الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ: مِنْهَا ثَلَاثَةٌ ذَكَرَهَا الْفَخْرُ، وَأَنَا لَا أَرَاهَا مُلَاقِيَةً لِإِضَافَةِ الْأَسْمَاءِ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَخْفَى عَنِ النَّاظِرِ فِيهَا.
وَجُمْلَةُ: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْمُلْحِدِينَ،
فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ لَا تَهْتَمُّوا بِإِلْحَادِهِمْ وَلَا تَحْزَنُوا لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَسُمِّيَ إِلْحَادُهُمْ عَمَلًا لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ أَيْ سَيُجْزَوْنَ بِجَمِيعِ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إِلْحَادُهُمْ فِي أَسْمَائِهِ.
وَالسِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِي تفِيد تَأْكِيد.
وَقِيلَ: مَا كانُوا يَعْمَلُونَ دُونَ مَا عَمِلُوا أَوْ مَا يَعْمَلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ سُنَّةٌ لَهُمْ ومتجدد مِنْهُم.
[181- 183]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 181 إِلَى 183]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الْأَعْرَاف: 179] الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ: التَّنْوِيهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَدْيِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ضلالهم، أَي عرّض عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاكَ عَنْهُم بِالْمُسْلِمين، فَمَا صدق «الْأُمَّةِ» هُمُ الْمُسْلِمُونَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا
…
أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يُرِيدُ نَفْسَهُ فَإِنَّهَا بَعْضُ النُّفُوسِ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ بَلَغَنَا أَن النبيء صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَ هَذِه الْآيَةَ: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِيَ الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا»
. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَبَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْآيَةِ عُرِفَ تَفْسِيرُهَا مِنْ نَظَرِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ التَّكْذِيبِ بِالْبَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [57] .
وَالِاسْتِدْرَاجُ مُشْتَقٌّ مِنَ الدَّرَجَةِ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهِيَ طَبَقَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ مُرْتَفِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ بِقَدْرِ مَا تَرْتَفِعُ الرِّجْلُ لِلِارْتِقَاءِ مِنْهَا إِلَى مَا فَوْقَهَا تَيْسِيرًا لِلصُّعُودِ فِي مِثْلِ الْعُلُوِّ أَوِ الصَّوْمَعَةِ أَوِ الْبُرْجِ، وَهِيَ أَيْضًا وَاحِدَة الأعواد المصوفة فِي السُّلَّمِ يُرْتَقَى مِنْهَا إِلَى الَّتِي فَوْقَهَا، وَتُسَمَّى هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِرَقَاةً، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي فِعْلِ الِاسْتِدْرَاجِ لِلطَّلَبِ، أَيْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ
يَتَدَرَّجَ، أَيْ صَاعِدًا أَوْ نَازِلًا، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْقَاصِدِ إِبْدَالَ حَالِ أَحَدٍ إِلَى غَيْرِهَا بِدُونِ إِشْعَارِهِ، بِحَالِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى أُخْرَى بِحَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ يَشْتَمِلُ عَلَى تَشْبِيهَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِ حُسْنِ الْحَالِ بِرِفْعَةِ الْمَكَانِ وَضِدُّهُ بِسَفَالَةِ الْمَكَانِ، وَالْقَرِينَةُ تُعِينُ الْمَقْصُودَ مِنَ انْتِقَالٍ إِلَى حَالٍ أَحْسَنَ أَوْ أَسْوَأَ.
وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى مُرَاعَاةِ هَذَا التَّمْثِيلِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا تَضَمَّنَ الِاسْتِدْرَاجُ مَعْنَى الْإِيصَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ عُلِّقَ بِفِعْلِهِ مَجْرُورٌ بِمِنَ الِابْتِدَائِيَّةِ أَيْ مُبْتَدِئًا اسْتِدْرَاجَهُمْ مِنْ مَكَانٍ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُفْضٍ بِهِمْ إِلَى الْمَبْلَغِ الضَّارِّ، فَ حَيْثُ هُنَا لِلْمَكَانِ عَلَى أَصْلِهَا، أَيْ مِنْ مَكَانٍ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِدْرَاجِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَعْلَمُونَ تَدَرُّجَهُ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ عَظِيمٌ لَا يُظَنُّ بِالْمَفْعُولِ بِهِ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ.
وَالْإِمْلَاءُ إِفْعَالٌ وَهُوَ الْإِمْهَالُ، وَهَمْزَةُ هَذَا الْمَصْدَرِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، مُشْتَقٌ مِنَ الْمِلَاوَةِ مُثَلَّثَةِ الْمِيمِ، وَهِيَ مُدَّةُ الْحَيَاةِ يُقَالُ أَمَلَاهُ وَمَلَّاهُ إِذَا أَمْهَلَهُ وَأَخَّرَهُ، كِلَاهُمَا بِالْأَلِفِ دُونَ هَمْزٍ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى عَمَّرَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ بِالْحَيَاةِ مَلَّاكَ اللَّهُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ هِيَ اللَّامُ الَّتِي تُسَمَّى: لَامُ التَّبْيِينِ، وَلَهَا اسْتِعْمَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا خَفَاءٌ وَمَرْجِعُهَا: إِلَى أَنَّهَا يُقْصَدُ مِنْهَا تَبْيِينُ اتِّصَالِ مَدْخُولِهَا بِعَامِلِهِ لِخَفَاءٍ فِي ذَلِكَ الِاتِّصَالِ، فَإِنَّ اشْتِقَاقَ أَمْلَى مِنَ الْمَلْوِ اشْتِقَاقٌ غَيْرُ مَكِينٍ، لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ
مِنْهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْحَدث، فَلم يَجِيء مِنْهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، فَاحْتِيجَ إِلَى اللَّامِ، لِتَبْيِينِ تَعَلُّقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَمْلَى لِلْبَعِيرِ بِمَعْنَى أَطَالَ لَهُ فِي طُولِهِ فِي الْمَرْعَى، فَهُوَ جَاءَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى بِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ.
فَجُمْلَةُ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا، فَإِنَّ الِاسْتِدْرَاجَ وَالْإِمْلَاءَ ضَرْبٌ مِنَ الْكَيْدِ، وَكَيْدُ اللَّهِ مَتِينٌ أَيْ قَوِيٌّ لَا انْفِلَاتَ مِنْهُ لِلْمَكِيدِ.
وَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ وَالتَّعْلِيلِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: إِنَّهَا تُغْنِي فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ غِنَاءَ الْفَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96]، أَيْ: يَكُونُ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجُ وَذَلِكَ الْإِمْلَاءُ بَالِغَيْنِ مَا أَرَدْنَاهُ بِهِمْ لِأَنَّ كَيَدِي قَوِيٌّ.
وَلَمَّا كَانَ أُمْلِي مَعْطُوفًا عَلَى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ، فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ: وَسَأُمْلِي لَهُمْ.
وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ فعلي (نستدرج) و (أملي) فِي كَوْنِ ثَانِيهِمَا بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَوَّلِهِمَا بِنُونِ الْعَظَمَةِ مُغَايَرَةٌ اقْتَضَتْهَا الْفَصَاحَةُ مِنْ جِهَةِ ثِقَلِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ حَرْفَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي النُّطْقِ فِي سَنَسْتَدْرِجُهُمْ وَلِلتَّفَنُّنِ وَالِاكْتِفَاءِ بِحُصُولِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ الْأَوَّلِ.
وَ (الْكَيْدُ) لَمْ يُضْبَطْ تَحْدِيدُ مَعْنَاهُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ يُرَادِفُ الْمَكْرَ وَالْحِيلَةَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ:«ضَرْبٌ مِنَ الِاحْتِيَالِ، وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا وَمَمْدُوحًا وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَذْمُومِ أَكْثَرَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَيْدَ أَخَصُّ مِنْ الِاحْتِيَالِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ غُلِبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَى تَحْصِيلٍ مَا لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمَكِيدُ لَاحْتَرَزَ مِنْهُ، فَهُوَ احْتِيَالٌ فِيهِ مَضِرَّةٌ مَا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، فَمُرَادُ الرَّاغِبِ بِالْمَذْمُومِ الْمَذْمُومُ عِنْدَ الْمَكِيدِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ» وَقَالَ ابْنُ كَمَالْ بَاشَا: الْكَيْدُ الْأَخْذُ عَلَى خَفَاءٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِظْهَارُ الْكَائِدِ خِلَافَ مَا يُبْطِنُهُ.
وَيَتَحَصَّلُ مِنْ هَذِهِ التَّدْقِيقَاتِ: أَنَّ الْكَيْدَ أَخَصُّ مِنَ الْحِيلَةِ وَمِنَ الِاسْتِدْرَاجِ.
وَوُقُوعُ جُمْلَةِ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ اسْتِدْرَاجَهُمْ وَالْإِمْلَاءُ لَهُمْ كَيْدٌ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ إِلَى مَا يَكْرَهُونَهُ، وَتَأْجِيلٌ لَهُمْ إِلَى حُلُولِ مَا يَكْرَهُونَهُ،