الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَزِيدَتْ كَلِمَةُ (عِنْدَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مِنْ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ دُونَ الْمَجَازِيِّ، أَيْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ، وَلَيْسَ كَقَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 197] .
وَجُمْلَةُ وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ تَذْيِيلٌ، لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ، مَسُوقٌ مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي اهْتِدَائِهِمْ إِلَى صَحِيحِ الْفَهْمِ.
وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [197] .
[8، 9]
[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 8 إِلَى 9]
رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
دُعَاءٌ علّمه النبيء صلى الله عليه وسلم، تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ: لِأَنَّ الْمَوْقِعَ الْمَحْكِيَّ مَوْقِعُ عِبْرَةٍ وَمَثَارٍ لِهَوَاجِسِ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ الْمَصِيرِ إِلَى حَالِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَمَا هُمْ إِلَّا مِنْ عُقَلَاءِ الْبَشَرِ، لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَا فِي سَلَامَةِ الْعُقُولِ وَالْمَشَاعِرِ، فَمَا كَانَ ضلالهم إلّا عَن حِرْمَانِهِمُ التَّوْفِيقَ، وَاللُّطْفَ، وَوَسَائِلَ الِاهْتِدَاءِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمرَان: 7] الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا قُصِدَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهًا، إِيقَاظَ الْأُمَّةِ إِلَى ذَلِكَ لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَدَبُّرِ كِتَابِهَا: تَحْذِيرًا لَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ، الَّذِي أَوْقَعَ الْأُمَمَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ وُجُودُ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي كُتُبِهَا، وَتَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنِ اتِّبَاعِ الْبَوَارِقِ الْبَاطِلَةِ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنَ الرِّدَّةِ وَالْعِصْيَانِ، بَعْدَ وَفَاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، لِتَوَهُّمِ أَنَّ التَّدَيُّنَ بِالدِّينِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ وُجُودِ الرَّسُولِ بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي صَلَاتِهِ مُدَّةَ ارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَصَلَّيْتُ
وَرَاءَهُ الْمَغْرِبَ فَقَامَ فِي الثَّالِثَةِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَادُ تَمَسُّ ثِيَابَهُ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْآيَةِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا الْآيَةَ.
فَزَيْغُ الْقَلْبِ يَتَسَبَّبُ عَنْ عَوَارِضَ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ: مِنْ خَلَلٍ فِي ذَاتِهِ، أَوْ دَوَاعٍ مِنَ الْخُلْطَةِ أَوِ الشَّهْوَةِ، أَوْ ضَعْفِ الْإِرَادَةِ، تَحَوَّلُ بِالنَّفْسِ عَنِ الْفَضَائِلِ الْمُتَحَلِّيَةِ بِهَا إِلَى رَذَائِلَ كَانَتْ تَهْجِسُ بِالنَّفْسِ فَتَذُودُهَا النَّفْسُ عَنْهَا بِمَا اسْتَقَرَّ فِي النَّفْسِ مِنْ تَعَالِيمِ الْخَيْرِ الْمُسَمَّاةِ بِالْهُدَى، وَلَا يَدْرِي الْمُؤْمِنُ، وَلَا الْعَاقِلُ، وَلَا الْحَكِيمُ، وَلَا الْمُهَذَّبُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ تَحُلُّ فِيهَا بِهِ أَسْبَابُ الشَّقَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَدْرِي الشَّقِيُّ، وَلَا الْمُنْهَمِكُ، الْأَفِنُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ تَحُفُّ فِيهَا بِهِ أَسْبَابُ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ تَغَيُّرِ خَلْقٍ، أَوْ خُلُقٍ، أَوْ تَبَدُّلِ خَلِيطٍ، قَالَ تَعَالَى:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَام: 110] وَلِذَا كَانَ دَأْبُ الْقُرْآنِ قَرْنَ الثَّنَاءِ بِالتَّحْذِيرِ، وَالْبِشَارَةِ بِالْإِنْذَارِ.
وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا تَحْقِيقٌ لِلدَّعْوَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ إِذْ أَسْنَدُوا الْهُدَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ كَرَمًا مِنْهُ، وَلَا يَرْجِعُ الْكَرِيمُ فِي عَطِيَّتِهِ، وَقَدِ استعاذ النبيء صلى الله عليه وسلم مِنَ
السَّلْبِ بَعْدَ الْعَطَاءِ.
وَإِذ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي مُتَصَرِّفٌ، وَهِيَ هُنَا مُتَصَرِّفَةٌ تَصَرُّفًا قَلِيلًا لِأَنَّهَا لَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ، كَانَتْ فِي معنى الظروف، وَلَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ كَانَتْ فِيهَا شَائِبَةُ تَصَرُّفٍ، كَمَا هِيَ فِي يَوْمَئِذٍ وَحِينَئِذٍ، أَيْ بَعْدَ زَمَنِ هِدَايَتِكَ إِيَّانَا.
وَقَوْلُهُ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً طَلَبُوا أَثَرَ الدَّوَامِ عَلَى الْهُدَى وَهُوَ الرَّحْمَةُ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْعَ دَوَاعِي الزَّيْغِ وَالشَّرِّ. وَجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ تَيْسِيرَ أَسْبَابِهَا، وَتَكْوِينَ مُهَيِّئَاتِهَا، بِتَقْدِيرِ اللَّهِ إِذْ لَوْ شَاءَ لَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَرَّضًا لِنُزُولِ الْمَصَائِبِ وَالشُّرُورِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِمَوْجُودَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَيَّةٍ وَغَيْرِ حَيَّةٍ، هُوَ تِلْقَاءَهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِهِ بِإِيقَاظِ عَقْلِهِ لِاتِّقَاءِ الْحَوَادِثِ، وَبِإِرْشَادِهِ لِاجْتِنَابِ أَفْعَالِ الشُّرُورِ الْمُهْلِكَةِ، وَبِإِلْهَامِهِ إِلَى مَا فِيهِ نَفْعُهُ، وَبِجَعْلِ تِلْكَ الْقُوَى الْغَالِبَةِ لَهُ قُوَى عَمْيَاءَ لَا تَهْتَدِي سَبِيلًا إِلَى قَصْدِهِ، وَلَا تُصَادِفُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] وَمِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ اللُّطْفِ أَحْوَالُ الِاضْطِرَارِ وَالِالْتِجَاءِ وَقَدْ كُنْتُ قُلْتُ كَلِمَةَ «اللُّطْفُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ» .