الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 120 إِلَى 126]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَاّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
عَطْفٌ عَلَى فَغُلِبُوا وَانْقَلَبُوا [الْأَعْرَاف: 119] ، فَهُوَ فِي حَيِّزِ فَاءِ التَّعْقِيبِ، أَيْ:
حَصَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَقِبَ تَلَقُّفِ الْعَصَا مَا يَأْفِكُونَ، أَيْ: بِدُونِ مُهْلَةٍ، وَتَعْقِيبُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَسُجُودُ السَّحَرَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَصِيرِهِمْ صَاغِرِينَ، وَلَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِزَمَنٍ قَلِيلٍ وَهُوَ زَمَنُ انْقِدَاحِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِالسِّحْرِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْأَعْمَالِ السِّحْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا تَلَقُّفَ عَصَا مُوسَى لِحِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ جَزَمُوا بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ السَّاحِرِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى وَأَيْقَنُوا أَنَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى حَقٌّ، فَلِذَلِكَ سَجَدُوا، وَكَانَ هَذَا خَاصًّا بِهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ الْحَاضِرِينَ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِالضَّمِيرِ الَّذِي قَبْلَهُ الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لِلسَّحَرَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْإِلْقَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي سُرْعَةِ الْهُوِيِّ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ: لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ سَجَدُوا بِدُونِ تَرَيُّثٍ وَلَا تَرَدُّدٍ.
وَبُنِيَ فِعْلُ الْإِلْقَاءِ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ أَنْفُسُهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ.
وساجِدِينَ حَالٌ، وَالسُّجُودُ هَيْئَةٌ خَاصَّةٌ لِإِلْقَاءِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ عَلَى الْأَرْضِ يُقْصَدُ مِنْهَا الْإِفْرَاطُ فِي التَّعْظِيمِ، وَسُجُودُهُمْ كَانَ لِلَّهِ الَّذِي عَرَفُوهُ حِينَئِذٍ بِظُهُورِ مُعْجِزَةِ مُوسَى- عليه السلام وَالدَّاعِي إِلَيْهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَجُمْلَةُ: قالُوا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: أُلْقِيَ السَّحَرَةُ لِأَنَّ الْهُوِيَّ لِلسُّجُودِ اشْتَمَلَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهُمْ قَصَدُوا مِنْ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ الْإِعْلَانَ بِإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِفِرْعَوْنَ، إِذْ كَانَتْ عَادَةُ الْقِبْطِ السُّجُودَ لِفِرْعَوْنَ، وَلِذَلِكَ وَصَفُوا اللَّهَ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْعُنْوَانِ الَّذِي دَعَا بِهِ مُوسَى- عليه السلام، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ اسْمًا عَلَمًا لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ اسْمٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِإِلَاهِيَّةِ فِرْعَوْنَ.
وَزَادُوا هَذَا الْقَصْدَ بَيَانًا بالإبدال من بِرَبِّ الْعالَمِينَ قَوْلَهُمْ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ رَبُّ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَتَعَيَّنَ فِي تَعْرِيفِ الْبَدَلِ طَرِيقُ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ، وَأَوْضَحُهُ هُنَا، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ
اسْمًا عَلَمًا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ. وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ تَعْلِيمُ اللَّهِ اسْمَهُ لِمُوسَى حِينَ كَلَّمَهُ فَقَالَ:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [14] . وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ وَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (يَهْوَهُ) إِلَهُ آبَائِكُمْ إِلَخِ الِاصْحَاحِ الثَّالِثِ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ فِرْعَوْنُ لِوُقُوعِهَا فِي طَرِيقِ المحاورة.
وَقَوله: آمَنْتُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ- بِهَمْزَتَيْنِ- فَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَهَا، وَهُمْ: حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَهَّلَ الثَّانِيَةَ مَدَّةً، فَصَارَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ الْأُولَى مَدَّتَانِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ: نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ- فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةً وَمَا ذَلِكَ بِبِدْعٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّهْدِيدِ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، وَالْإِخْبَارُ مُسْتَعْمَلٌ كَذَلِكَ أَيْضًا لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ حَقِيقَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا حَقِيقَةَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ صَرَّحُوا بِذَلِكَ وَعَلِمُوهُ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى، أَيْ: آمَنْتُمْ بِمَا قَالَهُ، أَوْ إِلَى رَبِّ مُوسَى.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ إِلَخْ
…
خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ لَازِمُ الْفَائِدَة أَي: قد عَلِمْتُ مُرَادَكُمْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يُخْبَرُ بِشَيْءٍ صَدَرَ مِنْهُ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ:
إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ الْفِرَاقِ فَإِنَّمَا
…
زُمَّتْ رِكَابُكُمُ بِلَيْلٍ مُظْلِمِ
أَيْ: إِنْ كُنْتِ أَخْفَيْتِ عَنِّي عَزْمَكِ عَلَى الْفِرَاقِ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ شَدَدْتُمْ رِحَالَكُمْ بِلَيْلٍ لِتَرْحَلُوا خُفْيَةً.
وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ تَرَقٍّ فِي مُوجِبِ التَّوْبِيخِ، أَيْ لَمْ يَكْفِكُمْ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِغَيْرِي حَتَّى فَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَفَصْلُهَا عَمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تِعْدَادٌ لِلتَّوْبِيخِ.
وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54]، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الْأَعْرَاف: 99] .
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي مَكَرْتُمُوهُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِفِعْلِهِ.
وفِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ: جُعِلَ مَكْرُهُمْ كَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا يُوضَعُ الْعُنْصُرُ الْمُفْسِدُ، أَيْ: أَرَدْتُمْ إِضْرَارَ أَهْلِهَا، وَلَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً حَقِيقِيَّةً لِأَنَّهَا لَا جَدْوَى لَهَا إِذْ مَعْلُومٌ لِكُلِّ
أَحَدٍ أَنَّ مَكْرَهُمْ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَفَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُمْ دَبَّرُوهُ فِي الْمَدِينَةِ حِينَ كَانُوا بِهَا قَبْلَ الْحُضُورِ إِلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُحَاوَرَةُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّرْفِيَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها وَالْمُرَادُ- هُنَا- بَعْضُ أَهْلِهَا، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ مُوسَى جَاءَ طَلَبًا لِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ مُوَافِقًا لِظَنِّهِ عَلَى سَبِيلِ التُّهْمَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِدَقَائِقِ عِلْمِ السِّحْرِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، فَظَنَّ أَنَّهَا مَكِيدَةٌ دَبَّرَهَا مُوسَى مَعَ السَّحَرَةِ، وَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ أَوْ مُعَلِّمَهُمْ أَمْرَهُمْ فَأْتَمَرُوا بِأَمْرِهِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه: 71] .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ تَمْوِيهًا وَبُهْتَانًا لِيَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ السَّحَرَةِ، وَعَنِ التَّأَثُّرِ بِغَلَبَةِ مُوسَى إِيَّاهُمْ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ شَكًّا فِي دَلَالَةِ الْغَلَبَةِ وَاعْتِرَافِ السَّحَرَةِ بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُوَاطَأَةٌ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ لِغَايَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي قَوْلِهِ هَذَا، لِمَا كَانَ أَشَارَ بِهِ.
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشُّعَرَاء: 35] وَأَيًّا مَا كَانَ فَعَزْمُهُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ مَصِيرٌ إِلَى الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذهُمْ بالتهمة، بله أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى الْحُجَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْحُجَّةُ صَارَ إِلَى الْجَبَرُوتِ.
وَفَرَّعَ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَحَذَفَ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ فِي الْوَعِيدِ لِإِدْخَالِ الرُّعْبِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِجُمْلَةِ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ. وَوُقُوعُ الْجَمْعِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ يُكْسِبُهُ الْعُمُومَ فَيَعُمُّ
كُلَّ يَدٍ وَكُلَّ رِجْلٍ مِنْ أَيْدِي وَأَرْجُلِ السَّحَرَةِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ ابْتِدَائِيَّةٌ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُضْوِ الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [33] . فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ كُلِّ سَاحِرٍ يَدًا وَرِجْلًا مُتَخَالِفَتِيِ الْجِهَةِ غَيْرَ مُتَقَابِلَتَيْهَا، أَيْ: إِنْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَالْعَكْسُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعِ الْقَوَائِمَ الْأَرْبَعَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَقَاءُ الشَّخْصِ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْمَشْيِ مُتَوَكِّئًا عَلَى عُودٍ تَحْتَ الْيَدِ مِنْ جِهَةِ الرِّجْلِ الْمَقْطُوعَةِ.
