الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الشورى (42) : آيَة 27]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشورى: 26] أَوْ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ جُمْلَةِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الشورى: 26] وَمِنْ جُمْلَةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَمَوْقِعُ مَعْنَاهَا مُوقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ إِذَا سَمِعَ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَجِيبُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَتَسَاءَلَ فِي نَفْسِهِ: أَنَّ مِمَّا يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُونَ سَعَةَ الرِّزْقِ وَالْبَسْطَةَ فِيهِ فَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَيَّامَ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِي حَاجَةٍ وَضِيقِ رِزْقٍ إِذْ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَرْزَاقَهُمْ وَقَاطَعُوا مُعَامَلَتَهُمْ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ بَسَطَ الرِّزْقَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ لَكَانَ بَسْطُهُ مُفْسِدًا لَهُمْ لَأَنَّ الَّذِي يَسْتَغْنِي يَتَطَرَّقَهُ نِسْيَانُ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ فَكَانَ مِنْ خَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْآجِلِ لَهُمْ أَنْ لَا يُبْسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَنُوطًا بِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ تَطَّرِدُ فِي النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] . وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ لَا يَشْغَلَهُ غِنَاهُ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ يَفُوزُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَشْغَلُهُ أَمْوَالُهُ عَنْهُ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النبيء صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا تَعَرَّضُوا لَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَدْ جَاءَهُ مَالٌ من الْبَحْرين «فو الله مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» .
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْرِدًا كُلِّيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِعِبادِهِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْعِبَادِ. وَمِنْ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ تَحْصُلُ فَائِدَةُ الْمَسْئُولِ عَلَيْهِ الْجُزْئِيِّ الْخَاصِّ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ إِفَادَةِ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا النِّظَامِ التَّكْوِينِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَسَّسَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قَوَانِينَ عَامَّةٍ وَلَيْسَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَخُصَّ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ بِنِظَامٍ تَكْوِينِيٍّ دُنْيَوِيٍّ وَلَكِنَّهُ خَصَّهُمْ بِمَعَانِي الْقُرْبِ
وَالرِّضَا وَالْفَوْزِ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ.
وَرُبَّمَا خَصَّهُمْ بِمَا أَرَادَ تَخْصِيصَهُمْ بِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ.
وَالْبَغْيُ: الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ، أَيْ لَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْغِنَى مَظِنَّةُ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ
إِذَا صَادَفَ نَفْسًا خَبِيثَةً، قَالَ بَعْضُ بَنِي جرم من طَيء مِنْ شُعَرَاءِ الحماسة:
إِذا أخصبتموا كُنْتُمْ عَدُوًّا
…
وَإِنْ أَجْدَبْتُمُو كُنْتُمْ عِيَالًا
وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» :
وَقَدْ جَعَلَ الْوَسْمِيُّ يُنْبِتُ بَيْنَنَا
…
وَبَيْنَ بَنِي رُومَانَ نَبْعًا وَشَوْحَطًا (1)
فَأَمَّا الْفَقْرُ فَقَلَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْبَغْيِ إِلَّا بَغْيًا مَشُوبًا بِمَخَافَةٍ كَبَغْيِ الْجَائِعِ بِالِافْتِكَاكِ بِالْعُنْفِ فَذَلِكَ لِنُدْرَتِهِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ لِبَيَانِ حِكْمَةِ كَوْنِ الرِّزْقِ بِقَدَرٍ لَا لِبَيَانِ حِكْمَةٍ فِي الْفَقْرِ.
فَالتَّلَازُمُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا حَاصِلٌ بِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ هَذَا السَّبَبِ قَدْ يَخْلُفُهُ ضِدُّهُ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ بَيْنَ بَسْطِ الرِّزْقِ وَبَيْنَ الْفَقْرِ مَرَاتِبَ أُخْرَى مِنَ الْكَفَافِ وَضِيقِ الرِّزْقِ وَالْخَصَاصَةِ، وَالْفَقْرِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا إِشْكَالَ فِي التَّعْلِيلِ. وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ «فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا فَنَزَلَتْ» ، وَهَذَا مِمَّا حَمَلَ قَوْمًا عَلَى ظَنِّ هَذِهِ الْآيَةِ مَدَنِيَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْ خَبَّابٍ فَهُوَ تَأْوِيلٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَخَبَّابٌ أَنْصَارِيٌّ فَلَعَلَّهُ سَمِعَ تَمْثِيلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ. وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ تَمَنَّوْا سَعَةَ الرِّزْقِ فَنَزَلَتْ، وَهَذَا خَبَرٌ ضَعِيفٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ جَعَلَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي بَسْطَةٍ مِنَ الرِّزْقِ لَاخْتَلَّ نِظَامُ حَيَاتِهِمْ بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بعض لِأَن بَعضهم الْأَغْنِيَاءَ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْبَغْيِ لِتَوَفُّرِ
(1) رُومَان برَاء مَضْمُومَة: اسْم رجل.
أَسْبَابِ الْعُدْوَانِ كَمَا عَلِمْتَ فَيَجِدُ مِنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ الْمُقَاوَمَةَ وَهَكَذَا، وَذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى اخْتِلَالِ نِظَامِهِمْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ لِبَعْضِ الْعِبَادِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَا يُفْضِي إِلَى مِثْلِ هَذَا الْفَسَادِ لِأَنَّ الْغِنَى قَدْ يُصَادِفُ نَفْسًا صَالِحَةً وَنَفْسًا لَهَا وَازِعٌ مِنَ الدِّينِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْبَغْيِ، فَإِنْ صَادَفَ نَفْسًا خَبِيثَةً لَا وَازِعَ لَهَا فَتِلْكَ حَالَةٌ نَادِرَةٌ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ السَّيِّئَةِ فِي الْعَالَمِ وَلَهَا مَا يُقَاوِمُهَا فِي الشَّرِيعَةِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَغَيْرَةِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَامٍّ وَلَا إِلَى اخْتِلَالِ نِظَامٍ.
وَإِطْلَاقُ فِعْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى إِعْطَاءِ الرِّزْقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ اسْتِعَارَةٌ
لِأَنَّهُ عَطَاءٌ مِنْ رَفِيعِ الشَّأْنِ، فَشُبِّهَ بِالنَّازِلِ مِنْ عُلُوٍّ وَتَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْقَدَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: الْمِقْدَارُ وَالتَّعْيِينُ.
وَمَعْنَى مَا يَشاءُ أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَعَلَى مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَسْبَابِ عَلَى حسب مُخْتَلف صَالح مَخْلُوقَاتِهِ وَتَعَارُضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَصَرُّفَاتٌ وَتَقْدِيرَاتٌ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُهُ تَعَالَى. وَكُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ، وَهِيَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلَّتِي قَبْلَهَا.
وَافْتُتِحَتْ بِ (إِنَّ) الَّتِي لَمْ يُرَدْ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ وَلَكِنَّهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَالْإِيذَانِ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تَقُومُ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، فَالْجُمْلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْفَاءِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفَيْ خَبِيرٌ وبَصِيرٌ لِأَنَّ وَصْفَ خَبِيرٌ دَالٌّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَحْوَالِهِمْ قَبْلَ تَقْدِيرِهَا وَتَقْدِيرِ أَسْبَابِهَا، أَيِ الْعِلْمِ بِمَا سَيَكُونُ. وَوَصْفُ بَصِيرٌ دَالٌّ عَلَى الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَحْوَالِهِمُ الَّتِي حَصَلَتْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعَلُّقَيْنِ للْعلم الإلهي.