المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[حكم دقة الخط] - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - جـ ٣

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْمُكَاتَبَةُ]

- ‌[إِعْلَامُ الشَّيْخِ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابِ]

- ‌[الْوِجَادَةُ]

- ‌[كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ]

- ‌[حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا]

- ‌[حُكْمُ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ]

- ‌[حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ]

- ‌[كَيْفِيَّةُ ضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَة]

- ‌[رُمُوزُ الْكُتَّابِ وَحُكْمَهَا]

- ‌[الْحَثُّ عَلَى كِتْبَةِ ثَنَاءَ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ]

- ‌[الْمُقَابَلَةُ]

- ‌[تَخْرِيجُ السَّاقِطِ]

- ‌[التَّصْحِيحُ وَالتَّمْرِيضُ]

- ‌[الْكَشْطُ وَالْمَحْوُ وَالضَّرْبُ]

- ‌[الْعَمَلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْإِشَارَةُ بِالرَّمْزِ]

- ‌[رَمْزُ قَالَ وَحَذْفُهَا]

- ‌[وَضْعُ " حَ " بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا]

- ‌[كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ]

- ‌[صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ]

- ‌[جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى]

- ‌[الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ]

- ‌[التَّسْمِيعُ بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ وَالْمُصَحِّفِ]

- ‌[إِصْلَاحُ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ]

- ‌[الزِّيَادَةُ فِي نَسَبِ الشَّيْخِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ]

- ‌[تَقْدِيمُ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ]

- ‌[إِذَا قَالَ الشَّيْخُ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ]

- ‌[إِبْدَالُ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ وَعَكْسُهُ]

- ‌[السَّمَاعُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْوَهْنِ أَوْ عَنْ رَجُلَيْنِ]

- ‌[آدَابُ الْمُحَدِّثِ]

- ‌[وُجُوبُ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِهَا عِنْدَ التَّحْدِيثِ]

- ‌[اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ]

- ‌[آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ]

- ‌[تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ]

- ‌[الِاعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ]

- ‌[الْعَالِي وَالنَّازِلُ]

- ‌[الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ]

- ‌[الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ]

- ‌[عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى]

- ‌[عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ السَّمَاعِ]

الفصل: ‌[حكم دقة الخط]

ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، وَرُبَّمَا لَا يُمَيِّزُهُ الْحُذَّاقُ، وَيَا فَضِيحَةَ مَنِ اعْتَمَدَ صَنِيعَهُ بِقَصْدِ التَّخْطِئَةِ لِلْأَئِمَّةِ.

الثَّانِي: قَدِ اسْتَثْنَى ابْنُ النَّفِيسِ مِمَّا تَقَدَّمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَقَالَ: إِنَّ الْأَوْلَى تَجْرِيدُهُ عَنِ الْإِعْجَامِ وَالْإِعْرَابِ ; لِأَنَّ هَذِهِ جَمِيعَهَا زَوَائِدُ عَلَى الْمَتْنِ. وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي كَوْنِ دِقَّةِ الْخَطِّ قَدْ تَقْتَضِي الِالْتِبَاسَ كَانَ إِيضَاحُهُ مِمَّا يَتِمُّ بِهِ الضَّبْطُ.

[حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ]

(564)

وَيُكْرَهُ الْخَطُّ الدَّقِيقُ إِلَّا

لِضِيقِ رَقٍّ أَوْ لِرَحَّالٍ فَلَا

(565)

وَشَرُّهُ التَّعْلِيقُ وَالْمَشْقُ كَمَا

شَرُّ الْقِرَاءَةِ إِذَا مَا هَذْرَمَا

[حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ] : (وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (الْخَطُّ الدَّقِيقُ) أَوِ الرَّقِيقُ، لَا سِيَّمَا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لِمَنْ يَقَعُ لَهُ الْكِتَابُ مِمَّنْ يَكُونُ ضَعِيفَ الْبَصَرِ أَوْ ضَعِيفَ الِاسْتِخْرَاجِ مُمْتَنِعٌ أَوْ بَعِيدٌ، بَلْ رُبَّمَا يَعِيشُ الْكَاتِبُ نَفْسُهُ حَتَّى يَضْعُفَ بَصَرُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يَحْكِي أَنَّ الَّذِي يَكْتُبُ الْخَطَّ الدَّقِيقَ رُبَّمَا يَكُونُ قَصِيرَ الْأَمَلِ لَا يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ طَوِيلًا. وَأَقُولُ: بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ طَوِيلَ الْأَمَلِ حَيْثُ تَرَجَّى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنَّهُ وَلَوْ عَمَّرَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْخَطِّ الدَّقِيقِ.

ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمُ بِالْكَرَاهَةِ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْحُكَمَاءِ فِي كَوْنِهِ رِيَاضَةً لِلْبَصَرِ وَتَدْمِينًا لَهُ كَمَا يُرَاضُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بِمَا يَخُصُّهُ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَدْمَنَ عَلَى سِوَاهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ مُعَانَاتُهُ، كَمَنْ يَتْرُكُ الْمَشْيَ أَوْ لَا يَشَمُّ إِلَّا الرَّوَائِحَ الطَّيِّبَةَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ تَعَاطَى الْمَشْيَ وَشَمَّ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً بِخِلَافِ مَنِ اعْتَادَهُ أَحْيَانًا.

وَلَا فَعَلَ جَمَاعَةٌ لِذَلِكَ حَتَّى بَعْدَ تَقَدُّمِهِمْ فِي السِّنِّ، مِنْهُمُ الْحَافِظَانِ الشَّمْسُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ، وَمِنْهُمْ مِنَ

ص: 49

الْمُتَقَدِّمِينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ كَتَبَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " وَ " مُسْلِمٍ " فِي مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ وَبِيعَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فَالْمَشَقَّةُ بِذَلِكَ هِيَ الْأَغْلَبُ.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ لِابْنِ عَمِّهِ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَرَآهُ يَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا: لَا تَفْعَلْ ; فَإِنَّهُ يَخُونُكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي " جَامِعِهِ "، وَسَاقَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ قَالَ: كُنَّا نَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ بِالْكُوفَةِ فَيَمُرُّ بِنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَيَقُومُ عَلَيْنَا فَيَقُولُ: أَجْلِ قَلَمَكَ. قَالَ: فَقَطَطْتُ مِنْهُ ثُمَّ كَتَبْتُ فَقَالَ: هَكَذَا نَوِّرُوا مَا نَوَّرَ اللَّهُ عز وجل.

(إِلَّا) أَنْ تَكُونَ دِقَّةُ الْخَطِّ (لِـ) عُذْرٍ كَـ (ضِيقِ رَقٍّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْقِرْطَاسُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْكَاغِدُ أَيْضًا. بِأَنْ يَكُونَ فَقِيرًا لَا يَجِدُ ثَمَنَهُ أَوْ يَجِدُ الثَّمَنَ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ الرَّقَّ، (أَوْ لِرَحَّالٍ) مُسَافِرٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ يُرِيدُ حَمْلَ كُتُبِهِ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِمَّا لِفَقْرِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَضْبَطَ، أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْحَمْلِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ: كُنْتُ أَمْشِي بِمِصْرَ وَفِي كُمِّي مِائَةُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ أَلْفُ حَدِيثٍ. (فَلَا) كَرَاهَةَ حَيْثُ

ص: 50

اتَّصَفَ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَ، فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ، كَأَنْ يَكُونَ فَقِيرًا رَحَّالًا، وَأَكْثَرُ الرَّحَّالِينَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ يَجْتَمِعُ فِي حَالِهِ الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ يَقُومُ بِهِمَا الْعُذْرُ فِي تَدْقِيقِ الْخَطِّ، يَعْنِي كَمَا وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رُوزْبَةَ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ يَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا حَيْثُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَفْعَلُ؟ فَقَالَ: لِقِلَّةِ الْوَرَقِ وَالْوَرِقِ، وَخِفَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْعُنُقِ.

وَلَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى خَطًّا دَقِيقًا قَالَ: هَذَا خَطُّ مَنْ لَا يُوقِنَ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ دَاعِيَةَ الْحِرْصِ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَرَقِ أَلْجَأَتْهُ لِذَلِكَ ; إِذْ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَخْلَفٌ لَوَسَّعَ.

[كَرَاهَةُ تَعْلِيقِ الْخَطِّ وَالْمَشْقِ] :

(وَشَرُّهُ) أَيِ: الْخَطِّ (التَّعْلِيقُ) وَهُوَ فِيمَا قِيلَ: خَلْطُ الْحُرُوفِ الَّتِي يَنْبَغِي تَفْرِقَتُهَا، وَإِذْهَابُ أَسْنَانِ مَا يَنْبَغِي إِقَامَةُ أَسْنَانِهِ، وَطَمْسُ مَا يَنْبَغِي إِظْهَارُ بَيَاضِهِ.

(وَ) كَذَا (الْمَشْقُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ، وَهُوَ خِفَّةُ الْيَدِ وَإِرْسَالُهَا مَعَ بَعْثَرَةِ الْحُرُوفِ وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْأَسْنَانِ، كَمَا كَانَ شَيْخُنَا يَحْكِي أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَرَاهُ يَكْتُبُ كَذَلِكَ: تَكْتُبُونَ تَمْشُقُونَ تُضَيِّعُونَ الْكَاغِدَ. فَيَجْتَمِعَانِ فِي عَدَمِ إِقَامَةِ الْأَسْنَانِ، وَيَخْتَصُّ التَّعْلِيقُ بِخَلْطِ الْحُرُوفِ وَضَمِّهَا، وَالْمَشْقُ بِبَعْثَرَتِهَا وَإِيضَاحِهَا بِدُونِ الْقَانُونِ الْمَأْلُوفِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ: مَفْسَدَةٌ لِخَطِّ الْمُبْتَدِي، وَدَالٌّ عَلَى تَهَاوُنِ الْمُنْتَهِي بِمَا يَكْتُبُ. غَيْرَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْمَشْقَ وَالتَّعْلِيقَ وَإِغْفَالَ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ فِي الْمُكَاتَبَاتِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ": وَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ فِيهَا، فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ

ص: 51

إِدْلَالِهِمْ بِالصَّنْعَةِ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى التَّلْوِيحِ، وَيَرَوْنَ الْحَاجَةَ إِلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الْإِبَانَةِ تَقْصِيرًا.

قَالَ: وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ مُسْتَقْبَحًا (كَمَا) أَنَّهُ (شَرُّ الْقِرَاءَةِ إِذَا مَا) ; أَيْ: إِذَا (هَذْرَمَا) بِالْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: أَسْرَعَ بِحَيْثُ يَخْفَى السَّمَاعُ.

فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ دُرُسْتُوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدَّيْنَوَرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ:" شَرُّ الْكِتَابَةِ الْمَشْقُ، وَشَرُّ الْقِرَاءَةِ الْهَذْرَمَةُ، وَأَجْوَدُ الْخَطِّ أَبْيَنُهُ ".

وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " الْخَطُّ عَلَامَةٌ، فَكُلَّمَا كَانَ أَبْيَنَ كَانَ أَحْسَنَ " وَعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: وَزْنُ الْخَطِّ وَزْنُ الْقِرَاءَةِ، أَجْوَدُ الْقِرَاءَةِ أَبْيَنُهَا، وَأَجْوَدُ الْخَطِّ أَبْيَنُهُ.

[تَحْقِيقُ الْخَطِّ وَتَحْسِينُهُ] :

وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْقِيقُ الْخَطِّ، وَهُوَ أَنْ يُمَيِّزَ كُلَّ حَرْفٍ بِصُورَتِهِ الْمُمَيِّزَةِ لَهُ بِحَيْثُ لَا تَشْتَبِهُ الْعَيْنُ الْمَوْصُولَةُ بِالْفَاءِ أَوِ الْقَافِ، وَالْمَفْصُولَةُ بِالْحَاءِ أَوِ الْخَاءِ.

وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِكَاتِبِهِ: " أَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ، وَأَسْمِنْهَا، وَأَيْمِنْ قِطَّتَكَ وَحَرِّفْهَا، وَأَسْمِعْنِي طَنِينَ النُّونِ، وَخَرِيرَ الْخَاءِ، أَسْمِنِ الصَّادَ، وَعَرِّجِ الْعَيْنَ، وَاشْقُقِ الْكَافَ، وَعَظِّمِ الْفَاءَ، وَرَتِّلِ اللَّامَ، وَاسْلُسِ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَالثَّاءَ، وَأَقِمِ

ص: 52

الْوَاوَ عَلَى ذَنَبِهَا وَاجْعَلْ قَلَمَكَ خَلْفَ أُذُنِكَ فَهُوَ أَجْوَدُ لَكَ " رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَصْرِفَ زَمَنَهُ فِي مَزِيدِ تَحْسِينِهِ وَمَلَاحَةِ نَظْمِهِ، لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِدُونِهِ، بَلِ الزَّمَنُ الَّذِي يَصْرِفُهُ فِي ذَلِكَ يَشْتَغِلُ فِيهِ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ، وَلَيْسَتْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى الِاشْتِبَاهِ بِقَادِحَةٍ، إِنَّمَا الْقَادِحُ الْجَهْلُ.

وَلِذَا بَلَغَنَا عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الرَّبَّانِيِّ الشِّهَابِ الْحِنَّاوِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَآهُ يُلَازِمُ بَعْضَ الْكِتَابِ فِي تَعَلُّمِ صِنَاعَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَرَاكَ حَسَنَ الْفَهْمِ، فَأَقْبِلْ عَلَى الْعِلْمِ وَدَعْ عَنْكَ هَذَا، فَإِنَّ غَايَتَكَ فِيهِ أَنْ تَصِلَ لِشَيْخِكَ، وَهُوَ - كَمَا تَرَى - مُعَلِّمُ كِتَابٍ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، وَأَوْشَكَ إِنِ اشْتَغَلْتَ بِالْعِلْمِ تَسُودُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. قَالَ: فَنَفَعَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ مَعَ بَرَاعَتِهِ فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا.

وَنَحْوُهُ مَنْ رَأَى الْبَدْرَ الْبَشْتَكِيَّ عِنْدَ بَعْضِ الْكُتَّابِ، وَرَأَى قُوَّةَ عَصَبِهِ وَسُرْعَةَ كِتَابَتِهِ فَسَأَلَهُ: كَمْ تَكْتُبُ مِنْ هَذَا كُلَّ يَوْمٍ؟ فَذَكَرَ لَهُ عِدَّةَ كَرَارِيسَ، فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ هَذَا، وَاتْرُكْ عَنْكَ الِاشْتِغَالَ بِقَانُونِ الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ وَلَوِ ارْتَقَيْتَ لَا تَنْهَضُ فِي الْكِتَابَةِ كُلَّ يَوْمٍ بِمَا تُحَصِّلُهُ مِنْ كِتَابَتِكَ الْآنَ. فَأَعْرَضَ عَنِ التَّعَلُّمِ فَفَاقَ فِي سُرْعَةِ الْكِتَابَةِ.

ص: 53

وَمَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ مَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ، مِنْ فَصَاحَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْعَرَبُ: حُسْنُ الْخَطِّ إِحْدَى الْفَصَاحَتَيْنِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ:

اعْذُرْ أَخَاكَ عَلَى رَدَاءَةِ خَطِّهِ

وَاغْفِرْ رَدَاءَتَهُ لِجَوْدَةِ ضَبْطِهِ

وَالْخَطُّ لَيْسَ يُرَادُ مِنْ تَعْظِيمِهِ

وَنِظَامِهِ إِلَّا إِقَامَةُ سَمْطِهِ

فَإِذَا أَبَانَ عَنِ الْمَعَانِي خَطُّهُ

كَانَتْ مَلَاحَتَهُ زِيَادَةُ شَرْطِهِ

وَلْيَتَجَنَّبْهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، لِمَا ثَبَتَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ.

وَالْكِتَابَةُ بِالْحِبْرِ أَوْلَى مِنَ الْمِدَادِ، بَلْ وَمِنْ مَاءِ الذَّهَبِ وَمِنَ الْأَحْمَرِ ; لِأَنَّهُ أَثْبَتُ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْكِتَابَةَ بِالْأَحْمَرِ شِعَارُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ، وَيَكُونُ الْحِبْرُ بَرَّاقًا جَارِيًا، وَالْقِرْطَاسُ نَقِيًّا صَافِيًا.

قَالُوا: وَلَا يَكُونُ الْقَلَمُ صُلْبًا جِدًّا، فَلَا يَجْرِي بِسُرْعَةٍ، وَلَا رَخْوًا جِدًّا فَيَحْفَى سَرِيعًا، وَلْيَكُنْ أَمْلَسَ الْعُودِ مُزَالَ الْعُقُودِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَلَمَ الَّذِي بِآخِرِهِ عُقْدَةٌ يُورِثُ الْفَقْرَ. حَكَاهُ صَاحِبُ " تَارِيخِ إِرْبَلَ " عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ، وَاسِعَ الْفَتْحَةِ، طَوِيلَ الْجِلْفَةِ، مُحَرَّفَ الْقِطَّةِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ عَادَتُهُ الْكِتَابَةُ

ص: 54

بِالْمُدَوَّرِ، وَمَا يُقَطُّ عَلَيْهِ صُلْبًا جِدًّا، وَيُحْمَدُ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ وَخَشَبُ الْآبَنُوسِ النَّاعِمِ، وَسِكِّينُ قَلَمِهِ أَحَدُّ مِنَ الْمُوسَى، صَافِيَةُ الْحَدِيدِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا فِي غَيْرِهِ. كَمَا بَيَّنَ أَكْثَرَهُ الْخَطِيبُ فِي " جَامِعِهِ ".

وَلَا يَتَوَرَّعُ عَنْ كِتَابَةِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنْ مَحْبَرَةِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، إِلَّا إِنْ عَلِمَ عَدَمَ رِضَاهُ، فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ مِرْبَعٌ: كُنْتُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَحْبَرَةٌ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَكْتُبَ مِنْهَا، فَقَالَ لِي: اكْتُبْ يَا هَذَا، فَهَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ.

وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ لِضَبْطِ الْفَوَائِدِ وَنَحْوِهَا قِيلَ: مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ بِلَا مَحْبَرَةٍ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْكُدْيَةِ.

وَعنِ الْمُبَرِّدِ قَالَ: رَأَيْتُ الْجَاحِظَ يَكْتُبُ شَيْئًا، فَتَبَسَّمَ فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقِرْطَاسُ صَافِيًا، وَالْمِدَادُ نَامِيًا، وَالْقَلَمُ مُوَاتِيًا، وَالْقَلْبُ خَالِيًا، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ غَانِيًا.

وَكَمَا يُهْتَمُّ بِضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَيْهَا - بِالنَّقْطِ - كَذِلِكَ يُهْتَمُّ بِضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَةِ جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، أَوْ خَفِيِّهَا فَقَطْ كَمَا اتَّضَحَ هُنَاكَ بِعَلَامَةٍ لِلْإِهْمَالِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِعْجَامِهَا ; إِذْ رُبَّمَا يَحْصُلُ بِإِغْفَالِهِ خَلْطٌ.

كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَمَرَ عَامِلًا لَهُ فِي رِسَالَةٍ أَنْ يُحْصِيَ مَنْ قِبَلَهُ مِنَ

ص: 55