الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، لِأَنَّ هَارُونَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ فَكَرِهُوهُ لِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ كَلِمَةً جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُلْحِقُ بِالْمَرْءِ سُوءًا شَدِيدًا، سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَرْءِ أَعْدَاءٌ أَوْ لْمُ يَكُونُوا، جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الْعُرْفِ.
وَمَعْنَى وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لَا تَحْسَبْنِي وَاحِدًا مِنْهُم، ف (جعل) بِمَعْنَى ظَنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْد الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] . وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْعُقُوبَةِ مَعَهُمْ، لِأَنَّ مُوسَى قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الَّذِينَ عبدُوا الْعجل، ف (جعل) عَلَى أَصْلِهَا.
وَجُمْلَةُ: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ هَارُونَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَابْتَدَأَ مُوسَى دُعَاءَهُ فَطَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لِنَفْسِهِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لِأَخِيهِ فِيمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ تَفْرِيطٍ أَوْ تَسَاهُلٍ فِي رَدْعِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ عَنْ ذَلِكَ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْإِخْوَةِ هُنَاكَ زِيَادَةٌ فِي الِاسْتِعْطَافِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يُكْرِمَ رَسُولَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لِأَخِيهِ كَقَوْلِ نُوحٍ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] .
وَالْإِدْخَالُ فِي الرَّحْمَةِ اسْتِعَارَةٌ لِشُمُولِ الرَّحْمَةِ لَهُمَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمَا، بِحَيْثُ يَكُونَانِ مِنْهَا، كَالْمُسْتَقِرِّ فِي بَيْتٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَحْوِي، فَالْإِدْخَالُ اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ وَحَرْفُ (فِي) اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، أَوْقَعَ حَرْفُهُ الظَّرْفِيَّةَ مَوْقِعَ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الْأَشَدُّ رَحْمَةً مِنْ كل رَاحِم.
[152، 153]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 152 إِلَى 153]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
يَجُوزُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَى قَوْلِهِ: الدُّنْيا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى، فَبَعْدَ أَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِالْمَغْفِرَةِ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَى الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ. وَأَنَّهُ سَيظْهر أثر عضبه عَلَيْهِمْ، وَسَتَنَالُهُمْ ذِلَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ بِوَحْيٍ تَلَقَّاهُ، وَانْتَهَى كَلَامُ
مُوسَى عِنْدَ قَوْلِهِ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَنَّ جُمْلَةَ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ خِطَابٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ ذَيَّلَ اللَّهُ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ حِكَايَةَ كَلَامِ مُوسَى فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُجَازِي كُلَّ مُفْتَرٍ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُوسَى عَنْ مُفْتَرِيِّ قَوْمِهِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْفَائِدَةِ بِبَيَانِ حَالَةِ أَضْدَادِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَعَنْ أَمْثَالِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَى آخِرِهَا خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى، جَوَابًا عَنْ دُعَائِهِ لِأَخِيهِ بِالْمَغْفِرَةِ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ قُلْنَا إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَى آخِرِهِ، مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 126] الْآيَة.
وسَيَنالُهُمْ يُصِيبُهُمْ.
وَالنَّوْلُ وَالنَّيْلُ: الْأَخْذُ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْإِصَابَةِ وَالتَّلَبُّسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [37] ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ اتَّخَذُوا مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا، أَي اتخذوه إلاها.
وَتَعْرِيفُهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ فِي اسْتِحْضَارِهِمْ بِصِفَةٍ عُرِفُوا بِهَا، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِسَبَبِيَّةِ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَضَبِ ظُهُورُ أَثَرِهِ مِنَ الْخِذْلَانِ وَمَنْعِ الْعِنَايَةِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْغَضَبِ فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ.
وَغَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَتُهُ السُّوءَ بِعَبْدِهِ وَعِقَابُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا.
وَالذِّلَّةُ: خُضُوعٌ فِي النَّفْسِ وَاسْتِكَانَةٌ مِنْ جَرَّاءِ الْعَجْزِ عَنِ الدَّفْعِ، فَمَعْنَى: نَيْلِ الذِّلَّةِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مَغْلُوبِينَ لِمَنْ يَغْلِبُهُمْ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَسْلِيطِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِسَلْبِ الشُّجَاعَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ. بِحَيْثُ يَكُونُونَ خَائِفِينَ الْعَدُوَّ، وَلَوْ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ، أَوْ ذِلَّةُ الِاغْتِرَابِ إِذْ حَرَمَهُمُ اللَّهُ مُلْكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَكَانُوا بِلَا وَطَنٍ طُولَ حَيَاتِهِمْ حَتَّى انْقَرَضَ ذَلِكَ الْجِيلُ كُلُّهُ، وَهَذِهِ الذِّلَّةُ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ قَدْ لَا تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَقْتَضِي الْعَفْوَ عَنْ عِقَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَا تَقْتَضِي تَرْكَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ مُسَبَّبَاتٌ تَنْشَأُ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَرْفَعَهَا التَّوْبَةُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ
إِلَهِيَّةٍ خَاصَّةٍ، وَهَذَا يُشْبِهُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ خِطَابِ الْوَضْعِ وَخِطَابِ التَّكْلِيفِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسَرَاءِ لَمَّا أُتِيَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ لَبَنٍ وَالْآخَرُ مِنْ خَمْرٍ، فَاخْتَارَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ:
الْحَمد الله الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ، هَذَا وَقَدْ يَمْحُو اللَّهُ الْعُقُوبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ إِذَا رَضِيَ عَنِ الْجَانِي وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
وَالْقَوْلُ فِي الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، أَيْ وَمِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ.
وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لَكَاذِبِهِ فِي اخْتِلَاقِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] .
وَالْمُرَادُ بِالِافْتِرَاءِ الِاخْتِلَاقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ بِوَضْعِ عَقَائِدَ لَا تَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ دَلَالَةِ الْوَحْيِ، فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِيمَا مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ
…
[الْأَعْرَاف: 138- 140] الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا، فَجَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُمْ عَلَى الِافْتِرَاءِ الْغَضَبَ وَالذِّلَّةَ، وَذَلِكَ إِذَا فَعَلُوا مِثْلَهُ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الْمَوْعِظَةُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَذِلَّاءَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَهَدَاهُمْ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى الِافْتِرَاءِ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِالذِّلَّةِ، فَأَزَالَ مَهَابَتَهُمْ مِنْ قُلُوبِ الْعَرَبِ، وَاسْتَأْصَلَهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَسَلَبَ دِيَارَهُمْ، فَلَمَّا أَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمُوا صَارُوا أَعِزَّةً بِالْإِسْلَامِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَذَّابَ يُرْمَى بِالْمَذَلَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا الْآيَةَ اعْتِرَاضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّهْدِيدِ بِالتَّرْغِيبِ، وَالْمَغْفِرَةُ تَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي عِقَابِ الْآخِرَةِ، وَإِلَى ارْتِفَاعِ غَضَبِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ:
مَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ، وَهُوَ أَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ. وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ هِيَ الْإِيمَانُ.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِها فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَذْفُ مُضَافٍ قَبْلَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ (بَعْدُ) - وَقَدْ شَاعَ حَذْفُهُ- دَلَّ عَلَيْهِ عَمِلُوا أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ مَعَ (بَعْدُ) وَ (قَبْلُ) الْمُضَافَيْنِ إِلَى مُضَافٍ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