الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْعَزِيزُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [209] : فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وَالِانْتِقَامُ: الْعِقَابُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ بِغَضَبٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْكَارِهِ: نَاقِمٌ. وَجِيءَ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ (ذُو) الدَّالَّةِ عَلَى الْمُلْكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ انْتِقَامٌ عَنِ اخْتِيَارٍ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَيْسَ هُوَ تَعَالَى مُنْدَفِعًا لِلِانْتِقَامِ بِدَافِعِ الطَّبْعِ أَو الحنق.
[5]
[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 5]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5)
اسْتِئْنَافٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِوَصْفِ الْحَيِّ لِأَنَّ عُمُومَ الْعِلْمِ يُبَيِّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ. وَجِيءَ بِ (شَيْءٌ) هُنَا لِأَنَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قُصِدَ مِنْهُ عُمُومُ أَمْكِنَةِ الْأَشْيَاءِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ: بِمَا فِيهَا مِنْ بِحَارٍ، وَالْمُرَادُ بالسماء جنس السَّمَوَات: وَهِيَ الْعَوَالِمُ الْمُتَبَاعِدَةُ عَنِ الْأَرْضِ. وَابْتُدِئَ فِي الذِّكْرِ بِالْأَرْضِ لِيَتَسَنَّى التَّدَرُّجُ فِي الْعَطْفِ إِلَى الْأَبْعَدِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ أَشْيَاءَ الْأَرْضِ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أَمَّا أَشْيَاءُ السَّمَاءِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بَعْضَهَا فَضْلًا عَنْ علم جَمِيعهَا.
[6]
[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 6]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ.
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ يُبَيِّنُ شَيْئًا مِنْ مَعْنَى الْقَيُّومِيَّةِ، فَهُوَ كَبَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَخُصَّ من بَين شؤون الْقَيُّومِيَّةِ تَصْوِيرُ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى فِي اعْتِقَادهم إلاهية عِيسَى مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ صَوَّرَهُ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْكَيْفِيَّاتِ الْعَارِضَةَ لِلْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ وَتَصْوِيرِهِ: سَوَاءٌ الْمُعْتَادُ، وَغَيْرُ الْمُعْتَادِ.
وكَيْفَ هُنَا لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، بَلْ هِيَ دَالَّة على مجّد مَعْنَى الْكَيْفِيَّةِ أَيِ الْحَالَةِ، فَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي أَصْلِهَا الْمَوْضُوعَةِ لَهُ فِي اللُّغَةِ إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ
(كَيْفَ) مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُرُوفِ مَادَّةِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالتَّكَيُّفِ، وَهُوَ الْحَالَةُ وَالْهَيْئَةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَكُونَ اسْمَ اسْتِفْهَامٍ، وَلَيْسَتْ (كَيْفَ) فِعْلًا لِأَنَّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الزَّمَانِ، وَلَا حَرْفًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَادَّةِ اشْتِقَاقٍ. وَقَدْ تَجِيءُ (كَيْفَ) اسْمَ شَرْطٍ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَا مَا
الزَّائِدَةُ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا تُفَارِقُهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْحَالَةِ، وَلَا يُفَارِقُهَا إِيلَاءُ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِيَّاهَا إِلَّا مَا شَذَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ أَنْتَ. فَإِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامًا فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ فَتَكُونُ مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، مُلْتَزَمًا تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ، وَإِذَا جُرِّدَتْ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ كَانَ مَوْقِعُهَا مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى حَسَبِ مَا يَطْلُبُهُ الْكَلَامُ الْوَاقِعَةُ هِيَ فِيهِ مِنَ الْعَوَامِلِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ.
وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا- حِينَئِذٍ- فَالْأَظْهَرُ أَنْ تُعْتَبَرَ مُضَافًا إِلَيْهَا اسْمُ كَيْفَ وَيُعْتَبَرُ كَيْفَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ. وَجَرَى فِي كَلَامِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ فَتْحَةَ (كَيْفَ) فَتْحَةَ بِنَاءٍ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ فَتْحَةَ كَيْفَ فَتْحَةُ نَصْبٍ لَزِمَتْهَا لِأَنَّهَا دَائِمًا مُتَّصِلَةٌ بِالْفِعْلِ فَهِيَ مَعْمُولَةٌ لَهُ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا، فَلِمُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْفَتْحِ إِيَّاهَا أَشْبَهَتْ فَتْحة الْبناء.
فَكيف فِي قَوْلِهِ هُنَا كَيْفَ يَشاءُ يُعْرَبُ مَفْعُولا مُطلقًا «ليصوّركم» ، إِذِ التَّقْدِيرُ: حَالُ تَصْوِيرٍ يَشَاؤُهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الْفجْر: 6] .
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ:
يُصَوِّرُكُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهَا لَا تَأْتِي فِي الشَّرْطِ إلّا مقترنة بِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ النَّاسِ:
كَيْفَ شَاءَ فَعَلَ فَلَحْنٌ. وَكَذَلِكَ جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا قَدْ عُدَّ لَحْنًا عِنْدَ جُمْهُورِ أئمّة الْعَرَبيَّة.
وذلّ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ عَلَى قَصْرِ صِفَةِ التَّصْوِيرِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ إِذْ هُوَ مُكَوِّنُ أَسْبَابِ ذَلِكَ التَّصْوِيرِ وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى كشف شبة النَّصَارَى إِذْ تَوَهَّمُوا أَنَّ تَخَلُّقَ عِيسَى بِدُونِ مَاءِ أَبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَشَرٍ وَأَنَّهُ إِلَهٌ وَجَهِلُوا أَنَّ التَّصْوِيرَ فِي الْأَرْحَامِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّاتُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَلْقًا لِمَا كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ الْمُصَوَّرُ فِي الرَّحِمِ إِلَهًا.