الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى خُلُوِّ كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو كُتُبَهُمْ مِثْلَ: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ» أَيْ إِنَّكَ تُخْبِرُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ كَأَنَّكَ كُنْتَ لَدَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ وَهِيَ الْأَقْلَامُ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ كَانُوا يَقْتَرِعُونَ بِهَا فِي الْمُشْكِلَاتِ: بِأَنْ يَكْتُبُوا عَلَيْهَا أَسْمَاءَ الْمُقْتَرِعِينَ أَوْ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الْمُقْتَرَعِ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَصِيرُونَ إِلَى الْقُرْعَةِ عِنْدَ انْعِدَامِ مَا يُرَجِّحُ الْحَقَّ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ وَجَعَلَ الْيَهُودُ الِاقْتِرَاعَ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ فِي الْمِدْرَاسِ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ بَرَكَتُهَا مُرْشِدَةً إِلَى مَا هُوَ الْخَيْرُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ لِإِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا مَوَاضِعُ تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ الْمُتَسَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْهِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي كَفَالَةِ مَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهَا أُمُّهَا حِنَّةُ، إِذْ كَانَتْ يَتِيمَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الِامْتِنَانِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ كَفَالَةَ زَكَرِيَّاءَ مَرْيَمَ كَانَتْ بَعْدَ الِاسْتِقْسَامِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَنَافُسِهِمْ فِي كفالتها.
[45، 46]
[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 45 إِلَى 46]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ [آل عمرَان: 42] قُصِدَ مِنْهُ التَّكْرِيرُ لِتَكْمِيلِ الْمَقُولِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ. وَلِكَوْنِهِ بَدَلًا لَمْ يُعْطَفْ عَلَى إِذْ قَالَتِ الْأَوَّلِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يُبَشِّرُكِ.
وَالْكَلِمَةُ مُرَادٌ بِهَا كَلِمَةُ التَّكْوِينِ وَهِيَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيُّ كَمَا
فِي حَدِيثِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ: «وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ»
إِلَخْ.
وَوَصْفُ عِيسَى بِكَلِمَةٍ مُرَادٌ بِهِ كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْمُعْتَادِ فِي تَكْوِينِ الْجَنِينِ أَيْ بِدُونِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْهُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ بِدُونِ وَاسِطَةِ أَسْبَابِ النَّسْلِ الْمُعْتَادَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِذا قَضى أَمْراً [الْبَقَرَة: 117] .
وَقَوْلُهُ: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَبَّرَ عَنِ الْعَلَمِ وَاللَّقَبِ وَالْوَصْفِ بِالِاسْمِ.
لِأَنَّ لِثَلَاثَتِهَا أَثَرًا فِي تَمْيِيزِ الْمُسَمَّى. فَأَمَّا اللَّقَبُ وَالْعَلَمُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْوَصْفُ الْمُفِيدُ لِلنَّسَبِ فَلِأَنَّ السَّامِعِينَ تَعَارَفُوا ذِكْرَ اسْمِ الْأَبِ فِي ذِكْرِ الْأَعْلَامِ لِلتَّمْيِيزِ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَتُذْكَرُ الْأُمُّ فِي النَّسَبِ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِالْأَبِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: زِيَادُ بن سُمَيَّةَ قَبْل أَنْ يُلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّ لِأُمِّهِ مَفْخَرًا عَظِيمًا كَقَوْلِهِمْ: عَمْرُو ابْنُ هِنْدٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْعَرَبِ.
والْمَسِيحُ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ. وَنُقِلَتْ إِلَى الْعَرَبيَّة علما بِالْغَلَبَةِ عَلَى عِيسَى وَقَدْ سَمَّى مُتَنَصِّرَةُ الْعَرَبِ بَعْضَ أَبْنَائِهِمْ «عَبْدَ الْمَسِيحِ» وَأَصْلُهَا مَسِّيِّحْ- بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ- وَنَطَقَ بِهِ بَعْضُ الْعَرَبِ بِوَزْنِ سِكِّينٍ.
وَمَعْنَى مَسِيحٍ مَمْسُوحٌ بِدُهْنِ الْمَسْحَةِ وَهُوَ الزَّيْتُ الْمُعَطَّرُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَتَّخِذَهُ لِيَسْكُبَهُ عَلَى رَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ حِينَمَا جَعَلَهُ كَاهِنًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَارَتْ كَهَنَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمْسَحُونَ بِمِثْلِهِ مَنْ يُمَلِّكُونَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ عَهْدِ شَاوِلَ الْمَلِكِ، فَصَارَ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَلِكِ: فَفِي أَوَّلِ سِفْرِ صَمْوِيلَ الثَّانِي مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ قَالَ دَاوُدُ لِلَّذِي أَتَاهُ بِتَاجِ شَاوِلَ الْمَلِكِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ بِطَالُوتَ «كَيْفَ لَمْ تَخَفْ أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ لِتُهْلِكَ مَسِيحَ الرَّبِّ» .
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ عِيسَى سُمِّيَ بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا يُسَمُّونَ بِمَلِكٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَقَبٌ لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ إِذِ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَصِيرَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ بَيْنَهُمْ وَاشْتُهِرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْوَجِيهُ ذُو الْوَجَاهَةِ وَهِيَ: التَّقَدُّمُ عَلَى الْأَمْثَالِ، وَالْكَرَامَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَهِيَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَجْهِ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ، وَأَجْمَعُهَا لِوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْمَالِ، فَأُطْلِقَ الْوَجْهُ عَلَى أَوَّلِ الشَّيْءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ
الشَّائِعَةِ فَيُقَالُ:
وَجْهُ النَّهَارِ لِأَوَّلِ النَّهَارِ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمرَان: 72] وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ
…
فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَلَاحَ لَهُمْ وَجْهُ الْعَشِيَّاتِ سَمْلَقُ وَيَقُولُونَ: هُوَ وَجْهُ الْقَوْمِ أَيْ سَيِّدُهُمْ وَالْمُقَدَّمُ بَيْنَهُمْ. وَاشْتُقَّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فِعْلُ وَجُهَ بِضَمِّ الْجِيمِ كَكَرُمَ فَجَاءَ مِنْهُ وَجِيهٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، فَوَجِيهُ النَّاسِ الْمُكَرَّمُ بَيْنَهُمْ، وَمَقْبُولُ الْكَلِمَةِ فِيهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ مُوسَى عليه السلام: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً.
والْمَهْدُ شِبْهُ الصُّنْدُوقِ مِنْ خَشَبٍ لَا غِطَاءَ لَهُ يُمَهَّدُ فِيهِ مَضْجَعٌ لِلصَّبِيِّ مُدَّةَ رِضَاعِهِ يُوضَعُ فِيهِ لِحِفْظِهِ مِنَ السُّقُوطِ.
وَخُصَّ تَكْلِيمُهُ بِحَالَيْنِ: حَالِ كَوْنِهِ فِي الْمَهْدِ، وَحَالِ كَوْنِهِ كَهْلًا، مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّ لِذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فَأَمَّا تَكْلِيمُهُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ فَلِأَنَّهُ خَارِقُ عَادَةٍ إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ. وَأَمَّا تَكْلِيمُهُمْ كَهْلًا فَمُرَادٌ بِهِ دَعْوَتُهُ النَّاسَ إِلَى الشَّرِيعَةِ.
فَالتَّكْلِيمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَفِي كِنَايَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهِيَ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَمِنَ الصَّالِحِينَ فَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالصَّالِحُونَ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصَّلَاحُ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالصَّلَاحُ اسْتِقَامَةُ الْأَعْمَالِ وَطَهَارَةُ النَّفْسِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] .
وَالْكَهْلُ مَنْ دَخَلَ فِي عَشَرَةِ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ الَّذِي فَارَقَ عَصْرَ الشَّبَابِ، وَالْمَرْأَةُ شَهْلَةٌ بِالشِّينِ، وَلَا يُقَالُ كَهْلَةٌ كَمَا لَا يُقَالُ شَهْلٌ لِلرَّجُلِ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ قَدِيمًا سَمَّوْا شَهْلًا مِثْلَ شَهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الْمُلَقَّبِ الْفِنْدُ الزِّمَانِيُّ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ أُمِيتَ. وَقَدْ كَانَ عِيسَى عليه السلام حَيْثُ بُعِثَ ابْنَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ.