الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 38]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
جَرَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ، وَالْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ، وَالْعَكْسُ فَأَنْذَرَهُمْ بِمَا أَنْذَرَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِمَا تَوَعَّدَ ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّدَارُكِ وَإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدُوا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الْإِنَابَةِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِينَافٌ يَصِحُّ جَعْلُهُ بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِشَأْنِهِمْ، وَذِكْرِ خَيْبَةِ مَسَاعِيهِمْ، مِمَّا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِ بَعْضِهِمْ وَالسَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَمَّا إِذَا بَقِيَ لَهُمْ مَخْلَصٌ يُنْجِيهِمْ مِنْ وَرْطَتِهِمُ الَّتِي ارْتَبَقُوا فِيهَا، فَأَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْمَقَالَ لِيُرِيَهُمْ أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ، وَالْإِقْلَاعَ فِي مُكْنَتِهِمْ.
وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِينَ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى رُوعِيَ فِيهَا جَانِبُ الْمُخَاطَبِ بِالْأَمْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَظُّهُ مُجَرَّدَ تَبْلِيغِ مَقَالَةٍ، فَجَعَلَ حَظه حَظّ لمخبر بِالْقَضِيَّةِ الَّذِي يُرَادُ تَقَرُّرُهَا لَدَيْهِ قَبْلَ تَبْلِيغِهَا، وَهُوَ إِذَا بَلَّغَ إِلَيْهِمْ يُبَلِّغُ إِلَيْهِمْ مَا أُعْلِمَ بِهِ وَبُلِّغَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مُخْبِرًا بِخَبَرٍ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ حَامِلٍ لِرِسَالَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِالِانْتِهَاءِ: الِانْتِهَاءُ عَنْ شَيْءٍ مَعْلُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْكُفْرِ هُنَا وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ أَمْثَالِهِ وَآثَارِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ إِنْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِانْتِهَاءُ
عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِيمَانِ.
وَمَا قَدْ سَلَفَ هُوَ مَا أَسْلَفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَآثَارِهِ، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةً خَاصَّةً بِالْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ، فَهُوَ شَامِلٌ كُلَّ كَافِرٍ لِتَسَاوِي الْحَالِ.
وَلَفْظُ الْغُفْرَانِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ جَزَاءِ الذُّنُوبِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مَهْيَعُ الْآيَةِ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْهَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لَا مَحَالَةَ، وَيَلْحَقُ بِهِ هُنَا عَذَابُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ:
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ.
واستنبط أَئِمَّتنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَحْكَامًا لِلْأَفْعَالِ وَالتَّبِعَاتِ الَّتِي قَدْ تصدر من الْكفَّار فِي
حَالِ كَفْرِهِ فَإِذَا هُوَ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهَا هَلْ يُسْقِطُ عَنْهُ إِسْلَامُهُ التَّبِعَاتِ بِهَا.
وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَا اسْتَقْرَيْتُهُ وَأَصَّلْتُهُ فِي دَلَالَةِ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَصِحُّ أَنَّ تَدُلَّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهَا وَتَرَاكِيبُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَوْا عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّمَا يَعْنِي عز وجل مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ، وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَيَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ أَوِ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ تَفْرِقَةً بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ مَحْضًا وَمَا كَانَ فِيهِ حَقٌّ لِلنَّاسِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ كُلُّهَا.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ وَتَبْقَى عَلَيْهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي كُتُبِ الْفَتْوَى لِعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَعْضُ مُخَالَفَةٍ لِهَذَا، وَحَكَوْا فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَا غُرْمُ مَا أَصَابَ مِنْ جِنَايَاتٍ وَمَتْلَفَاتٍ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ مَا نَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الشَّافِعِيِّ بِخِلَافِ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لِلَّهِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ النَّاسِ وَحُجَّةُ الْجَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةُ تَعْمِيمًا وَتَخْصِيصًا بِمُخَصَّصَاتٍ أُخْرَى.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ الِاتِّزَانُ لِأَنَّهُ فِي مِيزَانِ الرَّجَزِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَوْدِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، وَالتَّجَهُّزِ لِحَرْبِهِمْ، مِثْلِ صُنْعِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَوْدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا تَقْتَضِي أَنَّهُ تَرْدِيدٌ بَيْنَ حَالَتَيْنِ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: «أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ حَرْبٌ» وَلِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا