الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُمْتَنِعًا وَهَذَا فَاسِدٌ، فَتَعَيَّنَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنَطْبَعُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِرُمَّتِهَا فَلَهَا حُكْمُهَا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَطَبَعْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُ صِيغَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذَا الطَّبْعِ وَازْدِيَادِهِ آنًا فَآنًا، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ (الْوَاوَ) لِلِاسْتِئْنَافِ وَالْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةً، أَيْ: وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا طَبَعْنَا عَلَيْهَا فِي الْمَاضِي، وَيُعْرَفُ الطَّبْعُ عَلَيْهَا فِي الْمَاضِي بِأَخْبَارٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَة: 6] الْآيَةَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِتَنْهِيَةِ الْقِصَّةِ، وَلَكِنْ مَوْقِعُ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ «الْمِفْتَاحِ» يَأْبَى اعْتِبَارَ الِاسْتِئْنَافِ مِنْ مَعَانِي الْوَاوِ.
وَجُمْلَةُ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَعْطُوفَةٌ بِالْفَاءِ عَلَى نَطْبَعُ مُتَفَرِّعًا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاعِ فَهْمُ مَغْزَى الْمَسْمُوعَاتِ لَا اسْتِكَاكُ الْآذَانِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الطَّبْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فِي سُورَة النِّسَاء [155] .
[101، 102]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 101 إِلَى 102]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
لَمَّا تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْقُرَى الَّتِي كَذَّبَ أَهْلُهَا رُسُلَ اللَّهِ بِالتَّعْيِينِ وَبِالتَّعْمِيمِ، صَارَتْ لِلسَّامِعِينَ
كَالْحَاضِرَةِ الْمُشَاهَدَةِ الصَّالِحَةِ لِأَنْ يُشَارَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ إِحْضَارِهَا فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ مِنْ قوم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، لِيَعْتَبِرُوا حَالَهُمْ بِحَالِ أَهْلِ الْقُرَى، فَيَرَوْا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فَيَفِيئُوا إِلَى الْحَقِّ.
وَجُمْلَةُ: تِلْكَ الْقُرى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ الْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْقَصَصِ مِنْ قَوْلِهِ:
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 59] ثُمَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نبيء [الْأَعْرَاف: 94] الْآيَةَ.
والْقُرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ الْقُرَى فِي
الذِّهْنِ بِحَيْثُ صَارَتْ كَالْمُشَاهَدِ لِلسَّامِعِ، فَكَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةَ عِبْرَةٍ بِحَالِهَا، وَذَلِكَ مُفِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِاسْمِهَا لِمَنْ لَا يَجْهَلُ الْخَبَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: 35] أَيْ هَذَا الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ تُكْوَوْنَ بِهِ هُوَ كَنْزُكُمْ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَنْزُهُمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ كَنْزُهُمْ إِظْهَارُ خَطَأِ فِعْلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرَى بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها إِمَّا حَالٌ مِنَ الْقُرى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ الِامْتِنَانُ بِذِكْرِ قَصَصِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نبوءة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ عِلْمُهُ، وَالْوَعْدُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: نَقُصُّ مِنَ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِأَخْبَارِهَا.
وَإِمَّا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَحْمِلِ قَوْلِهِ: الْقُرى.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ لِأَنَّ لَهَا أَنْبَاءً غَيْرَ مَا ذُكِرَ هُنَا مِمَّا ذُكِرَ بَعْضُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَطُوِيَ ذِكْرُ بَعْضِهِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي التَّبْلِيغِ.
وَالْأَنْبَاءُ: الْأَخْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] .
وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى وَضَمِيرِ أَنْبَائِهَا: أَهْلُهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُسُلُهُمْ.
وَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: تِلْكَ الْقُرى لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ قَصْدِ التَّنْظِيرِ بِحَالِ المكذبين بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم.
وَجَمْعُ «الْبَيِّنَاتِ» يُشِيرُ إِلَى تَكَرُّرِ الْبَيِّنَاتِ مَعَ كُلِّ رَسُولٍ، وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ
عَلَى الصِّدْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [73] .
(وَالْفَاءُ) فِي قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِتَرْتِيبِ الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ عَنِ الْإِخْبَارِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَان.
وَصِيغَة فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا تُفِيدُ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ بِلَامِ الْجُحُودِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ كَانَ مُنَافِيًا لِحَالِهِمْ مِنَ التَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ دَلَالَةِ لَامِ الْجُحُودِ
عَلَى مُبَالَغَةِ النَّفْيِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] . وَالْمَعْنَى: فَاسْتَمَرَّ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ وَتَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْكُفْرُ فِي حِينِ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يقلعوا عَنهُ.
وبِما كَذَّبُوا مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ وَحُذِفُ الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ أَمْثَالِهِ إِذَا جُرَّ الْمَوْصُولُ بِمِثْلِ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ مُتَعَلِّقَيِ الْحَرْفَيْنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ الرَّضِيُّ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة.
وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَذَّبُوا، أَيْ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ مِمَّا دُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ. وَشَأْنُ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا غَيْرُ الْعَاقِلِ، فَلَا يكون مَا صدق (مَا) هُنَا الرُّسُلَ، بَلْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ كَذَّبُوا هُنَا مُقَدَّرًا مُتَعَلِّقُهُ لَفْظُ (بِهِ) كَمَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَذَّبَهُ وَكَذَّبَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ [الْأَعْرَاف: 64] وَقَالَ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: 66] وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ هُنَا إِيجَازًا، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ تَكْذِيبِ أَهْلِ الْقُرَى، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الْأَعْرَاف:
94] وَقَدْ سَبَقَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الْأَعْرَاف: 96] وَلِهَذَا لَمْ يُحْذَفْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ كَذَّبُوا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَفَادَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ كَانَ بَدَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ، فَالْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ بِنَاءُ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ.
وَأُسْنِدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ إِلَى ضَمِيرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقُرَى بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، وَسَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ
لَفاسِقِينَ.
وَمعنى قولهن: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّبْعِ الْعَجِيبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِكَايَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ يَطْبَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] .
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الطَّبْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
وَإِظْهَارُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ يَطْبَعُ اللَّهُ دُونَ الْإِضْمَارِ: لِمَا فِي إِسْنَادِ الطَّبْعِ إِلَى الِاسْمِ الْعَلَمِ مِنْ صَرَاحَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ طَبْعٌ رَهِيبٌ لَا يُغَادِرُ لِلْهُدَى مَنْفَذًا إِلَى قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: 11] دُونَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا خَلْقِي، وَلِهَذَا اخْتِيرَ لَهُ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الدَّالُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْخَتْمِ وَتَجَدُّدِهِ.
وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ، وَالْقَلْبُ، فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: مِنْ أَسْمَاءِ الْعَقْلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] .
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: جَمِيعُ الْكَافِرِينَ مِمَّنْ ذُكِرَ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، تَسْلِيَة لمُحَمد صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةُ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَلَا لِضَعْفِ آيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ لِلْخَتْمِ عَلَى قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ وَمَا رتب عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ تَنْبِيهًا عَلَى رُسُوخِ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ لَمْ يَقْلَعْهُ مِنْهُمْ لَا مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَلَا مَا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ اعْتِقَادِ وُجُودِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَلَا الْوَفَاءُ بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ الرُّسُلَ عِنْدَ الدَّعْوَةِ: إِنَّهُمْ إِنْ أَتَوْهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يُؤْمِنُونَ بِهَا.
وَالْوِجْدَانُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ، فَصَارَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَنَفْيُهُ فِي الْأَوَّلِ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ الْعَهْدِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، أَيْ وَفَائِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعَلِمَهُ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَعْلَمَهُ وَيَبْحَثَ عَنْهُ عِنْدَ طَلَبِ الْوَفَاءِ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الْأَنْعَام: 145] الْآيَةَ، أَيْ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا مَا ذُكِرَ،
فَمَعْنَى وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ مَا لِأَكْثَرِهِمْ عَهْدٌ.
وَالْعَهْدُ: الِالْتِزَامُ وَالْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ وُقُوعُهُ، وَالْمُوَثَّقُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ إِخْلَافِهِ: مِنْ يَمِينٍ، أَوْ ضَمَانٍ، أَوْ خَشْيَةِ مَسَبَّةٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَهِدَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى عَرَفَهُ، لِأَنَّ الْوَعْدَ الْمُؤَكَّدَ يَعْرِفُهُ مُلْتَزِمُهُ وَيَحْرِصُ أَنْ لَا يَنْسَاهُ.
وَيُسَمَّى إِيقَاعُ مَا الْتَزَمَهُ الْمُلْتَزِمُ مِنْ عَهْدِهِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَالْعَهْدُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ
بِهِ الْوَعْدُ الَّذِي حَقَّقَهُ الْأُمَمُ لِرُسُلِهِمْ مثل قَوْلهم: فأننا بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنْ أَتَيْتَنَا بِآيَةٍ صَدَّقْنَاكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَعْدٌ وَثَّقَهُ أَسْلَافُ الْأُمَمِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] الْآيَةَ، فَكَانَ لَازِمًا لِأَعْقَابِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا وَعَدَتْ بِهِ أَرْوَاحُ الْبَشَرِ خَالِقَهَا فِي الْأَزَلِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [الْأَعْرَاف: 172] الْآيَةَ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ اللَّهِ فِطْرَةَ الْبَشَرِيَّةِ مُعْتَقِدَةً وُجُودَ خَالِقِهَا وَوَحْدَانِيَّتَهُ، ثُمَّ حَرَّفَتْهَا النَّزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةُ وَالضَّلَالَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ.
وَوُقُوعُ اسْمِ هَذَا الْجِنْسِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ بِجَمِيعِ الْمَعَانِي الصَّادِقِ هُوَ عَلَيْهَا.
وَمَعْنَى انْتِفَاءِ وِجْدَانِهِ. هُوَ انْتِفَاءُ الْوَفَاءِ بِهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْوَعْدِ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَحَقُّقُهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ، جَعَلَ انْتِفَاءَ الْوَفَاءِ بِمَنْزِلَةِ انْتِفَاءِ الْوُقُوعِ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ وَفَاءِ عَهْدٍ.
وَإِنَّمَا عُدِّيَ عَدَمُ وِجْدَانِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فِي أَكْثَرَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِخْرَاجِ مُؤْمِنِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ هَذَا الذَّمِّ، وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِهِمْ، أَكْثَرُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ، لَا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ مِنْ أَكْثَرِهِمْ كَانَ مِنْهُمْ عَنْ عَمْدٍ وَنَكْثٍ، وَلِكَوْنِ ذَلِكَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عُطِفَتْ وَلَمْ تُجْعَلْ تَأْكِيدًا لِلَّتِي قَبْلَهَا أَوْ بَيَانًا، لِأَنَّ الْفِسْقَ هُوَ عِصْيَانُ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا فِيمَا وَعَدُوا عَنْ قَصْدٍ لِلْكُفْرِ.
وَ (إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَبَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْهُ
تَنْوِيهًا بِشَأْنِ هَذَا الْخَبَرِ لِيَعْلَمَهُ السَّامِعُونَ.
وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ فِي خَبَرِ وَجَدْنا لَامُ ابْتِدَاءٍ، بِاعْتِبَارِ كَوْنِ ذَلِكَ الْخَبَرِ خَبَرًا مِنْ جُمْلَةٍ هِيَ خَبَرٌ عَنِ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِنْ) ، وَجُلِبَتِ اللَّامُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمرَان:
164] .