الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] .
وَالْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ حَرْفُ التَّأْكِيدِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ صُدِّرَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الشَّرْطِ لِيُحِيطَ التَّأْكِيدُ بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَوَارِضِ صِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ عُرُوضَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ لَهَا، لِأَنَّ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ تَطَلُّبَ مَسَالِكِ النَّفْعِ وَسَدَّ مَنَافِذِ الضُّرِّ مِمَّا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ لَا تَدْخُلُ بَعْضُ أَسْبَابِهَا فِي مَقْدُورِهِ، وَمِنْ طَبْعِهِ النَّظَرُ فِي الْوَسَائِلِ الْوَاقِيَةِ لَهُ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ مِنْ طَبْعِهِ تَحْرِيكُ خَيَالِهِ فِي تَصْوِيرِ قُوًى تُخَوِّلُهُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ فَإِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ خَيَالُهُ وُجُودَ قُوًى مُتَصَرِّفَةٍ فِي النَّوَامِيسِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَقْدُورِهِ خَالَهَا ضَالَّتَهُ الْمَنْشُودَةَ، فَرَكَنَ إِلَيْهَا وَآمَنَ بِهَا وَغَابَ عَنْهُ دَلِيلُ الْحَقِّ، إِمَّا لِقُصُورِ تَفْكِيرِهِ عَنْ دَرَكِهِ وَانْعِدَامِ الْمُرْشِدِ إِلَيْهِ، أَوْ لِغَلَبَةِ هَوَاهُ الَّذِي يُمْلِي عَلَيْهِ عِصْيَانَ الْمُرْشِدِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ الصَّالِحِينَ إِذْ لَا يَتْبَعُهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَهْتَدِي بِالْعَقْلِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا الْأَقَلُّ مِثْلَ الْحُكَمَاءِ، فَغَلَبَ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى النَّوْعِ بَقَوْلِهِ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [الشورى: 49] . وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ إِلَّا الصَّالِحُونَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنِهِمْ فِي كَمَالِ الْخُلُقِ وَقَدِ اسْتُفِيدَ خُرُوجُهُمْ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4- 6] .
وَقَدْ شَمِلَ وَصْفُ كَفُورٌ مَا يَشْمَلُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْأَكْثَرِ.
[49، 50]
[سُورَة الشورى (42) : الْآيَات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مِنْ عَجِيبِ خُلُقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَمْ يُهَذِّبْهُ الْهَدْيُ الْإِلَهِيُّ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ فَطْرِ الْإِنْسَانِ عَلَى هَاذِينَ الْخُلُقَيْنِ اللَّذَيْنِ
يَتَلَقَّى بِهِمَا نِعْمَةَ رَبِّهِ وَبَلَاءَهُ وَكَيْفَ لَمْ يُفْطَرْ عَلَى الْخُلُقِ الْأَكْمَلِ لِيَتَلَقَّى النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالضُّرَّ بِالصَّبْرِ وَالضَّرَاعَةِ، وَسُؤَالًا أَيْضًا عَنْ سَبَبِ إِذَاقَةِ الْإِنْسَانِ النِّعْمَةَ مَرَّةً وَالْبُؤْسَ مَرَّةً فَيَبْطَرُ وَيَكْفُرُ وَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلْ حَالَهُ كَفَافًا لَا لَذَّاتَ لَهُ وَلَا بَلَايَا كَحَالِ الْعَجْمَاوَاتِ فَكَانَ جَوَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ الْمُتَصَرِّفَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ فِيهِمَا مَا يَشَاءُ مِنَ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا. وَهُوَ جَوَابٌ إِجْمَالِيٌّ إِقْنَاعِيٌّ يُنَاسِبُ حَضْرَةَ التَّرَفُّعِ عَنِ الدُّخُولِ فِي المجادلة عَن الشؤون الْإِلَهِيَّةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ مِنَ الْإِجْمَالِ مَا يَبْعَثُ الْمُتَأَمِّلَ الْمُنْصِفَ عَلَى تَطَلُّبِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ تَطَلَّبَهَا انْقَادَتْ لَهُ كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ تَذْيِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي الْحِكْمَةِ فِي مَرَاتِبِ الْكَائِنَاتِ وَتَصَرُّفِ مُبْدِعِهَا، فَكَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أَكْمَلِ الْأَخْلَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَفَطَرَ الدَّوَابَّ عَلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُ كَمَالَ الْخَلْقِ، كَذَلِكَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى أَسَاسِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَعَلَهُ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ عُقُولِ أَفْرَادِهِ وَمَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ، وَخَلَقَهُ كَامِلَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَضِدِّهَا لِيَرْتَفِعَ دَرَجَاتٍ وَيَنْحَطَّ دَرَكَاتٍ مِمَّا يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُلَائِمُ فَطْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِطْرَةِ الْمَلَائِكَةِ حَالَةَ عَالَمِهِ الْمَادِّيِّ إِذْ لَا تَأَهُّلَ لِهَذَا الْعَالَمِ لِأَنْ يَكُونَ سُكَّانُهُ كَالْمَلَائِكَةِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَعَالَمِ الرُّوحِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا تَمَّ خَلْقُ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَآنَ أَوَانُ تَصَرُّفِهِ مَعَ قَرِينَتِهِ بِحَسَبِ مَا بَزَغَ فِيهِمَا مِنَ الْقُوَى، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ نُقِلَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى عَالَمِ الْمَادَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] .
وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسُدَّ عَلَى النَّوْعِ مَنَافِذَ الْكَمَالِ فَخَلَقَهُ خَلْقًا وَسَطًا بَيْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالْبَهِيمِيَّةِ إِذْ رَكَّبَهُ مِنَ الْمَادَّةِ وَأَوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَمْ يُخَلِّهِ عَنِ الْإِرْشَادِ بِوَاسِطَةِ وُسَطَاءَ وَتَعَاقُبِهِمْ فِي الْعُصُورِ وَتَنَاقُلِ إِرْشَادِهِمْ بَيْنَ الْأَجْيَالِ، فَإِنِ اتَّبَعَ إِرْشَادَهُمُ الْتَحَقَ بِأَخْلَاقِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْمَقَامَاتِ الَّتِي أَقَامَتْهُ فِي مَقَامِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فِي التَّفَاضُلِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 123، 124] ،
وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَة: 34] .
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً.
بَدَلَ مِنْ جُمْلَةِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ خَلْقَهُ مَا يَشَاءُ يَشْتَمِلُ عَلَى هِبَتِهِ لِمَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ. وَهَذَا الْإِبْدَالُ إِدْمَاجُ مَثَلٍ جَامِعٍ لِصُوَرِ إِصَابَةِ الْمَحْبُوبِ وَإِصَابَةِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً هُوَ مِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ غَالِبِ الْبَشَرِ وَيَتَضَمَّنُ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرَانِ وَهُوَ اعْتِقَادُ بَعْضِ النِّعْمَةِ سَيِّئَةً فِي عَادَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَطَيُّرِهِمْ بِوِلَادَةِ الْبَنَاتِ لَهُمْ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى التَّعْرِيضِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْإِنَاثِ عَلَى الذُّكُورِ فِي ابْتِدَاءِ تَعْدَادِ النِّعَمِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى عَكْسِ الْعَادَةِ فِي تَقْدِيمِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ حَيْثُمَا ذُكِرَا فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] وَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة: 39] فَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْمُرَادُ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا فَقَطْ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. وَتَنْكِيرُ إِناثاً لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَتَعْرِيفُ الذُّكُورَ بِاللَّامِ لِأَنَّهُمُ الصِّنْفُ الْمَعْهُودُ لِلْمُخَاطَبِينَ، فَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِمَقْصِدٍ، أَيْ يَهَبُ ذَلِكَ الصِّنْفَ الَّذِي تَعْهَدُونَهُ وَتَتَحَدَّثُونَ بِهِ وَتَرْغَبُونَ فِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَرْسَلَهَا الْعِرَاكُ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ.
وَالتَّزْوِيجُ قَرْنُ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَيَصِيرَانِ زَوْجًا. وَمِنْ مَجَازِهِ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِنْكَاحِ الرَّجُلِ امْرَأَةً لِأَنَّهُمَا يَصِيرَانِ كَالزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: جَعَلَهُمْ زَوْجًا فِي الْهِبَةِ، أَيْ يَجَمْعُ لِمَنْ يَشَاءُ فَيَهَبُ لَهُ ذُكْرَانًا مُشْفَعِينَ بِإِنَاثٍ فَالْمُرَادُ التَّزْوِيجُ بِصِنْفٍ آخَرَ لَا مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ بِفَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ الْآخَرِ.
وَالضَّمِيرُ فِي يُزَوِّجُهُمْ عَائِد إِلَى كلا مِنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ. وَانْتَصَبَ ذُكْراناً وَإِناثاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي يُزَوِّجُهُمْ.
وَالْعَقِيمُ: الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَفِعْلُهُ عَقِمَ مِنْ بَابِ فَرِحَ وَعَقُمَ مِنْ بَابِ كَرُمَ. وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ يُقَالُ عَقَمَهَا اللَّهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُقَالُ عُقِمَتِ الْمَرْأَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ عَقَمَهَا عَاقِمٌ لِأَنَّ سَبَبَ الْعُقْمِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ. فَهُوَ مِمَّا جَاءَ مُتَعَدِّيًا وَقَاصِرًا، فَالْقَاصِرُ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا وَالْمُتَعَدِّي بِفَتْحِهَا، وَالْعَقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غَالِبًا، وَرُبَّمَا ظَهَرَتِ التَّاءُ نَادِرًا قَالُوا:
رَحِمٌ عَقِيمَةٌ.
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَلْقَهُ مَا يَشَاءُ لَيْسَ خَلْقًا مُهْمَلًا عَرِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ لِأَنَّهُ وَاسِعُ الْعِلْمِ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ فَخَلْقُهُ الْأَشْيَاءَ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَهُوَ قَدِيرٌ نَافِذُ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا عَلِمَ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ شَيْءٍ أَرَادَهُ، فَجَرَى عَلَى قَدْرِهِ. وَلَمَّا جَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ هُنَالِكَ صِفَةً مَطْوِيَّةً وَهِيَ الْإِرَادَةُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِالْكَائِنِ.
وَتَفْصِيلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالْمُؤَثِّرَاتِ الَّتِي وَضَعَهَا فِي الْعَوَالِمِ، وَبِتَوَافُقِ آثَارِ بَعْضِهَا وَتَخَالُفِ بَعْضٍ، وَكَيْفَ تَتَكَوَّنُ الْكَائِنَاتُ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّرَ لَهَا مِنَ الْأَوْضَاعِ، وَكَيْفَ تَتَظَاهَرُ فَتَأْتِي الْآثَارُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَتَتَمَانَعُ فَيَنْقُصُ تَأْثِيرُ بَعْضِهَا فِي آثَارِهِ بِسَبَبِ مُمَانَعَةِ مُؤَثِّرَاتٍ أُخْرَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِي أَصْلِ التَّكْوِينِ الْعَالَمِيِّ وَمَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ فِي الْجَرْيِ عَلَى وفَاق علمه.