأفعاله، ويسلك في ذلك مسلك الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة والمجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين.

ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في طلب النصر: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم"3 وكان إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول وبك أقاتل"4 وعن أنس قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فلقي العدو، فسمعته يقول: " يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين". فلقد رأيت الرجال تصرعها تضربها الملائكة من بين أيديها ومن خلفها)5. وكان يقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اعتصمنا بالله، استعنا بالله، توكلنا على الله" ويقول: (حصنتنا كلنا أجمعين بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنا السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ويقول: (يا قديم الإحسان، يا من إحسانه فوق كل إحسان، يا مالك الدنيا والآخرة، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال

1 للعلامة صديق حسن خان القنوجي- رحمه الله.

2 سورة الأحزاب: 21.

3 أخرجه البخاري (4115) ومسلم (1742) .

4 أخرجه البخاري (597) ومسلم (684) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

5 أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(336) بإسناد ضعيف.

ص: 372

والإكرام، يا من لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه، انصرنا على أعدائنا هؤلاء وغيرهم، وأظهرنا عليهم في عافية وسلامة عامة عاجلا) 1.

وفي كتاب (الحصن الحصين) من ذلك شيء كثير، وهو للإمام الكبير محمد الجزري رحمه الله تعالى، وقد قال في خطبة الكتاب المذكور: "هذا الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين، وسلاح المؤمنين، من خزانة النبي الأمين، والهيكل العظيم من قول الرسول الكريم، والحرز المكنون، من لفظ المعصوم المأمون، بذلت فيه النصيحة، وأخرجته من الأحاديث الصحيحة، أبرزته عدة عند كل شدة، وجردته جنة تقي من شر الناس والجنة، تحصنت به فيما دهم من المصيبة، واعتصمت من كل ظالم بما حوى من السهام المصيبة، وقلت:

ألا قولوا لشخص قد تقوى

على ضعفي ولا يخشى رقيبه

خبأت له سهاماً في الليالي

وأرجو أن تكون له مصيبة

قال: ولما أكملت ترتيبه وتهذيبه طلبني عدو لا يمكن أن يدفعه إلا الله تعالى فهربت منه مختفياً وتحصنت بهذا الحصن، فرأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وأنا جالس على يساره، وكأنه يقول: ما تريد؟ فقلت: يا رسول الله ادع الله لي وللمسلمين، فرفع يديه الكريمتين وأنا أنظر إليهما فدعا ثم مسح بهما وجهه الكريم، وكان ذلك ليلة الخميس، فهرب العدو ليلة الأحد، وفرج الله عني وعن المسلمين ببركة هذا الكتاب عنه صلى الله عليه وسلم" انتهى.

وما كان يقوله في دعاء الوتر وهو: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك" إلى آخره2، وفي رواية: "اللهم اهدني فيمن هديت،

1 انظر "الأذكار" للنووي (1/535/580- الغرباء الأثرية) .

2 أخرجه أبو داود في "المراسيل"(89) والبيهقي في "الكبرى"(2/210) من طريق: ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن عبد القاهر، عن خالد بن أبي عمران، قال: بينا الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو

فذكره.

وإسناده ضعيف؛ عبد القاهر هو: ابن عبد الله، لم يوثقه غير ابن حبان، وهو مجهول.

لكن صحّ الخبر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً كما قال البيهقي.

فأخرجه (2/211) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/314) وعبد الرزاق في "مصنفه"(4968، 4969) .

ص: 373

وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت " إلى آخره1.

وما كان يقوله إذا أتى فراشه، وما يقوله إذا استيقظ من منامه، وما يقوله في. الليل، وما يقوله حال خروجه من بيته وإذا دخله، وما كان يقوله في غير ذلك من الأحوال، كالاستسقاء ونحوه مما هو خارج الصلاة أو داخلها؛ فشيء لا يسعه هذا المقام.

والمقصود، أن جميع أدعيته ليس فيها استغاثة بمخلوق، ولا إقسام به، ولا توسط أحد ولا توسل به، ومن شرط كل مؤمن الإقتداء به صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2.

وفي الأحاديث الصحيحة التي رواها الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما ممن جمع الصحيح شيء كثير مما يتعلق بهذا الباب، كحديث ابن عباس، وفيه "إذا استعنت فاستعن بالله" وقد سبق ذكره.

والرسول صلى الله عليه وسلم أبطل دين المشركين، ومداره على الاستغاثة والالتجاء إلى غيره، وهي كانت عبادة الوثنيين، وكالذبح والنذر، غير أنهم كانوا عند النوائب يستغيثون بالله سبحانه، بخلاف عباد القبور في عصرنا.

وأما ما ورد عن عباد الله الصالحين مما أخلصوا فيه الدعاء إلى الله والتجؤوا إليه سبحانه ولم يستعينوا فيه إلى مخلوق فهو كثير، وقد صنف الإمام أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال المتوفى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة كتابه الذي سماه (المستغيثين بالله عند الحاجات والمهمات والمتضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالرغبات) وهو كتاب جليل يسوء النبهاني إذا رآه.

1 أخرجه أحمد (1/199) وأبو داود (1425) والترمذي (463) وابن ماجه (1178) وغيرهم، من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام. وهو حديث صحيح.

2 سورة آل عمران: 31.

ص: 374

ومنه يعلم أن الصالحين والأولياء الكاملين كلهم كانوا في جميع حالاتهم مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن بشكوال في كتابه هذا عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت في غزوة فوقع فرسي ميتاً فرأيت رجلاً حسن الوجه طيب الرائحة، قال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم، فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره. وقال: أقسمت عليك أيتها البغلة بعزة عزة الله، وبعظمة عظمة الله، وبجلال جلال الله، وبقدرة قدرة الله، وبسلطان سلطان الله، وبلا إله إلا الله، وبما جرى به القلم من عند الله، وبلا حول ولا قوة إلا بالله، إلا انصرفت. فوثب الفرس قائماً بإذن الله تعالى، وأخذ الرجل بركابي، وقال: اركب. فركبت، ولحقت بأصحابي

إلى آخر القصة.

ومن أدعية الإمام زين العابدين السجاد رضي الله تعالى عنه: "اللهم إن تشأ تعف عنا فبفضلك، وإن تشأ تعذبنا فبعدلك، فسهل لنا عفوك بمنك، وأجرنا من عذابك بتجاوزك، فإنه لا طاقة لنا بعدلك، ولا نجاة لأحد منا دون عفوك، يا غني الأغنياء، ها نحن عبادك بين يديك، وأنا أفقر الفقراء بين يديك، فاجبر فاقتنا بوسعك ولا تقطع رجاءنا بمنعك، فتكون قد أشقيت من استسعد بك، وحرمت من استرفد فضلك، فإلى من حينئذ منقلبنا عنك، وإلى أين مذهبنا عن بابك، سبحانك نحن المضطرون الذين أوجبت إجابتهم، وأهل السوء الذين وعدت الكشف عنهم، وأشبه الأشياء بمشيئتك وأولى الأمور في عظمتك رحمة من استرحمك، وغوث من استغاث بك، فارحم تضرعنا إليك، وأغثنا إذ طرحنا أنفسنا بين يديك، اللهم إن الشيطان قد شمت بنا إذ شايعناه على معصيتك، فصل على محمد وآله، ولا تشمته بنا بعد تركنا إياه لك، ورغبتنا عنه إليك".

وكم له من مثل هذا الدعاء والالتجاء ما تنير منه أنوار التوحيد، ونشرق منه شموس الإيمان والتجريد، وأين هو من أدعية غلاة القبوريين، طهر الله تعالى الأرض منهم أجمعين.

ومن وصايا الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه ما قال لولده حين

ص: 375

استوصاه وهو في مرض الموت: عليك بتقوى الله وطاعته، ولا تخف أحداً ولا ترجه، وكل الحوائج كلها إلى الله عز وجل، واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى الله عز وجل، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد، وجماع الكل التوحيد.

وقال في مرض موته: إذا صح القول مع الله عز وجل لا يخلو منه شيء ولا يخرج منه شيء. وقال لأولاده: ابعدوا من حولي فأنا معكم بالظاهر ومع غيركم بالباطن.

ثم قال: قد حضر عندي غيركم فوسعوا لهم وتأدبوا معهم، ههنا زحمة عظيمة ولا تضيقوا عليهم المكان، وأخبر بعض ولده أنه كان يقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، غفر الله لي ولكم، وتاب الله علي وعليكم، باسم الله غير مودعين.

وله أحزاب كثيرة، ووصايا كلها على ما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصاياه على التوحيد وإفراد الله تعالى بخصائصه، كل ذلك مشهور متداول بين الناس، وأحزابه التي يقرأ كل حزب منها في يوم من أيام الأسبوع يقرأها الناس ويعرفونها، ومقامه في باب التوحيد واتباع السنن ليس يخفى على أحد، ولكنه خلف من بعده خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً.

وقال رضي الله عنه في كتابه "فتوح الغيب والغنية": "ينبغي لكل مسلم موحد أن لا يتكل إلا على الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يعتقد التصرف إلا لله، وأن يجعل مرآة عمله حديث ابن عباس، قال: كنت راكباً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".

ويكفيك أيها المسترشد قوله تعالى في الفاتحة التي تقرأها في صلاتك

ص: 376

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلا تعبد غيره، ولا تستعن إلا به، ولا تطلب إلا منه، فهذا هو التوحيد". اهـ.

ومن كلام الشيخ محي الدين بن عربي شيخ الصوفية عند الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 1 قال: ومن أعظم المواثيق أن لا يسأل العبد سوى مولاه جل شأنه، وفي قصة أبي حمزة الخراساني ما يشهد بعظم شأنه، فقد عاهد ربه أن لا يسأل أحداً سواه، فاتفق أن وقع في بئر فلم يسأل أحداً من الناس المارين عليه إخراجه منها حتى جاء من أخرجه بغير سؤال، ولم ير من أخرجه، فهتف به هاتف كيف رأيت ثمرة التوكل؟! فينبغي الإقتداء به في الوفاء بالعهد على ما قال أيضاً، وقد أنكر ابن الجوزي فعل هذا الرجل وبين خطأه وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال، وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا لو أن إنساناً جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار، ولا ينكر أن يكون الله تعالى قد لطف بأبي حمزة الجاهل، نعم لا ينبغي الاستغاثة بغير الله تعالى على النحو الذي يفعله الناس اليوم مع أهل القبور الذين يتخيلون فيهم ما يتخيلون، فآه ثم آه مما يفعلون.

وقال الشيخ محي الدين أيضاً في (الفتوحات المكية) : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى لا تجعل غيري موضع حاجتك وسلني حتى الملح تلقيه في عجينتك، هذا تعلي ممن الله تعالى لنبيه عليه السلام.

وقد رأيته سبحانه في النوم!! فقال: وكلني في أمورك فوكلته فما رإيت إلا عصمة محضة ولله الحمد على ذلك، ويكفي في التعليم قوله سبحانه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نعبد سواك ولا نستعين بمخلوق، وحديث ابن عباس:"وإذا استعنت فاستعن بالله"، وقوله تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 2 وقوله

1 سورة الرعد: 20.

2 سورة الزمر: 45.

ص: 377

تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1 اهـ.

وقال الإمام زين العابدين السجاد: كيف يسأل محتاج محتاجاً؟!

وقال الإمام الغزالي: المؤمن لا يجعل بينه وبين الله تعالى وسائط في الطلب، قال تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 2.

وفي تفسير "روح المعاني" عند الكلام على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 3 ما نصه: "ما أعظمها آية في النعي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات، ويطلب منه ما لا يستطيع خلقه لنفسه أو دفعه عنها".

وقال بعض أكابر السادة الصوفية: إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم، يستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه، فإن ذلك غير محظور، لأنه استغاثة بالحق حينئذ.

وأنا أقول: إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ وأيضاً إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضاً، ولعل القائل بذلك قائل بهذا، بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيحاً، ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره، فالطريق المأمون عند كل رشيد، قصر الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل، فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى.

وفي هذا التفسير أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} 4.

إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن

1 سورة الإسراء: 110.

2 سورة ق: 16.

3 سورة النحل: 20- 21.

4 سورة الحج: 73.

ص: 378

الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ينذر له عز وجل، ويجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام، القائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا.

ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر القبور للأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة، أو خمسة، وإذا طولبوا بالدليل قالوا ثبت ذلك بالكشف! قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افتراءهم.

ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه، وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، فنسأل الله تعالى العفو والعافية.

وفيه أيضاً عند الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} الآية2. فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور وهم في زماننا كثيرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

1 سورة الزمر: 3.

2 سورة الحج: 72.

ص: 379

وقال لما تكلم على قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 1 من سورة والنازعات:

أنه إقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت، وقيل غير ذلك، إلى أن قال: وفي حمل المدبرات على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين، وهو باطل عقلاً ونقلاً، كما أوضحنا ذلك فيما تقدم، وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء، وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد، على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء، والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا، إلى آخر ما قال.

وفيه أيضاً على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} 2.

ذكر بعض الغلاة أنه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس، فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك، وطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء، فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالباً الإذن، ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك، فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل دالا فليرجع، وهذا هو المعنى بأدب الزيارة عندهم.

قال المفسر رحمه الله في رده: ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح، والشيعة عند الزيارة للأئمة ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين؟ أو يا ابن بنت رسول الله؟ أو نحو ذلك، ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع

1 سورة النازعات: 5.

2 سورة النور: 27.

ص: 380

العين، وهو أيضاً مما لم نعرفه عن أحد من السلف، ولا ذكره فقهاؤنا، وما هو إلا بدعة، ولا يعد فاعلها إلا ضحكة للعقلاء، وكون المزور حياً في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حيا كما لا يخفى.

قال: وقد رأيت بعد كتابتي هذا في (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه: قال بعضهم: وينبغي أن يقف يعني الزائر بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء، انتهى.

وفيه: أنه لا أصل لذلك، ولا حال ولا أدب يقتضيه، انتهى.

ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى، فاحفظ ذاك، والله تعالى يعصمنا من البدع وإياك.

وفيه أيضاً على قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1.

وقد رأينا كثيراً من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم، ويطلبه ن منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيه، ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره.

وقلت يوماً لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني- فقلت له: قل يا الله، فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ

1 سورة الزمر: 45.

ص: 381

دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1 فغضب وبلغني أنه قال: إن فلاناً منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل!! وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان.

وفيه أيضاً عند الكلام على قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} 2.

لما كان يوم الفتح فرّ عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، قال: فجاء فأسلم.

وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضاً لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين، وأياً ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال.

وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشائخ الأمة، ولا ترى فيهم أحداً يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً، وأي الداعيين أقوم قيلاً، وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة،

1 سورة البقرة: 186.

2 سورة يونس: 22- 23.

ص: 382

وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، ومالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف.

وفيه أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.

وقد أورد كلاماً حاصله: أن يلتجىء الإنسان في المهمات إليه تعالى، ثم قال: وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجل، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة

فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن

فبمن يلوذ ويستجير المجرم

ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي

جعلت الرجا ربي لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته

بعفوك ربي كان عفوك أعظما

وكم في هذا التفسير الجليل الشأن من مسائل تتعلق بوجوب تحقيق توحيد الملك الديان، وإفراده سبحانه بأن يستغاث ويستعان.

وفي كتاب ابن أبي الدنيا- الذي ألفه في كلام المحتضرين- شيء كثير من كلام الصالحين، والأولياء والعارفين، الذي تكلموا في آخر عمرهم، وقدس حصروا الاستعانة والالتجاء به تعالى، وأنه لا ينبغي أن يستغاث بغيره، نظماً ونثراً، وقد أفرد له الغزالي باباً في "الإحياء"، وأتى الزبيدي في شرحه بملخص كتاب المحتضرين لابن أبي الدنيا، تركنا ذكره لطوله ولكونه متداولاً هذا الكتاب بين الناس.

1 سورة الأعراف: 153.

ص: 383

ومن المنظوم في هذا الباب ما قاله الشاعر الشهير الشيخ صالح تجاوز الله عنه:

يا سائلاً غير إله السما

بشراك بالخيبة والرد

إن الذي سواك من نطفة

يغنيك عن مسألة العبد

ولآخر:

لا تسألن من ابن آدم حاجة

وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله

وبني آدم حين يسأل يغضب

وللعلامة الجليل، والفاضل النبيل، محدث عصره، وحافظ مصره، الشيخ علي السويدي، صاحب كتاب "العقد الثمين" عليه الرحمة:

يا نفس كم لا تعبئين بحالي

هل اتعظت بفرقة الأمثال

ذهب الزمان بأهله وتخلفت

أخلاف سوء عادموا أفضال

بئس الخلائق هم ولا ذكرى لهم

أشباح أهواء ومحض خيال

أخلاقهم نقض العهود ودأبهم

خلف الوعود وزخرف الأقوال

لا يعرفون وداد من صافاهم

ويرون ذلك شعبة لضلال

لا يسألون عن الصديق كأنهم

جلوا عن الأشباه والأمثال

ألفوا الجفاء فمن أتى منهم بما

فيه الوفاء فقد أتى بمحال

أديانهم دنيا بدت تبدي لنا

ما فيهم من أسوء الأفعال

يتفاخرون بجمع أموال غدت

نسباً شريفاً وابتهاج جمال

أفلا يرون بني اليهود وعابدي الـ

ـأنداد أجمع منهم للمال

إني بلوتهم فلم أر فيهم

إلا البلاء وأعظم البلبال

لا خير فيهم غير أن وفاقهم

نكد وهم مؤذن بوبال

يا نفس عدي عنهم وتصبري

فهم الغثاء ودمنة الأطلال

وتخيلي لمثالهم من طينة

غبراء وانظرمقتضى التمثال

وثقي بمن خلق السموات العلى

الواحد المتكبر المتعالي

ص: 384

والله ما أسفي غدا إلا على

ما ضاع مني سابق الأحوال

مع أنني من فضل ربي ليس لي

طمع بجاه عندهم وبمال

يا صاحب النفس الملومة إنني

أنهاك دهشتها بيوم كلال

صاح استمع نصحاً أتاك مفصلاً

كتفصل العقيان فوق لئال

بادر بقايا عمرك الفاني فلا

تصرفه إلا في الرضى المتوالي

واشغل فؤادك دائباً متفكراً

فيما يليق بمنصب الإجلال

وأخلص عبادتك التي باشرتها

في القول والأحوال والأفعال

واشغل بذكر الله قلبك لاهجاً

بصفاته العليا بلا إملال

واجعل مماتك نصب عينك إنه

أولى الأمور وأنصح الأحوال

واعلم بأنك بعد ذاك محاسب

فاضبطه لا تك فيه ذا إهمال

واعلم بأنك بعد ذلك صائر

إما إلى بؤس أو الأفضال

وادأب على حفظ الشريعة سالكاً

سبل الهدى لا قالياً أو غالي

وابدأ بحفظ القلب عن شبهاته

واعرف مساويها على الإجمال

وكذاك فاحفظه عن الشهوات إذ

بالحفظ من هذين كل كمال

ثم اسقه ماء الحياة بواعظ

من محكم التنزيل في إجلال

واحرس فراغك بالتذكر إنه

عمر إذا ما ضاع منك لغالي

واحفظ جوارحك التي أوتيتها

عن كل ما يقضى بكل نكال

واعلم بأنك ما خلقت سبهللاً

فاعبد إله العرش بالإقبال

واجعل سلاحك دعوة بإنابة

والجأ إلى مولاك غير مبال

واسأله لا تسأم فإنك عبده

فهو الكريم ورب كل نوال

يا رب فاقطع عن فؤادي كل ما

أرجوه إلا منك من آمال

واغسله من درن الظنون فإنه

مرض القلوب وموجب الإعلال

وأرحه من نظر العباد فإنه

أصل الفساد وأفسد الأشغال

وارزقه خشيتك التي تستوجب الـ

حسنى لدى المقبول من أعمال

يا رب وفقني لما فيه الرضى

فلقد وعدت إجابة التسآل

ص: 385

واختم لنا بالخير عاجله الذي

تبدو حلاوة ذوقه بمآل

يا رب إني عبدك الجاني على

نفسي تجاوز عن قبيح فعالي

واجعل صلاتك دائماً تترى على

كنز المعالي السيد المفضال

وكذا على آل له وصحابة

أهل العلى والعز والإجلال

فانظر إلى قوله: واسأله لا تسأم إلخ، وفي نسخة:

واسأله لا تسأل سواه فإنه الـ

ـولى الكريم ورب كل نوال

وقوله: يا رب فاقطع إلخ، وإلى قوله: وأرحه من نظر العباد إلخ، وإلى سائر أقواله تجد أنوار التوحيد تشرق منها، وهكذا المؤمن المتبع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستمد ولا يستغيث ولا يلتجىء ولا يستعين إلا بالله، ومن كان على قلبه حجاب الغفلة وصدأ الضلال وداء الزيغ أعرض عن الله، ونادى غيره، وأقبل على ما سواه وشرع يتشبث بالشبهات الواهية، والدلائل الفاسدة، والحكايات الكاذبة، ولم يلتفت إلى نصوص الشريعة الغراء، وما ورد من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وعليك بما ألفه هذا الناظم الفاضل في العقائد السلفية، وهو كتاب (العقد الثمين) وقد بلغني أن بعض أفاضل الحنفية كتب في وصيته لبنيه أن يقرؤوا هذا الكتاب، ويعقدوا خناصر قلوبهم على حفظه، فإن النجاة فيه وفي أمثاله من كتب حفاظ الحديث وعلماء السنة النبوية، وهذا الكتاب جمع جميع ما يجب على المكلف معرفته، ولذلك قال فيه العالم العلامة الشيخ محمد خليل الدمشقي الشهير بابن الخشة مقرظاً ومادحاً لهذا الكتاب وذاكراً فيه بدع الغلاة وهو قوله:

لله در إمام ساد كل على

فحق بالحق أن يدعى بملا علي

أهدى إلينا كتاباً من براعته

هو الشفاء لمرضى الغي والخطل

أبدي به من رقيق الفكر فانفجرت

منه عيون الهدى أحلى من العسل

لا غرو فهو إمام العصر جهبذه

بل قد غلا وعلا فيه على الأول

لا ضير إن أشرقت فينا طوالعه

فالشمس راد الضحى كالشمس في الطفل

ص: 386

عقائد هي عين الحق هادية

إلى صراط سوي جل عن دغل

من سنة المصطفى والآي قد نسجت

تلك البرود فكانت أشرف الحلل

وطرزت بدراري العقل ساطعة

منها البراهين تمحو غيهب الزلل

قد أظهرت بدعاً صارت ترى سنناً

لدى الألي سكروا عن شرعة الرسل

قوم هم نهجوا سبل الغواية إذ

زاغوا فعندهم إبليس خير ولي

والقطب والغوث والأبدال من تركوا

شرائع الدين أو سبوه بالجمل

قلنا لهم لم يصلوا قيل عندكم

وبعضهم قال هم عنها لفي شغل

جهال قلنا فقالوا اللب عندهم

والقشر عندكم للرد والجدل

فساق قلنا فقالوا يسترون على

أحوالهم كي تظنوهم من السفل

قلنا زناة فقالوا ذاك عن حكم

أقلها سد ثقب الفلك عن خلل

قلنا لهم يأكلون السحت قيل هم

بحر ولا تقذر الأمواج بالبصل

برهانهم من حكايات مزخرفة

هي الغرور من الشيطان للختل

عمي عن الحق صم حيث عالمهم

لا يدرك الفرق بين الجذب والخبل

تباً وتباً لسياراتهم فلقد

غشت على عين شرع الله بالقذل

تكونت من مناكير منغصة

ومن جنون ومن حمق ومن ثمل

ولو ترى لرأيت النكر غشولهم

وثور أعلامهم من أسمج الحيل

وطالما مر من للدين منتسب

مخشوشع ضارع يبكي بكا العيل

وهزهم للتوابيت التي ارتفعت

ونكس أرؤسهم باللثم والقبل

وقولهم يا بني يحيى عليك به

فخذه واقتله وانصرني على عجل

وغائبي يوم تأتيني به عجلا

نذري إليك كذا يأتي بلا مهل

كم غصة قتلت كم رجفة قصمت

ظهر الأريب وكم نبل من الأسل

حتى أقامت به الأعداء حجتهم

من كل منتقص للدين أو لولي

واضيعة الدين إذ أهل الكتاب غدت

تظن ذا دين خير الرسل واخجلي

ويا خسارتهم يا قبح ما فعلوا

كأنهم لم يميزوا الرب من هبل

ويا شقاوة قوم بين أظهرهم

لو نافقوا وتلوا متناً من الخبل

ص: 387

أدواء لا يرتجى برء لعلتها

إلا بشرب حبوب الموت بالعلل

ألم يروا نقم الله التي اشتعلت

ترمي جمالات صفر من لظى الجلل

سكرى ثملت بدن من معتقة

ما شيب فيها سوى الدردي بالأصل

ماست رويداً وكان النشر يقعدها

حتى ارتوت بغبوق النهل والعلل

واستحكم السكر منها فانثنت طرباً

تهتز في خبب رقصاً وفي رمل

هاجت بها ريح نجد بالصبا سحراً

وناح صدح رخيم الناي بالزجل

غنت عراقاً وغنت بالحجاز على

برج النوى بأفانين من الغزل

وقودها الناس بل من غيضها شهقت

بالطفل والحمل والأنعام للنزل

فتكاً وذبحاً وبقراً للبطون على

عقر البهائم بعد القطع للسبل

ولات حين مناص حيث داهية

دهماء قد سطرت في سابق الأزل

كأنما صيحة الله التي عقلت

أودت بعقل أولي الألباب ذي الدول

وهكذا يصنع الله متى انتهكت

شرائع الدين صوناً منه عن بدل

هلا رجعنا لمحو الذنب حين ربا

مستمطرين الدما من صيب المقل

مستمسكين بعروى دين أحمدنا

مستوثقين بمولى خير متكل

تذب عن بيضة الإسلام من كثب

بصارم الشرع نرجو منة النفل

يا سيد الدهر ما هذا الأنين على

آثار سعدى وسعد الدين في زحل

ويا بديع المعاني راح يلمزها

قوماً غدوا يعدلون الذر بالجمل

ناديت صماً ولكن لا حياة لهم

هيهات هيهات عن ذا الكل في شغل

رشيت نبلاً ولكن لا حراك لها

هل يخرق السهم صم الصخر والجبل

وهل منار السهى وازى الحضيض علا

وهل يطابق معوج بمعتدل

حركت مني هوى قد لج في كبدي

نضيحة خلط الأخلاق بالعضل

وأنت كشاف غم المعضلات إذا

غبطاً يقولون جار الله معتزلي

خفرت ذمة أهل الله فأتمنوا

وجزت فيهم صراط الناسك النكل

شكراً لسعيك قد وفيت عهدك لا

تخشى السوى حبذا من عالم بطل

قفوت آثار آل كلهم منن

على البرية إذ جلوا عن المثل

ص: 388

غر فضائلهم عز فواضلهم

نور شمائلهم بالعلم والعمل

أدنى الخطا لمعالي نيل سؤددهم

لو رامها البدر في عامين لم يصل

لو لم يكونوا أسوداً ما جرى مثلاً

ما في السويدا رجال يوم مرتحل

باتوا فكانت سويدا القلب مسكنهم على

الحقيقة خوفاً من عتا المقل

كفى كفى الناس عزا منكم وبكم

كما كفى الشعر عزا أنه بعلي

وكان هذا الفاضل رحمه الله تعالى من أعيان علماء دمشق الشام، وكان سلفي العقيدة، وكم له من قصائد غراء منع فيها الاستغاثة والالتجاء بغير الله تعالى، وكان سيفاً في أعناق الغلاة المبتدعة عبدة القبور، ولا بدع ففي دمشق أنصار الدين، وأئمة الحديث، وحفظة السنة، لا هتك الله لهم حريماً، ولا مزق لهم أديماً، ولا أخلى الله تعالى الزمان من مثلهم.

ومن ذلك الأبيات المشهورة، وقد قالوا إنها استغاثة مباركة ما دعا بها أحد في حاجة إلا قضيت ولا توسل بها مريض إلا شفي بإذن الله تعالى- وهي:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع

أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها

يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن ملكه في قول كن

امنن فإن الخير عندك أجمع

مالي سوى فقري إليك وسيلة

فبالافتقار إليك فقري أدفع

مالي سوى قرعي لبابك حيلة

ولئن طردت فأي باب أقرع

ومن الذي أدعو وأهتف باسمه

إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشا لجودك أن تقنط عاصياً

الفضل أجزل والمواهب أوسع

بالذل قد وافيت بابك عالماً

إن التذلل عند بابك ينفع

وجعلت معتمدي عليك توكلاً

وبسطت كفي سائلا أتضرع

فاجعل لنا من كل ضيق مخرجاً

والطف بنا يا من إليه المرجع

ثم الصلاة على النبي وآله

خير الخلائق شافع ومشفع

ومن ذلك قول بعض العارفين- وهي استغاثة مباركة أيضاً لم يزل الصالحون

ص: 389

يناجون مولاهم بها ويستمطرون سحائب لطفه تعالى:

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا

وبت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا أملي في كل نائبة

ومن عليه لكشف الضر أعتمد

أشكو إليك أمورا أنت تعلمها

مالي على حملها صبر ولا جلد

وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً

إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة

فبحر جودك يروي كل من يرد

ومن ذلك ما قاله البستي في قصيدته الشهيرة:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته

أتطلب الربح مما فيه خسران

من يتق الله يحمد في عواقبه

ويكفه شر من عزوا ومن هانوا

من استعان بغير الله في طلب

فإن ناصره عجز وخذلان

ولبعض الصالحين، وهي قصيدة مشهورة- وقد خمسها بعض أهل الزهد وهذا الأصل والتخميس:

رفعت مقامي منة وتفضلاً

وكملتني بالعلم والحلم والولا

ومنك ملأت الكف لي لا من الملا

لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلا

تباركت تعطي من تشاء وتمنع

عروس التجلي في فؤادي تنجلي

وإن وعائي بالمعارف ممتلي

وأرجوك يا مولاي يا ذا التفضل

إلهي وخلاقي وسؤلي وموئلي

إليك لدى الأعسار واليسر أفزع

إذا كنت لي في جملة الأمر معتنى

وقد نلت هذا الحظ من فضلك السني

فلست أبالي مع عيوبي

إلهي لئن خيبتني وطردتني

فمن ذا الذي أرجو ومن ذا أشفع

أنا العبد عبد الرق في كل حالة

ولست بعبد في الرخا أو بشدة

ص: 390

لك الأمر في الحرمان أو في العطية

إلهي لئن جلت وجمت خطيئتي

فعفوك عن ذنبي أجل وأوسع

إذا سلكت دنياي بالحال سبلها

وأظهرت الأيام في العبد جهلها

فلست يئوساً بل أقول لعلها

إلهي لئن أعطيت نفسى سؤلها

فها أنا في روض الندامة أرتع

إليك رجائي ينتمي وإضافتي

ومنك أرى سكري بدا وإفاقتي

وهب أنني أخرت عن سير ناقتي

إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي

وأنت مناجاتي الخفية تسمع

بحبك ثوبي في البرية منصبغ

ولا زال بالأشواق جلدي يندبغ

وقلبي على الحالين من أمره لدغ

إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ

فؤادي فلي في سيب جودك مطمع

جداري على تأسيس جدواك قد بنى

ولا زال قلبي بالتذكر يعتني

وإني أنادي كلما الوجد حثني

إلهي أجرني من عذابك إنني

أسير ذليل خائف لك أخضع

رفعت إلى علياء جاهك قصتي

عسى تكشف الآن بقربك غصتي

إذا أنت بالتوحيد طبق محجتي

إلهي فأنسني بتلقين حجتي

إذا كان لي في القبر مثوى ومضجع

أنا العبد ملق بالرجا وسط لجة

ورجت غراماً أرض نفسي بسرجة

ولست أرى عذراً ولا بعض حجة

إلهي لئن عذبتني ألف حجة

فحبل رجائي منك لا يتقطع

سألتك تعفو عن ذنوبي تفضلاً

فإني لقد أكثرت فيك التوكلا

بأسمائك الحسنى دعوت توسلاً

إلهي أذقني طعم عفوك يوم لا

بنون ولا مال هنالك ينفع

ص: 391

حديث غرامي فيك لا زال شايعاً

وأنت اشتريت النفس مذ كنت بايعا

فجد لي بأمن منك لا أك رايعاً

إلهي لئن لم ترعني كنت ضايعا

وإن كنت ترعاني فلست أضيع

عليك ثنائي من جميعي بألسن

على كل فعل من فعالك بي سني

أتيت بذنب لي عن الغير مرسن

إلهي إذا لم تعف عن غير محسن

فمن لمسيء الهوى يتمتع

هو العبد من مولاه بالمنة ارتقى

غداة له كأس المحبة قد سقى

عليك اتكالي قد عدمت لك البقا

إلهي لئن قصرت في طلب التقى

فلست سوى أبواب فضلك أقرع

دفعت عذول الحب عني بالتي

وفيك فتى أصبحت نحوك ما فتي

فإن عثرت رجلي وجلت خطيئتي

إلهي أقلني عثرتي وامح زلتي

فإني مقر خائف متضرع

محبك لما أنت جدت له فنب

فهيهات أن تلقاه بالخير معتنب

وها أنا راجي الفضل ما عنك أنثني

إلهي لئن خيبتني وطردتني

فما حيلتي يا رب أم كيف أصنع

جمالك باه في الملاحة باهر

ومنك يواقيت بدت وجواهر

أأبقى ومنه قد تجلت مظاهر

إلهي حليف الحب بالليل ساهر

يناجي ويبكي والقفول يهجع

مقامك أضحى بانتسابي عالياً

فأخرجت من أصداف علمي لئاليا

وحزني أولوا التحقيق راموا مرامياً

وكلهم يرجو نوالك راجيا

وإلا فبالذنب المدمر أصرع

لوجهك قوم أولعوا بجماله

وكل تفاني طامعا ًبوصاله

ص: 392

فبدل لنا نقص الهوى بكماله

إلهي بعلم الهاشمي وآله

وتوحيد أبرارهم لك أخشع

ظهورك بي عندي أراه علامة

على أنك المسدي إلي كرامة

وإن رامت الأغيار مني انتقامة

إلهي أنلني من رجائي سلامة

وقبح خطيئاتي علي يشنع

مقام الترجي للنوال هو الذي

أقام فؤادي بالتردد يغتذي

وإن لساني في ثنا مدحه بذي

إلهي لئن تعفو فعفوك منقذي

وإني يا رب الورى لك أخضع

إمام الهدى إني وراءك مقتدي

ولي فيك قلب من تشوقه صدى

وقد بت أستجدي بأحشاء مكمد

إلهي فانشرني على دين أحمد

منيباً تقياً قانتاً لك أضرع

سماء العطايا قد رفعت لها يدي

وأصبحت أرجو زهر روضتها الندي

وأشهدت هذا الباب في كل مشهد

فلا تحرمني يا إلهي وسيدي

شفاعته الكبرى فذاك المشفع

هو المصطفى المختار طه محمد

نبي الهدى رؤياه للعين أثمد

سلامك من عبد الغني له يد

وصل عليه ما دعاك موحد

وناجاك أحياء ببابك ركع

وللزمخشري المفسر الشهير- مع أنه كان يرمى بالاعتزال- مناجياً مولاه ومستغيثاً بالله- وهكذا فليكن من يدعي التوحيد، ويعتقد أنه على الرأي السديد-:

يا من يرى مد البعوض جناحها

في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى مناط عروقها في نحرها

والمخ في تلك العظام النحل

ويرى مكان المشي من أقدامها

وخطيطها في مشيها المستعجل

ص: 393

ويرى مكان الدم من أعضائها

متنقلاً من مفصل في مفصل

ويرى ويسمع حس ما هو صوتها

في قعر بحر غامض متجدول

أصواتها مرفوعة عند الندا

أرزاقها مقسومة للسؤل

اغفر لعبد تاب عن فرطاته

ما فات منه في الزمان الأول

وقد استشهد ببعض هذه الأبيات في تفسير سورة البقرة من الكشاف، وهذه الأبيات تشرق بأنوار التوحيد.

وكان الشيخ شهاب الدين السهروردي يواظب على قراءة حذه الاستغاثة، وذكروا لها خواص كثيرة وفوائد عظيمة لمن يداوم على قراءتها، وهي:

سبحانك لا إله إلا أنت، يا رب كل شيء ووارثه، يا إله الآلهة الرفيع جلاله، يا الله المحمود في كل حال فعاله، كل يوم هو في شأن، يا حي لا حي في ديمومية ملكه وبقائه، يا قيوم فلا يفوت شيء من علمه ولا يؤوده، يا واحد الباقي أول كل شيء وآخره، يا صمد من غير شبهة ولا شيء كمثله، يا بادىء النفوس فلا شيء كفؤه يدانيه ولا إمكان لوصفه، يا كبير أنت الذي لا تهتدي العقول لوصف عظمته، يا بارىء النفوس بلا مثال خلا من غيره، يا زاكي الطاهر من كل آفة تقدس جلاله، يا كافي الموسع لما خلق من عطايا فضله، يا نقيا من كل جور لم يرضه ولم يخالطه فعاله، يا حنان أنت الذي وسعت كل شيء رحمة وعلماً، يا منان ذو الإحسان قد عمّ كل الخلائق منه، يا ديان للعباد كل يقوم خاضعاً لرهبته ورغبته، يا خالق من في السموات والأرض كل إليه معاده، يا تام فلا تصف الألسن كنه جلالة ملكه وعزه، يا رحيم كل صريخ ومكروب وعياذه وغياثه وملاذه، يا مبدع البدائع لم يبغ في إنشائها عوناً، يا علام الغيوب فلا يؤوده شيء من حفظه، يا حليم ذا الإنابة فلا يعادله شيء من خلقه، يا معيد لما أفناه إذا برز الخلائق لدعوته، يا حميد الفعال ذا المن على جميع خلقه بلطفه، يا عزيز المنع الغالب على أمره فلا يعادله، يا قاهر ذا البطش الشديد أنت الذي لا يطاق انتقامه، يا قريب، يا متعال فوق كل شيء علو ارتفاعه، يا مذل كل جبار بقهر عزيز سلطانه، يا نور كل شيء وهداه أنت الذي فلق الظلمات بنوره، يا علي الشامخ فوق كل شيء علو ارتفاعه،

ص: 394

يا قدوس الطاهر من كل سوء فلا شيء يعادله، يا مبدىء البرايا ومعيدها بعد فناء خلقه، يا جليل المتكبر عن كل شيء فالعدل أمره والصدق وعده، يا محمود فلا تبلغ الأوهام كل كنه ثنائه وعزه ومجده، يا كريم ذو العفو والعدل أنت الذي ملأ كل شيء عدله، يا عظيم ذو الثناء الفاخر والعز والمجد والكبرياء، فلا يذل عزه، يا مجيب، يا عزيز فلا تنطق الألسن بكل آلائه وثنائه ومجده وعزه، يا غياثي عند كل كربة، ومجيبي عند كل شدة- أسألك أماناً من عقوبات الدين والدنيا والآخرة، وأن تصرف عني كل سوء ومحذور، برحمتك يا أرحم الراحمين اهـ.

وله حزب مشهور وهو استغاثة والتجاء بالله سبحانه، أوله: إلهي وإله جميع الموجودات. فيه من المناجاة والتضرع إلى الله وطلب الغوث منه والاستعانة به ما يليق بحال العارفين والصفوة والمتبعين.

وللشيخ الدمياطي قصيدة طويلة دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى فيها واستغاثه بها، ومنها قوله في آخرها:

بأسمائك الحسنى دعوتك سيدي

وجئت بها يا خالقي متوسلا

ومبتهلاً ربي إليك بفضلها

وأرجو بها كل الأمور مسهلا

فقابل إلهي بالرضا منك واكفني

صروف زماني مكثراً ومقللا

وجد واعف وارحم وانصر على العدى

وتب واهد وأصلح كل حال تخلخلا

وفي كتاب (شفاء العليل) : كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح، فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون، وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ويعوذوا بهم، كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:

يا من ألوذ به فيما أؤمله

ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره

ولا يهيضون عظماً أنت جابره

ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله.

والمقصود: أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به ممالكيه وأن يعوذوا به كما أمر

ص: 395

رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه اهـ.

وقد رأيت أحزاباً كثيرة لجماعة من الصالحين، وليس فيها طلب شيء من مخلوق، بل كلها مناجاة لله واستغاثة به سبحانه، نعم رأيت في بعضها توسلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم نحو قول قائلهم: أسألك إلهي بجاه المصطفى صلى الله عليه وسلم أو حقه أو نحو ذلك، وهذا ليس استغاثة، فاستشهد بكل كلام رأى فيه توسلاً وصلاة ونحو ذلك يظن أنه استغاثة وذلك من الجهل بمكان.

وقد أبطلنا بحمد الله كلامه وأظهرنا من جهله ما أصبح به بين الأنام مثلة وفضيحة.

فقل للعيون الرمد للشمس أعين

سواك تراها في مغيب ومطلع

وقد أورد أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال في كتاب (المستغيثين بالله عند الحاجات والمهمات والمتضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالرغبات) ما يضيق هذا المقام عن ذكره فعلى طالب الحق أن يراجعه ويجعله مرآة عمله، وبه يعلم أن النبهاني كذب على عباد الله الصالحين.

قال النبهاني: (الباب الثامن) فيما ورد من النظم في استغاثة العلماء والفضلاء به صلى الله عليه وسلم، ومن قرأها أو بعضها بنية قضاء حاجاته يرجى له حصول المقصود ببركة الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم، قال: ومعظم هذه الاستغاثات أخذتها من بعض قصائد المجموعة النبهانية، وما لم يكن منها نبهت عليه.

ثم أورد الشعر مرتبا على حروف الهجاء وأورد في كل حرف كثيراً من الأبيات لشعراء متفرقين، ولا حاجة بنا إلى نقله في هذا المقام لكون كتابه منتشراً.

والجواب عن جميع ما أورده في هذا الباب من وجوه كثيرة يستوجب ذكرها طولاً، بل نقتصر على بعضها طلباً للاختصار، على أنه قد سبق غير مرة ما يعلم منه الجواب أيضاً فنقول:

ص: 396

الوجه الأول: أن ما يستدل به على مثل هذه المطالب إنما هو الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد سبق أن كل ذلك يدل دلالة صريحة أن ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يطلب من سواه سبحانه، بل إن من طلب ذلك من غيره فقد ابتغى غير سبيل المؤمنين، وذكرنا حكم من كان كذلك، وأن كل أحد ما سوى الرسول يؤخذ منه ما يوافق الكتاب والسنة، وغير الموافق ينبذ به بوجه قائله كائناً من كان، خصوصاً إذا كان جاهلاً ككثير ممن أورد شعره النبهاني، فإنهم لا يعدون من العير ولا من النفير، ومنهم هو، فإن النبهاني أورد في كثير من الأحرف أبياتاً من شعره الركيك، وجعله حجة على أهل الحق ودليلاً على مقصده، وهكذا أورد كثيراً من شعر أمثاله من الجهلة الغلاة، فذلك بحمد الله لا يدفع الحق ولا يعارضه.

الوجه الثاني: أنه قد ذكرنا سابقاً كثيراً من كلام العارفين من النظم والنثر ما يقتضي أن يوحد الله بالسؤال، وأن يفرد سبحانه بالاستعانة والالتجاء إليه، وهو الموافق لما ورد من ذلك في الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة والأئمة الهداة، وذكرنا أن في كتاب المستغيثين بالله عند الملمات والمهمات البحر الذي ليس له ساحل، فمن يلتفت بعد هذا لمثل ما ذكره هذا الزائغ؟ {وإن جندنا لهم الغالبون} ، والحق يعلو على الباطل، وليس بعد الحق إلا الضلال البعيد.

الوجه الثالث: أن قول النبهاني في شأن ما استشهد به من الشعر والأبيات من قرأها أو بعضها بنية قضاء حاجاته يرجى له حصول المقصود ببركة الاستغاثة

إلخ، دعوى كاذبة، ليس عليها دليل سوها حكايات يرويها الغلاة وهم بيت الكذب، وإن سلم صحتها فليس فيها دليل على ما ادعاه النبهاني، فإن إجابة الدعاء عند القبور للسائلين لا دليل فيه على أنه دين الله، وأنه يحبه ويرضاه، وأكثر ما يدعو هؤلاء الغلاة إلى دعاء القبور والصالحين ما يحكونه من أن فلاناً دعا فاستجيب له واستغاث فأغيث، وفلان رد عليه بصره، وعند السدنة وعباد القبور

ص: 397

من هذا شيء كثير، قد أورد منه النبهاني شيئاً كثيراً جعله من قواعد مذهبه، وأدلة شركه، وقد ذكرنا سابقاً أن أسباب المقاصد قد تكون محرمة كالسحر ونحوه، وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها ديناً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى هذه من الأمور المحدثة فلا يستحب وإن اشتملت أحياناً على فوائد، لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها.

الوجه الرابع: أن الشرك وقع كثيراً من دعاء غير الله كالشرك بأهل القبور، من دعائهم والتضرع إليهم والرغبة إليهم ونحو ذلك، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده خالصاً عند القبور لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم، فكيف إذا وجد ما هو نوع الشرك من الرغبة إليهم؟ سواء طلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله، بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك وإن لم يكن عند القبر، كما لا يقسم بمخلوق مطلقاً، وهذا القسم منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة، وهل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ على قولين؛ أصحهما أنه نهي تحريم، ولم يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب الإمام أحمد، وبعض أصحابه- كابن عقيل- طرد الخلاف في الحلف بسائر الأنبياء، لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق البتة، ولا يقسم بمخلوق البتة، وهذا هو الصواب، والإقسام على الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي اشتمل عليه كثير من الشعر الذي أورده النبهاني في هذا الباب ينبني على هذا الأصل، ففيه هذا النزاع، وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في منسك المروذي ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به، لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به فكذلك هذا، وأما غيره فما علمت بين الأمة فيه نزاعاً، بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك، واتفقوا على أن الله يسأل ويقسم عليه بأسمائه وصفاته كما يقسم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في السنن: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال

ص: 398

والإكرام"1. وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"2. فهذه الأدعية ونحوها مشروعة باتفاق العلماء، وأما إذا قال: أسألك بمعاقد العز من عرشك؛ فهذا فيه نزاع، رخص فيه غير واحد لمجيء الأثر به، ونقل عن أبي حنيفة كراهته، قال أبو الحسين القدوري في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك، وهو قول لأبي يوسف.

قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره، قالوا جميعاً فالمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقاً، ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق أو بالخالق؟ فيه نزاع بينهم، فلذلك تنازعوا فيه، وأبو يوسف بلغه الأثر فيه (أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة) فجوزه لذلك.

وقد نازع في هذا بعض الناس، وقالوا: في حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا رياءً، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي"3 وقد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 4 على قراءة الجر كما يقال سألتك بالله وبالرحم.

1 أخرجه النسائي (3/ 52) وابن ماجه (3858) وصححه الألباني.

2 تقدم تخريجه.

3 حديث ضعيف، تقدم تخريجه.

4 سورة النساء: 1.

ص: 399

ومن زعم من النحاة أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فإنما قاله لما رأى غالب الكلام بإعادة الجار، وإلا فقد سمع من الكلام العربي نثره ونظمه العطف بدون ذلك، كما حكى سيبويه: ما فيها عيره وفرسه، ولا ضرورة هنا كما يدعى مثل ذلك في الشعر، ولأنه قد ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون". وفي النسائي والترمذي وغيرهما حديث الأعمى الذي صححه الترمذي "أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره عليه، فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين، ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد يا نبي الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه فيّ ودعا الله فرد الله تعالى عليه بصره".

والجواب عن هذا؛ أن يقال أولاً: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما قال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1 وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية2.

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل- وهو رديفه-: "يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم"3 فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق.

وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه على قولين، ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه:

1 سورة الروم: 47.

2 سورة الأنعام: 54.

3 تقدم تخريجه.

ص: 400

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وبقوله في الحديث الصحيح: "إني حرمت الظلم على نفسي" إلخ.. والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.

وأما الإيجاب عليه تعالى والتحريم بالقياس على خلقه؛ فهذا قول مبتدع، مخالف لصحيح المنقول، وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئاً، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح، ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحق الأجير على المستأجر فهو جاهل في ذلك، وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه ليس من باب المعاوضة ولا من باب ما أوجبه غيره عليه، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك.

وإذا سئل بما جعله هو سبباً للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته وأنه يجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون فيستجيب دعاءهم، ومن أدعية عباده الصالحين ومن شفاعة ذوي الوجاهة عنده- فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سبباً.

وأما إذا سئل بشيء ليس هو سبباً للمطلوب؛ فإما أن يكون إقساماً عليه به فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالاً بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة.

فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة ورحمته لهم أن ينعمهم ولا يعذبهم، وهم وجهاء عنده يقبل من شفاعتهم ودعائهم ما لا يقبله من دعاء غيرهم، فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان وفلان لم يدع ربه،

ص: 401

وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته بل بنفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب.

وحينئذ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم؛ فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1 وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 2. فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه وتعالى سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار. ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، الدعاء بمعنى العبادة، والدعاء بمعنى المسألة، وإن كان كل منهما يستلزم الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة، ثم يكون من أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب من الرزق والنصر والعافية مطلقاً، ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي أهمته، وهذا من رحمة الله بعباده يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية، وقد يفعل العبد ابتداء ما أمر به لأجل العبادة لله والطاعة له ولما عنده من محبته والإنابة إليه وخشيته وامتثال أمره، وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية، وقد قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3 وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ قوله تعالى:

1 سورة المائدة: 35.

2 سورة الإسراء: 57.

3 سورة غافر: 60.

ص: 402

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين، قيل ادعوني أي اعبدوني وأطيعوا أمري أستجب دعاءكم، وقيل سلوني أعطكم، وكلا النوعين حق.

وفي الصحيحين في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النزول: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر". فذكر أولاً إجابة الدعاء، ثم ذكر إعطاء السائل، ثم ذكر إعطاء المغفرة للمستغفر، فهذا جلب المنفعة، وهذا دفع المضرة، وكلاهما مقصود الداعي المجاب، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1.

وقد روي أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

فأخبر سبحانه وتعالى أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ثم أمرهم بالاستجابة له والإيمان به، كما قال بعضهم فليستجيبوا لي إذا دعوتهم، وليؤمنوا بي أني أجيب دعوتهم.

قالوا: وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة بكمال الطاعة لأولهيته، وبصحة الإيمان بربوبيته، فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه حصل مقصوده من الدعاء وأجيب دعاؤه، كما قال تعالى:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 2 أي يستجيب لهم، يقال استجابه واستجاب له، فمن دعاه موقناً أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه، وقد يكون مشركاً وفاسقاً، فإنه سبحانه هو القائل: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ

1 سورة البقرة: 186.

2 سورة الشورى: 26.

ص: 403

كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} 1 وهو سبحانه القائل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} إلى قوله: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} 2 وهو سبحانه القائل: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3 لكن هؤلاء الذين يستجاب لهم- لإقرارهم بربوبيته وأنه يجيب دعاء المضطر- إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعاً في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق، قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} إلى قوله {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} 4 وقد دعا الخليل عليه الصلاة والسلام بالرزق لأهل الإيمان، فقال:{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 5. فليس كل من متعه الله برزق ونصر- إما إجابة دعائه وإما بدون ذلك- يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤالهم في الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق، وقد ذكر أن بعض الكفار من النصارى حاصروا مدينة للمسلمين فنفد ماؤهم العذب فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماء عذب ليرجعوا عنهم، فاشتور ولاة أمر المسلمين وقالوا بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم، فقام أولئك فاستسقوا ودعوا الله فسقاهم، فاضطرب بعض العامة، فقال الملك لبعض العارفين: أدرك الناس، فأمر بنصب منبر له، وقال: اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 6 وقد دعوك مضطرين وأنت

1 سورة يونس: 12.

2 سورة الإسراء: 67

3 سورة الأنعام: 40- 41.

4 سورة الإسراء: 18- 20.

5 سورة البقرة: 126.

6 سورة هود: 6.

ص: 404

تجيب المضطر إذا دعاك فأسقيتهم لما تكفلت به من رزقهم، ولما دعوك مضطرين، لا لأنك تحبهم ولا تحب دينهم، والآن فنريد أن ترينا فيهم آية تثبت بها الإيمان في قلوب عبادك المؤمنين، فأرسل الله عليهم ريحاً أهلكتهم، أو نحو هذا.

ومن هذا الباب من قد يدعو دعاء اعتدى فيه؛ إما بطلب ما لا يصلح، أو بالدعاء الذي فيه معصية لله بشرك أو غيره، فإذا حصل بعض غرضه ظن أن ذلك دليل على أن عمله صالح بمنزلة من أملي له وأمد بالمال والبنين فظن أن ذلك مسارعة له في الخيرات، قال تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} 1 وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 2 وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3 والإملاء إطالة العمر وما في ضمنه من رزق ونصر، وقال تعالى:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} إلى قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 4 وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 5.

والمقصود هنا؛ أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة لله يثاب العبد عليه في الآخرة مع ما يحصل له في الدنيا، وقد يكون دعاء مسألة تقضى به حاجته، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سبباً لضرر دينه فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله تعالى وتعداه من حدوده، فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه

1 سورة المؤمنون: 55- 56.

2 سورة الأنعام: 44.

3 سورة آل عمران: 178.

4 سورة القلم: 44- 45.

5 سورة الأعراف: 55.

ص: 405

بالأعمال الصالحة التي أمر بها وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته.

ومن هذا الباب، استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره. وقول عمر رضي الله عنه:"إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا". معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به أنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعض الناس أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون: نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثاً موضوعاً:"إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض"1. فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كما ذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك بعد موته ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره.

وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله:"أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر:"كنا نتوسل إليك بنبينا" فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال:"يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه فيّ". فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه، وقوله:"يا محمد يا نبي الله ". هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما يقول

1 انظر "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(رقم: 22) .

ص: 406

المصلي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.

فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، يراد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له مطيعاً لأمره مقتدياً به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته فلا يكون التوسل لا بشيء منه ولا بشيء من السائل بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه.

وكذلك لفظ السؤال بشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب وقد يراد به الإقسام.

ومن الأول: حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما "فإن الصخرة انطبقت عليهم، فقالوا: "ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله، فقال أحدهم: اللهم إنه كانت لي بنت عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وأنها طلبت مني مائة دينار، فلما أتيتها بها قالت: يا عبد الله" اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فتركت الذهب وانصرفت، فإن كنت إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا" فانفرجت لهم فرجة رأوا منها السماء.

وقال الآخر: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنآ بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقاً فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فافنرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.

وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم، غير رجل

ص: 407

واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجرته حتى كثرت منه أموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله؟ أد إلي أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله؛ لا تستهزىء بي. فقلت: إني لا أستهزىء بك. فأخذه كله، فاستاقه فلم يترك منه شيئاً؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه؛ فافنرجت الصخرة، فخرجوا يمشون" 1.

فهؤلاء دعوا الله سبحانه بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى ويتوجه به إليه ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله قال تعالى:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 2 وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3 وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح وسؤاله والتضرع إليه.

ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال: بحبي إياك إلا فرجت عني ففرج عنه.

وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ولدها لما قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك، وهاجرت في سبيلك. وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك.

وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} إلى قوله: {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 4.

1 أخرجه البخاري (2215، 2272، 2333، 3465، 5974) ومسلم (2743) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

2 سورة الشورى: 26.

3 سورة غافر: 60.

4 سورة آل عمران: 193- 194.

ص: 408

فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه وفعل ما يحبه من العبودية والطاعة هو من جنس فعل ذلك رجاء لرحمة الله وخوفاً من عذابه، وسؤال الله بأسمائه وصفاته- كقوله:"أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان بديع السموات والأرض، وأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" ونحو ذلك- يكون من باب التسبب، فإن كونه المحمود المنان يقتضي منته على عباده وإحسانه الذي يحمد عليه، وكونه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد يقتضي توحده في صمديته، فيكون هو السيد المقصود الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم المستغني عما سواه، وكل ما سواه مفتقرون إليه لا غنى بهم عنه، وهذا سبب لقضاء الحاجات والمطلوبات، وقد يتضمن معنى ذلك الإقسام عليه بأسمائه وصفاته.

وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب؛ فإن حق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به والتوجه به والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:" أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله عير مخلوق، ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق". قالوا: والاستعاذة لا تكون بمخلوق فأورد بعض الناس لفظ المعافاة، فقال جمهور أهل السنة المعافاة من الأفعال.

وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم يقولون: إن أفعال الله قائمة به، وإن الخلق ليس هو المخلوق، وهذا قول جمهور أصحاب الشافعي وأحمد ومالك، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وقول عامة أهل الحديث والصوفية

ص: 409

وطوائف من أهل الكلام والفلسفة، وبهذا يحصل الجواب عما أوردته المعتزلة ونحوهم من الجهمية نقضاً، فإن أهل الإثبات من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق، بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره، واتصف به ذلك المحل لا غيره، فإذا خلق الله لمحل علماً أو قدرة أو حركة أو نحو ذلك كان هو العالم به القادر به المتحرك به، ولم يجز أن يقال إن الرب المتحرك بتلك الحركة، ولا هو العالم القادر بالعلم والقدرة المخلوقين بل بما قام به من العلم والقدرة، قالوا فلو كان قد خلق كلاماً في غيره كالشجرة التي نادى منها موسى لكانت الشجرة هي المتصفة بذلك الكلام، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى {إنني أنا الله} ولكان ما يخلقه الله من إنطاق الجلود والأيدي وتسبيح الحصى وتأويب الجبال وغير ذلك كلاماً له كالقرآن والتوراة والإنجيل، بل كان كلام في الوجود كلامه لأنه خالق كل شيء، وهذا قد التزمه مثل صاحب الفصوص وأمثاله من هؤلاء الجهمية الحلولية والاتحادية، فأوردت المعتزلة صفات الأفعال كالعدل والإحسان، كأنه يقال إنه عادل محسن بعدل خلقه في غيره وإحسان خلقه في غيره، فأشكل ذلك على من يقول ليس لله فعل قائم به، بل فعله هو المفعول المنفصل عنه وليس خلقه إلا مخلوقه.

وأما من طرد القاعدة وقال أيضاً إن الأفعال قائمة به ولكن المفعولات المخلوقة هي المنفصلة عنه وفرق بين الخلق والمخلوق فاطرد دليله واستقام.

والمقصود هنا؛ أن استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافاته من عقوبته- مع أنه لا يستعاذ بمخلوق- كسؤال الله بإجابته وإثابته وإن كان لا يسأل بمخلوق، ومن قال من العلماء لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا به، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وفي لفظ للترمذي: "من حلف بغير الله فقد أشرك" قال الترمذي حديث حسن.

ومع هذا فالحلف بعزة الله ولعمر الله ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 410

الحلف به، لم يدخل في الحلف بغير الله، لأن لفظ الغير قد يراد به المباين المنفصل، ولهذا لم يطلق السلف وسائر الأئمة على القرآن وسائر صفات الله أنها غيره ولا أنها ليست غيره، لأن لفظ الغير فيه إجمال قد يراد به المباين المنفصل فلا يكون صفة الموصوف أو بعضه داخلاً في لفظ الغير، وقد يراد به ما يمكن تصوره دون تصور ما هو غير له فيكون غيراً بهذا الاصطلاح، ولهذا تنازع أهل النظر في مسمى الغير، والنزاع في ذلك لفظي، ولكن بسبب ذلك حصل في مسائل الصفات من الشبهات ما لا ينجلي إلا بمعرفة ما وقع في الألفاظ من الاشتراك والإبهامات، كما قد بسط في غير هذا الموضع، ولهذا يفرق بين قول القائل:(الصفات غير الذات) وبين قوله: (صفات الله غير الله) . فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى اسم الله يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات، ولهذا لا يقال: صفات الله زائدة عليه؛ وإن قيل الصفات زائدة على الذات، لأن المراد هي زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات، والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، فليس اسم الله متناولاً لذات مجردة عن الصفات أصلاً، ولا يمكن وجود ذلك، ولهذا قال أحمد في مناظرته للجهمية: لا نقول الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

وأما قول الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ:{تَسَّاءَلونَ بهِ والأرحَامِ} 1 فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره توسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم والصلاة عليهم.

ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كنت إذا سألت علياً

1 وهي قراءة نافع وشعبة وأبي جعفر وابن عامر ويعقوب وابن كثير. وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالتخفيف (تسَاءلون) .

ص: 411

شيئاً فلم يعطنيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه؛ فيعطينه، أو كما قال.

فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من قولهم: أسألك بحق أنبيائك ونحو ذلك، وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث:"إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي"1. وقوله: "إن من برهما بعد موتهما الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما".

ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر، ولكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره، لكن بين المعنيين فرق، فإن السائل بالنبي طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه أو كان مما لا يقسم به كان باطلا، وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم للمقسم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار المقسم، وفي مثل هذا قيل:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" 2، وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به.

فالأول؛ يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحظر والمنع.

والثاني؛ سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ودعائه وحقه، فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حسن السؤال كسؤوال الإنسان بالرحم.

ومن هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم.

وأما بمجرد الأنبياء والصالحين ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم ورعايته لحقوقهم التي أنعم بها عليهم فليس فيها ما يوجب حصول مقصود السائل إلا

1 أخرجه مسلم (2552) .

2 أخرجه البخاري (2703، 2806، 499، 4500، 4611، 6894) ومسلم (1675) .

ص: 412

بسبب بين السائل وبينهم، أما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك، وأما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه.

والتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم، وإما بدعائهم وشفاعتهم، فمجرد دعائه بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له لا ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى، وقد بسطت هذه المسائل في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا؛ أنه إذا كان السلف والأئمة قالوا في سؤاله بالمخلوق ما ذكر فكيف بسؤال المخلوق الميت، سواء سئل أن يسأل الله أو سئل قضاء الحاجة ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس إما عند قبر الميت، وإما مع غيبته.

وصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حسم المادة، وسد الذريعة، بلعنه من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأن لا يصلي عندها لله، ولا يسأل إلا الله، وحذر أمته ذلك، فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك وأسباب الشرك؟

كل هذا نقلناه من كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" ومنه علم ما اشتمل عليه الشعر الذي أورده النبهاني، فإن جميعه قد اشتمل على القسم الذي فيه محذور، بل بما فيه شرك ظاهر، كقول عبد الرحيم البرعي مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم:

مولاي مولاي فرج كل معضلة

عني فقد أثقلت ظهري الخطيئات

عد علي بما عودتني كرماً

فكم جرت لي بخير منك عادات

وامنع حماي وهب لي منك تكرمة

يا من مواهبه خلد وخيرات

واعطف علي وخذ يا سيدي بيدي

إذا دهتني الملمات المهمات

وكقول الشاب الظريف:

فيا خاتم الرسل الكرام ومن به

لنا من مهولات الذنوب تخلص

أغثنا أجرنا من ذنوب تعاظمت

فأنت شفيع للورى ومخلص

وقول القلقشندي:

ص: 413

أنت الذي لم يخف في الناس قاصده

وليس عندك تسويف وتسويل

قصدت جاهك لا أرجو سواك ولي

في باب عزك ترديد وتطفيل

وقال محمد البكري الكبير من أبيات:

يا أكرم الخلق على ربه

وخير من فيهم به يسأل

قد مسني الكرب وكم مرة

فرجت كرباً بعضه يذهل

وقال الشيخ عبد الرحمن الدمشقي من أبيات:

أقلني مما فيه أمسيت واهناً

ونفسي بقيد الكرب أمست مكبله

وعجل بكشف الضر عمن لك التجا

لأن الضنا قد هاض ظهري وأثقله

انظر إلى قوله: وعجل بكشف الضر إلخ

والله سبحانه وتعالى يقول:

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُو} 1. وهكذا كثير من الأبيات التي أوردها النبهاني كما لا يخفى على من راجع كتابه، ولا بدع فهو المبتدع الذي ختم الله على قلبه.

الوجه الخامس: إن أجل من تمسك بشعره النبهاني؛ الصرصري، والبوصيري، وأما غيرهما- كالبرعي، والوتري، والشهاب، وأمثالهم- فليسوا من المعروفين بعلم ولا دين، ولا زهد ولا فضيلة، ولا شيء يذكر.

والصرصري والبوصيري اعترض أهل العلم ومن له بصيرة في الدين على ما كان في شعرهما من الغلو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقول الصرصري في قصيدته اللامية التي استشهد بأبيات منها النبهاني:

يا رسول الله يا من مدحه

في القوافي أقوم الألفاظ قيلا

مسني ضر عناه ثابت

من ذنوب غادرت قلبي كليلا

أنا منها تائب مستغفر

فاسأل الرحمن لي صبراً جميلا

1 سورة يونس: 107.

ص: 414

وقوله:

لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة

إليه بها في الحادثات تنصل

وقوله:

وتسأل رب العالمين بميتة

على السنة البيضاء غير مبدل

إلى غير ذلك مما قاله في قصائده المشهورة كقوله: وأنت على كل الحوادث لي ولي.

وقوله: على تربها خديك عفر.

وقد استشهد بكثير من شعره النبهاني في كتابه.

وكذلك البوصيري حيث يقول في همزيته:

يا أبا القاسم الذي ضمن أقسا

مي عليه مدح له وثناء

الأمان الأمان إن فؤادي

من ذنوب أتيتهن هواء

إلى آخر ما أورده النبهاني منها، وقال أيضاً:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

وقد ذكر الشيخ تقي الدين أن شعر يحيى الصرصري وقع فيه من الغلو والإطراء ما لا ينبغي أن يصدر مثله في حق مخلوق، وأنكر على من استغاث بغير الله أو دعاه.

