الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصدقة. ومذهب أهل السنة أن لا اعتراض لأحد عليه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والله أعلم.
مطلب: في قوله تعالى {وأوحى ربك إلى النحل}
.
(سئل) عن قوله تعالى {وأوحى ربك إلى النحل} ما المراد بهذا الإيحاء؟
(أجاب) يعني أن الله تعالى أوحى إليها أي: ألهمها أو أنه سخرها لما خلقها له وألهمها وأرشدها، وقدر في نفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتا على شكل مهندس من أضلاع متساوية لا تزيد ولا تنقص بعضها على بعض بمجرد طباعها، ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال لكان فيما بينها خلال، ولما حصل المقصود، فألهمها الله تعالى أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية من صنائعه، وألهمها الله تعالى أن تجعل عليها أميرا كبيرا نافذ الحكم فيها وهي تطيعه وتمتثل أمره، ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة، ويسمى بيعسوب النحل، يعني ملكها، وألهمها الله تعالى أيضا أن تجعل على باب كل خلية بوابا لا يمكن غير أهلها من الدخول إليها، وألهمها الله تعالى أن تخرج من بيوتها تدور وترعى، ثم ترجع إلى بيوتها ولا تضل عنها، ولما امتازت بهذه الخواص العجيبة دل ذلك على الإلهام الإلهي، وكان شبيها بالوحي والله أعلم.
(باب ما يتعلق بالحديث الشريف)
مطلب: في قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» إلخ
.
(سئل) هل في قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» المروي للبخاري في التاريخ، ورواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ورواه مسلم أيضا - دلالة على انقطاع كرامة الأولياء بعد موتهم كما يعتقد ذلك بعض من طمس الله على قلوبهم وأبصارهم فهم لا يعقلون؟ وهل تقاس الكرامة على المعجزة المنقطعة بالموت؟ وهل في قول صاحب بدء الأمالي:
كرامات الولي بدار دنيا
…
لها كون فهم أهل النوالي
دلالة أيضا على انقطاعهم بعد الموت، فإن كثيرا من الجهلة الذين لا خلاق لهم، ولم يشاهدوا أنوار الله في أوليائه أحياء وأمواتا؛ لأنهم في دار ليس بها ولي ولا نبي، وابتلوا بالحرمان، فهم في ظلمات يترددون، وفي غمرات من الجهل يسيرون، وعلى ربهم لا على أولياء الله يعترضون، إذ هو تعالى المؤيد لهم والمظهر لكرامتهم، فما الحال في ذلك؟
(أجاب) اعلم وفقني الله وإياك وشرح صدري وصدرك وجعلني وإياك ممن اعتقد لا ممن انتقد أنه لا دلالة في الأمور الثلاثة على انقطاع الكرامة أصلا؛ لأن الكرامة محض صنع الله تعالى، لا دخل فيها للولي قطعا، ولو قصدها بالتوجه له تعالى، بل بعض الأولياء تنفر نفوسهم ويخافون من ظهورها لأمور منها خوف المكر بهم
والاستدراج، ومنها الخوف من النفس واسترسالها وإعجابها، ومنها خوف الركون إلى الكرامة، ومنها الخوف على خلق الله تعالى، فقد شاهدنا بعض أرباب القلوب يعتدي عليه بعض الناس، فيخاف عليه من الله تعالى وانتقامه منه، فيبات مشتغلا له بالدعاء، وإن الله تعالى لا يؤاخذه بذنبه، ومع ذلك يحصل للمعتدي ضرر كبير، وهذا مقام إبراهيمي أخذا من قوله تعالى حكاية عنه على نبينا وعليه الصلاة والسلام في شأن الأصنام وعبادها {رب أنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} فتأمل كيف إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعرض بطلب المغفرة لمن عصاه ولو بعبادة الأصنام رحمة منه وشفقة على عباد الرحمن، ولم يقل: ومن عصاك؛ لأن ذلك الذي ذكره أبلغ في طلب المغفرة من الله تعالى للعاصين؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام طلب المغفرة لمن عصاه من الله تعالى تلويحا منه بأن يغفر الله له أيضا؛ لأنه طلب المغفرة لمن عصاه وهو مخلوق، فكيف بالخالق وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين؟ إذا علمت ذلك علمت أن الكرامة ليست من عمل العبد المنقطع بالموت، بل هي محض فضل الله تعالى، وفضله ليس للعبد فيه دخل أصلا، فلا تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم «انقطع عمله» ؛ لأنها ليست عملا للعبد، على أن هذا الحصر ليس بحقيقي؛ لأنه ورد في أحاديث غير هذا أمور كثيرة لا ينقطع فيها عمل العبد، فعدها الجلال السيوطي رحمه الله تعالى عشرة في قوله في أبيات:
