المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[تصحيح النية وتحقيق الإخلاص] - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - جـ ٣

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْمُكَاتَبَةُ]

- ‌[إِعْلَامُ الشَّيْخِ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابِ]

- ‌[الْوِجَادَةُ]

- ‌[كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ]

- ‌[حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا]

- ‌[حُكْمُ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ]

- ‌[حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ]

- ‌[كَيْفِيَّةُ ضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَة]

- ‌[رُمُوزُ الْكُتَّابِ وَحُكْمَهَا]

- ‌[الْحَثُّ عَلَى كِتْبَةِ ثَنَاءَ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ]

- ‌[الْمُقَابَلَةُ]

- ‌[تَخْرِيجُ السَّاقِطِ]

- ‌[التَّصْحِيحُ وَالتَّمْرِيضُ]

- ‌[الْكَشْطُ وَالْمَحْوُ وَالضَّرْبُ]

- ‌[الْعَمَلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْإِشَارَةُ بِالرَّمْزِ]

- ‌[رَمْزُ قَالَ وَحَذْفُهَا]

- ‌[وَضْعُ " حَ " بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا]

- ‌[كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ]

- ‌[صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ]

- ‌[جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى]

- ‌[الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ]

- ‌[التَّسْمِيعُ بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ وَالْمُصَحِّفِ]

- ‌[إِصْلَاحُ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ]

- ‌[الزِّيَادَةُ فِي نَسَبِ الشَّيْخِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ]

- ‌[تَقْدِيمُ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ]

- ‌[إِذَا قَالَ الشَّيْخُ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ]

- ‌[إِبْدَالُ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ وَعَكْسُهُ]

- ‌[السَّمَاعُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْوَهْنِ أَوْ عَنْ رَجُلَيْنِ]

- ‌[آدَابُ الْمُحَدِّثِ]

- ‌[وُجُوبُ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِهَا عِنْدَ التَّحْدِيثِ]

- ‌[اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ]

- ‌[آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ]

- ‌[تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ]

- ‌[الِاعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ]

- ‌[الْعَالِي وَالنَّازِلُ]

- ‌[الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ]

- ‌[الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ]

- ‌[عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى]

- ‌[عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ السَّمَاعِ]

الفصل: ‌[تصحيح النية وتحقيق الإخلاص]

[آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ]

[تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ]

(713)

وَأَخْلِصِ النِّيَّةَ فِي طَلَبِكَا

وَجِدَّ وَابْدَأْ بِعَوَالِي مِصْرِكَا

(714)

وَمَا يُهِمُّ ثُمَّ شُدَّ الرَّحْلَا

لِغَيْرِهِ وَلَا تَسَاهَلْ حَمْلًا

(715)

وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ فِي الْفَضَائِلِ

وَالشَّيْخَ بَجِّلْهُ وَلَا تَثَاقَلِ

(716)

عَلَيْهِ تَطْوِيلًا بِحَيْثُ يَضْجَرُ

وَلَا تَكُنْ يَمْنَعُكَ التَّكَبُّرُ

(717)

أَوِ الْحَيَا عَنْ طَلَبٍ وَاجْتَنِبِ

كَتْمَ السَّمَاعِ فَهْوَ لُؤْمٌ وَاكْتُبِ

(718)

مَا تَسْتَفِيدُ عَالِيًا وَنَازِلًا

لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ صِيتًا عَاطِلًا

(719)

وَمَنْ يَقُلْ إِذَا كَتَبْتَ قَمِّشْ

ثُمَّ إِذَا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشْ

(720)

فَلَيْسَ مِنْ ذَا وَالْكِتَابَ تَمِّمِ

سَمَاعَهُ لَا تَنْتَخِبْهُ تَنْدَمِ

(721)

وَإِنْ يَضِقْ حَالٌ عَنِ اسْتِيعَابِهِ

لِعَارِفٍ أَجَادَ فِي انْتِخَابِهِ

(722)

أَوْ قَصُرَ اسْتَعَانَ ذَا حِفْظٍ فَقَدْ

كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ لَهُ يُعِدْ

(723)

وَعَلَّمُوا فِي الْأَصْلِ إِمَّا خَطَّا

أَوْ هَمْزَتَيْنِ أَوْ بِصَادٍ أَوْ طَا

(724)

