الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ (بُهِتَ) فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ يُقَالُ بَهَتَهُ فَبُهِتَ بِمَعْنَى أَعْجَزَهُ عَنِ الْجَوَابِ فَعَجَزَ أَوْ فَاجَأَهُ بِمَا لَمْ يَعْرِفْ دَفْعَهُ قَالَ تَعَالَى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: 40] وَقَالَ عُرْوَةُ الْعُذْرِيُّ:
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً
…
فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
وَمِنْهُ الْبُهْتَانُ وَهُوَ الْكَذِبُ الْفَظِيعُ الَّذِي يَبْهَتُ سَامِعَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ هُوَ حَوْصَلَةُ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى هدي الله لقوم الظَّالِمِينَ لِأَنَّ الظُّلْمَ حَائِلٌ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ التَّنَازُلِ إِلَى التَّأَمُّلِ مِنَ الْحُجَجِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِيمَا فِيهِ النَّفْعُ إِذِ الذِّهْنُ فِي شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ بِزَهْوِهِ وَغُرُورِهِ.
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْجَدَلِ فَهُوَ جِدَالُ الْمُكَابَرَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَتَرْوِيجِ الْبَاطِل والخطإ.
[259]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
تَخْيِيرٌ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: 258] فِي مَعْنَى التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُرَادُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ:«وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ» وَإِذْ قَدْ قَرَّرَ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا ثُبُوتَ انْفِرَاد الله بالإلهية، وَذَلِكَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ، أَعْقَبَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي إِنْكَارُهُ أَصْلُ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ الصِّيغَتَيْنِ فِي التَّعَجُّبِ: يَقُولُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى كَذَا، وَيَقُولُونَ أَرَأَيْتَ مِثْلَ كَذَا أَوْ كَكَذَا، وَقَدْ يُقَالُ أَلَمْ تَرَ كَكَذَا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ،
وَفِي الحَدِيث «فَلم أره كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ»
، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْخَيْرِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ فَتَقُولَ: أَلَمْ تَرَ كَالْيَوْمِ- فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ-، وَحَيْثُ حُذِفَ الْفِعْلُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَمَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى تَقْدِيرِهِ: أَرَأَيْتَ كَالَّذِي لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي التَّعَجُّبِ مَعَ كَافِ التَّشْبِيهِ.
وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ قِيلَ هُوَ أَرْمِيَا بْنُ حَلْقيَا، وَقِيلَ هُوَ عُزَيْرُ بْنُ شَرْخِيَا (عِزْرَا بْنُ سَرَّيَّا) . وَالْقَرْيَةُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ حِزْقِيَالُ ابْن بُوزِي نَبِيءُ إِسْرَائِيلَ كَانَ مُعَاصِرًا لِأَرْمِيَا وَدَانْيَالَ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ بُخْتُنَصَّرُ إِلَى بَابِلَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّادِسِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَزْمَ بُخْتُنَصَّرَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الْيَهُودِ وَجَمْعِهِ آثَارِ الْهَيْكَلِ لِيَأْتِيَ بِهَا إِلَى بَابِلَ، جَمَعَ كُتُبَ شَرِيعَةِ مُوسَى وَتَابُوتَ الْعَهْدِ وَعَصَا مُوسَى وَرَمَاهَا فِي بِئْر فِي أُورْشَلِيمَ خَشْيَةَ أَنْ يَحْرِقَهَا بُخْتُنَصَّرُ، وَلَعَلَّهُ اتَّخَذَ عَلَامَةً يَعْرِفُهَا بِهَا وَجَعَلَهَا سِرًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَاءِ زَمَانِهِ وَوَرَثَتِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ إِلَى بَابِلَ بَقِيَ هُنَالِكَ وَكَتَبَ كِتَابًا فِي مَرَاءٍ رَآهَا وَحْيًا تَدُلُّ عَلَى مَصَائِبِ الْيَهُودِ وَمَا يُرْجَى لَهُمْ مِنَ الْخَلَاصِ، وَكَانَ آخِرُ مَا كَتَبَهُ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ سَبْيِ الْيَهُودِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ بَعْدُ كَمَا وَرَدَ فِي تَارِيخِهِمْ، وَيُظَنُّ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَتَبَهُ «أَخْرَجَنِي رُوحُ الرَّبِّ وَأَنْزَلَنِي فِي وَسَطِ الْبُقْعَةِ وَهِيَ مَلْآنَةٌ عِظَامًا كَثِيرَةً وَأَمَّرَنِي عَلَيْهَا وَإِذَا تِلْكَ الْبُقْعَةُ يَابِسَةٌ فَقَالَ لِي: أَتَحْيَى هَذِهِ الْعِظَامُ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي الرَّبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ. فَقَالَ لِي: تَنَبَّأْ عَلَى هَذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ قَالَ هَا أَنَا ذَا أُدْخِلُ فِيكُمُ الرُّوحَ وَأَضَعُ عَلَيْكُمْ عَصَبًا وَأَكْسُوكُمْ لَحْمًا وَجِلْدًا. فَتَنَبَّأْتُ، كَمَا أَمَرَنِي فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عظم إِلَى عطمه، وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِاللَّحْمِ وَالْعَصَبِ كَسَاهَا وَبُسِطَ الْجِلْدُ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقُ وَدَخَلَ فِيهِمُ الرُّوحُ فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظِيمٌ جِدًّا» . وَلَمَّا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا فَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَعَادَ عُمْرَانَ أُورْشَلِيمَ فِي عَهْدِ عِزْرَا النَّبِيءِ فِي حُدُودِ سَنَةِ 450 قَبْلَ الْمَسِيحِ أَحْيَا النَّبِيءَ حِزْقِيَالَ- عليه السلام لِيَرَى مِصْدَاقَ نُبُوَّتِهِ، وَأَرَاهُ إِحْيَاءَ الْعِظَامِ، وَأَرَاهُ آيَةً فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَحِمَارِهِ- وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَعْضِ أَصْفِيَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ- وَجَعَلَ خَبَرَهُ آيَةً لِلنَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ
الَّذِينَ يُوقِنُونَ بِمَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ لِقَوْمٍ أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْفِيَائِهِ، أَوْ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَفُقِدَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَجَاءَهُمْ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ وَتَحَقَّقَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ بِصِفَاتِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ إِشَارَةً إِلَى
قَوْلِهِ: «أَخْرَجَنِي رُوحُ الرَّبِّ وَأَمَّرَنِي عَلَيْهَا» . فَقَوْلُهُ: قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ أَتَحْيَى هَذِهِ الْعِظَامُ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي أَنْتَ تَعْلَمُ لِأَنَّ كَلَامه هَذَا ينبىء بِاسْتِبْعَادِ إِحْيَائِهَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ إِلَخ مِمَّا زَادَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْبَيَانِ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بَعْدَ مُرُورِ أَزْمِنَةٍ، وَيُظَنُّ مِنْ هُنَا أَنَّهُ مَاتَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 560 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ تَجْدِيدُ أُورْشَلِيمَ فِي حُدُودِ 458 فَتِلْكَ مِائَةُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً تَذْكِرَةً لَهُ بِتِلْكَ النُّبُوءَةِ وَهِيَ تَجْدِيدُ مَدِينَةِ إِسْرَائِيلَ.
وَقَوْلُهُ: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها الْخَاوِيَةُ: الْفَارِغَةُ مِنَ السُّكَّانِ وَالْبِنَاءِ.
وَالْعُرُوشُ جَمْعُ عَرْشٍ وَهُوَ السَّقْفُ. وَالظَّرْفُ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا خَاوِيَةٌ سَاقِطَةٌ عَلَى سَقْفِهَا وَذَلِكَ أَشَدُّ الْخَرَابِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْبِنَاءِ السَّقْفُ ثُمَّ تَسْقُطُ الْجُدْرَانُ عَلَى تِلْكَ السَّقُفُ. وَالْقَرْيَةُ هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ رَآهَا فِي نَوْمِهِ كَذَلِكَ أَوْ رَآهَا حِينَ خَرَّبَهَا رُسُلُ بُخْتُنَصَّرَ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ سُبِيَ مَعَ (يَهُويَا قِيمَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ وَهُوَ لَمْ يَقَعِ التَّخْرِيبُ فِي زَمَنِهِ بل وَقع رفي زَمَنِ (صِدِقْيَا) أَخِيهِ بَعْدَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَاسْتِبْعَادٍ، وَقَوْلُهُ: فَأَماتَهُ اللَّهُ التَّعْقِيبُ فِيهِ بِحَسَبِ الْمُعَقَّبِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَمَاتَهُ فِي وَقْتِ قَوْلِهِ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَامَ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فِي نَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثَهُ أَي أَحْيَاهُ وَهِي حَيَاةً خَاصَّةً رُدَّتْ بِهَا رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ لِأَنَّ جَسَدَهُ لَمْ يَبْلَ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا بَعْثٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ بَعْثِ الْحَشْرِ.
وَقَوْلُهُ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ اعْتَقَدَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ أَوْ لِأَنَّهُ تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَامَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَوَجَدَ الْوَقْتَ الَّذِي أَفَاقَ فِيهِ آخر نَهَار.
وَقَوْلُهُ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ أَمْرٌ لِلِاعْتِبَارِ أَيْ فَانْظُرْهُ فِي حَالِ أَنَّهُ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ كَانَا مَعَهُ حِينَ أُمِيتَ أَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ فِي قَبْرِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أُمَّةٍ أَوْ فِي بَلَدٍ يَضَعُونَ الطَّعَامَ لِلْمَوْتَى الْمُكَرَّمِينَ كَمَا يَفْعَلُ الْمِصْرِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، أَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حِينَ خَرَجَ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فِي نَوْمِهِ كَمَا قِيلَ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى لَمْ يَتَسَنَّهْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّنَةِ لِأَنَّ مَرَّ السِّنِينَ يُوجِبُ التَّغَيُّرَ
وَهُوَ مِثْلُ تَحَجُّرِ الطِّينِ، وَالْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ لَا هَاءُ سَكْتٍ، وَرُبَّمَا عَامَلُوا هَاءَ سَنَةٍ مُعَامَلَةَ التَّاءِ فِي الِاشْتِقَاقِ فَقَالُوا أَسْنَتَ فُلَانٌ إِذَا أَصَابَتْهُ سَنَةٌ أَيْ مَجَاعَةٌ، قَالَ مَطْرُودٌ الْخُزَاعِيُّ، أَوِ ابْنُ الزِّبَعْرَى:
عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ
…
قَوْمٍ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينِ عِجَافِ
وَقَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ قيل: كَانَ حِمَارُهُ قَدْ بَلِيَ فَلَمْ تَبْقَ إِلَّا عِظَامُهُ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ أَمَامَهُ. وَلَمْ يُؤْتِ مَعَ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ بِذِكْرِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النَّظَرِ إِلَيْهِ كَافٍ، فَإِنَّهُ رَآهُ عِظَامًا ثُمَّ رَآهُ حَيًّا، وَلَعَلَّهُ هَلَكَ فَبَقِيَ بِتِلْكَ السَّاحَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا حِزْقِيَالُ بَعِيدًا عَنِ الْعُمْرَانِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَنْوَاعَ الْإِحْيَاء إِذْ أحيى جَسَدَهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ- عَنْ غير إِعَادَة- وأحيى طَعَامَهُ بِحِفْظِهِ من التغيّر وأحيى حِمَارَهُ بِالْإِعَادَةِ فَكَانَ آيَةً عَظِيمَةً لِلنَّاسِ الْمُوقِنِينَ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ الْأَحْيَاءَ بَعْضَ الْأَحْيَاءِ مِنْ أَصْفِيَائِهِ.
فَقَوْلُهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاعْتِبَارِ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ إِلَى ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَالْمَقْصُودُ اعْتِبَارُهُ فِي اسْتِبْعَادِهِ أَنْ يُحْيِيَ اللَّهُ الْقَرْيَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَكَانَ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ انْظُرْ إِلَى مَا ذُكِرَ جَعَلْنَاهُ آيَةً لَكَ عَلَى الْبَعْثِ وَجَعَلْنَاكَ آيَةً لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَحِمَارَهُ، وَلَكِنْ رَأَوْا ذَاتَهُ وَتَحَقَّقُوهُ بِصِفَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ عِظَامُ بَعْضِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِينَ هَلَكُوا، أَوْ أَرَادَ عِظَامَ الْحِمَارِ فَتَكُونَ (الْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ إِلَى الْعِظَامِ فِي قُوَّةِ الْبَدَلِ مِنْ حِمَارِكَ إِلَّا أَنَّهُ بَرَزَ فِيهِ الْعَامِلُ الْمَنَوِيُّ تَكْرِيرُهُ.
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ نُنْشِرُهَا بِالرَّاءِ مُضَارِعُ أَنْشَرَ الرُّبَاعِيِّ بِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: نُنْشِزُها- بالزاي- مضارع أنشزه إِذَا رَفَعَهُ، وَالنَّشْزُ الِارْتِفَاعُ، وَالْمُرَادُ ارْتِفَاعُهَا حِينَ تَغْلُظُ بِإِحَاطَةِ الْعَصَبِ وَاللَّحْمِ وَالدَّمِ بِهَا فَحَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْن مَعْنيانِ لكملة وَاحِدَةٍ، وَفِي كِتَابِ (حِزْقِيَالَ)«فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى عَظْمِهِ، وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِالْعَصَبِ وَاللَّحْمِ كَسَاهَا وَبُسِطَ الْجِلْدُ عَلَيْهَا» .