المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[جواز الرواية من الكتب المصونة] - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - جـ ٣

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْمُكَاتَبَةُ]

- ‌[إِعْلَامُ الشَّيْخِ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابِ]

- ‌[الْوِجَادَةُ]

- ‌[كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ]

- ‌[حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا]

- ‌[حُكْمُ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ]

- ‌[حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ]

- ‌[كَيْفِيَّةُ ضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَة]

- ‌[رُمُوزُ الْكُتَّابِ وَحُكْمَهَا]

- ‌[الْحَثُّ عَلَى كِتْبَةِ ثَنَاءَ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ]

- ‌[الْمُقَابَلَةُ]

- ‌[تَخْرِيجُ السَّاقِطِ]

- ‌[التَّصْحِيحُ وَالتَّمْرِيضُ]

- ‌[الْكَشْطُ وَالْمَحْوُ وَالضَّرْبُ]

- ‌[الْعَمَلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْإِشَارَةُ بِالرَّمْزِ]

- ‌[رَمْزُ قَالَ وَحَذْفُهَا]

- ‌[وَضْعُ " حَ " بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا]

- ‌[كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ]

- ‌[صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ]

- ‌[جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى]

- ‌[الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ]

- ‌[التَّسْمِيعُ بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ وَالْمُصَحِّفِ]

- ‌[إِصْلَاحُ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ]

- ‌[الزِّيَادَةُ فِي نَسَبِ الشَّيْخِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ]

- ‌[تَقْدِيمُ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ]

- ‌[إِذَا قَالَ الشَّيْخُ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ]

- ‌[إِبْدَالُ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ وَعَكْسُهُ]

- ‌[السَّمَاعُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْوَهْنِ أَوْ عَنْ رَجُلَيْنِ]

- ‌[آدَابُ الْمُحَدِّثِ]

- ‌[وُجُوبُ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِهَا عِنْدَ التَّحْدِيثِ]

- ‌[اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ]

- ‌[آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ]

- ‌[تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ]

- ‌[الِاعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ]

- ‌[الْعَالِي وَالنَّازِلُ]

- ‌[الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ]

- ‌[الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ]

- ‌[عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى]

- ‌[عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ السَّمَاعِ]

الفصل: ‌[جواز الرواية من الكتب المصونة]

بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، فِي كُلٍّ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّقْلِ أَنَّ النُّسْخَةَ غَيْرُ مُقَابَلَةٍ.

[صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ]

[جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ]

صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ.

(620)

وَلْيَرْوِ مِنْ كِتَابِهِ وَإِنْ عَرِي

مِنْ حِفْظِهِ فَجَائِزٌ لِلْأَكْثَرِ

(621)

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ كَذَا

عَنْ مَالِكٍ وَالصَّيْدَلَانِيِّ وَإِذَا

(622)

رَأَى سَمَاعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فَعَنْ

نُعْمَانٍ الْمَنْعُ وَقَالَ ابْنُ الْحَسَنْ

(623)

مِعْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ الشَّافِعِي

وَالْأَكْثَرِينَ بِالْجَوَازِ الْوَاسِعِ

(624)

وَإِنْ يَغِبْ وَغَلَبَتْ سَلَامَتُهْ

جَازَتْ لَدَى جُمْهُورِهِمْ رِوَايَتُهْ

(625)

كَذَلِكَ الضَّرِيرُ وَالْأُمِّيُّ

لَا يَحْفَظَانِ يَضْبِطُ الْمَرْضِيُّ

(626)

مَا سَمِعَا وَالْخُلْفُ فِي الضَّرِيرِ

أَقْوَى وَأَوْلَى مِنْهُ فِي الْبَصِيرِ

[جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ] :

(صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ) سِوَى مَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ فُصُولٌ: الْأَوَّلُ فِي جَوَازِ اعْتِمَادِ الْمُحَدِّثِ وَلَوْ كَانَ ضَرِيرًا أَوْ أُمِّيًّا الْكِتَابَ الْمَصُونَ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُ حَتَّى فِي أَصْلِ السَّمَاعِ وِإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ.

