الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْكِنَايَةُ عَنْ تَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُودِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِنَابَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [75] .
وَجِيءَ فِي فِعْلِ تَوَكَّلْتُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي فِعْلِ أُنِيبُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ كَانَ سَابِقًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَنَكُّرُ قَوْمِهِ لَهُ، فَقَدْ صَادَفَ تَنَكُّرُهُمْ مِنْهُ عَبْدًا مُتَوَكِّلًا عَلَى رَبِّهِ، وَإِذَا كَانَ تَوَكُّلُهُ قَدْ سَبَقَ تَنَكُّرَ قَوْمِهِ فَاسْتِمْرَارُهُ بَعْدَ أَنْ كَشَّرُوا لَهُ عَنْ أَنْيَابِ الْعُدْوَانِ مُحَقَّقٌ.
وَأَمَّا فِعْلُ أُنِيبُ فَجِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَجَدُّدِ الْإِنَابَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ. وَيُعْلَمُ تَحَقُّقُهَا فِي الْمَاضِي بِمُقَارَنَتِهَا لِجُمْلَةِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ لِأَنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُنِيبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِبَاكِ. وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَأَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ أَنَبْتُ وَأُنِيبُ.
وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ فِي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا أُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ.
[11]
[سُورَة الشورى (42) : آيَة 11]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا أَعْقَبَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَبْرَزِ آثَارِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا.
وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاطِرٍ [1] .
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ.
جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فاطِرُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ
فَطْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَالْأَنْعَامِ مِنْ أَعْجَبِ أَحْوَالِ خَلْقِ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا خَبَرًا ثَالِثًا عَنْ ضَمِيرِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] .
وَالْمَعْنَى: قَدَّرَ فِي تَكْوِينِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَزْوَاجًا لِأَفْرَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ مُقَارِنًا لِأَصْلِ تَكْوِينِ النَّوْعِ جِيءَ فِيهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْخِطَابُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَعْمُولَاتِ جَعَلَ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِ أَزْواجاً، وَلِيَكُونَ التَّعْلِيلُ بِهِ مُلَاحَظًا فِي الْمَعْطُوفِ بَقَوْلِهِ وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ الَّذِي يَنْضَمُّ إِلَى فَرْدٍ فَيَصِيرُ كِلَاهُمَا زَوْجًا لِلْآخَرِ وَالْمُرَادُ هُنَا: الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَعَلَ لِمَجْمُوعِكُمْ أَزْوَاجًا، فَلِلذُّكُورِ أَزْوَاجٌ مِنَ الْإِنَاثِ، وَلِلنِّسَاءِ أَزْوَاجٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْجَعْلِ حَصَلَتْ لَذَّةُ التَّأَنُّسِ وَنِعْمَةُ النَّسْلِ.
وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ نَوْعِكُمْ، وَمِنْ بَعْضِكُمْ، كَقَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] . وَكَوْنُ الْأَزْوَاجِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَالٌ فِي
النِّعْمَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ لَفَاتَ نَعِيمُ الْأُنْسِ، وَأَمَّا زَعْمُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَزَوَّجُ جِنِّيَّةً أَوْ غُولًا فَذَلِكَ مِنَ التَّكَاذِيبِ وَتَخَيُّلَاتِ بَعْضِهِمْ، وَرُبَّمَا عَرَضَ لِبَعْضِ النَّاسِ خَبَالٌ فِي الْعَقْلِ خَاصٌّ بِذَلِكَ فَتَخَيَّلَ ذَلِكَ وَتَحَدَّثَ بِهِ فَرَاجَ عَنْ كُلِّ أَبْلَهَ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً عَطْفٌ عَلَى أَزْواجاً الْأَوَّلِ فَهُوَ كَمَفْعُولٍ لِ جَعَلَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا، أَيْ جَعَلَ مِنْهَا أَزْوَاجًا بَعْضَهَا لِبَعْضٍ.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ دُونَ أَزْوَاجِ الْوَحْشِ: أَنَّ فِي أَنْوَاعِ الْأَنْعَامِ فَائِدَةً لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهَا تَعِيشُ مَعَهُ وَلَا تَنْفِرُ مِنْهُ وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَلُحُومِهَا وَنَسْلِهَا وَعَمَلِهَا مِنْ حَمْلٍ وَحَرْثٍ، فَبِجَعْلِهَا أَزْوَاجًا حَصَلَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا لِلْإِنْسَانِ.
وَالذَّرْءُ: بَثُّ الْخَلْقِ وَتَكْثِيرُهُ، فَفِيهِ مَعْنَى تَوَالِي الطَّبَقَاتِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلنَّاسِ مِنْ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ بِاعْتِبَارِهَا أَزْوَاجًا سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ نَسْلِهَا.
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ لِلْمُخَاطَبِينَ بَقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمْ. وَمُرَادُ شُمُولِهِ لِجَعْلِ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لَمْ يَكُنْ هَمَلًا بَلْ مُرَادًا مِنْهُ زِيَادَةُ الْمِنَّةِ فَإِنَّ ذَرْءَ نَسْلِ الْإِنْسَانِ نِعْمَةٌ لِلنَّاسِ وَذَرْءَ نَسْلِ الْأَنْعَامِ نِعْمَةٌ أُخْرَى لِلنَّاسِ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَزْوَاجِ فِي جَانِبِ الْأَنْعَامِ عَنْ ذِكْرِ الذَّرْءِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلنَّاسِ فِي تَزَاوُجِ الْأَنْعَامِ سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ نَسْلِهَا. وَإِذْ كَانَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ ضَمِيرَ خِطَابٍ فِي حِينِ أَنَّ الْأَنْعَامَ لَيْسَتْ عُقَلَاءَ وَلَا مُخَاطَبَةً، فَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ الضَّمِيرِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ إِذْ لَمْ يُذْكَرْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَأَنْ يُقَالَ: يَذَرَاكِ بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى تَأْوِيلِ إِرَادَةِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ.
وَجَاءَ فِيهِ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِيهِ تَغْلِيبَانِ وَهُوَ تَغْلِيبٌ دَقِيقٌ إِذِ اجْتَمَعَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ نَوْعَانِ مِنَ التَّغْلِيبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكَشَّافُ وَالسَّكَّاكِيُّ فِي مَبْحَثِ التَّغْلِيبِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ» .
وَضَمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْجَعْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ جَعَلَ لَكُمْ، أَيْ فِي الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَذْرَؤُكُمْ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالتَّجَدُّدُ أَنْسَبُ بِالِامْتِنَانِ.
وَحَرْفُ (فِي) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ تَشْبِيهًا لِلسَّبَبِ بِالظَّرْفِ فِي احْتِوَائِهِ عَلَى مُسَبَّبَاتِهِ
كَاحْتِوَاءِ الْمَنْبَعِ عَلَى مَائِهِ وَالْمَعْدِنِ عَلَى تُرَابِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] .
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ رَابِعٌ عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] .
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ مَا هُوَ نِعَمٌ عَظِيمَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُمَاثِلُهُ
شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي تَدْبِيرِهِ وَإِنْعَامِهِ.
وَمَعْنَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، فَأُقْحِمَتْ كَافُ التَّشْبِيهِ عَلَى (مِثْلِ) وَهِيَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ مَعْنَى الْمثل هُوَ الشبيه، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْكَافَ مُفِيدَةٌ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْمِثْلِ، وَهُوَ مِنَ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وحسّنه أَن الموكّد اسْمٌ فَأَشْبَهَ مَدْخُولَ كَافِ التَّشْبِيهِ الْمُخَالِفِ لِمَعْنَى الْكَافِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ الثِّقَلُ الَّذِي فِي قَوْلِ خِطَامٍ الْمُجَاشِعِيِّ:
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنْ (1) وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَثَلُ وَاقِعًا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَالْكَافُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِهِ فَكَأَنَّهُ نَفَى الْمِثْلَ عَنْهُ تَعَالَى بِجُمْلَتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ كَيْفَ يُبْطِلُونَ مُمَاثَلَةَ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ رَأْيُ ثَعْلَبٍ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَالزَّجَّاجِ وَالرَّاغِبِ وَأَبِي الْبَقَاءِ وَابْنِ عَطِيَّةَ.
وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا ثَانِيًا، وَقَدَّمَ قَبْلَهُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ غَيْرَ مَزِيدَةٍ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَيْسَ شَبِيهَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَالْمُرَادُ: لَيْسَ شِبْهَ ذَاتِهِ شَيْءٌ، فَأَثْبَتَ لِذَاتِهِ مِثْلًا ثُمَّ نَفَى عَنْ ذَلِكَ الْمِثْلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُمَاثِلٌ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمُمَاثِلِ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ بِطَرِيقِ لَازِمِ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ مِثْلِهِ فَقَدِ انْتَفَى الْمِثْلُ عَنْهُ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَمَّا اسْتَقَامَ قَوْلُكَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَ مِثْلِهِ. وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ قَدْ أَيْفَعَتْ لِدَاتُهُ، أَيْ أَيْفَعَ هُوَ فكني بإيفاع لداغته عَنْ إِيفَاعِهِ. وَقَوْلِ رُقَيْقَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ (2) فِي حَدِيثِ سُقْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ «أَلَا وَفِيهِمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِر لداته» اهـ. أَيْ وَيَكُونُ مَعَهُمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ يَعْنِي النبيء صلى الله عليه وسلم.
وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنِ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ» ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هُوَ كَقَوْلِكَ لَيْسَ
لِأَخِي زَيْدٍ أَخٌ، تُرِيدُ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ أَخٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ أَخٌ لَكَانَ زَيْدٌ أَخًا
(1) رجز وَقَبله:
لم يبْق من آي بهَا تحيين
…
غير حطام ورمادي كفتين.
(2)
هِيَ رقيقَة بقافين بِصِيغَة التصغير بنت صَيْفِي (وَالصَّوَاب أبي صَيْفِي) بن هِشَام بن عبد الْمطلب.
لِأَخِيهِ فَلَمَّا نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ لِأَخِيهِ أَخٌ فَقَدْ نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ أَخٌ، وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالْإِبْهَامِ وَكِلَاهُمَا مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ.
وَقَدْ شَمِلَ نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ إِبْطَالَ مَا نَسَبُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَهُوَ مُنَاسَبَةُ وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ:
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً الْآيَةَ.
وَحَدِيثُ سُقْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَيْ خَبَرُ اسْتِسْقَائِهِ لِقُرَيْشٍ أَنَّ رُقَيْقَةَ بِنْتَ أَبِي صَيْفِيٍّ قَالَتْ: تَتَابَعَتْ عَلَى قُرَيْشٍ سُنُونَ أَقْحَلَتِ الضَّرْعَ وَأَدَقَّتِ الْعَظْمَ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمَةٌ إِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ:«يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ هَذَا النَّبِيءَ الْمَبْعُوثَ مِنْكُمْ قَدْ أَظَلَّتْكُمْ أَيَّامُهُ أَلَا فَانْظُرُوا رَجُلًا مِنْكُمْ وَسِيطًا عِظَامًا جِسَامًا أَبْيَضَ أَوْطَفَ الْأَهْدَابِ سَهْلَ الخدّين أشمّ العرين فَلْيُخْلِصْ هُوَ وَوَلَدُهُ، أَلَا وَفِيهِمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ لِدَاتُهُ وَلِيَهْبِطْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ فَلْيَشُنُّوا مِنَ الْمَاءِ وَلْيَمَسُّوا مِنَ الطِّيبِ ثُمَّ لْيَرْتَقُوا أَبَا قُبَيْسٍ فَلْيَسْتَسْقِ الرَّجُلُ وَلْيُؤَمِّنُوا فَعِثْتُمْ مَا شِئْتُمْ» إِلَخْ.
قَالُوا: وَكَانَ مَعَهم النبيء صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ أَن يكون شَيْء مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْمِثْلُ يُحْمَلُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ عَلَى أَكْمَلِ أَفْرَادِهِ، قَالَ فَخْرُ الدِّينِ «الْمِثْلَانِ: هُمَا اللَّذَانِ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ» اهـ. فَلَا يُسَمَّى مِثْلًا حَقًّا إِلَّا الْمُمَاثِلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ وَأَجْزَائِهَا وَلَوَازِمِهَا دُونَ الْعَوَارِضِ، فَالْآيَةُ نَفَتْ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مُمَاثِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي صِفَاتِ ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُهَا ذَوَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقَاتِ فِي مَحْسُوسِ ذَوَاتِهَا فَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَبِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوَارِحِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ عِنْدَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا نُسَمِّيهِ بِالْمُتَشَابِهِ فَإِنَّمَا أَثْبَتُوهُ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِذْ لَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.
وَإِذْ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْمُوهِمَةِ