الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ فَوَاتَ التَّدَارُكِ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ قَبْلَهَا «فَلَهُ مَا سَلَفَ» وَجَاءَ هُنَا وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا- إِلَى قَوْلِهِ- وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ تَقْتَضِي نَقْضَهَا، وَانْتِقَالَ الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ، وَالْفَوَاتَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَالرُّجُوعَ بهَا إِلَى رُؤُوس الْأَمْوَالِ أَوْ إِلَى الْقِيَمِ إِنْ فَاتَتْ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ مِنْ رَأس المَال.
ورؤوس الْأَمْوَالِ أُصُولُهَا، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الرَّأْسِ عَلَى الْأَصْلِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ» .
وَمَعْنَى لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ لَا تَأْخُذُونَ مَالَ الْغَيْرِ وَلَا يَأْخُذُ غَيْرُكُمْ أَمْوَالَكُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأْذَنُوا- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَفَتْحِ الذَّالِ- أَمْرًا مِنْ أَذِنَ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَخَلَفٌ فَآذِنُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَبِذَالٍ مَكْسُورَةٍ- أَمْرًا مِنْ آذَنَ بِكَذَا إِذَا أَعْلَمَ بِهِ أَيْ فَآذِنُوا أَنْفُسَكُمْ وَمن حَوْلكُمْ.
[280]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 280]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
عَطْفٌ عَلَى قَوْله: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَسْتَرْجِعُونَهَا مُعَجَّلَةً، إِذِ الْعُقُودُ قَدْ فُسِخَتْ. فَعَطَفَ عَلَيْهِ حَالَةً أُخْرَى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ حَالَةٌ مُقَدَّرَةٌ مَفْهُومَةٌ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَدُلُّ عَلَى التَّسَبُّبِ، وَالْأَصْلُ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى وَإِنْ حَصَلَ ذُو عُسْرَةٍ، أَيْ غَرِيمٌ مُعْسِرٌ.
وَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَى أَنْ (ذُو) تُضَافُ لِغَيْرِ مَا يُفِيدُ شَيْئًا شَرِيفًا.
وَالنَّظِرَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ- الِانْتِظَارُ.
وَالْمَيْسُرَةُ- بِضَمِّ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَبِفَتْحِهَا فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ- اسْمٌ لِلْيُسْرِ وَهُوَ ضِدُّ الْعُسْرِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهِيَ مَفْعُلَةٌ كَمَشْرُقَةٍ وَمَشْرُبَةٍ وَمَأْلُكَةٍ وَمَقْدُرَةٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَمَفْعَلَةٌ بِالْفَتْحِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ.
وَجُمْلَةُ فَنَظِرَةٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَنَظِرَةٌ لَهُ.
وَالصِّيغَةُ طَلَبٌ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ. فَإِن أُرِيد بالعسرة الْعَدَمُ أَيْ نَفَادُ مَالِهِ كُلِّهِ فَالطَّلَبُ لِلْوُجُوبِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْطَالُ حُكْمِ بَيْعِ الْمُعْسِرِ وَاسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ حُكْمٌ قَدِيمٌ فِي الْأُمَمِ كَانَ مِنْ حُكْمِ الْمِصْرِيِّينَ، فَفِي الْقُرْآنِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يُوسُف: 76] . وَكَانَ فِي شَرِيعَةِ الرُّومَانِ اسْتِرْقَاقُ الْمَدِينِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَثْبُتْ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعُسْرَةِ ضِيقُ الْحَالِ وَإِضْرَارُ الْمَدِينِ بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ فَالطَّلَبُ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ، وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، فَمَنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يُنْظِرْهُ وَلَوْ بِبَيْعِ جَمِيعِ مَالِهِ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَالْإِنْظَارُ مَعْرُوفٌ وَالْمَعْرُوفُ لَا يَجِبُ. غَيْرَ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ بِقُرْطُبَةَ كَانُوا لَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ الدَّفْعِ، وَيُؤَجِّلُونَهُ بِالِاجْتِهَادِ لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ بِتَعْجِيلِ بَيْعِ مَا بِهِ الْخَلَاصُ.
وَمَوْرِدُ الْآيَةِ عَلَى دُيُونِ مُعَامَلَاتِ الرِّبَا، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَمَّمُوهَا فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا خُصُوصَ السَّبَبِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ حُكْمَ الرِّبَا صَارَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا بَحْتًا، فَمَا عُيِّنَ لَهُ مِنْ طَلَبِ الْإِنْظَارِ فِي الْآيَةِ حُكْمٌ ثَابِتٌ لِلدَّيْنِ كُلِّهِ. وَخَالَفَ شُرَيْحٌ فَخَصَّ الْآيَةَ بِالدُّيُونِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى رِبًا ثُمَّ أُبْطِلَ رِبَاهَا.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ أَنَّ إِسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنِ الْمُعْسِرِ وَالتَّنْفِيسَ عَلَيْهِ بِإِغْنَائِهِ أَفْضَلُ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ صَدَقَةً لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيجَ الْكَرْبِ وَإِغَاثَةَ الْمَلْهُوفِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعَشَرَةِ تَصَدَّقُوا- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ- عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَصَدَّقُوا فَقُلَبَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ صَادًا لِتَقَارُبِهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِي الصَّاد، وقرأه عَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ للتَّخْفِيف.