(وَلْيَرْوِ) الرَّاوِي (مِنْ كِتَابِهِ) الْمُتْقَنِ الْمُقَابَلِ الْمَصُونِ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ سَمَاعُ مَا تَضَمَّنَهُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، (وَإِنْ عَرِي) ; أَيْ: خَلَا (مِنْ حِفْظِهِ) بِحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ تَفْصِيلَ أَحَادِيثِهِ حَدِيثًا حَدِيثًا، أَوْ كَانَ يَحْفَظُهُ إِلَّا أَنَّهُ سَيِّئُ الْحِفْظِ، (فَـ) ذَاكَ (جَائِزٌ لِلْأَكْثَرِ) مِنَ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ لَا الْقَطْعِ، فَإِذَا حَصَلَ كَفَى، وَلَمْ يَضُرَّهُ - كَمَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ - ذَلِكَ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَقْبَلِ التَّلْقِينَ إِذَا لَمْ يُرْزَقْ مِنَ الْحِفْظِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مَا رُزِقَهُ غَيْرُهُ. قَالَ: لِأَنِّي وَجَدْتُ الشُّهُودَ يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِحَدِّ الشَّهَادَةِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيهَا كَتَفَاضُلِ الْمُحَدِّثِينَ، ثُمَّ لَا أَجِدُ بُدًّا مِنْ إِجَازَةِ شَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا.

وَحِينَئِذٍ فَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الْحِفْظُ هُوَ الْإِتْقَانُ.

وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ: (ثَلَاثَةٌ لَا غَنَاءَ لِلْمُحَدِّثِ عَنْهَا ; الْحِفْظُ وَالصِّدْقُ وَصِحَّةُ

ص: 123

الْكُتُبِ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ الْحِفْظُ وَكَانَ فِيهِ مَا عَدَاهُ لَمْ يَضُرَّهُ) .

وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَتَّزِرَ بِالصِّدْقِ وَيَرْتَدِيَ بِالْكُتُبِ. رَوَاهَا الْخَطِيبُ.

وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَدِيثَ أَنْ يُحَدِّثَ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: قَالَ: قَالَ لِي سَيِّدِي أَحْمَدُ: لَا تُحَدِّثْ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ.

وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ فَقُلْتُ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: لَا تُحَدِّثِ الْمُسْنَدَ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحِفْظَ خَوَّانٌ.

وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِرْبَعٍ الْحَافِظُ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَانْقَلَبَتْ لَهُ بَغْدَادُ، وَنُصِبَ لَهُ الْمِنْبَرُ فِي مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِنْ حِفْظِهِ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ. ثُمَّ قَالَ: هِيَ بَغْدَادُ، وَأَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، يَا أَبَا شَيْبَةَ - يَعْنِي ابْنَهُ إِبْرَاهِيَمَ - هَاتِ الْكِتَابَ.

وَقَالَ ابْنُ دُرُسْتُوَيْهِ: أُقْعِدَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ بِسَامَرَّا عَلَى مِنْبَرٍ، فَقَالَ: يَقْبُحُ بِمَنْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابٍ. ثُمَّ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، فَغَلِطَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ.

[عَدَمُ جَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ] :

(وَ) رُوِيَ (عَنْ) الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ (الْمَنْعُ) ، وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ إِلَّا فِيمَا رَوَاهُ الرَّاوِي مِنْ حِفْظِهِ وَتَذَكُّرِهِ لِلْمَرْوِيِّ تَفْصِيلًا مِنْ حِينِ سَمِعَهُ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ.

قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ: كَانَ

ص: 124

أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا يُحَدِّثِ الرَّجُلُ إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ وَيَحْفَظُ. وَ (كَذَا) رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ (مَالِكٍ) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ كَمَا أَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ وَأَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ فِي (الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ) لَهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَشْهَبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا: أَيُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَمَّنْ لَا يَحْفَظُهُ - زَادَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ ثِقَةٌ صَحِيحٌ -؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ يُخْرِجُ كِتَابَهُ وَيَقُولُ: هُوَ سَمَاعِي. قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يُكْتَبَ فِي كِتَابِهِ - يَعْنِي مَا لَيْسَ مِنْهُ - زَادَ الْخَطِيبُ: بِاللَّيْلِ - ثُمَّ اتَّفَقَا - وَهُوَ لَا يَدْرِي.

