الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 88 الى 89]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ حُجَّةِ شُعَيْبٍ جَوَابَ الْمُفْحَمِ عَنِ الْحُجَّةِ، الصَّائِرِ إِلَى الشِّدَّةِ، الْمُزْدَهِي بِالْقُوَّةِ، الْمُتَوَقِّعِ أَنْ يَكْثُرَ مُعَانِدُوهُ، فَلِذَلِكَ عَدَلُوا إِلَى إِقْصَاءِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ عَنْ بِلَادِهِمْ خَشْيَةَ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَبَثِّ أَتْبَاعِهِ دَعْوَتَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا:
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا.
وَتَفْسِيرُ صَدْرِ الْآيَةِ هُوَ كَتَفْسِيرِ نَظِيرِهِ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ.
وَإِيثَارُ وَصْفِهِمْ بِالِاسْتِكْبَارِ هُنَا دُونَ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّهُ لم يحك عنم هَنَا خِطَابُ الْمُسْتَضْعَفِينَ، حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْتِكْبَارِ إِشَارَة إِلَى أمّهم اسْتَضْعَفُوا الْمُؤْمِنِينَ كَمَا اقْتَضَتْهُ قِصَّةُ ثَمُودَ، فَاخْتِيرَ وَصْفُ الِاسْتِكْبَارِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ مُخَاطَبَتِهِمْ شُعَيْبًا بِالْإِخْرَاجِ أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى اتِّبَاعِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَبَّارِينَ أَصْحَابِ الْقُوَّةِ.
وَكَانَ إِخْرَاجُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِ قَبِيلَتِهِ عُقُوبَةً مُتَّبَعَةً فِي الْعَرَبِ إِذَا أَجْمَعَتِ الْقَبِيلَةُ عَلَى ذَلِكَ وَيُسَمَّى هَذَا الْإِخْرَاجُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِالْخَلْعِ، وَالْمُخْرَجِ يُسَمَّى خَلِيعًا.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعِيلِ وَأَكَّدُوا التَّوَعُّدَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ: لِيُوقِنَ شُعَيْبٌ بِأَنَّهُمْ مُنْجِزُو ذَلِكَ الْوَعِيدِ.
وَخِطَابُهُمْ إِيَّاهُ بِالنِّدَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ خِطَابِ الْغَضَبِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ قَوْلَ آزَرَ خِطَابًا لِإِبْرَاهِيمَ- عليه السلام أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ [مَرْيَم: 46] .
وَقَوْلُهُ: مَعَكَ مُتَعَلِّقٌ بِ لَنُخْرِجَنَّكَ، وَمُتَعَلِّقُ آمَنُوا مَحْذُوفٌ، أَيْ بِكَ، لِأَنَّهُمْ
لَا يَصِفُونَهُمْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ.
وَالْقَرْيَةُ (الْمَدِينَةُ) لِأَنَّهَا يَجْتَمِعُ بِهَا السُّكَّانُ. وَالتَّقَرِّي: الِاجْتِمَاعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: 259] ، وَالْمُرَادُ بِقَرْيَتِهِمْ هُنَا هِيَ (الْأَيْكَةُ) وَهِيَ (تَبُوكُ) وَقَدْ رَدَّدُوا أَمْرَ شُعَيْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ جَعَلُوا عَوْدَ شُعَيْبٍ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِلَى مِلَّةِ الْقَوْمِ مُقْسَمًا عَلَيْهِ فَقَالُوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ وَلَمْ يَقُولُوا: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ تَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَرْدِيدَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَيِّزِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُمْ مُلِحُّونَ فِي عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ.
وَكَانُوا يَظُنُّونَ اخْتِيَارَهُ الْعَوْدَ إِلَى مِلَّتِهِمْ، فَأَكَّدُوا هَذَا الْعَوْدَ بِالْقَسَمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا مَحِيدَ عَنْ حُصُولِهِ عِوَضًا عَنْ حُصُولِ الْإِخْرَاجِ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مُرْضٍ لِلْمُقْسِمِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْكِيدَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَبَوُا الْخُرُوجَ مِنَ الْقَرْيَةِ فَإِنَّهُمْ يُكْرَهُونَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى مِلَّةِ الْقَوْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ شُعَيْبٍ فِي جوابهم: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ لِلتَّوَعُّدِ وَالتَّهْدِيدِ كَانَ ذِكْرُ الْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ أَهَمَّ، فَلِذَلِكَ قَدَّمُوا الْقَسَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعَقَبُوهُ بِالْمَعْطُوفِ بِحَرْفِ (أَوْ) .
وَالْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ الْمَرْءُ مِنْ مَكَانٍ أَوْ عَمَلٍ، وَجَعَلُوا مُوَافَقَةَ شُعَيْبٍ إِيَّاهُمْ عَلَى الْكُفْرِ عَوْدًا لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى دِينِهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَهُمْ يَحْسَبُونَهُ، مُوَافِقًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ. وَشَأْنُ الَّذِينَ أَرَادَهُمُ اللَّهُ لِلنُّبُوءَةِ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ فِي حَالَةِ خُلُوٍّ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ تَدْرِيجًا، وَقَوْمُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بَاطِنَهُمْ فَلَا حَيْرَةَ فِي تَسْمِيَةِ قَوْمِهِ مُوَافَقَتَهُ إِيَّاهُمْ عَوْدًا.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَأَوْرَدَ قَوْلَ شُعَيْبٍ: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ [الْأَعْرَاف: 89] وَتَأَوَّلَ الْعَوْدَ بِأَنَّهُ الْمَصِيرُ، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ كَثِيرٍ مِنْ
الْمُفَسِّرِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَدَلِيلُ الْعِصْمَةِ مِنْ هَذَا هُوَ كَمَالُهُمْ، وَالدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْكَمَالِ قَبْلَ الْوَحْيِ يُعَدُّ نَقْصًا، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِ شُعَيْبٍ إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ [الْأَعْرَاف: 89] فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَاهُ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ وَالتَّغْلِيبِ. وَكِلَاهُمَا مُصَحِّحٌ لِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْعَوْدِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَدْ
تَوَلَّى شُعَيْبٌ الْجَوَابَ عَمَّنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَقِينِهِ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ.
وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [130] .
وَفَصْلُ جُمْلَةِ: قالَ الْمَلَأُ لِوُقُوعِهَا فِي الْمُحَاوَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَة الْبَقَرَة [30] .
أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) .
فَصْلُ جُمْلَةِ قالَ.. لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا الْمُؤْذِنِ مَا فِيهِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ بِأَنَّهُمْ يُكْرِهُونَهُمْ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ التَّعَجُّبُ تَمْهِيدٌ لِبَيَانِ تَصْمِيمِهِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ أَحَاطَ خَبَرًا بِمَا أَرَادُوا مِنْ تَخْيِيرِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: الْإِخْرَاجُ أَوِ الرُّجُوعُ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، شَأْنَ الْخَصْمِ اللَّبِيبِ الَّذِي يَأْتِي فِي جَوَابِهِ بِمَا لَا يُغَادِرُ شَيْئًا مِمَّا أَرَادَهُ خَصْمُهُ فِي حِوَارِهِ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْرِيضٌ بِحَمَاقَةِ خُصُومِهِ إِذْ يُحَاوِلُونَ حَمْلَهُ عَلَى مِلَّتِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ المحقّ أَن يُشْرك لِلْحَقِّ سُلْطَانَهُ عَلَى النُّفُوسِ وَلَا يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَا الضَّغْطِ وَالْإِكْرَاهِ، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَة: 256] . فَإِنَّ الْتِزَامَ الدِّينِ عَنْ إِكْرَاهٍ لَا يَأْتِي بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنَ التَّدَيُّنِ وَهُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَكْثِيرُ جُنْدِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحُ الْمَطْلُوبُ.
وَالْكَارِهُ مُشْتَقٌّ مِنْ كَرِهَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْكَرْهُ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- وَهُوَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ، فَكَارِهُ الشَّيْءِ لَا يُدَانِيهِ إِلَّا مَغْصُوبًا وَيُقَالُ لِلْغَصْبِ إِكْرَاهٌ، أَيْ مُلْجَئِينَ وَمَغْصُوبِينَ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [216] .
وَ (لَوْ) وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ أَنَّ شَرْطَهَا هُوَ أَقْصَى الْأَحْوَالِ الَّتِي يَحْصُلُ مَعَهَا الْفِعْلُ الَّذِي فِي جَوَابِهَا، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا أَحْرَى بِالتَّعَجُّبِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَتُعِيدُونَنَا إِلَى مِلَّتِكُمْ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ (لَوْ) هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا وَاوُ الْحَالِ.
وَاسْتَأْنَفَ مُرْتَقِيًا فِي الْجَوَابِ، فَبَيَّنَ اسْتِحَالَةَ عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا يَسْتَلْزِمُ كَذِبَهُ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ فَذَلِكَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ عَنْ عَمْدٍ، لِأَنَّ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ أَيْقَنُوا بِأَنَّ شُعَيْبًا مَبْعُوثٌ مِنَ اللَّهِ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ فِي كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ: افْتَرَيْنا وعُدْنا ونَجَّانَا ونَعُودَ ورَبُّنا وتَوَكَّلْنا.
وَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابه ربط التّبيّن وَالِانْكِشَافِ. لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ حُصُولِ الِافْتِرَاءِ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّةِ قَوْمِهِ، فَإِنَّ الِافْتِرَاءَ الْمَفْرُوضَ بِهَذَا الْمَعْنَى سَابِقٌ مُتَحَقِّقٌ وَإِنَّمَا يَكْشِفُهُ رُجُوعُهُمْ إِلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ، أَيْ إِنْ يَقَعْ عَوْدُنَا فِي مِلَّتِكُمْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّنَا افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، فَالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: افْتَرَيْنا مَاضٍ حَقِيقِيٌّ كَمَا يَقْتَضِيهِ دُخُولُ قَدِ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لَا تَقْلِبُهُ (إِنْ) لِلِاسْتِقْبَالِ، أَمَّا الْمَاضِي الْوَاقِعُ شَرْطًا لِ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ: إِنْ عُدْنا فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ (إِنْ) تَقْلِبُ الْمَاضِي لِلْمُسْتَقْبَلِ عَكْسَ (لَمْ) .
وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، مَعْنَاهُ: بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ لِلدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي اتَّبَعْنَاهُ بِالْوَحْيِ فَنَجَّانَا مِنَ الْكُفْرِ، فَذَكَرَ الْإِنْجَاءَ لدلالته على الإهداء وَالْإِعْلَانِ بِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْكُفْرِ نَجَاةٌ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ أَوْ كِنَايَةٌ.
وَهَذِهِ الْبَعْدِيَّةُ لَيْسَتْ قَيْدًا لِ افْتَرَيْنا وَلَا هِيَ مُوجب كَون الْعود فِي مِلَّتِهِمْ دَالًّا عَلَى كَذِبِهِ فِي الرِّسَالَةِ، بَلْ هَذِهِ الْبَعْدِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ عُدْنا يُقْصَدُ مِنْهَا تَفْظِيعُ هَذَا الْعَوْدِ وَتَأْيِيسُ
الْكَافِرِينَ مِنْ عَوْدِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، بِخِلَافِ حَالِهِمُ الْأُولَى قَبْلَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يُوصَفُونَ بِالْكُفْرِ لَا بِالِافْتِرَاءِ إِذْ لَمْ يَظْهَرُ لَهُمْ وَجْهُ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ فَيَلْقِي نَفْسَهُ فِي الضَّلَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْعَذَابِ.
وَانْتِصَابُ كَذِباً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ تَأْكِيدًا ل افْتَرَيْنا بِنَا هُوَ مَا سوله أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] .
وَقَدْ رَتَّبَ عَلَى مُقَدِّمَةِ لُزُومِ الِافْتِرَاءِ نَتِيجَةَ تَأْيِيسِ قَوْمِهِ مِنْ أَنْ يَعُودَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها فَنَفَى الْعَوْدَ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ إِلَخْ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] .
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ وَتَفْوِيضُ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، أَيْ:
إِلَّا أَنْ يُقَدِّرَ اللَّهُ لَنَا الْعَوْدَ فِي مِلَّتِكُمْ فَإِنَّهُ لَا يسْأَل عمّا يفعل، فَأَمَّا عَوْدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ فَمُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ حُصُولُهُ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ اسْتِحَالَتُهُ، وَالِارْتِدَادُ وَقَعَ فِي طَوَائِفَ مِنْ أُمَمٍ.
وَأَمَّا ارْتِدَادُ شُعَيْبٍ بَعْدَ النُّبُوءَةِ فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا لِعِصْمَةِ اللَّهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ سَلَبَ الْعِصْمَةَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُحَالٌ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فَعِصْمَتُهُمْ مِنْهُ بَعْدَ النُّبُوءَةِ بِالْأَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
وَفِي قَوْلِ شُعَيْبٍ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَقْيِيدُ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ مُسَاوٍ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّأَدُّبُ وَتَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِالْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اللَّهِ، وَالْكِنَايَةُ عَنْ سُؤَالِ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمرَان: 8] .
وَمِنْ هُنَا يُسْتَدَلُّ لِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ عَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ الْفَقِيهُ
الْمَالِكِيُّ الْجَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يُخْتَمُ لَهُ بِهِ، وَيَضْعُفُ قَوْلُ الْمَاتُرِيدِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ عَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلَا يَقُول كلمة تنبىء عَنِ الشَّكِّ فِي إِيمَانِهِ.
وَقَدْ تَطَايَرَ شَرَرُ الْخِلَافِ بَيْنَ ابْنِ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَابْنِ سَحْنُونٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جِهَةٍ، فِي الْقَيْرَوَانِ زَمَانًا طَوِيلًا وَرَمَى كُلُّ فَرِيقٍ الْفَرِيقَ الْآخَرَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ سَحْنُونٍ يَدْعُونَ ابْنَ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابَهُ الشَّكُوكِيَّةَ وَتَلَقَّفَتِ الْعَامَّةُ بِالْقَيْرَوَانِ هَذَا الْخِلَافَ عَلَى غَيْرِ فهم فَرُبمَا اجترءوا عَلَى ابْنِ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابِهِ اجْتِرَاءً وَافْتِرَاءً، كَمَا ذَكَرَهُ مُفَصَّلًا عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ، وترجمة ابْن النبّان، وَالَّذِي حَقَّقَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَعِيَاضٌ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ: فَإِنْ كَانَ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَسَرِيرَتُهُ فِي الْإِيمَانِ مِثْلُ عَلَانِيَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ شَكًّا فَهُوَ شَكٌّ فِي الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَا يُرِيدُهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ، كَمَا حَقَّقَهُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فِي
«مَنْظُومَتِهِ النُّونِيَّةِ» ، وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ نُورُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِهِ» . وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي صِحَّةِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِك هَل ينبىء عَنْ شَكِّهِ فِي إِيمَانِهِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُقَابِلُونَ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِالْمَشِيئَةِ بِقَوْلِ الْآخَرِينَ: أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَرَجَعَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى اخْتِلَافِ النَّظَرِ فِي حَالَةِ عَقْدِ الْقَلْبِ مَعَ مَا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ خَاتِمَتِهِ، وَبِذَلِكَ سَهُلَ إِرْجَاعُ الْخِلَافِ إِلَى الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ.
وَالْإِتْيَانُ بِوَصْفِ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ: إِظْهَارٌ لِحَضْرَةِ الْإِطْلَاقِ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا.
وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي جَوَازِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْكُفْرَ والمعاصي خلاف ناشىء عَنِ الْخِلَافِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ اصْطِلَاحٌ فِي
ذَلِكَ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْآخَرِ، وَالْمَسْأَلَةُ طَفِيفَةٌ وَإِنْ هَوَّلَهَا الْفَرِيقَانِ، وَاصْطِلَاحُنَا أَسْعَدُ بِالشَّرِيعَةِ وَأَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ كُلُّهَا مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ وَقُدْرَةِ الْمُكَلِّفِ.
وَقَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تَفْوِيضٌ لِعِلْمِ اللَّهِ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنَّا، وَإِعَادَةُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِظْهَارِ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَتَأْكِيدِ التَّعْرِيضِ الْمُتَقَدِّمِ، حَتَّى يَصِيرَ كَالتَّصْرِيحِ.
وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلِاهْتِمَامِ.
وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ وَسِعَ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُ رَبِّنَا كُلَّ شَيْءٍ.
وَالسِّعَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاسِعَ يَكُونُ أَكْثَرَ إِحَاطَةً.
وَفِي هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ إدماج تَعْلِيم بعض صِفَاتِ اللَّهِ لِأَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْخُطَبَاءِ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَمَنْ تَبِعَهُ قَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ مُبَاشَرَةِ صَلَاحِ الْمَرْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [159] ، وَهَذَا تَفْوِيضٌ يَقْتَضِي طَلَبَ الْخَيْرِ، أَيْ: رَجَوْنَا أَنْ لَا يَسْلُبَنَا الْإِيمَانَ الْحَقِّ وَلَا يُفْسِدُ خَلْقَ عُقُولِنَا وَقُلُوبِنَا فَلَا نُفْتَنُ ونضل، وَرَجَوْنَا أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ مَنْ يُضْمِرُ لَنَا شَرًّا وَذَلِكَ
شَرُّ الْكَفَرَةِ الْمُضْمَرُ لَهُمْ، وَهُوَ الْفِتْنَةُ فِي الْأَهْلِ بِالْإِخْرَاجِ، وَفِي الدِّينِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْكُفْرِ.
وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِ تَوَكَّلْنا لإِفَادَة الِاخْتِصَاص تَحْقِيقا لِمَعْنَى التَّوْحِيدِ وَنَبْذِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا مِنَ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ فِي كِفَايَتِهِمْ أَمْرَ أَعْدَائِهِمْ، صَرَّحَ بِمَا يَزِيدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. وَفَسَّرُوا الْفَتْحَ هُنَا بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ، وَقَالُوا: هُوَ لُغَةُ أَزْدِ عُمَانَ مِنَ الْيَمَنِ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفَتْحِ بِمَعْنَى النَّصْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يَتَحَاكَمُونَ لِغَيْرِ السَّيْفِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ النَّصْرَ حُكْمُ اللَّهِ لِلْغَالِبِ عَلَى الْمَغْلُوبِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف: 87] ، أَيْ