الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 145]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها.
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ قالَ يَا مُوسى، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالتي [الْأَعْرَاف:
144] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ فِيهَا: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: 144] وَالَّذِي آتَاهُ هُوَ أَلْوَاحُ الشَّرِيعَةِ، أَوْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا آتَيْتُكَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَلْوَاحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، إِنْ كَانَ مَا آتَيْتُكَ مُرَادًا بِهِ الْأَلْوَاحُ الَّتِي أُعْطِيَهَا مُوسَى فِي الْمُنَاجَاةِ، فَسَاغَ أَنْ تُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَخُذْ أَلْوَاحًا آتَيْتُكَهَا، ثُمَّ قِيلَ: كتبنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ، وَإِذَا كَانَ مَا آتَيْتُكَ مُرَادًا بِهِ الرِّسَالَةُ وَالْكَلَامُ كَانَ التَّعْرِيفُ فِي الْأَلْوَاحِ تَعْرِيفَ الذِّهْنِي، أَيْ: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي أَلْوَاح مُعَيَّنَةٍ مِنْ جِنْسِ الْأَلْوَاحِ.
والألواح جَمْعُ لَوْحٍ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مُرَبَّعَةٌ مِنَ الْخَشَبِ، وَكَانُوا يَكْتُبُونَ عَلَى الْأَلْوَاحِ، أَوْ لِأَنَّهَا أَلْوَاحٌ مَعْهُودَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سِيقَتْ إِلَيْهِمْ تَفَاصِيلُ الْقِصَّةِ (وَإِنْ كَانَ سَوْقُ مُجْمَلِ الْقِصَّةِ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَصَلَ بِالْمُكَذِّبِينَ بِمُوسَى) .
وَتَسْمِيَةُ الْأَلْوَاحِ الَّتِي أَعْطَاهَا اللَّهُ مُوسَى أَلْوَاحًا مَجَازٌ بِالصُّورَةِ لِأَنَّ الْأَلْوَاحَ الَّتِي أُعْطِيَهَا مُوسَى كَانَتْ مِنْ حِجَارَةٍ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، فَتَسْمِيَتُهَا الْأَلْوَاحَ لِأَنَّهَا عَلَى صُورَةِ الْأَلْوَاحِ، وَالَّذِي بِالْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ أَنَّ اللَّوْحَيْنِ كُتِبَتْ فِيهِمَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي ابْتَدَأَتْ بِهَا شَرِيعَةُ مُوسَى، وَكَانَا لَوْحَيْنِ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَإِطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَيْهَا هُنَا: إِمَّا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَا مَكْتُوبَيْنِ عَلَى كِلَا وَجْهَيْهِمَا، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْإِصْحَاحُ الثَّانِي وَالثَلَاثُونَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعَةِ أَلْوَاحٍ.
وَأُسْنِدَتِ الْكِتَابَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً نَقْشًا فِي الْحَجَرِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ إِنْسَانٍ بَلْ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ، كَمَا أُسْنِدَ الْكَلَامُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْله: وَبِكَلامِي [الْأَعْرَاف: 144] .
وَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تبعيضية مُتَعَلقَة ب كَتَبْنا وَمَفْعُولُ كَتَبْنا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كَتَبْنَا أَيْ مَكْتُوبًا، وَيَجُوزُ جَعْلُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِكَتَبْنَا، أَيْ كَتَبْنَا لَهُ بَعْضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ [16] وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَكُلِّ شَيْءٍ عَامٌّ عُمُومًا عُرْفِيًّا أَيْ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي دِينِهَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 138] علئى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَعَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أُصُولَهُ.
وَالَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الْأَلْوَاحِ هُوَ أَصُولُ كُلِّيَّاتٍ هَامَّةٍ لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ بِهَا إِلَى مُوسَى عليه السلام وَهِيَ مَا فِي الْإِصْحَاحِ (20) مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ وَنَصُّهَا: أَنا الرب إلاهك الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، لَا يكن لَك ءالهة أُخْرَى أَمَامِي، لَا تَصْنَعْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ، مِنْ فَوْقَ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتَ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ لِأَنِّي أَنا الرب إلاهك غَيُورٌ افْتَقِدْ ذُنُوبَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ من مبغضيّ واصنع إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ، لَا تَنْطِقْ باسم الرب إلاهك بَاطِلًا لِأَنَّ الرب لَا يبرىء مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا، اذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سبت للرب إلاهك لَا تَصْنَعْ عَمَلًا مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأُخْتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخَلَ أَبْوَابِكَ لِأَنَّ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَا وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ، وَكُلَّ مَا فِيهَا وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ، أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يعطيك الرب إلاهك، لَا تَقْتُلْ، لَا تَزْنِ لَا تَسْرِقْ، لَا تَشْهَدْ، عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ، لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ، لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ، وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِمَّا لقريبك اهـ، وَاشْتُهِرَتْ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْوَصَايَا الْعَشْرِ، وَبِالْكَلِمَاتِ الْعشْر أَي لجمل الْعَشْرِ.
وَقَدْ فُصِلَتْ (فِي) من الْإِصْحَاحِ الْعِشْرِينَ إِلَى نِهَايَةِ الْحَادِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ
الْخُرُوجِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى فِي جَبَلِ سِينَا
وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ أَنَّ الْأَلْوَاحَ لَمْ تُكْتَبْ فِيهَا إِلَّا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ، الَّتِي بِالْفِقْرَاتِ السَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ هُنَا مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا يَقْتَضِي الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا فِي الْأَصَاحِيحِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ.
وَالْمَوْعِظَةُ اسْمُ مَصْدَرِ الْوَعْظِ وَهُوَ نُصْحٌ بِإِرْشَادٍ مَشُوبٍ بِتَحْذِيرٍ مِنْ لَحَاقِ ضُرٍّ فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ بِتَحْرِيضٍ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ، مَغْفُولٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [275]، وَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63]، وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [125] .
وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ لِلْمُجْمَلَاتِ وَلَعَلَّ الْمَوْعِظَةَ هِيَ الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ وَالتَّفْصِيلُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْإِصْحَاحَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَانْتَصَبَ مَوْعِظَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ (مِنْ) إِذَا كَانَتِ اسْمًا- إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّفْصِيلِ قَدْ عَقِبَ كِتَابَةَ الْأَلْوَاحِ بِمَا كَلَّمَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ سِفْرُ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْحَادِيِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ وَلِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ إِثْرَ ذَلِكَ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ أَيْ واعظين ومفصلين، فموعظة حَالٌ مُقَارِنَةٌ وَتَفْصِيلًا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَأَمَّا جَعْلُهُمَا بَدَلَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِهِ: وَتَفْصِيلًا.
وَقَوْلُهُ: فَخُذْها يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْفَاءَ دَالَّةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَى مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى، وَلَمَّا لَمْ يَقَعْ فِيمَا وَلَيْتُهُ مَا يصلح لِأَن يتقرع عَنْهُ الْأَمْرُ بِأَخْذِهَا بِقُوَّةٍ. تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
فَخُذْها بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: 144] بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِقُوَّةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ الْمُطْلَقُ، وَقَدِ اقْتَضَاهُ الْعَوْدُ، إِلَى مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى إِثْرَ صَعْقَتِهِ إِتْمَامًا لِذَلِكَ الْخِطَابِ فَأُعِيدَ مَضْمُونُ مَا سَبَقَ لِيَتَّصِلَ بِبَقِيَّتِهِ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ بِقُوَّةٍ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضٍ، وَلَوْلَا إِعَادَةُ فَخُذْها لَكَانَ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ: مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: 144] وَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا اعْتِرَاضًا عَلَى بَابِهِ وَلَمَّا اقْتَضَى الْمَقَامُ هَذَا الْفَصْلَ، وَإِعَادَةَ الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ، اقْتَضَى حُسْنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
فِي الْإِعَادَةِ زِيَادَةٌ، فَأُخِّرَ مُقَيِّدُ الْأَخْذِ، وَهُوَ كَوْنُهُ بِقُوَّةٍ، عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ،
وَعُلِّقَ بِالْأَمْرِ الثَّانِي الرَّابِطُ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: فَخُذْها بِتَأْكِيدٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظْمُ حِكَايَةِ الْخِطَابِ لِمُوسَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ الْخِطَابِ الْمَحْكِيِّ إِعَادَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ هَذَا الْأَخْذِ، فَيَكُونُ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَيَكُونُ تَأْخِيرُ الْقَيْدِ تَحْسِينًا لِلتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِيَكُونَ مَعَهُ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَيَكُونَ الِاعْتِرَاضُ قَدْ وَقَعَ بَين التوكيد والموكّد وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظْمُ الْخِطَابِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى حُكِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أُسْلُوبِهِ الصَّادِرِ بِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها عَائِدٌ إِلَى الْأَلْوَاحِ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ. وَالْمَقُولُ لِمُوسَى هُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ، وَفِي هَذَا الضَّمِيرِ تَفْسِيرٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: 144] وَفِي هَذَا تَرْجِيحُ كَون مَا صدق مَا آتَيْتُكَ هُوَ الْأَلْوَاحُ، وَمَنْ جعلُوا مَا صدق مَا آتَيْتُكَ الرِّسَالَةَ وَالْكَلَامَ جَعَلُوا الْفَاءَ عَاطِفَةً لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى جُمْلَةِ وَكَتَبْنا وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: وَكَتَبْنَا فَقُلْنَا خُذْهَا بِقُوَّةٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَحْسَنُ وَأَوْفَقُ بِالنَّظْمِ.
وَالْأَخْذُ: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِقُوَّةٍ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ يَتَأَتَّى لَهُ بِهَا أَنْ يَعْمَلَ مَا يَشُقُّ عَمَلُهُ فِي الْمُعْتَادِ فَتَكُونُ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِثْلَ قُوَّةِ الْيَدَيْنِ عَلَى الصُّنْعِ الشَّدِيدِ، وَالرِّجْلَيْنِ عَلَى الْمَشْيِ الطَّوِيلِ، وَالْعَيْنَيْنِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمَرْئِيَّاتِ الدَّقِيقَةِ. وَتَكُونُ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ مِثْلَ قُوَّةِ الدِّمَاغِ عَلَى التَّفْكِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُهُ غَالِبُ النَّاسِ، وَعَلَى حِفْظِ مَا يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِهِ غَالِبُ النَّاسِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قُوَّةُ الْعَقْلِ.
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْقُوَى عَلَى الْعَقْلِ وَفِيمَا أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
وَصَاحِبَيْنِ حَازِمًا قُوَاهُمَا
نُبِّهَتْ وَالرُّقَادُ قَدْ عَلَاهُمَا
…
إِلَى أَمُونَيْنِ فَعَدَّيَاهُمَاِِِِِِِِ
وَسَمَّى الْحُكَمَاءُ الْحَوَاسَّ الْخَمْسَ الْعَقْلِيَّةَ بِالْقُوَى الْبَاطِنِيَّةِ وَهِيَ الْحَافِظَةُ، وَالْوَاهِمَةُ، وَالْمُفَكِّرَةُ، وَالْمُخَيِّلَةُ، وَالْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ.
فَيُقَالُ: فَرَسٌ قَوِيٌّ، وَجَمَلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُقَالُ: عُودٌ قَوِيٌّ، إِذَا كَانَ عسير الانكسار، وأسّس قَوِيٌّ، إِذَا كَانَ لَا يَنْخَسِفُ بِمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مِنْ جِدَارٍ ثَقِيلٍ، إِطْلَاقًا قَرِيبًا مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَهَاتِهِ الْحَالَةُ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ لِأَنَّهَا فِي بَعْضِ مَوْصُوفَاتِهَا أَشَدُّ مِنْهَا فِي بَعْضٍ آخَرَ، وَيَظْهَرُ تَفَاوُتُهَا فِي تَفَاوُتِ مَا يَسْتَطِيعُ مَوْصُوفُهَا أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ عَمَلٍ مِمَّا هِيَ حَالَّةٌ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْقُوَّةِ أَنَّ قُدْرَةَ صَاحِبِهَا عَلَى عَمَلِ مَا يُرِيدُهُ أَشَدُّ مِمَّا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَالْأَعْمَالُ عَلَيْهِ أَيْسَرُ، شَاعَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْوَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا الْمَرْء على تذليل الْمَصَاعِبِ مِثْلَ السِّلَاحِ وَالْعَتَادِ، وَالْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [33] .
وَلِكَوْنِهَا يَلْزَمُهَا الِاقْتِدَارُ عَلَى الْفِعْلِ وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِ الْقَوِيِّ أَيِ الْكَامِلِ الْقُدْرَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [52] .
وَالْقُوَّةُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها بِقُوَّةٍ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الْعَزْمِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِي الْأَلْوَاحِ، بِمُنْتَهَى الْجِدِّ وَالْحِرْصِ دُونَ تَأْخِيرٍ وَلَا تَسَاهُلٍ وَلَا انْقِطَاعٍ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ وَلَا مَلَلٍ، بِحَالَةِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ عَمَلٌ يُرِيدُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [12] .
وَهَذَا الْأَخْذُ هُوَ حَظُّ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ الْمُبَلِّغِينَ لِلشَّرِيعَةِ وَالْمُنَفِّذِينَ لَهَا، فَاللَّهُ الْمُشَرِّعُ، وَالرَّسُولُ الْمُنَفِّذُ، وَأَصْحَابُهُ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ هُمْ أَعْوَانٌ عَلَى التَّنْفِيذِ، وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ بِهَذَا الْأَخْذِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَضْرَتِهِ وَعِنْدَ مَغِيبِهِ، وَهُوَ وَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ كَسَائِرِ الْأُمَّةِ.
فَقَوْلُهُ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها تَعْرِيجٌ عَلَى مَا هُوَ حَظُّ عُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِهَا، فَهَذَا الْأَخْذُ مَجَازٌ فِي التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى اللُّصُوقِ، يُقَالُ: أَخَذَ بِكَذَا إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ وَقَبَضَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ [الْأَعْرَاف: 150] وَقَوْلِهِ: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
[طه: 94] . وَلَمْ يُعَدَّ فِعْلُ الْأَخْذِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ، فَأَنَّ الْأَوَّلَ حَظُّ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالثَّانِي حَظُّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ.
وَجُزِمَ يَأْخُذُوا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَأْمُرْ تَحْقِيقًا لحُصُول امتثالهم عِنْد مَا يَأْمُرُهُمْ.
وبِأَحْسَنِها وَصْفٌ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ مَقْصُودٌ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُسْنِ، فَإِضَافَتُهَا إِلَى
ضَمِيرِ الْأَلْوَاحِ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: بِالْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ لَهَا وَهُوَ جَمِيعُ مَا فِيهَا، لِظُهُورِ أَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ لَيْسَ بَيْنَهُ تَفَاضُلٌ بَيْنَ أَحْسَنَ وَدُونَ الْأَحْسَنِ، بَلْ كُلُّهُ مَرْتَبَةٌ وَاحِدَةٌ فِيمَا عُيِّنَ لَهُ، وَلِظُهُورِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأَخْذِ بِبَعْضِ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا، وَلِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مُفَصَّلٌ فِيهَا مَرَاتِبُ الْأَعْمَالِ، فَلَوْ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ كَانَ عِنْدَهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ، كَالْمَنْدُوبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبَاحِ، وَكَالرُّخْصَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَزِيمَةِ، كَانَ التَّرْغِيبُ فِي الْعَمَلِ بِالْأَفْضَلِ مَذْكُورًا فِي الشَّرِيعَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْذِ بِهَا، فَقَرَائِنُ سَلْبِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ عَنِ الْمُفَاضَلَةِ قَائِمَةٌ وَاضِحَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّرَدُّدِ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالتَّعَزُّبِ إِلَى التَّنْظِيرِ بِتَرَاكِيبَ مَصْنُوعَةٍ أَوْ نَادِرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [55] . وَالْمَعْنَى:
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِمَا فِيهَا لحسنها.
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ.
كَلَامٌ مُوَجَّهٌ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا: هُوَ وَعْدٌ لَهُ بِدُخُولِهِمُ الْأَرْضَ الْمَوْعُودَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا فَتَكُونُ مِنْ تَمَامِ جُمْلَةِ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها عَلَى أَنَّهَا تَحْذِيرٌ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي شَيْءٍ مِمَّا كُتِبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ. وَالْمَعْنَى سَأُبَيِّنُ لَكُمْ عِقَابَ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ بِهَا.
وَالدَّارُ الْمَكَانُ الَّذِي تَسْكُنُهُ الْعَائِلَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [81] وَالْمَكَانُ الَّذِي يَحُلُّهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ حَيٍّ أَوْ قَبِيلَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الْأَعْرَاف: 91] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَتُطْلَقُ الدَّارُ عَلَى مَا يَكُونُ عَلَيْهِ النَّاسُ أَوِ الْمَرْءُ مِنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 24]، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَآلُ الْمَرْءِ وَمَصِيرُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ يَأْوِي إِلَيْهِ فِي شَأْنِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [135] .
وَخُوطِبَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ بِاعْتِبَارِ
جَمَاعَةِ قَوْمِهِ فَالْخِطَابُ شَامِلٌ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ.
وَالْإِرَاءَةُ مَنْ رَأَى الْبَصَرِيَّةِ لِأَنَّهَا عُدِّيَتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَقَطْ.
وأوثر فعل سَأُرِيكُمْ دُونَ نَحْوِ: سَأُدْخِلُكُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ مَنَعَ مُعْظَمَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى مِنْ دُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ قِتَالِ الْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [26] . وَجَاءَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى: «وَأَنْتَ لَا تَدْخُلُ إِلَى هُنَاكَ» وَفِي الْإِصْحَاحِ (34)«وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ (نَبْو) فَأَرَاهُ اللَّهُ جَمِيعَ الْأَرْضِ» وَقَالَ لَهُ: «هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَقْسَمْتُ لِإِبْرَاهِيمَ قَائِلًا لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا قَدْ أَرَيْتُكَ إِيَّاهَا بِعَيْنَيْكَ وَلَكِنَّكَ لَا تَعْبُرُ» .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَأُرِيكُمْ خِطَابًا لِقَوْمِ مُوسَى، فَيَكُونُ فِعْلُ أُرِيكُمْ كِنَايَةً عَنِ الْحُلُولِ فِي دَارِ الْفَاسِقِينَ، وَالْحُلُولُ فِي دِيَارِ قَوْمٍ لَا يكون إلّا الْفَتْح وَالْغَلَبَةِ، فَالْإِرَاءَةُ رَمْزٌ إِلَى الْوَعْدِ بِفَتْحِ بِلَادِ الْفَاسِقِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ الْمُشْرِكُونَ، فَالْكَلَامُ وَعْدٌ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ بِأَنْ يَفْتَحُوا دِيَارَ الْأُمَمِ الْحَالَّةِ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ خِطَابًا لِلشَّعْبِ «احْفَظْ مَا أَنَا مُوصِيكَ بِهِ هَا أَنَا طَارِدٌ مِنْ قُدَّامِكَ الْأَمُورِيِّينَ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ، وَالْحَثِّيِّينَ، وَالْفَرْزِيِّينَ، وَالْحَوِّيِّينِ، وَالْيَبُوسِيِّينَ، احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَقْطَعَ عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ آتٍ إِلَيْهَا لِئَلَّا يَصِيرُوا فَخًّا فِي وَسَطِكَ بَلْ تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ وَتَكْسِرُونَ أَنْصَابَهُمْ وَتَقْطَعُونَ سُوَارِيَهُمْ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِإِلَهٍ آخَرَ» .
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ دَارَ الْفَاسِقِينَ هِيَ دَارُ الْعَمَالِقَةِ وَالْجَبَابِرَةِ، وَهِيَ الشَّامُ، فَمِنَ الْخَطَأِ تَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرُوا دَارَ الْفَاسِقِينَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا بِهَا وَخَرَجُوا مِنْهَا وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا، وَمِنَ الْبَعِيدِ تَفْسِيرُ دَارِ الْفَاسِقِينَ بِجِهَتِهِمْ، وَفِي الْإِصْحَاحِ 34 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَقْطَعَ عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ آتٍ إِلَيْهَا فَيَزْنُونَ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ وَيَذْبَحُونَ لِآلِهَتِهِمْ فَتُدْعَى وَتَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِهِمْ وَتَأْخُذُ مِنْ بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكَ فَتَزْنِي بَنَاتُهُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِنَّ وَيَجْعَلْنَ بَنِيكَ يَزْنُونَ وَرَاءَ آلِهَتِهِنَّ» ، وَلَا يَخْفَى حُسْنُ مُنَاسَبَةِ التَّعْبِيرِ عَنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِالْفَاسِقِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.