قال رحمه الله في رده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة: "وإنه حرف الكلم عن مواضعه، وتمسك بمتشابهه وترك المحكم، كما يفعله النصارى، وكما فعل هذا الضال- يعني ابن البكري- أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه فالمستغيث به مستغيث

ص: 415

بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، فدخل عليه الخطأ من وجوه.

منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغاثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازاً مع دعواه الإجماع على ذلك. فإن المستغاث هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به.

الثاني: ظنه أن توسل الصحابة في حياته كان توسلاً بذاته صلى الله عليه وسلم لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك وهذا غلط.

الثالث: أنه أدرج السؤال أيضاً في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة لكن أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيي الصرصري، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان له كتاب المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها.

وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم- ولهم فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر خطا إلى الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل مشابهة لعباد الأصنام"انتهى.

وقال رحمه الله في أثناء كلام له: "ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم

ص: 416

يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن بها، وقال هذا أصل دين الإسلام، وإن بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينت لنا، لعلمه أن هذا أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعون دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عباداتهم لله فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى أن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف الضر، وقال بعض الشعراء:

يا خائفين من التتر

لوذوا بقبر أبي عمر

أو قال:

عوذوا بقبر أبي عمر

ينجيكم من الضرر

فقلت لهم: إن هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك الرمة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين والاستغاثة بالله، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك، لما صح من تحقيق التوحيد لله وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" انتهى ما هو المقصود من كلامه رحمه الله.

ولم يقتصر فيه على مجرد الإنكار بل جعله شركاً وكفراً بعد قيام الحجة والعلم بكفر فاعله، وجعله من ضرورات الدين، بل جعله أصل الدين، وجعل

ص: 417

وجود هذا الشرك مانعاً من القتال الشرعي وسبباً للهزيمة وعدم النصر، فأي إنكار أبلغ من هذا؟

وقد أنكر الشيخ شعر الصرصري، ونص على أنه يقع منه ما لا يسوغ ولا يجوز، على أن بعضهم أول بعض أقواله فقال: لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة. ليس فيه استغاثة كما زعم من استشهد به على ذلك، بل المقصود أنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين العباد وبين الله تعالى في إبلاع شرعه ودينه، وبيان ما يحب ويرضى، وما يكرهه وعنه ينهى، فهو وسيلة لمن سار على سبيله وتمسك بهديه وقبله، وقوله:

سل الله رب العالمين يميتني

على السنة البيضاء غير مبدل

ليس صريحاً في أن السائل لله هو النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يحتمل أنه أراد سل أيها المذنب وأيها العبد ولكنه التفت عن التكلم إلى الخطاب وإحسان الظن بمثله أولى.

وأما قوله: وأنت على كل الحوادث لي ولي. فالمراد أنه يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولاه على كل الحوادث في اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والضيق والسعة، لا يوالي غير أولياء الله، قال تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 1 فليس المراد بالولي المستغاث المعبود، فإن هذا فهم جاهلي شركي، وأهل الإسلام يفهمون من موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبته، وتعزيره، وتوقيره، وطاعته، والتسليم لأمره، والوقوف عند نهيه، وتقديم قوله على قول كل أحد، هذه موالاة أهل الإسلام.

لكن يبقى باقي الأبيات التي استشهد بها النبهاني من شعر الصرصري فإن تأويلها مشكل.

1 سورة المائدة: 55- 56.

ص: 418

وصنف الشيخ رحمه الله أيضاً مجلداً في حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين، وقرر أدلة المنع من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، وأكثر الكلام في المنع من هذا.

قال رحمه الله تعالى: "ومما يبين حكمة الشريعة وأنها كسفينة نوح أن الذين خرجوا عن المشروع خرجوا إلى الشرك، وطائفة منهم يصلون ويدعو أحدهم الميت فيقول اغفر لي وارحمني، ومنهم من يستقبل القبر ويصلي إليه مستدير الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً، وهو شيخ متبوع، فلعله أمثل أصحاب شيخه يقوله عن شيخه، وأخرج من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، وأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد، وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتباً وسموها مناسك حج المشاهد، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموها منسكاً وحجاً، فالمعنى واحد.

وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والصلاح صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة وجعل هذا من مناقبه.

وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض الشيوخ- ممن يقصده بعض العلماء والقضاة قيل عنه أنه كان- يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبله الذي بالهند، الذي للمشركين، لأنه يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق.

قال: وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال: أريد أن أسلك على يديك، فقال له: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له:

ص: 419

واليهود والنصارى ليسوا كفاراً، قال: لا تشدد عليهم ولكن الإسلام أفضل.

ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات، يسافرون إليها وقت الموسم فيعرفون بها كما يفعل بالمغرب والمشرق.

وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله، فليسوا على ملة إبراهيم.

والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح ولكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم- وله فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس، وهؤلاء مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرس، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، فإن الشياطين تتمثل لهم، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال المقام".

ثم قال "حاكياً عن البكري الذي صنف في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم: "وقد طاف هذا بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقون، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه، مع أن قوماً كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياماً عظيماً، واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم" انتهى.

فتأمل هذا الكلام فإنه يستبين منه ضلال النبهاني وأضرابه من الغلاة، وقد صرح شيخ الإسلام أن السنة كسفينة نوح، ومعلوم أن دعاء الأنبياء ليس من السنة، بل هو من البدع الشركية.

ومنها: أن بعضهم أفضى به ذلك إلى أن يصلي للميت ويقول اغفر لي وارحمني وهذا جائز عند النبهاني وإخوانه من عباد القبور سائغ لا ينكر.

ص: 420

ومنها: أن بعض المستغيثين يعكف على القبر عكوف أهل التماثيل وهذا واقع منهم أيضاً وهذا من لوازم قولهم بجواز الاستغاثة.

ومنها: أن جمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادتها من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد.

ومنها: أن بعضهم يحج إلى القبور، وهذا عند النبهاني ومن على شاكلته من الفضائل التي لا تنكر.

ومنها: إنكار الشيخ على من صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وأن هذا المصنف حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وفاعل ذلك عند الغلاة أفضل من الحاج.

ومنها: أن ذلك أفضى ببعضهم إلى أن قال: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والصنم الذي في الهند، وبعضهم لا يرى ذلك للصنم الذي في الهند ويراه لمن يعتقده وما يتأله به من المشايخ.

ومنها: أن بعضهم يعرف عند مقابر الشيوخ كما يفعل بعرفة، وإن هذا وقع في المغرب والمشرق.

ومنها: أن الشيخ نفى العلم عمن يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم، كالصرصري وابن النعمان، وأنهم جروا على عادة العامة الذين يستغيثون بالمشايخ في الشدائد ويدعونهم.

ومنها: أن من له فضل وعلم وزهد قد يقع منه الشرك والاستغاثة بغير الله، وأن مستندهم مع العادة قول طائفة قبر معروف أو غيره ترياق مجرب.

ومن المعلوم أن هذا القول صدر عن غير معصوم، وجمهور أهل العلم والإيمان قد ردوه وأنكروا على فاعله، وقد مضى فيما مر من عبارات شيخ الإسلام أن هذا لا يعرف في عهد القرون المفضلة، وكفى بهذا ذماً.

ومنها: قوله إن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى

ص: 421

بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة، أو الأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، فجزم بأن قضاء الحوائج قد يحصل لعباد الملائكة، أو الأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، ولو حكى الوقائع الموجودة في زمانه لطال المقام.

ومنها قول الشيخ وهو ثقة فيما يحكيه بالإجماع أن علماء مصر لم يوافقوا من صنف في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأبوا أن يخالفوا ما كتبه شيخ الإسلام من المنع، فالحمد لله لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده الصالحون.

وأما ما انتقده أهل العلم والدين على كلام البوصيري فكثير جداً، من ذلك قوله:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

قال العلامة الشيخ عبد اللطيف في كتابه (منهاج التأسيس) : إن قول البوصيري هذا أشنع وأبشع من قول الصرصري، لما تضمنه من الحصر، ولما فيه من اللياذ بغير الله في الخطب الجلل، والحادث العمم، وهو قيام الساعة، وقد قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1.

فدعاء غير الله في الأمور العامة الكلية أبشع من دعاء غيره في الأمور الجزئية، ولذلك أخبر أن عباد الأصنام لا يدعون غيره عند إتيان العذاب أو إتيان الساعة التي هي الحادث العمم.

وأما من قال من الغلاة في الاعتذار عنه أن مقصوده الشفاعة والجاه فهذا لا يفيده شيئاً، لأن عامة المشركين إنما يقصدون هدا ولم يقصد الاستقلال إلا معطلة الصانع، وعامة المشركين إنما قصدوا الجاه والشفاعة كما حكاه القرآن في غير

1 سورة الأنعام: 40.

ص: 422

موضع. وأما قول الغلاة وتلبيسهم بأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الشفاعة يوم القيامة، وأنزل عليه {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1 فهذا تلبيس منهم وتشبيه على من لا يدري الحقائق ولم يتفطن لمسألة النزاع، فإن الخصومة والنزاع في طلب الشفاعة أو غيرها من الشفعاء في حال مماتهم وقصدهم لذلك ونحوه من المطالب المهمة.

وأما حصول الشفاعة وسؤاله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهذا لا ينكر، وهو من جنس ما كان يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته فلم يعرف عن أحد من أصحابه ولا عن أئمة الإسلام بعدهم أنه دعاه وطلب منه شفاعة أو غيرها، وإنما فعله بعض الخلوف الذين لا يرجع إليهم في مسائل الأحكام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ومن ذلك قول البوصيري أيضاً في قصيدته البردة في شأن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم:

لو ناسبت قدره آياته عظماً

أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم

يقول: لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند الله تعالى وكمال قربه وزلفاه عنده؛ لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره، حيث يتيمن به في الدعوات، ويتوصل به في المهمات، وذلك لأن الملوك المجازية إذا توسل عندهم باسم من له قرب ومكانة لديهم وتوصل بذكره لقضاء المآرب وإنهاء المطالب يقضون الأوطار الرفيعة تنويهاً بذكره وتنبيهاً على قدره، فمالك الملوك وإن كان أحق بذلك وأولى لكن حكمته ما اقتضته صونا للضعفة عن المداحض، وعوناً على العوام في مزالق الأقدام، وخص إحياء الموتى لكونه أرفع المطالب وأنفعها، ولأنه كما أحيى ببركة المسمى موتى القلوب والأرواح، فالمناسب أن يحيي ببركة الاسم تلك العظام والأشباح، انتهى ما قاله بعض شراح هذه القصيدة.

1 سورة الإسراء: 79

ص: 423

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو، فإن من جملة آياته صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم الشأن، وهو الكتاب الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1. وهو الكتاب الذي أنزله نوراً وجعله مهيمناً على كل كتاب، وهو الكتاب الذي أنزله وفضله على كل حديث قصه، وجعله فرقاناً فرق به بين الحلال والحرام، وقرآناً أعرب به عن شرائع الأحكام، وكتاباً فصله لعباده تفصيلاً، ووحياً أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تنزيلاً، وجعله نوراً يهتدى به من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه، وشفاء لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه، وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته، وكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو منحط عن قدره! وهو كلام الله وكلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود.

ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لم تحيي دارس الرمم فههنا أمران عظيمان: انحطاط قدر القرآن الذي هو صفة من صفات الله عن قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المناسب لقدره أن يحصي اسمه حين يدعى دارس الرمم، وليس هذا بجائز عند أحد من فرق المسلمين فضلاً عن أهل السنة، فإنه ليس وراء هذا الغلو غلو أعظم منه، ولهذا ذهب المتعصبون للناظم في كل واد من أودية التأويل.

ففي كتاب "غرائب الاغتراب": أن مما جرى البحث عنه بيت البوصيري هذا وهو مشكل، وأمر معضل، فإن مقتضى لو وكون القرآن داخلاً في آياته صلى الله عليه وسلم أن لا يكون القرآن العظيم مناسباً قدره عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم، وذلك مما لا يكاد يقال، لما أن القرآن كلام الملك المتعال.

ثم أجاب بأجوبة غير مرضية، إلى أن قال: الجواب يتوقف على تحقيق

1 سورة فصلت: 42.

ص: 424

المراد بالقرآن الذي لا يسوغ أن يفضل عليه النبي أو أي إنسان أهو الكلام النفسي الذي هو من صفاته تعالى الذاتية؟ أم الكلام اللفظي الذي ذهب إلى أنه مخلوق- كالمعتزلة- معظم الأشاعرة والماتريدية، فإن كان الأول فالقول به غير مناسب قطعاً، بل هو باطل بلا شبهة عقلاً وسمعاً وإن كان الثاني فالقول بعدم مناسبة عدم المناسبة مما تتردد فيه الأذهان، لقول معظم أهل السنة أنه عليه الصلاه والسلام أفضل المخلوقات ما يكون أو كان. وحيث أن البوصيري عبر بالآيات أي المعجزات أراد بالقرآن المعنى الثاني من المعنيين، إذ الكلام النفسي ليس بمعجزة، ولم يتحد به سيد الكونين، والظاهر أنه أشعري يقول: إن الكلام اللفظي مخلوق، ضرورة اشتماله على بداية ونهاية وسابق ومسبوق، وأنه ممن يفضل النبي عليه الصلاة والسلام على جميع المخلوقات، ممن مضى منهم ومن هو آت، فقد قال وأحسن في المقال:

فمبلغ العلم فيه أنه بشر

وأنه خير خلق الله كلهم

إلى أن قال: وأنا أقول الآن مستعيناً بالملك المنان، قد ظفرت بنحو ما ذكرته في مختصر شرح المرزوقي للقصيدة، ونصه- بعد كلام في هذا البيت-: قال الشارح: لم يزل الناس يعترضون هذا البيت لاقتضائه أن ليس فيما أعطيه صلى الله عليه وسلم من الآيات ما يناسب قدره، لأن (لو) حرف امتناع لامتناع، أي امتنعت الخاصة المذكورة لامتناع أن يناسب قدره العظيم شيء من آياته صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل فإن من آياته القرآن العظيم، وهو كلام الله تعالى، والكلام صفة، وشرف الصفة بشرف الموصوف.

ثم قال: وعنه أجوبة. وأقول: السؤال مغاطة، فإن القرآن يراد به كلام الله الذي هو صفة الذات وهو لمعنى القائم به، وهذا لم يعطه صلى الله عليه وسلم، لأن الذي أعطيه معجزة والمعجزة فعل لله تعالى خارق للعادة وهو غير صفة الذات، ويراد به أيضاً الحروف الملفوظة والأصوات المسموعة، وهذا هو الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم، وهو المعجزة، وإطلاق القرآن عليه بمعنى القراءة، ومدلولها المعنى القائم بالذات، وإطلاق القرآن على الحروف والأصوات شائع، وحينئذ لا نسلم أن تكون الحروف

ص: 425

والأصوات مناسبة لقدره عليه الصلاة والسلام، انتهى.

فانظر إلى هذا الجواب الركيك، والقول بالكلام النفسي قد بين بطلانه في غير هذا الموضع.

والمقصود؛ أن من أشهر من استشهد النبهاني الزائغ بشعره الصرصري والبوصيري وقد سمعت ما قال أهل العلم فيهما، فالباقون على هذا القياس فلا حاجة إلى أن نتعب القلم.

أحسن ما في خالد وجهه

ووجهه الغاية في القبح

الوجه السادس: أن من الغلاة من اعتذر عن هؤلاء الشعراء وغيرهم ممن دعا غير الله وطلب منه حوائجه ومقاصده، قال: إن أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية لا يقولون بتأثير الأسباب ولا بالتعليل، فلا مؤثر في الوجود إلا الله، والتأثير إنما هو عند الأسباب لا بها، فإذا طلب أحدهم شيئاً من نبي أو ولي فالله هو المعطي لمن سأل عند الطلب، ومن أسند التأثير لغير الله فقد أشرك، فمن استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم كالبوصيري والصرصري وسائر من استشهد بشعره النبهاني لا لوم عليهم، فإن ما ذكر مقصودهم.

وسمعت من بعض أغباء الغلاة وجهلتهم من أهل الثياب المعلمة والأقفاء المورمة والألقاب المفخمة قال: مررت أثناء سفري إلى الحجاز على جبل حائل وأهله من عرب نجد على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأميرهم يومئذ محمد آل رشيد، قال الأمير: إن أهل بلادكم يغالون في الصالحين بما لا يرضى الله به، ويبنون على قبورهم المساجد والمشاهد، ويوقدون السرج، إلى غير ذلك من البدع، ثم إنهم يندبونهم في المهمات ويستغيثون بهم عند طلب الحاجات، وكل ذلك وأمثاله مما لا يرضى به الله ولا رسوله ولا أهل العلم والدين، فإنه من أفعال مشركى العرب في الجاهلية، بل هو أدهى وأمر، قال: فقلت للأمير- والله يعلم أنه من الكاذبين- إن أهل بلادنا يقولون عنكم وعمن يسلك مسلككم من عرب نجد وغيرهم إنكم مشركون، قال فبهت الأمير من هذا الكلام واستعظمه، ثم قال: ولم

ص: 426

يقولون عنا أنا مشركون ونحن من أخلص الناس توحيداً له سبحانه؟! قال: فقلت له: إن أهل بلادنا لا يثبتون للأسباب تأثيراً، وأنتم تثبتون التأثير والعلل والحكم والمصالح، فإذا كان الأمر كذلك فقد أشركتم مع الله مؤثراً في الوجود، وهذا هو الشرك الأكبر، قال: وأما أصحابنا فعندهم أن السكين عند إمرارها على شيء لا تقطع بل يخلق الله القطع عند ذلك، وليس في الماء قوة الري مودعة فيه بل الري يخلق عند شربه لا به، والنار ليست بمحرقة بل الإحراق عندها لا بها، والعين ليست بمبصرة والأذن ليست بسامعة بل الإبصار والسماع عندهما لا بهما، وهكذا في جميع ما يعتقد أنه سبب في الظاهر. فإذا قال القائل مستغيثاً بأحد من الأموات: يا فلان افعل كذا وكذا فالمقصود الطلب من الله أن يقضي حاجته.

وبعد أن فرغ من هذا الهذيان وسكت، قلت له: فما أجابك الأمير؟ قال: لم يجبني بشيء، فقلت: كان ينبغي أن يجيبك ويسألك من قال هذا الكلام الذي ذكرته؟ وعمن نقلته؟ وأي دليل لك عليه من الكتاب والسنة وسلف الأمة، وينبغي على قولك هذا أن يطلب من المخلوق كل شيء يطلب من الخالق، وينبغي أن لا يعترض على عبدة الأصنام وطلبهم من أصنامهم ما يطلب من الله، فإنهم أيضاً كانوا يعتقدون أن أصنامهم وسائط ووسائل وشفعاء، وكانوا يقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ونحو ذلك من الكلام، وإذا سئلوا من يرزقكم ومن خلق السموات والأرض ليقولن الله.

وقد سبق في هذا الكتاب في عدة مواضع بيان ذلك، وأن كلام الغلاة هذا وكلام عبدة الأصنام من واد واحد، وقد تشابهت قلوبهم، وأوردت له عدة آيات ونصوص في إثبات الحكمة والتعليل، وأن الله هو خالق السبب والمسبب، وأن هذا هو ما اقتضاه الكتاب والسنة وكلام السلف، فلم يزده ذلك إلا نفوراً واستكباراً عن قبول الحق، فإنه كان من قوم ظروفهم من الظرف خالية، وغرفهم من العقل خاوية، وصحنهم من العلوم بيضاء صافية، وجيفهم فوق الماء طافية، في الأنعام، لا في الأنام، ومثله بلاء على الإسلام.

ص: 427

وقد بسط الكلام على مسألة الأسباب العلامة الحافظ الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية في كتابه (شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل) قال في أثناء كلامه: "إنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعاً وقدراً، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي، وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل سبحانه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطاً بالأسباب قائماً بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، بل الموجودات كلها أسباب ومسببات، والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات، والقدر جار عليها متصرف فيها، فالأسباب محل الشرع والقدر، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، كقوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1 {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} 2 {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} 3 {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 4 وسرد آيات كثيرة، إلى أن قال: وهذا أكثر من أن يستوعب.

وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء، وهو أكثر من أن يستوعب كقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} 5 وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 6.

وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله بحرف أفاد التسبب وقد تقدم،

1 سورة السجدة: 14.

2 سورة يونس: 52.

3 سورة الحج: 10.

4 سورة الشورى: 35.

5 سورة الأنفال: 29.

6 سورة إبراهيم: 7.

ص: 428

وكل موضع ذكرت فيه الباء تعليلاً لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب، وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا، أفاد التسبب، فإن العلة الغائية علة للعلة الفاعلية، ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة، ويكفي شهادة الحس والعقل والفطر، ولهذا قال من قال من أهل العلم تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لملائكته وعباده، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد، فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسوله وتنزيهه عن كل كمال، ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل، ونظير من نزه الله في أفعاله وأن يقوم به فعل البتة، وظن أنه ينصر بذلك حدوث العالم وكونه مخلوقاً بعد إن لم يكن، وقد أنكر أصل الفعل والخلق جملة، ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب، فإذا رأي العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إلا بإبطال الأسباب ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به، وأنت لا تجد كتاباً من الكتب أعظم إثباتاً للأسباب من القرآن.

ويالله العجب! إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم وإغراق الماء على كليمه وقومه، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها، وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد؟ وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه؟

ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق والماء لا يغرق والخبز لا يشبع والسيف لا يقطع ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ولا هو سبب لهذا الأثر وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا

ص: 429

لكذا- قالوا هذا هو التوحيد، وإفراد الرب بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به، كما تراه عياناً في كتبهم ينفرون به الناس عن الإيمان، ولا ريب أن الصديق الجاهل قد يضر مالا يضره العدو العاقل، قال تعالى عن ذي القرنين:{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} 1 ثم ذكر تفسير الآية وذكر آيات أخر، وشفى بذلك صدور المؤمنين، ومن أراد الوقوف على تفصيل ذلك فليراجع هذا الكتاب.

والمقصود؛ أن قول ذلك الزائغ الذي أجراه مع أمير الجبل هو كذب لا أصل له، وإني أعلم أنه من أكذب الناس وأكثرهم رياء، وأنه لو كان صادقاً فيما نقله فالكلام مع العوام لا يترتب عليه شيء، وأن مسألة الأسباب سواء قلنا فيها بقول السلف أم لا، لا تعلق لها مع الدعاء والعبادة، فإن ذلك من خصائص الله تعالى باتفاق العقلاء وأهل المعرفة، وأن الأشاعرة القائلين بعدم تأثير الأسباب لا يقولون بجواز عبادة غير الله، فلا يسجد لغير الله، ولا يذبح لغير الله، ولا ينذر لغير الله، ولا يحلف بغير الله، ولا يستغاث ولا يستعان بغير الله.

وكل هذا يفعله قوم ذلك الزائغ فما حجتهم في هذا العمل الباطل؟ فليجب عن هذا ثم ليفتخر بما كان منه مع أمير حائل العامي، وأنه يتبجح بإلزامه وإفحامه، ألا لعنة الله على الكاذبين.

الوجه السابع: أن الشعراء الذين أورد النبهاني من شعرهم في الاستدلال على جواز الاستغاثة بغير الله والاحتجاج على مشروعية دعاء سواه سبحانه- بل كل من كان على هذا المنهج من الغلاة- فهو إما من القائلين بالحلول والاتحاد وهو الذي سوغ له ذلك الدعاء والالتجاء إذ الكل واحد، وعلى ذلك قول قائلهم:

وتلتذ إن مرت على جسدي يدي

لأني في التحقيق لست سواه

1 سورة الكهف: 84.

ص: 430

وقال آخر:

الرب عبد والعبد رب

يا ليت شعري من المكلف

وعندهم الوجود واحد، ولذلك قال من قال سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها، فإذا كان الله عين كل شيء فله أن يعبد كل شيء إذ هي عين الحق، وفي كتاب فصوص الحكم ما تقشعر منه جلود المؤمنين.

قال شرف الدين إسماعيل المعروف بابن المرقىء من قصيدة:

فقال بأن الرب والعبد واحد

فربي مربوب بغير تغاير

وأنكر تكليفاً إذ العبد عنده

إله وعبد فهو إنكار حاير

وخطأ إلا من يرى الخلق صورة

وهوية لله عند التناظر

وقال يحل الحق في كل صورة

تجلى عليها وهو إحدى المظاهر

وأنكر أن الله يغني عن الورى

ويغنون عنه لاستواء المقادر

إلى آخر ما قال. والقصيدة طويلة في ديوانه، وهو الذي قال ما قال الشيخ محيي الدين الذي يقول:

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

والمقصود؛ أن من يذهب مذهب الغلاة في أهل القبور فريقان:

(الفريق الأول) من يقول بالاتحاد والحلول، إذ لا فرق حينئذ بين الخالق والمخلوق، ولا بين التراب ورب الأرباب، ومنهم النبهاني الزائغ على ما أشعر كلامه واعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من المسلك، وقد ذكرنا ذلك أول الكتاب، ومثله كثير ممن أورد شعره.

(الفريق الثاني) الجهال بحقائق الدين ودقائقه، وهم أكثر من نقل النبهاني شعره، فهم لا يعلمون ما في كلامهم من المحاذير، ولو نبهوا عليها لانتبهوا، وهم في شعرهم وما قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد رأينا من يعمل في قبور الأصفياء ما يعمل من المنكرات والأعمال التي لم تشرع

ص: 431

كلهم من العوام وإن كان في زي العلماء الأعلام، فبطل جميع ما استشهد به من الشعر والحمد لله.

قال النبهاني: إن الشيخ محمد الأمير الكبير صاحب الثبت المشهور قد أجازني بثبته، وما اشتمل عليه من علوم الشريعة والطريقة، ومن كل معقول ومنقول شيخي الإمام العلامة الشيخ إبراهيم السقا المصري، عن الشيخ محمد الأمير الصغير، عن والده الأمير الكبير المذكور، ثم ذكر سنده بالطريقة الشاذلية إلى أن أوصلها إلى جبريل، عن إسرافيل، عن عزارئيل، عن اللوح، عن القلم، عن الجليل جل جلاله، ثم ذكر له إجازة أخرى من هذا القبيل.