إذا مات ابن آدم ليس يجري
…
عليه من أمور غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل
…
وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر
…
وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيتا للغريب بناه يأوى
…
إليه أو بناء محل ذكر
ولتعليم لقرآن كريم
…
فخذها من أحاديث بحصر
وسبقه إلى ذلك ابن العماد، فعدها ثلاثة عشر، وسرد أحاديثها، هذا هو الجواب من الحديث، وأما (الجواب) عن المعجزة فهي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، فقولنا:"بالتحدي" يخرج به الكرامة؛ لأنها لا تحدي فيها بل هي إكرام وتأييد من الله تعالى لأوليائه؛ حفظا لهم كما حفظوه، وتعظيما لهم كما عظموه، فهم لم يقصدوها، بل ربما لم يريدوها، فيجريها الله تعالى على وفق مرادهم؛ حفظا لهم وتعظيما، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، أما المعجزة فالمراد منها معارضة الخصوم المكذبين والمنكرين على أنها قد تبقى بعد الموت كما في القرآن، فهو المعجزة المستمرة} وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله {وهو معنى التحدي المذكور في المعجزة، فقد ظهر الفرق بين المعجزة
والكرامة، وهي أن المعجزة مرادة ومقصودة للرسول بخلاف الكرامة، وإن قصدت في بعض الأحيان فقد تتخلف، والمراد من المعجزة التحدي ولا تحدى في الكرامة، وأما الجواب عن كلام بدء الأمالي فهو أن جميع الكرامات الواقعة من الأولياء أحياء وأمواتا واقعة في الدنيا لا في البرزخ ولا في الآخرة، فمراد بدء الأمالي أن فائدة الكرامة ونتيجتها إنما هي في الدنيا سواء ظهرت من الولي في حال حياته أم بعد مماته، فهي كائنة في الدنيا لا في الآخرة، فتأمل بإنصاف وخذ الحق لا بالاعتساف، فلا دلالة في هذه الأمور لنفي الكرامة للأولياء بعد موتهم، وإنما هذا مغالطة من قوم حجبوا عن كرامات الأولياء وعموا عنها بضلالهم وغيهم وعدم اطلاعهم عليها، ولم يأخذوها من أشياخ منورين وقلوب عارفين، بل من قوم لم يجاوز الإيمان حناجرهم، ونشأوا في بلاد ليس بها نبي ولا ولي، فهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون، ولا يعرفون مدلول اللغة ولا موارد القرآن ولا مفهوم الحديث النبوي ولا كلام العلماء المؤيدين من الله تعالى بالأنوار، ونعوذ بالله من الحرمان، وهو المستعان. وقد ذكر ابن حجر والرملي مما يدل على سوء الخاتمة إيذاء أولياء الله تعالى كآكل الربا، فقد أذن سبحانه وتعالى لآكل الربا بالمحاربة وكذلك لمن يؤذي الأولياء، فقد صح فيه ذلك، واعلم أنه جرت عادة الله تعالى، واستمرت سنته في خلقه تعالى أن كل معترض أو منتقد عليهم رضي الله عنهم لا يفلح أبدا، وإن أفلح في الدنيا لا يفلح في الآخرة، ولا ترى لأحد حالا ولا مقالا دنيويا ولا أخرويا إلا إذا كان ممن يعتقدهم وتفيض عليه بركاتهم وأنفاسهم الطاهرة وحركاتهم الفاخرة فاعتقد أو انتقدوها هنا تنبيه نبيه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال» الأرواح جند مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف «فكل معترض على أولياء الله تعالى أحياء وأمواتا أو منكر لكراماتهم ممن خالفت روحه روحهم فهو من قبضة الشمال، وهم من أهل اليمين، وهما معنى التعارف والتخالف، فأهل اليمين متعارفون، وأهل الشمال متخالفون، فاتق الله في أوليائه، ولا تكن لهما معاديا فتهلك مع الهالكين. وروى الطبراني عن أبي قرصافة «من أحب قوما حشره الله تعالى في زمرتهم» .
وها هنا مثال أوضح لك به طريق المعتقد والمنتقد، وهو أن طريق الاعتقاد أمن لا خوف فيه أصلا، وأما الاعتراض فمخوف من حيث احتمال الإيذاء لأولياء الله تعالى المؤذن فيه بالمحاربة من الله تعالى، فما حالك أيها المعترض إذا أصبحت معاديا لله ومحاربا له، فاسلك طريق الأمان ولا تسلك طريق الحرمان، وهنا أمران قطعيان: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم «لا تجتمع أمتي على ضلالة» وقد اجتمعت الأمة على ثبوت الكرامة في الجملة للأولياء، وهل من دليل
على نفي ذلك، وأيضا التواتر المعنوي المنقول في كل عصر بل في كل زمن على وجودها ووقوعها.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. قالوا: يا رسول الله، أين نكون؟ قال: مع الجمهور.» فانظر فإن الجمهور على إثباتها واعتقادها، وأيضا فإن المنكر لها المعتزلة، وهم أقل من القليل لا يبلغون شرذمة بالنظر لغيرهم ممن أثبتها على أنها ممنوعة من أهل بدعة وضلالة؛ لأنها لا تكون إلا في سالم صدر وقوى يقين وتام تسليم وعظيم مراقبة وشديد محافظة وكثير عبادة وقوي ظن بالله ورسوله؛ لقوله تعالى «أنا عند ظن عبدي بي» فمهما ظنوه منه تعالى وقع كرامة أو غيرها، وقد حدث الآن فرقة فرقت بين موتهم، فلا توجد لهم كرامة وحياتهم فتوجد وكأنهم فروا من أن ينسب إليهم اعتزال، وظنوا بذلك تحريرا في المقال، ومع ذلك فلو دخلوا بذلك في عداد المعتزلة وسوء اعتقادهم، بل ربما كانوا على حال أشر من حال المعتزلة؛ لأني سمعت عن بعض من ينسب له هذا المذهب، ويسمى الآن قاضي زادلي، أنه ينكر ذلك حتى من الأنبياء بعد موتهم، فيقول: إنهم عليهم الصلاة والسلام لا كرامة لهم ولا بركة لهم بعد الموت، فقد نقل لي بعض من أثق به أنه قدم له زبيبا وقال له: كل من بركة الخليل على نبينا وعليه صلوات الملك الجليل، فقال للمقدم له: لا تقل من بركة الخليل؛ فإنه لا بركة له بعد موته، وهذا إنكار للقرآن الصريح، قال تعالى {وباركنا عليه} أي: إبراهيم} وعلى إسحاق {والحديث الصريح «كما باركت على إبراهيم» فجعل البركة أصلا في إبراهيم مقيسا عليه فيها ولده صلى الله عليه وسلم فإن قيل: هذا في حياة إبراهيم؟ قلنا: الأصل بقاؤها ودوامها إذ لا دليل على نفيها على أن الواقع في الحديث وقع بعد موت إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيكون إقرارا على هذا المعنى، ومما يدل على القطع والجزم بذلك ما لهم عليه الصلاة والسلام من الشفاعة في الآخرة التي هي من آثار البركة، فإذا صدر هذا القول عن صميم القلب والاعتقاد بأن نفى عنهم البركة والكرامة بعد الموت فلا يشك في كفر المعتقد لذلك؛ لأن هذا الاعتقاد يجر إلى رفع خير كثير مما ينسب إلى الأنبياء الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وذلك من رفع معالم الدين ونصب معالم الشياطين، وأظن أن هؤلاء الطائفة أسوأ حالا واعتقادا من سائر المبتدعة، فيا رب سلم سلم، نعم ذكر في بحر الكلام أن المعية والكرامية قالوا: إن نبينا صلى الله عليه وسلم الآن ليس برسول، وقال أبو الحسن الأشعري: الرسول صلى الله عليه وسلم الآن في حكم الرسالة، وحكم الشيخ يقوم مقام الشيء، فما ذكر الخلاف إلا