المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : آية 286] - التحرير والتنوير - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 253]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 254]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 255]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 256]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 257]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 258]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 259]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 260]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 261 إِلَى 262]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 263 إِلَى 264]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 265]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 266]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 267]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 268]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 269]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 270]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 271]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 272]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 273]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 274]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 275]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 276]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 277]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 278 إِلَى 279]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 280]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 281]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 282]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 283]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 284]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 285]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 286]

- ‌3- سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 2 الى 4]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 8 إِلَى 9]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 10 إِلَى 11]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 12 إِلَى 13]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 15 إِلَى 17]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 21 إِلَى 22]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 23 إِلَى 25]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 26 إِلَى 27]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 29]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 30]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 33 إِلَى 34]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 35 الى 36]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 38]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 39 إِلَى 41]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 42 إِلَى 44]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 45 إِلَى 46]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 47]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 48 إِلَى 49]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 50 إِلَى 51]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 52 إِلَى 53]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 55 الى 57]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 58]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 59 إِلَى 60]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 61]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 62 إِلَى 63]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 64]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 65 إِلَى 66]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 67]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 68]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 70 إِلَى 71]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 72 الى 74]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 75 إِلَى 76]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 77]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 78]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 79 إِلَى 80]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 81 إِلَى 82]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 83]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 84]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 85]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 86]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 87 إِلَى 89]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 90]

- ‌[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 91]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : آية 286]

أَيْ عَدَمُ امْتِثَالِهَا لِلرُّقْيَا. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ آمَنُوا، وَاطْمَأَنُّوا وَامْتَثَلُوا، وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، دُونَ الْمُضَارِعِ، لِيَدُلُّوا عَلَى رُسُوخِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِنْشَاءَ الْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَصِيَغُ الْعُقُودِ وَنَحْوِهَا تَقَعُ بِلَفْظِ الْمَاضِي نَحْوَ بِعْتُ.

وَغُفْرَانَكَ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ: أَيِ اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ.

والمصير يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ اعْتِرَافًا بِالْبَعْثِ، وَجُعِلَ مُنْتَهِيًا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُنْتَهٍ إِلَى يَوْمٍ، أَوْ عَالَمٍ، تَظْهَرُ فِيهِ قُدْرَةُ اللَّهِ بِالضَّرُورَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ تَمَامِ الِامْتِثَالِ وَالْإِيمَانِ. كَأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ آبِقِينَ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] . وَجَعْلُ الْمَصِيرِ إِلَى اللَّهِ تَمْثِيلًا لِلْمَصِيرِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ: كَقَوْلِهِ:

وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: 39] وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ: أَيِ الْمَصِيرُ إِلَيْكَ لَا إِلَى غَيْرِكَ، وَهُوَ قصر حَقِيقِيّ قصدُوا بِهِ لَازِمُ فَائِدَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْبُدُهُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ.

[286]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 286]

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ.

الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيكون اعتراضا ين الْجُمَلِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ، وَفَائِدَتُهُ إِظْهَارُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالطَّاعَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الدِّينِ التَّكْلِيفَ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَبْشِيرٌ بِاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِمُ الْمُلَقَّنَةِ، أَوِ الَّتِي أُلْهِمُوهَا: وَهِيَ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا- إِلَى قَوْلِهِ- مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْكِيَ دَعَوَاتِهِمْ تِلْكَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أَيْ عَلِمْنَا تَأْوِيلَ قَوْلِ رَبِّنَا: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الْبَقَرَة: 284] بِأَنَّهُ يَدْخُلُهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا فِي الْوُسْعِ، مِمَّا أُبْدِيَ وَمَا أُخْفِيَ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ اخْتِيَارًا، أَوْ يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَيَطَمْئِنُّ بِهِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لَها مَا كَسَبَتْ إِلَخ يُبْعِدُ هَذَا إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ.

ص: 134

فَعَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَهَذَا

مَرْوِيٌّ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ (1) أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَإِنْ تُبْدُوا مَا

فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 284] اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَتَوْهُ وَقَالُوا: لَا نُطِيقُهَا، فَقَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا» فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها

، وَإِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُرَادُ الْبَيَانُ وَالتَّخْصِيصُ لِأَنَّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَتَابِعَةُ النَّظْمِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً، فَحَدَثَ بَيْنَ فَتْرَةِ نُزُولِهَا مَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَرَجًا.

والوسع فِي الْقِرَاءَة بِضَمِّ الْوَاوِ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُثَلَّثُ الْوَاوِ وَهُوَ الطَّاقَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يُطَاقُ وَيُسْتَطَاعُ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ.

وَالْمُسْتَطَاعُ هُوَ مَا اعْتَادَ النَّاسُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوهُ إِنْ تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ لِفِعْلِهِ مَعَ السَّلَامَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا فَوْقَ الطَّاقَةِ فِي أَدْيَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِعُمُومِ (نَفْسًا) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَرَعَ التَّكْلِيفَ إِلَّا لِلْعَمَلِ وَاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، فَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فِعْلَهُ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي سِيَاقِ الْعُقُوبَاتِ، هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا.

وَامْتَازَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِالْيُسْرِ وَالرِّفْقِ، بِشَهَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: 78] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الْعَامَّةِ «الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ» . وَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ مَظِنَّةَ الرُّخْصَةِ، وَضَبْطُ الْمَشَاقِّ الْمُسْقِطَةِ لِلْعِبَادَةِ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ» وَمَا وَرَدَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ فَأَمْرٌ نَادِرٌ، فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَةِ، كَتَكْلِيفِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالثَّبَاتِ لِلْعَشْرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُعَنْوَنَةُ فِي كُتُبِ الْأَصْلَيْنِ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَالتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَرَنَّتْ بِهَا كُتُبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا

(1) فِي كتاب الْإِيمَان.

ص: 135

شَهِيرًا، دَعَا إِلَيْهِ الْتِزَامُ الْفَرِيقَيْنِ لِلَوَازِمِ أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ فَقَالَتِ الْأَشَاعِرَةُ: يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ تَعَالَى كُلُّهُ عَدْلٌ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْعِبَادِ، وَقَاعِدَتُهُمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَعَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ لَا تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالِابْتِلَاءِ وَجَعْلِ الِامْتِثَالِ عَلَامَةً عَلَى السَّعَادَةِ، وَانْتِفَائِهِ عَلَامَةً عَلَى الشَّقَاوَةِ، وَتَرَتُّبِ الْإِثْم لأنّ الله تَعَالَى إِثَابَةَ

الْعَاصِي، وَتَعْذِيبَ الْمُطِيعِ، فَبِالْأَوْلَى تَعْذِيبُ مَنْ يَأْمُرُهُ بِفِعْلٍ مُسْتَحِيلٍ، أَوْ مُتَعَذَّرٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الصُّورَةِ وَمَا هُوَ بِنَافِخٍ، وَتَكْلِيفِ الْكَاذِبِ فِي الرُّؤْيَا بِالْعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَمَا هُوَ بِفَاعِلٍ. وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُمَا خَبَرَا آحَادٍ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا أُصُولُ الدِّينِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أنّه يجب الله فِعْلُ الصَّلَاحِ وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ هُوَ الِامْتِثَالُ وَإِلَّا لَصَارَ عَبَثًا وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِثَابَةُ الْعَاصِي.

وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أُصُولِهَا: مِثْلِ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْف: 49] وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: 28] إِلَخ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْخَوْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْمُنَاظَرَةُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا نَفَى قُدْرَةَ الْعَبْدِ، وَقَالَ بِالْكَسْبِ، وَفَسَّرَهُ بِمُقَارَنَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لِحُصُولِ الْمَقْدُورِ دُونَ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، أَلْزَمَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْعِبَادَ بِمَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِهِمْ، وَذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَالْتَزَمَ الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ، وَخَالَفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ الأشعريّ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَالْآيَةُ لَا تَنْهَضُ حجَّة على كلا الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ إِمْكَانِ ذَلِكَ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ: هَلْ هُوَ وَاقِعٌ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الصَّوَابُ فِي الْحِكَايَةِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ- فِي «الْبُرْهَانِ» -: «وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَاتِ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالٍ هِيَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا

ص: 136

يُقْدِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَةِ الْفِعْلِ مَعَ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ» وَمَا أَلْزَمَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْأَشْعَرِيَّ إِلْزَامٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَا يُطَاقُ مَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ الظَّاهِرَةُ، الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْكَسْبِ، لِلْفَرْقِ الْبَيِّنِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَبَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمَسْتُورَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ لَا مَعْنًى لِإِدْخَالِ مَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ وُقُوعِهِ، كَأَمْرِ أَبِي جَهْلٍ بِالْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَوْ بِالْمُحَالِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم دَعَا أَبَا لَهَبٍ إِلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى قَوْلِهِ سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ [المسد: 1، 3] فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ بَعْدَ

نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُخَاطَبْ بِطَلَبِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا خُوطِبَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ نَسْلَمُ مِنْ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ مُخَاطَبٌ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ فِي الشَّرِيعَةِ، بِحَسَبِ الْمُتَعَارَفِ فِي إِرَادَةِ الْبَشَرِ وَقُدَرِهِمْ، دُونَ مَا هُوَ بِحَسَبِ سِرِّ الْقَدَرِ، وَالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا الرَّدُّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ حَالٌ مِنْ «نَفْسًا» لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُسْعِ الَّذِي كُلِّفَتْ بِهِ النَّفْسُ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ جَاءَتْ بِخَيْرٍ كَانَ نَفْعُهُ لَهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِشَرٍّ كَانَ ضَرُّهُ عَلَيْهَا.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ حَاصِلٌ مِنَ التَّعْلِيقِ بِوَاسِطَةِ «اللَّامِ» مَرَّةً وَبِوَاسِطَةٍ (عَلَى) أُخْرَى. وَأَمَّا كَسَبَتْ وَاكْتَسَبَتْ فَبِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْمُطَاوَعَةَ فِي اكْتَسَبَ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ هُنَا مرّة بكسبت وَأُخْرَى باكتسبت تَفَنُّنًا وَكَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ بِعَيْنِهَا، كَمَا فَعَلَ ذُو الرُّمَّةِ فِي قَوْلِهِ:

وَمُطْعَمِ الصَّيْدِ هَبَّالٍ لِبُغْيَتِهِ

أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ مُكْتَسِبَا (1)

وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:

فَحَمَلْتُ بَرَّةَ وَاحْتَمَلْتَ فَجَارِ

وَابْتُدِئَ أَوَّلًا بِالْمَشْهُورِ الْكَثِيرِ، ثُمَّ أُعِيدَ بِمُطَاوِعِهِ، وَقَدْ تَكُونُ، فِي اخْتِيَارِ الْفِعْلِ الَّذِي أَصْلُهُ دَالٌّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشُّرُورَ يَأْمُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ، فَتَأْتَمِرُ

(1) الهبال: الْمُحْتَال. وَالْمَقْصُود أَنه حذق بالصيد وَارثه عَن أَبِيه.

ص: 137

النَّفْسُ وَتُطَاوِعُهُ وَذَلِكَ تَبْغِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ فِي الذُّنُوبِ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى اخْتِيَارِ النَّفْسِ لِلْحَسَنَاتِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْهَا النَّاسَ بِالْفِطْرَةِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ، وَكَانَ الشَّرُّ مُشْتَهًى لِلنَّفْسِ، فَهِيَ تَجِدُّ تَحْصِيلِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ فِعْلِهَا ذَلِكَ بالاكتساب.

وَالْمرَاد بِمَا اكْتَسَبَتْ الشُّرُورُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْكَسْبَ هُوَ اجْتِنَاءُ الْخَيْرِ، وَالِاكْتِسَابُ هُوَ اجْتِنَاءُ الشَّرِّ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ فَفِي الْقُرْآنِ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الْأَنْعَام: 164]- ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يُونُس: 52]- وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اكْتَسَبَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ كَسَبَ خُصَّ

بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ تَكَلُّفٌ. لَكِنْ لَمْ يرد التَّعْبِير باكتسبت فِي جَانِبِ فِعْلِ الْخَيْرِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَأْخَذٌ حَسَنٌ لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِطَاعَةَ الْعَبْدِ كَسْبًا وَاكْتِسَابًا فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ. وَلَمْ يَصِفِ الْعِبَادَ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ فِعْلَ قَدَرَ وَإِنَّمَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْكَسْبَ، وَهُوَ قَوْلٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ وَيَفِي بِتَحْقِيقِ إِضَافَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى الْعِبَادِ، مَعَ الْأَدَبِ فِي عَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ الْكَسْبِ هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّجَّارُ، رَأْسُ الْفِرْقَةِ النَّجَّارِيَّةِ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، كَانَ مُعَاصِرًا لِلنَّظَّامِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَلَكِنِ اشْتُهِرَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ حَتَّى قَالَ الطَّلَبَةُ فِي وَصْفِ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ:«أَدَقُّ مِنْ كَسْبِ الْأَشْعَرِيِّ» .

وَتَعْرِيفُ الْكَسْبِ، عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ: هُوَ حَالَة للْعَبد يُقَارِنُهَا خَلْقُ اللَّهِ فِعْلًا مُتَعَلِّقًا بِهَا.

وَعَرَّفَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ تَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ الْحَاصِلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ. وَلِلْكَسْبِ تَعَارِيفُ أُخَرُ.

وَحَاصِلُ مَعْنَى الْكَسْبِ، وَمَا دَعَا إِلَى إِثْبَاتِهِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَجَبَ أَنْ يُقَرِّرَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِئَلَّا تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ غَيْرَ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى بَعْضِ الْكَائِنَاتِ، إِعْمَالًا لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لِعُمُومِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، فَوَجَبَ إِعْمَالُ هَذَا الْعُمُومِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدَّعَى كَوْنُ الْعَبْدِ مَجْبُورًا عَلَى أَفْعَالِهِ، لِلْفَرْقِ الضَّرُورِيِّ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ، وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ،

ص: 138

كَحَرَكَةِ الْمَاشِي وَالْقَاتِلِ، ورعيا لحقّية التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبَادِ لِئَلَّا يَكُونَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا، وَلِحَقِّيَّةِ الْوَعْدِ والوعيد لئلّا يكون بَاطِلًا، تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ حَالَةٌ تُمَكِّنُهِ مِنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ، وَتَرْكِ مَا يُرِيدُ تَرْكَهُ، وَهِيَ مَيْلُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ سَمَّاهَا الْأَشْعَرِيُّ الِاسْتِطَاعَةَ، وَسَمَّاهَا كَسْبًا.

وَقَالَ: إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ الْفِعْلَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا وَمَالَ إِلَيْهَا.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي الْآيَةِ: لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا يَلْحَقُ غَيْرَهَا شَيْءٌ وَلَا يَلْحَقُهَا شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا، وَكَأَنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنِ اعْتِقَادِ شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.

وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ أَثَرٌ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ

فَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ

ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .

رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الدُّعَاءُ مَحْكِيًّا مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَة: 285] ، بِأَنِ اتَّبَعُوا الْقَبُولَ وَالرِّضَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِ الْجَزَاءِ وَمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاخْتِيَارُ حِكَايَةِ هَذَا عَنْهُمْ فِي آخِرِ السُّورَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْإِيذَانِ بِانْتِهَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَلْقِينًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ: بِأَنْ يَقُولُوا هَذَا الدُّعَاءَ، مِثْلَ مَا لُقِّنُوا التَّحْمِيدَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَيَكُونُ

ص: 139

التَّقْدِيرُ، قُولُوا: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ إِنَّ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، لَقَّنَهُمْ مُنَاجَاةً بِدَعَوَاتٍ هِيَ مِنْ آثَارِ انْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الدُّعَاءِ بِهِ طَلَبُ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُنْسَخَ ذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ غَضَبِ اللَّهِ كَمَا غَضِبَ عَلَى الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاء: 160] .

وَالْمُؤَاخَذَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: 102] وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ لَا تَأْخُذْنَا بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ.

وَالْمُرَادُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ لَا يُرْضِيَانِ اللَّهَ تَعَالَى.

فَهَذِهِ دَعْوَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَعَوْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها

وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وُضِعَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

وَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّتِهِ، وَقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَأَنْكَرَهُ أَحْمَدُ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ فِي غَيْرِ مَا يرجع إِلَى الْخطاب الْوَضْعِ. فَالْمَعْنَى رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُؤَاخَذَةَ فَبَقِيَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْإِتْلَافِ وَالْغَرَامَاتِ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ «لَا تُؤَاخِذْنَا» أَيْ لَا تُؤَاخِذْنَا بِالْعِقَابِ عَلَى فِعْلٍ: نِسْيَانٍ أَوْ خَطَأٍ، فَلَا يَرِدُ إِشْكَالُ الدُّعَاءِ بِمَا عُلِمَ حُصُولُهُ، حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ سَبَبُهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيطُ وَالْإِغْفَالُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» .

وَقَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً إِلَخ فَصْلٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، بِإِعَادَةِ النِّدَاءِ، مَعَ أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ: لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُنَادَى مُغْنِيَةٌ عَنْ إِعَادَةِ النِّدَاءِ لَكِنْ قُصِدَ مِنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ. وَالْحَمْلُ مَجَازٌ فِي التَّكْلِيفِ بِأَمْرٍ شَدِيدٍ يَثْقُلُ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِصْرِ.

وَأَصْلُ مَعْنَى الْإِصْرِ مَا يُؤْصَرُ بِهِ أَيْ يُرْبَطُ، وَتُعْقَدُ بِهِ الْأَشْيَاءُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْإِصَارُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ الْمُؤَكَّدِ فِيمَا يَصْعُبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي آلِ عمرَان [81] : قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى مَا يَثْقُلُ عَمَلُهُ، وَالِامْتِثَالُ فِيهِ، وَبَذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ، فِي

ص: 140

سُورَةِ الْأَعْرَافِ [157] : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَمِنْ ثَمَّ حَسُنَتِ اسْتِعَارَةُ الْحَمْلِ لِلتَّكْلِيفِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ يُنَاسِبُ الثِّقَلَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا تَحْمِلْ تَرْشِيحًا مُسْتَعَارًا لِمُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً عَهْدًا لَا نَفِي بِهِ، وَنُعَذَّبُ بِتَرْكِهِ وَنَقْضِهِ» .

وَقَوْلُهُ: كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا صِفَةٌ لِ إِصْراً أَيْ عَهْدًا مِنَ الدِّينِ، كَالْعَهْدِ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْمَشَقَّةِ، مِثْلَ مَا كُلِّفَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ مِثْلِ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبِصِفَاتٍ فِي الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا نَادِرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَاتٍ، وَعَلَى قِلَّةِ اهْتِبَالٍ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:«وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» .

وَقَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ أَيْ مَا لَا نَسْتَطِيعُ حَمْلَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ.

وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ بِمُعَافَاتِهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّدِيدَةِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ دُعَاءٌ بِمُعَافَاتِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي عُوقِبَتْ بِهَا الْأُمَمُ. وَالطَّاقَةُ فِي الْأَصْلِ الْإِطَاقَةُ خُفِّفَتْ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ كَمَا قَالُوا: جَابَةٌ وَإِجَابَةٌ وَطَاعَةٌ وَإِطَاعَةٌ.

وَالْقَوْلُ فِي هَذَيْنِ الدُّعَاءَيْنِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا.

وَقَوْلُهُ: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا لَمْ يُؤْتِ مَعَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا، إِمَّا لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْعَرَبُ تَكْرَهُ تَكْرِيرَ اللَّفْظِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ، وَإِمَّا لِأَنَّ تِلْكَ الدَّعَوَاتِ الْمُقْتَرِنَةَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا فُرُوعٌ لِهَذِهِ الدَّعْوَات الثَّلَاث، فَإِذا اسْتُجِيبَ تِلْكَ حَصَلَتْ إِجَابَةُ هَذِهِ بِالْأَوْلَى فَإِنَّ الْعَفْوَ أَصْلٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَالْمَغْفِرَةَ أَصْلٌ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَالرَّحْمَةَ أَصْلٌ لِعَدَمِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، كَانَ كَأَنَّهُ

دُعَاءٌ وَاحِدٌ.

وَقَوْلُهُ: أَنْتَ مَوْلانا فَصَلَهُ لِأَنَّهُ كَالْعِلَّةِ لِلدَّعَوَاتِ الْمَاضِيَةِ: أَيْ دَعَوْنَاكَ وَرَجَوْنَا مِنْكَ ذَلِكَ لِأَنَّكَ مَوْلَانَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمَوْلَى الرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ، وَلِيَكُونَ هَذَا أَيْضًا كَالْمُقَدَّمَةِ لِلدَّعْوَةِ الْآتِيَةِ.

ص: 141

وَقَوْلُهُ: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ جِيءَ فِيهِ بِالْفَاءِ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ كَوْنِهِ مَوْلًى، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْلَى أَنْ يَنْصُرَ مَوْلَاهُ، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْجِيبِ وَالتَّحْسِيرِ فِي قَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:

رَأَيْتُ مَوَالِي الْأُلَى يَخْذُلُونَنِي

عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ إِذْ يَتَقَلَّبُ

وَفِي التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ إِيذَانٌ بِتَأْكِيدِ طَلَبِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مُرَتَّبًا عَلَى وَصْفٍ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ وِلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة:

257]

وَفِي حَدِيثِ يَوْمِ أُحُدٍ لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم:

أَجِيبُوهُ «اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»

. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ إِذَا نُصِرُوا عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَدْ طَابَ عَيْشُهُمْ وَظَهَرَ دِينُهُمْ، وَسَلِمُوا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا.

وَفِي «الصَّحِيحِ» ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ»

وَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ مَنْ صَلَّى بِهِمَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ بَرَكَةً وَتَعَوُّذًا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْمَضَارِّ، وَلَعَلَّ كَلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُرَادٌ.

ص: 142