وَدَلَّتْ ثُمَّ عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الْوَعيد بالثلب، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الصَّلْبَ أَنْ يُقْتَلَ الْمَرْءُ
مَشْدُودًا عَلَى خَشَبَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [157]، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَوَعَّدَهُمْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْوَعِيدُ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ يُعَذَّبُ بِالْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ، وَفَرِيقٌ يُعَذَّبُ بِالصَّلْبِ وَالْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ يَصْلُبُهُمْ بَعْدَ أَنْ يُقَطِّعَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ مِنْ خِلَافٍ حِينَئِذٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّلْبِ: الصَّلْبُ دُونَ قَتْلٍ، فَيَكُونُ أَرَادَ صَلْبَهُمْ بَعْدَ الْقَطْعِ لِيَجْعَلَهُمْ نَكَالًا يَنْذَعِرُ بِهِمُ النَّاسُ، كَيْلَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى عِصْيَانِ أَمْرِهِ مِنْ بَعْدُ، فَتَكُونُ (ثُمَّ) دَالَّةً عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، وَلَعَلَّ الْمُهْلَةَ قَصَدَ مِنْهَا مُدَّةَ كَيِّ وَانْدِمَالِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَجْمَعِينَ الْمُفِيدِ أَنَّ الصَّلْبَ يَنَالُهُمْ كُلَّهُمْ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ وَعِيدٌ لَا يُضِيرُهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْجَمِيعِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْجَوَابُ مُوجَزًا إِيجَازًا بَدِيعًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَيَرْجُونَ مِنْهُ مَغْفِرَةَ ذُنُوبِهِمْ، وَيَرْجُونَ الْعِقَابَ لِفِرْعَوْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّلْبِ الْقَتْلَ وَكَانَ الْمُرَادُ تَهْدِيدَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَشَوُّقًا إِلَى حُلُولِ ذَلِكَ بِهِمْ مَحَبَّةً لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَكْسَبَهُمْ مَحَبَّةَ لِقَائِهِ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّ عِقَابَ فِرْعَوْنَ لَا غَضَاضَةَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ جِنَايَةٍ تَصِمُهُمْ بَلْ كَانَ عَلَى الْإِيمَانِ بِآيَاتِ لَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ. أَيْ: فَإِنَّكَ لَا
تَعْرِفُ لَنَا سَبَبًا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَالنَّقْمُ: بِسُكُونِ الْقَافِ وَبِفَتْحِهَا، الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ، وَكَرَاهَةُ صُدُورِهِ وَحِقْدٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَمَلِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَتَعِبَ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَلِذَلِكَ قَرَأَهُ الْجَمِيعُ وَما تَنْقِمُ- بِكَسْرِ الْقَافِ-.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَنْقِمُهُ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمْ، وَهِيَ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِهِمْ فِرْعَوْنَ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً اجْعَلْ لَنَا طَاقَةً لِتَحَمُّلِ مَا تَوَعَّدَنَا بِهِ فِرْعَوْنُ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ مِمَّا لَا تُطِيقُهُ النُّفُوسُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِنُفُوسِهِمْ صَبْرًا قَوِيًّا، يفوق الْمُتَعَارف، فشه الصَّبْرُ بِمَاءٍ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَشُبِّهَ خَلْقُهُ فِي نُفُوسِهِمْ بِإِفْرَاغِ الْمَاءِ مِنَ الْإِنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِفْرَاغَ صَبُّ جَمِيعِ مَا فِي الْإِنَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنْ قُوَّةِ الصَّبْرِ لِأَنَّ إِفْرَاغَ الْإِناءِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا حَوَاهُ، فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى مَكْنِيَّةٍ وَتَخْيِيلِيَّةٍ وَكِنَايَةٍ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [250] .
وَدَعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي الْحَيَاةِ، وَلَا مُبَالِينَ بِوَعِيدِ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ هِمَّتَهُمْ لَا تَرْجُو إِلَّا النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْفَوْزَ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدِ انْخَذَلَ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وَذَهَبَ وَعِيدُهُ بَاطِلًا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُمْ فَنَجَّاهُمْ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا كَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَالْقُرْآنُ لَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا، وَلَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَلَا فِي سُورَةِ طَهَ، لِلْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ لِأَنَّ غَرَضَ الْقَصَصِ الْقُرْآنِيَّةِ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِمَحَلِّ الْعِبْرَةِ وَهُوَ تَأْيِيدُ اللَّهِ مُوسَى وَهِدَايَةُ السَّحَرَةِ وَتَصَلُبُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ بَعْدَ تَعَرُّضِهِمْ لِلْوَعِيدِ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ.