الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غُبَارَ الْحَرْبِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَالْغَشَيَانُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غُبَارًا مُتَصَاعِدًا فِي الْجَوِّ مِنْ شِدَّةِ الْجَفَافِ.
وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْجِيبًا مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِتَقْدِيرِ: يَقُولُونَ: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ إِلَى الدُّخَانِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، عَدَلَ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ بِالْإِضْمَارِ وَأَنْ يُقَالَ: هُوَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، إِلَى اسْتِحْضَارِهِ بِالْإِشَارَةِ، لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا الشِّتَاءُ قَادِمٌ فَأَعِدَّ لَهُ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَام:
24] فَإِنَّ الْمَحْكِيَّ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَة.
[12]
[سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 12]
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدُّخان: 11] وَجُمْلَةُ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى [الدُّخان: 13] فَهِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَحَمَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةُ قَوْلِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِتَقْدِيرِ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ، أَيْ هُوَ وَعْدٌ صَادِرٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنْ كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ أَيْ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [49] وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ، أَيْ إِنْ دَعَوْتَ رَبَّكَ اتَّبَعْنَاكَ وَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [134] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ إِلَى قَوْلِهِ: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ.
وَمِمَّا تَسْمَحُ بِهِ تَرَاكِيبُ الْآيَةِ وَسِيَاقُهَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ أَمْرٍ أَيْ قُولُوا لِتَلْقِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ إِذْ كَانُوا
وَالْمُشْرِكِينَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ كَمَا اسْتَعَاذَ مُوسَى عليه السلام بِقَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَاف: 155] . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُخْرِجُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِأَهْلِهَا هَذَا الْعَذَابُ، فَهَذَا التَّلْقِينُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة:
286] الْآيَاتِ. وَعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ إِنَّا مُؤْمِنُونَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، أَيْ إِنَّا مُتَلَبِّسُونَ بِمَا يَدْفَعُ عَنَّا عَذَابَ الْكَافِرِينَ، وَفِي تَلْقِينِهِمْ بِذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِشَرَفِ الْإِيمَانِ، وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ جَارٍ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ كَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ حَرْفِ (إِنَّ) مِنْ مَعْنَى الْإِخْبَارِ دُونَ الْوَعْدِ، وَمِنَ التَّعْلِيلِ دُونَ التَّأْكِيدِ، وَلِمَا يَقْتَضِيهِ اسْم الْفَاعِل فِي زَمَنِ الْحَالِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِأَنَّ سِيَاقَهُ خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بِتَرَقُّبِ إِعَانَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا كَانَ يَدْعُو «أَعْنِي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسِنِي يُوسُفَ» فَمُقْتَضَى الْمَقَامِ تَأْمِينُهُ مِنْ أَنْ يُصِيبَ الْعَذَابُ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ النبيء صلى الله عليه وسلم، وَظَاهِرُ مَادَّةِ الْكَشْفِ تَقْتَضِي إِزَالَةَ شَيْءٍ كَانَ حَاصِلًا فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ الْكَشْفَ هُنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَانَ مَجَازُهُ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي منع حُصُول شَيْء يُخْشَى حُصُولُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: 98] فَإِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمْ يَحُلَّ بِهِمْ عَذَابٌ فَزَالَ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ تُوُعِّدُوا بِهِ فَبَادَرُوا بِالْإِيمَانِ فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
لَا يَكْشِفُ الْغَمَاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ
…
يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
أَرَادَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ بِسُوءٍ، وَمُحْتَمِلًا لِلِاسْتِعْمَالِ فِي زَوَالِ شَيْءٍ كَانَ حَصَلَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ السِّيَرِ وَالْآثَارِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وعدوا النبيء صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ إِنْ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُم الْقَحْط.