(وَ) رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَحَدِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ (الصَّيْدَلَانِيِّ) الْمَرْوَزِيِّ، وَنُسِبَ لِلزَّيْنِ الْكَتَّنَانِيِّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتِيَارُهُ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ: أَنَا لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَرْوِيَ إِلَّا حَدِيثَ: (

«

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ

،

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

»

) لِأَنِّي مِنْ حِينِ سَمِعْتُهُ لِمَ أَنْسَهُ.

وَظَاهِرُ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ أَنْ أَقُولَهَا، لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ وَعَاهَا وَعَقِلَهَا وَحَفِظَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَلَّا يَعِيَهَا فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ.

وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي

ص: 125

(مُسْتَدْرَكِهِ) بِلَفْظِ: «آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: (عَلَيْكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا - فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ) » قَدْ يَشْهَدُ لَهُ.

وَلِذَا اسْتَدَلَّ بِهِمَا الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي الرِّوَايَةِ حَالَ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ يَرْوِي مَا لَا يَرْتَابُ فِي حِفْظِهِ، وَيَتَوَقَّفُ عَمَّا عَارَضَهُ الشَّكُّ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَاكِمُ عَقِبَ الْمَرْفُوعِ: (قَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ لَفْظَتَيْنِ غَرِيبَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: (يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ) . وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ: (فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ) قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يُحَدِّثَ بِمَا لَمْ يَحْفَظْهُ) . انْتَهَى.

وَكَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ هُشَيْمٍ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ بِكِتَابٍ كَأَنَّهُ سِجِلُّ مُكَاتَبٍ. وَمِنْ ثَمَّ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - قَلَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ مَنْ قَالَ بِهَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَشَدِّدِينَ الَّذِينَ أَفْرَطُوا وَبَايَنُوا بِصَنِيعِهِمُ الْمُتَسَاهِلِينَ الَّذِينَ فَرَّطُوا، بِحَيْثُ قَالُوا بِالرِّوَايَةِ بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِعْلَامِ وَالْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَاتِ، وَمِنَ النُّسَخِ الَّتِي لَمْ تُقَابَلْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا بُسِطَ فِي مَحَالِّهِ.

وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ كَانَ كِتَابُهُ بِيَدِهِ أَمْ بِيَدِ ثِقَةٍ ضَابِطٍ، وَإِنِ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - كَوْنَهُ بِيَدِهِ، كَمَا سَلَفَ فِي أَوَّلِ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ كِتَابُهُ عَنْ يَدِهِ أَمْ لَا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.

وَسَوَاءٌ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ ابْتِدَاءً

ص: 126

أَوْ حَفِظَ مِنْ كِتَابِهِ ثُمَّ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، لَكِنْ قَدْ كَانَ شُعْبَةُ رُبَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ حِفْظَهُ مِنْ كِتَابِهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ حَفِظَهُ مِنْ فَمِ شَيْخِهِ ابْتِدَاءً. ثُمَّ إِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَصْوِيبِ ابْنِ الصَّلَاحِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:

وَصَوَّبَ الشَّيْخُ لِقَوْلِ الْأَكْثَرِ

وَهْوَ الصَّوَابُ لَيْسَ فِيهِ نَمْتَرِي

[حُكْمُ مَنْ رَأَى سَمَاعَهُ فِي الْكِتَابِ] :

(وَإِذَا رَأَى) الْمُحَدِّثُ (سَمَاعَهُ) فِي كِتَابٍ بِخَطِّهِ، أَوْ بِخَطِّ مَنْ يَثِقُ بِهِ - سَوَاءٌ الشَّيْخُ أَوْ غَيْرُهُ - فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ تَذَكَّرَهُ - وَهُوَ أَرْفَعُ الْأَقْسَامِ - جَازَتْ لَهُ رِوَايَتُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لَهُ، وَبِلَا خِلَافٍ إِنْ كَانَ لَهُ حَافِظًا، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ بَلْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ غَيَّرَ سَمَاعَهُ فَقَدْ تَعَارَضَا، وَالظَّاهِرُ اعْتِمَادُ مَا فِي ذِكْرِهِ، وَقَدْ حَكَى لَنَا شَيْخُنَا عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ شَيْخِنَا، بَلْ وَأَخَذَ شَيْخُنَا أَيْضًا عَنْهُ، وَثَنَا عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الطَّبَقَةَ قَبْلَ سَمَاعِهِ قَصْدًا لِلْإِسْرَاعِ، لَكِنْ يُؤَخِّرُ تَعْيِينَ التَّارِيخِ، وَطُعِنَ فِيهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِلْمَانِعِينَ.

(وَ) إِنْ (لَمْ يَذْكُرْ) سَمَاعَهُ لَهُ، يَعْنِي: وَلَا عَدَمَهُ (فَعَنْ) أَبِي حَنِيفَةَ (نُعْمَانَ) أَيِ: النُّعْمَانِ أَيْضًا (الْمَنْعُ) مِنْ رِوَايَتِهِ، يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِمَا فِي الْكِتَابِ فَضْلًا عَمَّا لَمْ يَعْرِفْهُ، كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كُتُبِي بِخَطِّي عَنْ شُعْبَةَ مَا لَمْ أَعْرِفْهُ فَطَرَحْتُهُ. وَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّي فِي كِتَابٍ عِنْدِي، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:«لَمْ يَحْتَجِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مَا أَدْرِي كَيْفَ كَتَبْتُهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنِّي سَمِعْتُهُ.

وَهُوَ مُقْتَضَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالصَّيْدَلَانِيُّ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إِذْ ضَبْطُ أَصْلِ السَّمَاعِ كَضَبْطِ الْمَسْمُوعِ، وَلَعَلَّ الصَّيْدَلَانِيَّ هُوَ الْمَقْرُونُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ بِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ:

ص: 127

فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الْجَوَازِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُوَيْنِيِّ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ، بَلْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي (فَتَاوَاهُ) : إِنَّهُ كَذِلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ.

وَاخْتَارَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ: أَتَيْتُهُ بِجُزْءٍ سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ رَوَاجِ الطَّبَقَةِ بِخَطِّهِ، فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ. ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ بِخَطِّي لَكِنْ مَا أُحَقِّقُ سَمَاعَهُ وَلَا أَذْكُرُهُ. وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ.

(وَقَالَ) صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ (ابْنُ الْحَسَنِ) هُوَ مُحَمَّدٌ (مَعْ) شَيْخِهِ وَرَفِيقِهِ الْقَاضِي (أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ) إِمَامِنَا (الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ) مِنْ أَصْحَابِهِ (بِالْجَوَازِ الْوَاسِعِ) الَّذِي لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ بِمِثْلِهِ فِي الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ، وَالْأَوَّلَانِ مِمَّنْ سَوَّى بَيْنَ الْبَابَيْنِ.

عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: كَانَ شَيْخِي يَتَرَدَّدُ فِيمَنْ شَهِدَ شَهَادَةً وَوَضَعَهَا عِنْدَهُ فِي صُنْدُوقٍ بِحَيْثُ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، ثُمَّ دُعِيَ إِلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ؟

ص: 128

وَلَكِنَّ الْجَوَازَ قَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي " فَتَاوَاهُ " عَنِ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ خِلَافَهُ ; إِمَّا بِالنَّظَرِ لِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيَهِ عَمَلُهُمْ - كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - أَوْ لِكَوْنِهِ مَذْهَبَ أَكْثَرِهِمْ كَمَا اقْتَضَاهُ تَقْرِيرُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَالْأُولَى الَّتِي الْأَكْثَرُ فِيهَا عَلَى الْجَوَازِ.

وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مَشَى شَيْخُنَا، بَلْ وُجِدَ فِي (صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ) بَلَاغًا بِخَطِّهِ عِنْدَ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِهِ أَثْبَتَ مَا يَدُلُّ لَأَزْيَدَ مِنْهُ، فَحَكَى حِينَ إِيرَادِ سَنَدِهِ صُورَةَ الْحَالِ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَلِذَا أَقُولُ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الْإِفْصَاحُ بِالْوَاقِعِ، بَلْ قَالَ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ.

ثُمَّ إِنَّهُ لِكَوْنِ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ نِسْيَانَهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ يَجُوزُ لِلْفَرْعِ رِوَايَةُ مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ مَعَ تَصْرِيحِ الشَّيْخِ بَعْدَ تَحْدِيثِهِ إِيَّاهُ بِمَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ هُنَا: وَهَذَا يُشْبِهُ مَا إِذَا نَسِيَ الرَّاوِي سَمَاعَهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، وَلَا يَضُرُّهُ نِسْيَانُ شَيْخِهِ. انْتَهَى.

عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ قَدْ حَكَى فِي (الْعُدَّةِ) فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِسْقَاطَ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، مَعَ الْإِشَارَةِ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّ بِالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، أَوْ يُسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.

وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِسَمَاعِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَجِدْ بِذَلِكَ خَطًّا، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي " فَتَاوَاهُ ": إِنَّ مُقْتَضَى الْفِقْهِ

ص: 129

الْجَوَازُ. وَنُقِلَ الْمَنْعُ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ.

وَقَالَ الْفَرْغَانِيُّ: الدِّيَانَةُ لَا تُوجِبُ رِوَايَتَهُ، وَالْعَقْلُ لَا يُجِيزُ إِذَاعَتَهُ ; لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ كَذَّابٍ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. قَالَ: وَلِلرَّاوِي أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَعَلِمَ حِفْظَهُ لِمَا فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ سَمَاعَهُ عَلَى كِتَابِهِ لِئَلَّا يُوهِمَ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ. انْتَهَى. وَالْمُعْتَمَدُ الْجَوَازُ.

ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - يَعْنِي فِي مَسْأَلَتَيِ اعْتِمَادِ الْكِتَابِ فِي الْمَسْمُوعِ وَأَصْلِ السَّمَاعِ - إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ، وَلَمْ يَتَشَكَّكْ فِيهِ، فَإِنْ تَشَكَّكَ - يَعْنِي فِي تَطَرُّقِ التَّزْوِيرِ وَنَحْوِهِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ، أَوْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَلَا.

قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمْحًا فِي الْحَدِيثِ - بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ - كَانَ كَذَّابًا) .

وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَالِكًا كَانَ إِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ تَرَكَهُ كُلَّهُ.

وَنَحْوُهُ تَقْيِيدُ غَيْرِهِ بِمَا إِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ قَرِينَةُ التَّغْيِيرِ ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ لِاعْتِمَادِ الْكِتَابِ الْمُتْقَنِ مِنْ جِهَةِ انْتِشَارِ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَةِ انْتِشَارًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْحِفْظُ لِكُلِّهِ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ نَعْتَمِدْ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ لَأَبْطَلْنَا جُمْلَةً مِنَ السُّنَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا.

وَكَذَا خَصَّ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْكِتَابُ عَنْ يَدِهِ بِعَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ:(وَهُوَ احْتِيَاطٌ حَسَنٌ. يَقْرُبُ مِنْهُ صَنِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ جُلِّهِمْ فِي الْمُكَاتَبَةِ حَيْثُ يَخْتِمُونَ الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ) .

وَمِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ مَا غَابَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ جَدُّ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ ابْنِ مَهْدِيٍّ حَيْثُ جَلَسَ مَعَ مَنْ رَامَ اسْتِعَارَةَ كِتَابِهِ حَتَّى نَسَخَ مِنْهُ، وَقَالَ: خَصْلَتَانِ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِمَا حُسْنُ الظَّنِّ ;

ص: 130

الْحُكْمُ وَالْحَدِيثُ.

وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَرَوَاهُ نَازِلًا عَنِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْكِتَابَ مِنْ رُفَقَائِهِ عَنْ ذَاكَ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَا وَغُنْدَرٌ حَدِيثًا مِنْ شُعْبَةَ، فَبَاتَتِ الرُّقْعَةُ عِنْدَ غُنْدَرٍ، فَحَدَّثْتُ بِهِ عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ تِلْمِيذِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَا نَسِيَ أَنَّهُ حَدَّثَ التِّلْمِيذَ بِهِ فِي آخَرِينَ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ (إِنْ يَغِبْ) الْكِتَابُ عَنْهُ غَيْبَةً طَوِيلَةً فَضْلًا عَنْ يَسِيرَةٍ، بِإِعَارَةٍ أَوْ ضَيَاعٍ أَوْ سَرِقَةٍ، (وَغَلَبَتْ) عَلَى الظَّنِّ (سَلَامَتُهُ) مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ (جَازَتْ لَدَى) ; أَيْ: عِنْدَ (جُمْهُورِهِمْ) كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وِفُضَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَجَنَحَ إِلَيْهِ.

(رِوَايَتُهْ) لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِذَا حَصَلَ أَجْزَأَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ مَزِيدٌ عَلَيْهِ.

قَالَ الْخَطِيبُ: (وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّجُلِ يَجِدُ سَمَاعَهُ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ)، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا عَرَفَ الْخَطَّ.

وَقَيَّدَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنْ يُعْرَفَ الشَّيْخُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَطِيبَ سَأَلَهُ عَمَّنْ وَجَدَ سَمَاعَهُ فِي كِتَابٍ مِنْ شَيْخٍ قَدْ سُمِّيَ وَنُسِبَ فِي الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ ; أَيِ: الشَّيْخَ، فَقَالَ: لَا تَجُوزُ لَهُ رِوَايَةُ ذَلِكَ الْكِتَابِ.

[الِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ رِوَايَةِ الْأَعْمَى وَالْأُمِّيِّ] :

(كَذَلِكَ الضَّرِيرُ) أَيِ: الْأَعْمَى (وَالْأُمِّيُّ) ; أَيِ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ، اللَّذَانِ (لَا يَحْفَظَانِ) حَدِيثَهُمَا مِنْ فَمِ مَنْ حَدَّثَهُمَا، تَصِحُّ رِوَايَتُهُمَا حَيْثُ (يَضْبِطُ الْمَرْضِيُّ) الثِّقَةُ لَهُمَا (مَا سَمِعَا) ثُمَّ يَحْفَظُ كُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابَهُ عَنِ التَّغْيِيرِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلَوْ بِثِقَةٍ غَيْرِهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ، مُسْتَعِينًا حِينَ الْأَدَاءِ أَيْضًا بِثِقَةٍ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ

ص: 131

وَالنَّقْصِ وَالتَّغْيِيرِ وَنَحْوِهَا، مِنْ حِينِ التَّحَمُّلِ إِلَى انْتِهَاءِ الْأَدَاءِ لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ مَزِيدِ الْحِفْظِ مَا يَأْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْإِدْخَالِ عَلَيْهِ لِمَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ.

مِثْلُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَفْطَنَهُ وَأَذْكَاهُ وَأَفْهَمَهُ. وَالْقَائِلُ هُوَ لِمُسْتَمْلِيهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَ عَلَيَّ فِي حَدِيثِي، فَاجْهَدْ جَهْدَكَ لَا أَرْعَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ رَعَيْتَ، أَحْفَظُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ. فَإِنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ كُفَّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ بُكَائِهِ فِي الْأَسْحَارِ يَأْمُرُ جَارِيَتَهُ فَتُلَقِّنُهُ وَيَحْفَظُ عَنْهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ عِيبَ بِذَلِكَ.