ثم أردفها بتنبيه نزه فيه شيخه عما قيل فيه، ثم ذكر سنده في الطريقة البكرية الخلوتية، وأعقبها بهذيان وترهات تود الأذن المحمدية لو كانت عنها صماء.

الجواب عن جميع ما هذى به في هذا المقام أن يقال: أن ما عليه النبهاني من الجهل والضلال يكذب جميع ما ادعاه، أين علمه بالمعقول والمنقول الذي أجازه به شيوخه؟ بل أين آثار علم من العلوم فضلاً عن جميعها من العلوم العقلية والنقلية؟

ودعوة المرء تطفي نور بهجته

هذا بحق فكيف المدعي زللا

ثم أين زهده وورعه وتقواه وقد صرف عمره في الأحكام القانونية في المحاكم الجزائية والبداية والحكم بغير ما أنزل الله؟ أما يستحي من هذا حاله أن يدخل نفسه في عداد المسلمين فضلاً عن عباد الله الصالحين والعلماء العاملين؟ وهو صفر اليدين من كل فضيلة، عار عن أردية المناقب الجميلة، ولكن شأن من لم يستح من الله ومن عباده أن يصنع ما يشاء، وليته ذكر أيضاً سنده بالطريقة الرفاعية، التي تلقاها عن شيخه وشيطانه، شيخ السوء ومقتدى الدجالين، خبيث النفس والأفعال، أبي البدع وعنوان الضلال، وهكذا غالب متصوفة زماننا، فمن

ص: 432

باب الإشارة في تفسير قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} 1 وهي الشهوات الدانية واللذات الفانية، ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} 2 ولا بد، لأنا واصلون كاملون، وهذا حال كثير من متصوفة زماننا، فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار، ويقولون إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون، وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف، ويقول: إن النفي والإثبات يدفع ضرره، وهو خطأ فاحش وضلال بين، أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك، وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم، ويقول كل منا بحر والبحر لا ينجس، ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير، ومنهم من يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه، وهو كذب لا أصل له، وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه. انتهى.

وقال الزمخشري عند الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} 3. ما نصه: "محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم، ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوؤهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى، وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه السلام، ثم دك الطور فتعالى الله عنه علواً كبيراً، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم، كذلك

1 سورة الأعراف: 168- 169.

2 سورة الأعراف: 169.

3 سورة المائدة: 54.

ص: 433

يحبون ذاته، فإن الهاء راجعة إلى الذات، دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، ولو لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة" انتهى كلامه.

وهؤلاء الطائفة الذين تسموا بالصوفية غاصبين له عن أهله، وقد ارتكبوا ما نقل الإمام عنهم، بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا، وذلك لا ينافي حال المتسمين به حقيقة، ولا يؤاخذ الصالح بالطالح، ولا يضرب رأس البعض بالبعض، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

ثم إنه من المعلوم أن ما يقرأه الناس اليوم من العلوم العقلية أخذت من كتب اليونان بعد أن ترجمت بأمر المأمون الخليفة العباسي، فمن أين ساغ لمن أسندها في الإجازات الكاذبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن عزرائيل عن اللوح عن القلم كما ذكره النبهاني الكاذب في إسناده؟ وعلوم اليونان كلها خطأ وضلال وبهتان كما ظهر ذلك للعيان عند من مارس فنون الفلاسفة المتأخرين، فكيف تسند إلى من لا ينطق عن الهوى؟ وهكذا حكم الطرائق المبتدعة، فهي من وسوسة الشيطان لا من وحي الرحمن.

وأما علم الكلام الذي هو من جملة علم المعقول المختلط مع المنقول إن كان المراد به المخالف للكتاب والسنة فهو باطل، وقد نزه الله تعالى عنه من ذكره النبهاني في سند إجازته التي أجازه فيها شيوخه بالعلوم والطريقة، ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام، ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون، والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث، ويبني ذلك على حوادث لا أول لها، بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد، كأبي الهذيل العلاف وأمثاله. وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء إنما كانا يظهران الكلام في إنفاذ الوعيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها، وفي التكذيب بالقدر، وهذا كله مما

ص: 434

نزه الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وتمام الكلام في كتاب المنهاج لشيخ الإسلام رحمه الله، فإن فيه ما يشفي صدور المؤمنين.

ثم إن ما ذكره النبهاني من أن سند الطرايق المبتدعة يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن عزرائيل إلى آخر ما ذكره فهو كذب لا أصل له.

وتحقيق ذلك: أن أهل المعرفة وحقائق الإيمان المشهورين في الأمة بلسان الصدق إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه بالعمل بما في الكتاب والسنة لا بلباس الخرقة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"1. فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان.

ويقال ثانياً: الخرق متعددة أشهرها خرقتان: خرقة إلى عمر، وخرقة إلى عليّ، كما حققه شيخ الإسلام، فخرقة عمر لها إسنادان: إسناد إلى أويس القرني، وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني.

وأما الخرقة المنسوبة إلى عليّ؛ فإسنادها إلى الحسن البصري، والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي، فإن الجنيد صحب السري والسري صحب معروفاً الكرخي بلا ريب، وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع، فتارة يقولون: إن معروفاً صحب علياً وهو ابن موسى الرضا، وهذا باطل قطعاً، لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل، كأبي نعيم وأبي الفرج ابن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف، ومعروف كان منقطعاً في الكرخ، وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهد بعده، وجعل شعاره لباس الخضرة، ثم

1 أخرجه مسلم (2564) وأحمد (2/285، 539) وابن ماجه (4143) من حديث أبي هريرة. ولفظ. "وأعمالكم" عند أحمد وابن ماجه دون مسلم.

وقد وهم المصنف رحمه الله يعزو إلى الصحيحين؛ وإنما هو في "صحيح مسلم" دون البخاري.

ص: 435

رجع عن ذلك وأعاد شعار السواد، ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به أو أخذ عنه شيئاً، بل ولا يعرف أنه رآه، ولا كان معروف بوابه، ولا أسلم على يديه، وهذا كله كذب.

وأما الإسناد الآخر فيقولون: إن معروفاً صحب داود الطائي، وهذا أيضاً لا أصل له، وليس في أخباره المعلومة ما يذكر فيها.

وفي إسناد الخرقة أيضاً أن داود الطائي صحب حبيباً العجمي، وهذا أيضاً لم يعرف له حقيقة.

وفيها أن حبيباً العجمي صحب الحسن البصري، وهذا صحيح، فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون، مثل أيوب السختياني، ويونس بن عبيد، وعبد الله بن عوف، ومثل محمد بن واسع، ومالك بن دينار، وحبيب العجمي، وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة.

وفيها أن الحسن صحب علياً، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة، فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي، وإنما أخذ عن أصحاب علي، أخذ عن الأحنف بن قيس، وقيس بن عباد وغيرهما عن علي، وهكذا رواه أهل الصحيح، والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقتل عثمان وهو بالمدينة، كانت أمه أمة لأم سلمة، فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة، وكان علي بالكوفة، والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ولا له ذكر، والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن كذب باتفاق أهل المعرفة، ولكن المعروف أن علياً دخل المسجد فوجد قاصاً يقص، فقال: ما اسمك؟ قال أبو يحيي، قال تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال لا، قال: هلكت وأهلكت، إنما أنت أبو اعرفوني، ثم أخذ بأذنه فأخرجه من المسجد.

فروى أبو حاتم في كتاب "الناسخ والمنسوخ": حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: انتهى عليّ

ص: 436

إلى قاص وهو يقص، فقال: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال لا، قال: هلكت وأهلكت.

قال وحدثنا زهير بن عباد الرواسي، حدثنا أسد بن حمران عن جويبر عن الضحاك، أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة فإذا قاص يقص فقام على رأسه فقال: يا هذا! تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: أفتعرف مدني القرآن من مكيه؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت. قال: أتدرون من هذا؟ هذا يقول: اعرفوني اعرفوني1.

وقد صنف ابن الجوزي مجلداً في مناقب الحسن البصري، وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحي المقدسي جزءاً فيمن لقيه من أصحابه، وأخبار الحسن مشهورة في مثل "تاريخ البخاري".

قال شيخ الإسلام: "وقد كتبت أسانيد الخرقة، لأنه كان فيها أسانيد فبينتها ليعرف الحق من الباطل، ولهم أسانيد أخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر، وهو منقطع جداً، وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة، ولا يقصون شعورهم، ولا التابعون، ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة في كتب كثيرة يعلم منها ما ذكرنا.

وقد أفرد أبو الفرج ابن الجوزي له كتاباً في مناقبه وأخباره.

وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي، وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها.

وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل، ولا يسقي ملحاً، ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة، لكن كانوا

1 انظر "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (رقم: 1- وما بعده) . ط. المكتبة العصرية- بتحقيقي.

ص: 437

قد اجتمع بهم التابعون وتعلموا منهم، وتأدبوا بهم، واستفادوا منهم، وتخرجوا على أيديهم، وصحبوا من صحبوه منهم، وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة، وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون عن عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم، وكذلك أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره، وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما، وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره، وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله، وكل منهم متفقون على دين واحد وطريق واحدة وسبيل واحدة، يعبدون الله تعالى ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن بلغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قبلوه، ومن فهم من السنة والقرآن ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه، ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه، ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه رباً يستغيث به كالإله الذي يسأله ويرغب إليه، ويعبده ويتوكل عليه، ويستغيث به حياً وميتاً، ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، فإن هذا ونحوه دين النصارى، الذين قال الله فيهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.

وكانوا متعاونين على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، متواصين بالحق متواصين بالصبر، والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة وبمنزلة دليل الحاج، فالإمام يقتدي به المأمون فيصلون بصلاته لا يصلي عنهم، وهو يصلي بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها، فإن عدل عن ذلك سهواً أو عمداً لم يتبعوه، ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم، فالدليل لا يحج عنهم، وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه، وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه فاتبع، فالفاصل بينهم الكتاب والسنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ

1 سورة التوبة: 31.

ص: 438

كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1.

وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين، وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئاً، فإنه رضي الله عنه كان ساكناً بالمدينة، وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه كعثمان في مثل قضية يشاورهم فيها عمر ونحو ذلك، ولما ذهب إلى الكوفة كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبي موسى وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة، وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين وأبي بكرة وعبد الرحمن بن سمرة وأنس وغيرهم من الصحابة وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وبلال وغيرهم من الصحابة، والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة، فكيف يجوز أن يقال: إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره، وهذه كتب الزهد- مثل الزهد للإمام أحمد، والزهد لابن المبارك، ولوكيع بن الجراح، ولهناد بن السري، ومثل كتب أخبار الزهاد، كحلية الأولياء، وصفوة الصفوة، وغير ذلك- فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة، وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي إمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين " انتهى كلامه.

والمقصود من نقله، أن يعلم أن ما ذكره النبهاني من الثبت باطل من وجوه:

أما أولاً: فلأن ما يعرفه من العلم الشيطاني ليس مأخوذاً بالسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن العلم الذي جاء به الرسول لا يعرفه ولا يوفق له، فإنه نور ونور الله لا يوفق له العصاة الطغاة.

وأما ثانياً: فلأن الطرايق التي انتحلها لا أصل لها، وكلها بدع وضلالات،

1 سورة النساء: 59.

ص: 439

ولذلك لم تؤثر في قلبه شيئاً إن صدق أنه سلكها، بل هو من أضل الناس وأجهل الناس.

وأما ثالثاً: فلأن سنده مختل باطل، كما يعلمه من يطبقه على ما سبق من كلام شيخ الإسلام.

وبالجملة؛ فكلامه في كتابه هذا من أوله إلى آخره ظلمات بعضها فوق بعض، فسبحان من طبع على قلبه وعلى سمعه وبصره، ومع ما هو عليه من الحال الذي ينبغي أن يرثى له بسببه يتطاول على علماء المسلمين الربانيين ويفحش القول فيهم، قبحه الله تعالى ولعنه كما لعن أصحاب السبت، وما أحقه بقول أبي العلاء المعري:

إذا وصف الطائي بالبخل ما در

وعير قسا بالفهاهة باقل

وقال السهى للشمس أنت خفية

وقال الدجى للصبح لونك حائل

وطاولت الأرض السماء سفاهة

وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة

ويا نفس جدّي إن دهرك هازل

والكلام على بدع الطرائق وأهلها مفصل في غير هذا الموضع، وفي كتاب (كشف أحوال المشايخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) ما يشفي صدور المؤمنين، وتقر به عين الموحدين.

والنبهاني لم يزل يكرر قوله في التبجح والافتخار بالإجازات الكاذبة التي لا أصل لها، ويقول: وعندي بحمد الله إجازات بكثير من الطرق العلية غير الخلوتية والشاذلية، كالقادرية والرفاعية والنقشبندية، ولكن كل ذلك لأجل البركة باتصال سندي بالنبي صلى الله عليه وسلم كما اتصل من طرق الفقهاء والمحدثين وسائر علماء الدين.. إلى آخر هذيانه.

ولا بدع إذا ما كان مجمع البدع والضلالات، وليت شعري ماذا نفعته تلك الإجازات، وأي بركة حصلت له ما هاتيك الخزعبلات، وهل هي إلا أن قضى شطراً من عمره في محاكم القوانين والنظامات، وصرف أيامه بالجهالات

ص: 440