الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَهُنَالِكَ سَبَبَانِ لِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُرْضِيًّا أَنْبِيَاءَهُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِالْكُفْرِ. فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّ مَنْ يَتَّبِعُونَهُمُ التَّلَبُّسَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا مِنْهُ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ فَالْمُوَاجَهُ بِالْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَمَعْنَى أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَالْخِطَابُ لِلنَّصَارَى وَلَيْسَ دِينُهُمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِسْلَامٌ. فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْإِيمَانُ أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بِالْكُفْرِ.
وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَمْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِقَوْلِ رَجُلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا نَسْجُدُ لَكَ» ، وَلَا أُرَاهُ- لَوْ كَانَ صَحِيحًا- أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ قَاصِدَةً إِيَّاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: ثُمَّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالسُّجُودِ إِلَيْهِ، وَلَمَا عَرَّجَ عَلَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا بِأَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ والنبيين أَرْبَابًا.
[81، 82]
[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 81 إِلَى 82]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
عَطَفَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ [آل عمرَان: 80] أَيْ مَا أَمَرَكُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَوَّلْتُمْ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَمَرُوكُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَأَضَعْتُمُوهُ حِينَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ لِيُبَلِّغُوهُ إِلَيْكُمْ، فَالْمَعْطُوفُ هُوَ ظَرْفُ (إِذْ) وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ (إِذْ) بِقَوْلِهِ: أَأَقْرَرْتُمْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ (إِذْ) بِمَعْنَى
زَمَانٍ غَيْرِ ظَرْفٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ أَخَذَ الله مِيثَاق النَّبِيين، فَالْمَقْصُودُ الْحِكَايَةُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَا مَعَهُ فَيَكُونُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ مَعْطُوفًا بِحَذْفِ الْعَاطِفِ. كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي جُمَلِ الْمُحَاوَرَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: قالُوا أَقْرَرْنا.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاق النَّبِيين: مِنْ أَنَّ النَّبِيِّينَ أَعْطَوْا مِيثَاقًا لِلَّهِ فَقَالَ:
أَأَقْرَرْتُمْ قَالُوا: أَقْرَرْنَا إِلَخْ. وَيَكُونَ قَوْله: لَما آتَيْتُكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَتَنْصُرُنَّهُ هُوَ صِيغَةُ الْمِيثَاقِ.
وَهَذَا الْمِيثَاقُ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيع الْأَنْبِيَاء، يؤذنهم فِيهِ بِأَنَّ رَسُولًا يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِنَصْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِعْلَامُ أُمَمَهِمْ بذلك ليَكُون هَذَا الْمِيثَاقُ مَحْفُوظًا لَدَى سَائِرِ الْأَجْيَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ إِلَخْ إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ التَّوَلِّي وَالْفِسْقُ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أُمَمُهُمْ كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَالَ: فَاشْهَدُوا أَيْ عَلَى أُمَمِكُمْ. وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 129]، وَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَوْلُ مُوسَى عليه السلام:«قَالَ لِيَ الرَّبُّ أقيم لَهُم نبيئا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» . وَإِخْوَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَبِيئًا إِسْرَائِيلِيًّا لَقَالَ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا مِنْهُمْ عَلَى مَا فِي تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ مِنْ غُمُوضٍ وَلَعَلَّ النَّص الْأَصْلِيّ أصرح مِنْ هَذَا الْمُتَرْجَمِ.
وَالْبِشَارَاتُ فِي كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل وَفِي الأناجيل كَثِيرَةٌ فَفِي مَتَّى قَوْلُ الْمَسِيحِ «وَتَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ- أَيْ يَبْقَى أَخِيرًا- إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَكْرِزُ (1) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى» وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ الْمَسِيحِ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ- وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سيرسله الْأَب بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ- وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزَّى رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
(1) وَقعت كلمة يكرز فِي تَرْجَمَة إنجيل متّى، وَلَعَلَّ مَعْنَاهَا وَيحسن تَبْلِيغ الدَّين. [.....]
وَفِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ زِيَادَةُ تَنْوِيهٍ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ ظَاهِرُ
الْآيَةِ، وَبِهِ فَسَّرَ مُحَقِّقُو الْمُفَسِّرِينَ من السّلف وَالْخلف مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْن عَبَّاس، وطاووس، وَالسُّدِّيُّ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَقِيقَةً نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ:
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (تَوَهَّمُوهُ مُتَعَيِّنًا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَنْ تَوَلَّى مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُخَاطَبِينَ، وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ) فَتَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَسَلَكُوا مَسَالِكَ مُخْتَلِفَةً مِنَ التَّأْوِيلِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ إِضَافَةَ الْمِيثَاقِ لِلنَّبِيِّينَ إِضَافَةً تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ أَيْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ مِيثَاقَ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ حَذْفَ الْمُضَافِ أَي أُمَم النبيئين أَو أَوْلَاد النبيئين وَإِلَيْهِ مَالَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: إِنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّ لَفْظَ النَّبِيئِينَ غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ.
وَقَوْلُهُ: لَمَا آتَيْنَاكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَمَا» بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَاللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، لأنّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَآتَيْنَاكُمْ صِلَتُهُ وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ وَمِنْ كِتَابٍ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَعُطِفَ ثُمَّ جاءَكُمْ عَلَى آتَيْنَاكُمْ أَيِ الَّذِي آتَيْنَاكُمُوهُ وَجَاءَكُمْ بَعْدَهُ رَسُولٌ. وَلَتُؤْمِنُنَّ اللَّامُ فِيهِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالْجَوَابُ سَدَّ مَسَدَّ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَضَمِيرُ بِهِ عَائِد على الْمَذْكُور أَي لتؤمنّن بِمَا آتيناكم وبالرسول، أَو هُوَ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ وَحُذِفَ مَا يَعُودُ عَلَى مَا آتَيْنَاكُمْ لِظُهُورِهِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: بِكَسْرِ لَامِ لَمَا فَتَكُونُ اللَّام للتَّعْلِيل مُتَعَلق بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أَيْ شُكْرًا عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ وَعَلَى أَنْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا مُصَدِّقًا لِمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَلَا يَضُرُّ عَمَلُ مَا بَعْدَ لَامِ الْقَسَمِ فِيمَا قَبْلَهَا فَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا ثُمَّ عَلَّلَ جَوَابَ الْقَسَمِ بِأَنَّهُ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ الْإِيتَاءِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى تَعْلِيق لَما آتَيْتُكُمْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ الشُّكْرَ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ، لَا لَأَخْذِ الْعَهْدِ.
وَلَامُ لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَمُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.