الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعُبِّرَ عَنْ تَكْوِينِ اللَّهِ لِعِيسَى بِفِعْلِ يَخْلُقُ: لِأَنَّهُ إِيجَادُ كَائِنٍ مِنْ غَيْرِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ لِإِيجَادِ مِثْلِهِ، فَهُوَ خَلْقٌ أنف غير ناشىء عَنْ أَسْبَابِ إِيجَادِ النَّاسِ، فَكَانَ لِفِعْلِ يَخْلُقُ هُنَا مَوْقِعٌ مُتَعَيِّنٌ، فَإِنَّ الصَّانِعَ إِذَا صَنَعَ شَيْئًا مِنْ مَوَادَّ مُعْتَادَةٍ وَصَنْعَةٍ مُعْتَادَةٍ، لَا يَقُولُ خَلَقْتُ وَإِنَّمَا يَقُول صنعت.
[48، 49]
[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 48 إِلَى 49]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
جُمْلَةُ وَيُعَلِّمُهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمرَان: 46] بَعْدَ انْتِهَاءِ الِاعْتِرَاضِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ: وَيُعَلِّمُهُ- بِالتَّحْتِيَّةِ- أَيْ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِنُونِ
الْعَظَمَةِ، عَلَى الِالْتِفَاتِ.
وَالْكِتَابُ مُرَادٌ بِهِ الْكِتَابُ الْمَعْهُودُ. وَعَطْفُ التَّوْرَاةِ تَمْهِيدٌ لِعَطْفِ الْإِنْجِيلِ- وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ- وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَرَسُولًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ (يُعَلِّمُهُ) لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ، لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَحَلٍّ مِنَ الْإِعْرَابِ، هِيَ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فَنُصِبَ رَسُولًا عَلَى الْحَالِ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ قَوْلُهُ بِكَلِمَةٍ، فَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.
وَفَتْحُ هَمْزَةِ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ لِتَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ بَعْدَ رَسُولًا، أَيْ رَسُولًا بِهَذَا الْمَقَالِ لِمَا تَضَمَّنَهُ وَصْفُ رَسُولًا مِنْ كَوْنِهِ مَبْعُوثًا بِكَلَامٍ، فَهَذَا مَبْدَأُ كَلَامٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.
وَمَعْنَى جِئْتُكُمْ أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ [الزخرف: 63] .
وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا بِأَنَّهُ جَاءَ بِآيَةٍ. شَبَّهَ أَمْرَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَةً بِمَجِيءِ الْمُرْسَلِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النَّبِيءُ رَسُولًا.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِآيَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ مُقَارِنًا لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِي فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِفِعْلِ الْمَجِيءِ. وَالْمَجْرُور مُتَعَلق بجئتكم عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ مَعْنَى جِئْتُكُمْ: أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: أَنِّي أَخْلُقُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ آيَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنِّي عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ.
وَالْخَلْقُ: حَقِيقَتُهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بِقَدْرٍ، وَمِنْهُ خَلْقُ الْأَدِيمِ تَقْدِيرُهُ بِحَسْبِ مَا يُرَادُ مِنْ قَطْعِهِ قَبْلَ قَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خلقت وَبَعض الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يُرِيدُ تَقْدِيرَ الْأَدِيمِ قَبْلَ قَطْعِهِ وَالْقَطْعُ هُوَ الْفَرْيُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مَشْهُورًا أَوْ مُشْتَرَكًا فِي الْإِنْشَاءِ، وَالْإِبْدَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ وَلَا احْتِذَاءٍ، وَفِي الْإِنْشَاءِ عَلَى مِثَالِ يُبْدِعُ وَيُقَدِّرُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: 11] فَهُوَ إِبْدَاعُ الشَّيْءِ وَإِبْرَازُهُ لِلْوُجُودِ
وَالْخَلْقُ هُنَا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته أَيْ: أُقَدِّرُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ خَلْقَ الْحَيَوَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَأَنْفُخُ فِيهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الطَّيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [360] . وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَهِيَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَخْلُقُ، أَيْ شَيْئًا مُقَدَّرًا مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «الطَّيْرَ» وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ غَالِبًا وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ «الطَّائِرِ» .
