الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الزَّعْمِ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ
النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.
وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَال أَي يعتمدون الْكَذِبَ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا قَاسُوهُ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِمْ لَيْسَ الْقِيَاسُ فِيهِ بِصَحِيحٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِالْكَذِبِ، إِذِ الشُّبْهَةُ الضعيفة كالعهد.
و (بلَى) حَرْفُ جَوَابٍ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ فَهُوَ هُنَا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: 75] .
و (بلَى) غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَام الْمَنْفِيِّ بَلْ يُجَاب بهَا عِنْد قَصْدِ الْإِبْطَالِ، وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِهَا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَنْفِيِّ، وَجِيءَ فِي الْجَوَابِ بِحُكْمٍ عَامٍّ لِيَشْمَلَ الْمَقْصُودَ وَغَيْرَهُ: تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى، وَقَصْدًا فِي اللَّفْظِ، فَقَالَ: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أَيْ لَمْ يَخُنْ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ عَهْدٌ، وَاتَّقى» رَبَّهُ فَلَمْ يَدْحَضْ حق غَيره إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَة: 13] أَيِ الْمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ ضِدِّ الْمَذْكُورِ بِقَرِينَة الْمقَام.
[77]
[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 77]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ فِي خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ إِبْطَالًا لِلْعَهْدِ، وَلِلْحِلْفِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقُرَيْشٍ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ ذِكْرُ الْخُلُقِ الْجَامِعِ لِشَتَاتِ مَسَاوِئِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، دَعَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ جَرَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْيَهُودِ مُفَرَّقَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [40] : أَوْفُوا بِعَهْدِي، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 41] . مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [الْبَقَرَة: 102] . وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: 174] . فَعَلِمْنَا أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ تَسْمِيَةِ دِينِهِمْ بِالْعَهْدِ وَبِالْمِيثَاقِ، فِي مَوَاضِعَ، لِأَنَّ مُوسَى عَاهَدَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَبَيَّنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْبَارِ.
وَمَعْنَى وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ إِذْ قَدْ شَاعَ نَفْيُ
الْكَلَامِ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْغَضَبِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْإِقْبَالِ وَالْعِنَايَةِ، وَنَفْيُ النَّظَرِ فِي الْغَضَبِ فَالنَّظَرُ الْمَنْفِيُّ هُنَا نَظَرٌ خَاصٌّ. وَهَاتَانِ الْكِنَايَتَانِ يَجُوزُ مَعَهُمَا إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَا يُقْلِعُونَ عَنْ آثَامِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْ رِقَّةِ الدِّيَانَةِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ يُرْجَى لَهُ صَلَاحٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا يُنَمِّيهِمْ أَيْ لَا يُكْثِرُ حُظُوظَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ.
وَفِي مَجِيءِ هَذَا الْوَعِيدِ، عَقِبَ الصِّلَةِ، وَهِيَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الْآيَةَ، إِيذَانٌ بِأَنَّ مَنْ شَابَهَهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِمْ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ حَلَفَ يَمِينًا بَاطِلَةً، وَكُلٌّ يَظُنُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا يَعْرِفُهُ مِنْ قِصَّةِ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ،
فَفِي «الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلْفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ الْآيَةَ فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: «مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عبد الرحمان» قُلْنَا: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي» فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَيِّنَتَكَ أَوْ يَمِينَهُ- قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ
الْحَدِيثَ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الْآيَةَ.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَاتِهِ الْآيَةَ فِي قِصَّةٍ وَجَبَتْ فِيهَا يَمِينٌ لردّ دَعْوَى: