الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأُسْنِدَ حُكْمُ النَّكْثِ إِلَى أَكْثَرِ أهل الْقرى، تَبينا لِكَوْنِ ضَمِيرِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا جَرَى عَلَى التَّغْلِيبِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ هَذَا التَّصْرِيحِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّهُ حُكْمُ مَذَمَّةٍ وَمَسَبَّةٍ، فَنَاسَبَتْ مُحَاشَاةَ مَنْ لَمْ تَلْتَصِقْ بِهِ تِلْكَ المسبة.
[103]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 103]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
انْتِقَالٌ مِنْ أَخْبَارِ الرِّسَالَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى أَخْبَارِ رِسَالَةٍ عَظِيمَةٍ لِأُمَّةٍ بَاقِيَةٍ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَضَّلَهَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَلَمْ تُوَفِّ حَقَّ الشُّكْرِ وَتَلَقَّتْ رَسُولَهَا بَيْنَ طَاعَةٍ وَإِبَاءٍ وَانْقِيَادٍ وَنِفَارٍ، فَلَمْ يعاملها الله بالاستيصال وَلَكِنَّهُ أَرَاهَا جَزَاءَ مُخْتَلِفِ أَعْمَالِهَا، جَزَاءً وِفَاقًا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَخُصَّتْ بِالتَّفْضِيلِ قِصَّةُ إِرْسَالِ مُوسَى لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَنْبَاءِ الْقَيِّمَةِ، وَلِأَنَّ رِسَالَتَهُ جَاءَتْ بِأَعْظَمِ شَرِيعَةٍ بَيْنَ يَدَيْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأُرْسِلَ رَسُولُهَا هَادِيًا وَشَارِعًا تَمْهِيدًا لِشَرِيعَةٍ تَأْتِي لِأُمَّةِ أَعْظَمَ مِنْهَا تَكُونُ بَعْدَهَا، وَلِأَنَّ حَالَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ أَشْبَهُ بِحَالِ مِنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ كَثِيرَيْنِ اتَّبَعَ أَحَدُهُمْ مُوسَى وَكَفَرَ بِهِ الْآخَرُ، كَمَا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا- عليه السلام جَمْعٌ عَظِيمٌ وَكَفَرَ بِهِ فَرِيقٌ كَثِيرٌ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَفَرَ وَنَصَرَ مَنْ آمَنَ.
وَقَدْ دَلَّتْ ثُمَّ عَلَى الْمُهْلَةِ: لِأَنَّ مُوسَى- عليه السلام بُعِثَ بَعْدَ شُعَيْبٍ بِزَمَنٍ طَوِيل، فَإِنَّهُ لما تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ مِصْرَ، رَجَا اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ فَوَجَدَ شُعَيْبًا، وَكَانَ اتِّصَالُهُ بِهِ وَمُصَاهَرَتُهُ تَدْرِيجًا لَهُ فِي سُلَّمِ قَبُولِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُهْلَةُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأُمَمِ الْمَحْكِيِّ عَنْهَا قَبْلُ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى قُرُونٌ مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ، وَمِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، فَالْمُهْلَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا ثُمَّ مُتَفَاوِتَةُ الْمِقْدَارِ، مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ
عَطْفُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ مِنَ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهَا إِذَا عُطِفَتْ بِهَا الْجُمَلُ.
فَحَرْفُ (ثُمَّ) هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيِ الْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ يَعُودُ إِلَى الْقُرَى، بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا، كَمَا عَادَتْ
عَلَيْهِمُ الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ الْآيَتَيْنِ [الْأَعْرَاف: 101] .
وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُوسَى، أَيْ: مَصْحُوبًا بِآيَاتٍ مِنَّا، وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ، قَالَ تَعَالَى: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف:
106، 107] .
وفِرْعَوْنَ عَلَمُ جِنْسٍ لِمَلِكِ مِصْرَ فِي الْقَدِيمِ، أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْيُونَانُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ لُغَةِ الْقِبْطِ. قِيلَ: أَصْلُهُ فِي الْقِبْطِيَّةِ (فَارَاهُ) وَلَعَلَّ الْهَاءَ فِيهِ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْعَيْنِ فَإِنَّ (رَعْ) اسْمُ الشَّمْسِ فَمَعْنَى (فَارَاهُ) نُورُ الشَّمْسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ فَجَعَلُوا مَلِكَ مِصْرَ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ يُصْلِحُ النَّاسَ، نُقِلَ هَذَا الِاسْمُ عَنْهُمْ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ وَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ مِمَّا أَدْخَلَهُ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا الِاسْمُ نَظِيرُ (كِسْرَى) لِمَلِكِ مُلُوكِ الْفُرْسِ الْقُدَمَاءِ، وَ (قَيْصَرَ) لِمَلِكِ الرّوم، و (نمْرُود) لِمَلِكِ كَنْعَانَ، وَ (النَّجَاشِيّ) لملك الْحَبَش، وَ (تُبَّعٍ) لِمَلِكِ مُلُوكِ الْيَمَنِ، وَ (خَانَ) لِمَلِكِ التُّرْكِ.