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يُلَقِّنُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اعْتَمَدَ مَنْ عَلِمَ بِإِتْقَانِهِ مِنْهُمْ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأُسْنِدَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ فِي كُتُبِهِ، الْبَلَاءُ فِيهَا مِمَّنْ دُونَهُ، وَلِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ مِنْ كُتُبِهِ أَصَحَّ، وَمِمَّنْ فَعَلَهُ فِي الْجُمْلَةِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْمَى، وَكَانَتْ لَهُ خَرِيطَةٌ فِيهَا كُتُبُهُ، فَكَانَ إِذَا جَاءَهُ إِنْسَانٌ دَفَعَ إِلَيْهِ الْخَرِيطَةَ، فَقَالَ: اكْتُبْ مِنْهَا مَا شِئْتَ. ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَابْنِ مَعِينٍ وَأَحْمَدَ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَنَرَى الْعِلَّةَ فِي الْمَنْعِ هِيَ جَوَازُ الْإِدْخَالِ عَلَيْهِمَا مَا لَيْسَ مِنْ سَمَاعِهِمَا. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا هِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي مَنَعَ مَالِكٌ لِأَجْلِهَا غَيْرَ الْحَافِظِ مِنَ الرِّوَايَةِ مُعْتَمِدًا عَلَى كُتُبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

ص: 132

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ الْمَنْعُ، قَالَ فِي الرَّجُلِ يُلَقَّنُ حَدِيثَهُ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ يَعْرِفُ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ.

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ بِمَا لَمْ يَحْفَظْهُ عَنْ شَيْخِهِ يَقُولُ: فِي كِتَابِنَا، أَوْ فِي كِتَابِي، وَكَذَا ذَكَرَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ: ثَنَا، وَلَا سَمِعْتُ. إِلَّا فِيمَا حَفِظَهُ مَنْ فِي الْمُحَدِّثِ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا ثَالِثًا.

وَالْمَذْهَبَانِ الْأَوَّلَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ فِي (الشَّهَادَاتِ) وَقَالَ: إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَبُولِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ:(وَالْخَلَفُ فِي الضَّرِيرِ: أَقْوَى وَأَوْلَى مِنْهُ فِي الْبَصِيرِ) الْأُمِّيِّ، يَعْنِي: لِخِفَّةِ الْمَحْذُورِ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَصْلِ خَاصَّةً، لَا مَعَ انْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْصَافِ، وَلِذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: قَدْ تُمْنَعُ الْأَوْلَوِيَّةُ مِنْ جِهَةِ تَقْصِيرِ الْبَصِيرِ، فَيَكُونُ الْأَعْمَى أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهُ أَتَى بِاسْتِطَاعَتِهِ.

وَقَالَ شَيْخُنَا: إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا كُتِبَ لَهُمَا فَهُمَا سَوَاءٌ، إِذِ الْوَاقِفُ عَلَى كِتَابِهِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ مِنَ التَّغْيِيرِ أَوْ عَكْسِهَا. عَلَى أَنَّ الرَّافِعِيَّ قَدْ خَصَّ الْخِلَافَ فِي الضَّرِيرِ بِمَا سَمِعَهُ بَعْدَ الْعَمَى، فَأَمَّا مَا سَمِعَهُ قَبْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَا خِلَافٍ، يَعْنِي بِشَرْطِهِ، وَفِي نَفْيِ الْخِلَافِ تَوَقُّفٌ.

إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَتَعْلِيلُ ابْنِ الصَّلَاحِ اخْتِيَارَهُ عَدَمَ التَّصْحِيحِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِكَوْنِ السَّنَدِ لَا يَخْلُو غَالِبًا عَلَى مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ ; لَا يَخْدِشُ فِي كَوْنِ الْمُعْتَمَدِ هُنَا اعْتِمَادَ غَيْرِ الْحَافِظِ الْكِتَابَ الْمُتْقِنِ، فَإِنَّ تَحْدِيثَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُتُبِهِمْ مُصَاحَبٌ غَالِبًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الْخَلَلُ، حَتَّى إِنَّ الْحَاكِمَ أَدْرَجَ فِي الْمَجْرُوحِينَ مَنْ تَسَاهَلَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ نُسَخٍ مُشْتَرَاةٍ أَوْ مُسْتَعَارَةٍ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ، لِتَوَهُّمِهِمُ الصِّدْقَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْهَا، بِخِلَافِ

ص: 133