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِـ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْفُخُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكَافُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ- وَحْدَهُ- فَيَكُونُ طَائِرًا بِالْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَيَكُونُ طَيْرًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْجَمْعِ فَقِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَى مُرَاعَاةِ انْفِرَادِ الضَّمِيرِ، وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى. جَعَلَ لِنَفْسِهِ التَّقْدِيرَ، وَأَسْنَدَ لِلَّهِ تَكْوِينَ الْحَيَاةِ فِيهِ.
وَالْهَيْئَةُ: الصُّورَةُ وَالْكَيْفِيَّةُ أَيْ أُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ صُورَةً كَصُورَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْجَمِيعُ كَهَيْئَةِ بِتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ.
وَزَادَ قَوْلَهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ، وَنَفْيِ تَوَهُّمِ الْمُشَارَكَةِ فِي خَلْقِ الْكَائِنَاتِ.
وَالْأَكْمَهُ: الْأَعْمَى، أَوِ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى.
وَالْأَبْرَصُ: الْمُصَابُ بِدَاءِ الْبَرَصِ وَهُوَ دَاءٌ جِلْدِيٌّ لَهُ مَظَاهِرُ مُتَنَوِّعَةٌ مِنْهَا الْخَفِيفُ وَمِنْهَا الْقَوِيُّ وَأَعْرَاضُهُ بُقَعٌ بَيْضَاءُ شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ تَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ فَإِنْ كَانَتْ غَائِرَةً فِي الْجِلْدِ فَهُوَ الْبَرَصُ وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِسَطْحِ الْجِلْدِ فَهُوَ الْبَهَقُ ثُمَّ تَنْتَشِرُ عَلَى الْجِلْدِ فَرُبَّمَا عَمَّتِ الْجِلْدَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِيرَ أَبْيَضَ، وَرُبَّمَا بَقِيَتْ مُتَمَيِّزَةً عَنْ لَوْنِ الْجِلْدِ.
وَأَسْبَابُهُ مَجْهُولَةٌ، وَيَأْتِي بِالْوِرَاثَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْدٍ، وَشُوهِدَ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِهِ تَكْثُرُ فِي الَّذِينَ يُقَلِّلُونَ مِنَ النَّظَافَةِ أَوْ يَسْكُنُونَ الْأَمَاكِن القذرة. وَالْعرب وَالْعِبْرَانِيُّونَ وَالْيُونَانُ يُطْلِقُونَ الْبَرَصَ عَلَى مَرَضٍ آخَرَ هُوَ مِنْ مَبَادِئِ الْجُذَامِ فَكَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِالْبَرَصِ إِذَا بَدَتْ أَعْرَاضُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَأَمَّا الْعَرَبُ فَكَانَ مُلُوكُهُمْ لَا يُكَلِّمُونَ الْأَبْرَصَ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الشَّاعِرِ مَعَ الْمَلِكِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ. وَأَمَّا الْعِبْرَانِيُّونَ فَهُمْ أَشَدُّ فِي ذَلِكَ. وَقَدِ اهْتَمَّتِ التَّوْرَاةُ بِأَحْكَامِ الْأَبْرَصِ، وَأَطَالَتْ فِي بَيَانِهَا، وَكَرَّرَتْهُ مِرَارًا، وَيَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّهُ مَرَضٌ يَنْزِلُ فِي الْهَوَاءِ وَيَلْتَصِقُ بِجُدْرَانِ الْمَنَازِلِ، وَقَدْ وَصَفَهُ الْوَحْيُ لِمُوسَى لِيُعَلِّمَهُ
الْكَهَنَةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُعَلِّمَهُمْ طَرِيقَةَ عِلَاجِهِ، وَمِنْ أَحْكَامِهِمْ أَنَّ الْمُصَابَ يُعْزَلُ عَنِ الْقَوْمِ وَيُجْعَلُ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ. وَلِهَذَا كَانَ إِعْجَازُ الْمَسِيحِ بِإِبْرَاءِ الْأَبْرَصِ أَهَمَّ الْمُعْجِزَاتِ فَائِدَةً عِنْدَهُمْ دِينًا وَدُنْيَا.
وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ الْبَرَصَ فِي عُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ وَفَصَّلُوا بَيْنَ أَنْوَاعِهِ الَّتِي تُوجِبُ الْخِيَارَ وَالَّتِي لَا تُوجِبُهُ وَلَمْ يَضْبِطُوا أَوْصَافَهُ وَاقْتَصَرُوا عَلَى تَحْدِيدِ أَجْلِ بُرْئِهِ.