وَاسْمُ فِرْعَوْنَ الَّذِي أُرْسِلَ مُوسَى إِلَيْهِ: مِنْفِطَاحُ الثَّانِي، أَحَدُ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْعَائِلَاتِ الَّتِي مَلَكَتْ مِصْرَ، عَلَى تَرْتِيبِ الْمُؤَرِّخِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ 1491 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ.
وَالْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ عِلْيَةِ الْقَوْمِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَهُمْ وُزَرَاءُ فِرْعَوْنَ وَسَادَةُ أَهْلِ مِصْرَ مِنَ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ، وَإِنَّمَا خَصَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يَأْذَنُونَ فِي سَرَاحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ مُوسَى بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُحَرِّرَهُمْ مِنَ الرِّقِّ الَّذِي كَانُوا فِيهِ بِمِصْرَ، وَلَمَّا كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ مِصْرَ مُتَوَقِّفًا عَلَى أَمْرِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى بِذَلِكَ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَحْصُلُ دَعْوَةُ فِرْعَوْنَ لِلْهُدَى، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيءٍ يُعْلِنُ التَّوْحِيدَ وَيَأْمُرُ بِالْهُدَى، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مِنْ غَيْرِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ حِرْصًا عَلَى الْهُدَى إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقِيمُ فِيهِمْ وَلَا يُكَرِّرُ ذَلِكَ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَظَلَمُوا لِلتَّعْقِيبِ أَيْ فَبَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ.
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَظَلَمُوا هُنَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ (ظَلَمُوا) لِقَصْدِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: فَظَلَمُوا كُلَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ، أَيْ مَنَعُوا النَّاسَ مِنَ التَّصْدِيقِ بِهَا وَآذَوُا الَّذِينَ
آمَنُوا بِمُوسَى لَمَّا رَأَوْا آيَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الْأَعْرَاف: 123، 124] الْآيَةَ.
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ كَابَرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَكَانَ الظُّلْمُ بِسَبَبِ الْآيَاتِ أَيْ بِسَبَبِ الِاعْتِرَافِ بِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضمّن فَظَلَمُوا مَعْنَى كَفَرُوا فَعُدِّيَ إِلَى الْآيَاتِ بِالْبَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ:
فَظَلَمُوا إِذْ كَفَرُوا بِهَا، لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالْآيَاتِ ظلم حَقِيقَة، إِذِ الظُّلْمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ فَمَنْ كَفَرَ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الْمُسَمَّاةِ (آيَاتٍ) فَقَدِ اعْتَدَى عَلَى حَقِّ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْإِخْبَارِ، أَيْ: لَا تَتَرَيَّثْ عِنْدَ سَمَاعِ خَبَرِ كُفْرِهِمْ عَنْ أَنْ تُبَادِرَ بِالتَّدَبُّرِ فِيمَا سَنَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ عَاقِبَتِهِمْ.
وَالْمَنْظُورُ هُوَ عَاقِبَتُهُمُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ [الْأَعْرَاف: 136] وَهَذَا النَّظَرُ نَظَرُ الْعَقْلِ وَهُوَ الْفِكْرُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ.
وَالْخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ هُوَ وَمَنْ يَبْلُغُهُ، أَوِ الْمُخَاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَانْظُرْ أَيُّهَا النَّاظِرُ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي كُلِّ كَلَامٍ مُوَجَّهٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَلَمَّا كَانَ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ حَالَةً عَجِيبَةً، عُبِّرَ عَنْهُ بِ (كَيْفَ) الْمَوْضُوعَةِ لِلسُّؤَالِ عَنِ الْحَالِ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (كَيْفَ) يَقْتَضِي تَقْدِيرَ شَيْءٍ، أَيِ: انْظُرْ عَاقِبَةَ الْمُفْسِدِينَ الَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا بِكَيْفَ.
وَعُلِّقَ فِعْلُ النَّظَرِ عَنِ الْعَمَلِ لِمَجِيءِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: فَانْظُرْ، ثُمَّ افْتَتَحَ كَلَامًا بِجُمْلَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وَالتَّقْدِيرُ فِي أَمْثَالِهِ أَنْ يُقَدَّرَ: فَانْظُرْ جَوَابَ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الْأَمْرِ وَنِهَايَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [11] .
وَالْمُرَادُ بالمفسدين: فِرْعَوْن وملأه، فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ أُصِيبُوا بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ لِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ فَسَادُ