وَلَا تَكُنْ مُقْتَصِرًا أَنْ تَسْمَعَا

وَكَتْبَهُ مِنْ دُونِ فَهْمٍ نَفَعَا

[تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ] :

(آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ) سِوَى مَا تَقَدَّمَ: (وَأَخْلِصِ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (النِّيَّةَ) لِلَّهِ عز وجل (فِي طَلَبِكَا) لِلْحَدِيثِ، فَالنَّفْعُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِخْلَاصِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالضَّرْبِ صَفْحًا عَمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ ; لِتَسْلَمَ مِنْ غَوَائِلَ الْأَمْرَاضِ، وَدَسَائِسَ الْأَعْوَاضِ كَمَا سَلَفَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مَعَ كَثِيرٍ مِمَّا سَيَأْتِي هُنَا.

وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ تَزْدَادُ

ص: 272

عِلْمًا وَشَرَفًا فِي الدَّارَيْنِ، وَاتَّقِ الْمُفَاخَرَةَ فِيهِ، وَالْمُبَاهَاةَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُكَ مِنْ طَلَبِكَ نَيْلَ الرِّيَاسَةِ وَالْوَظَائِفِ، وَاتِّخَاذَ الْأَتْبَاعِ، وَعَقْدَ الْمَجَالِسِ.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: مَنْ طَلَبَ هَذَا الْعِلْمَ لِلَّهِ شَرُفَ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ لِلَّهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ - أَيْ: رِيحَهَا - يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنَ الْغَوْغَاءُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ يَتَأَكَّلُونَ بِهِ النَّاسَ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَكَرَ بِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عَاصِمٍ: مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْحَدِيثِ اسْتَخَفَّ بِهِ الْحَدِيثُ. وَفَسَّرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ بِطَلَبِهِ لِلْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ، لَا لِلْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْشَى أَنَّ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِهِ. وَقَالَ

ص: 273

أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: إِنَّمَا يَحْسُنُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يَطْلُبُ الْمُخْبِرَ بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهُ لِيُزَيِّنَ بِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْخَلْقِ ; فَإِنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ بُعْدًا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَسَأَلَ أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ أَبَا عَمْرٍو بْنَ حَمْدَانَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ: بِأَيِ نِيَّةٍ أَكْتُبُ الْحَدِيثَ؟ قَالَ: أَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ؟ .

قَالَ: نَعَمْ،.

قَالَ: فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسُ الصَّالِحِينَ.

فَإِذَا حَضَرَتْكَ نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَعَزَمْتَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكِتَابَتِهِ، وَلَا تَحْدِيدَ لِذَلِكَ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، بَلِ الْمُعْتَمَدُ الْفَهْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي (مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ؟) فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ الْمَسْأَلَةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَكَ فِيهِ، وَيُعِينَكَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ، ثُمَّ بَادِرْ إِلَى السَّمَاعِ، (وَجِدَّ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، فِي الطَّلَبِ، وَاحْرِصْ عَلَيْهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، فَمَنْ جَدَّ وَجَدَ، وَالْعِلْمُ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: لَا يُسْتَطَاعُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ.

قَالَ صلى الله عليه وسلم: ( «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ» )، وَقَالَ أَيْضًا:( «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» ) .

ص: 274

وَمِنْ أَبْلَغِ مَا يُحْكَى عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ سَلَمَةَ بْنَ شَبِيبٍ: كُنَّا عِنْدَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ صَبِيٌّ تَحْتَ أَقْدَامِ الرِّجَالِ، فَقَالَ يَزِيدُ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَانْظُرُوا مَا حَالُ الصَّبِيِّ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَتْ حَدَقَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَبَا خَالِدٍ، زِدْنَا، فَقَالَ يَزِيدُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَدْ نَزَلَ بِهَذَا الْغُلَامِ مَا نَزَلَ وَهُوَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ.

وَامْتَهِنْ نَفْسَكَ بِالتَّقَنُّعِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ وَالتَّوَاضُعِ ; فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَطْلُبُ هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ بِالتَّمَلُّكِ وَعِزِّ النَّفْسِ فَيُفْلِحَ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ وَالتَّوَاضُعِ أَفْلَحَ.

[اخْتِيَارُ الشُّيُوخِ وَالرِّحْلَةِ لِلْحَدِيثِ] :

(وَابْدَأْ بِـ) أَخْذِ (عَوَالِي) شُيُوخِ (مِصْرِكَا) ، وَلَا تَنْفَكَّ عَنْ مُلَازَمَتِهِمْ وَالْعُكُوفِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهَا، (وَ) ابْدَأْ مِنْهَا بِـ (مَا يُهِمُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ ; كَالْمَرْوِيِّ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ - كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ - بِغَيْرِ الْمُهِمِّ أَضَرَّ بِالْمُهِمِّ.

وَإِنِ اسْتَوَى جَمَاعَةٌ فِي السَّنَدِ وَأَرَدْتَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالْأَوْلَى أَنْ تَتَخَيَّرَ الْمَشْهُورَ مِنْهُمْ بِالطَّلَبِ، وَالْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْإِتْقَانِ فِيهِ وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَتَخَيَّرَ الْأَشْرَافَ وَذَوِي الْأَنْسَابِ مِنْهُمْ ; لِحَدِيثِ: ( «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا

ص: 275

تَقَدَّمُوهَا» ) ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي ذَلِكَ فَالْأَسَنُّ ; لِحَدِيثِ:( «كَبِّرْ كَبِّرْ» ) .

(ثُمَّ) بَعْدَ اسْتِيفَائِكَ أَخْذَ مَا بِبَلَدِكَ مِنَ الْمَرْوِيِّ، وَتَمَهُّرِكَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَاسْتِيعَابِكَ بِاقِيَ الشُّيُوخِ مِمَّنْ قَنِعْتَ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَرْوِيِّ بِغَيْرِهِمْ بِالْأَخْذِ عَنْهُمْ لِمَا قَلَّ، بِحَيْثُ لَا يَفُوتُكَ مِنْ كُلٍّ مِنْ مَرْوِيِّهَا وَشُيُوخِهَا أَحَدٌ، وَأَخْذِ الْفَنِّ عَنِ الْحَافِظِ الْعَارِفِ بِهِ مِنْهُمْ، (شُدَّ الرَّحْلَا) ، أَوِ ارْكَبِ الْبَحْرَ حَيْثُ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ فِيهِ، أَوِ امْشِ حَيْثُ اسْتَطَعْتَ بِلَا مَزِيدِ مَشَقَّةٍ، (لِغَيْرِهِ) ; أَيْ: لِغَيْرِ مِصْرِكَ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى ; لِتَجْمَعَ بَيْنَ الْفَائِدَتَيْنِ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْنَادَيْنِ، وَعِلْمِ الطَّائِفَتَيْنِ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «أَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ يَجْمَعُ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَكُلُّ صَاحِبِ عِلْمٍ غَرْثَانُ» ) .

وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: مَنْ قَنِعَ بِمَا عِنْدَهُ لَمْ يَعْرِفْ سَعَةَ الْعِلْمِ. وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: أَرْبَعَةٌ لَا تُؤْنِسُ مِنْهُمْ رُشْدًا، وَذَكَرَ مِنْهُمْ: رَجُلٌ يَكْتُبُ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَرْحَلُ. وَسَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَبَاهُ: هَلْ تَرَى لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَلْزَمَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ فَيَكْتُبَ عَنْهُ، أَوْ يَرْحَلَ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعِلْمُ فَيَسْمَعَ فِيهَا؟ قَالَ: يَرْحَلُ فَيَكْتُبُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، يُشَامُّ النَّاسَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ.

وَقِيلَ لِأَحْمَدَ أَيْضًا: أَيَرْحَلُ الرَّجُلُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ شَدِيدًا، لَقَدْ كَانَ عَلْقَمَةُ

ص: 276

وَالْأَسْوَدُ يَبْلُغُهُمَا الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ فَلَا يُقْنِعُهُمَا حَتَّى يَخْرُجَا إِلَيْهِ فَيَسْمَعَانِهِ مِنْهُ. وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ مُتَأَكَّدٌ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ ثَمَّ مِنَ الْمَرْوِيِّ مَا لَيْسَ بِبَلَدِكَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِالْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ.

بَلْ قَدْ يَجِبُ إِذَا كَانَ فِي وَاجِبِ الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتِمِّ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهِ، فَالْوَسَائِلُ تَابِعَةٌ لِلْمَقَاصِدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ذَلِكَ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعُلُومِ هَذَا الشَّأْنِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ ; فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ) . وَعَنْ أَبِي مُطِيعٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى دَاوُدَ عليه السلام أَنِ اتَّخِذْ نَعْلَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ، وَعَصًى مِنْ حَدِيدٍ، وَاطْلُبِ الْعِلْمَ حَتَّى تَنْكَسِرَ الْعَصَى وَتَنْخَرِقَ النَّعْلَانِ.

وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: وَاللَّهِ لَوْ رَحَلْتُمْ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ لَكَانَ قَلِيلًا. وَقِصَّةُ مُوسَى عليه السلام فِي لِقَاءِ الْخَضِرِ، بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]

ص: 277

مِنْ شَوَاهِدِهِ.

وَكَفَى بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» ) تَرْغِيبًا فِي ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: السَّائِحُونَ، قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْبَلَاءَ بِرِحْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ: رَأَيْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِرِحْلَتِي فِي الْحَدِيثِ. إِلَى غَيْرِ هَذَا بِمَا أَوْدَعَهُ الْخَطِيبُ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي ذَلِكَ قَدْ قَرَأْتُهُ.

وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رضي الله عنهما مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا رَحَلَ غَيْرُهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، مَا لِي حَاجَةٌ إِلَّا رَجُلٌ عِنْدَهُ حَدِيثٌ يَقْدَمُ فَأَسْمَعُهُ مِنْهُ.

وَقَالَ

ص: 278

الشَّعْبِيُّ فِي مَسْأَلَةٍ: كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُنَّا نَسْمَعُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ.

وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنَ الْأَئِمَّةِ يَعْتَنُونَ بِالرِّحْلَةِ. وَالْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي (الْفَاصِلِ) عَنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ فِي عَدَمِ جَوَازِهَا شَاذٌّ مَهْجُورٌ.

وَقَدِ اقْتَفَيْتُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَتِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ كَالْوَاجِبَةِ، وَهُوَ شَيْخُنَا رحمه الله، وَأَدْرَكْتُ فِي الرِّحْلَةِ بَقَايَا مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ، وَمَا بَقِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ سِنِينَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ بِيَقِينٍ.

وَحَيْثُ وُجِدَ وَرَحَلْتَ فَبَادِرْ فِيهَا لِلِقَاءِ مَنْ يُخْشَى فَوْتُهُ، وَلَا تَتَوَانَ فَتَنْدَمَ كَمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي مَوْتِ بَعْضِ مَنْ قَصَدُوهُ بِالرِّحْلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى بَلَدِهِ، وَاقْتَدِ بِالْحَافِظِ السِّلَفِيِّ الْأَصْفَهَانِيِّ ; فَإِنَّهُ سَاعَةَ وُصُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُضِيَّ لِأَبِي الْخَطَّابِ ابْنِ الْبَطِرِ، هَذَا مَعَ عِلَّتِهِ بِدَمَامِيلَ كَانَتْ فِي مَقْعَدَتِهِ مِنَ الرُّكُوبِ، بِحَيْثُ صَارَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ ; لِلْخَوْفِ مِنْ فَقْدِهِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ الْمَرْحُولَ إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ فِي الْإِسْنَادِ.

وَلَمَّا رَحَلَ شَيْخُنَا إِلَى الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ قَصَدَ الِابْتِدَاءَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ; لِيَأْخُذَ عَنِ ابْنِ الْحَافِظِ الْعَلَائِيِّ سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ ; لِكَوْنِهِ سَمِعَهُ عَلَى الْحَجَّارِ، فَبَلَغَهُ - وَهُوَ بِالرَّمْلَةِ - مَوْتُهُ، فَعَرَجَ عَنْهُ إِلَى دِمِشْقَ ; لِكَوْنِهَا

ص: 279

بَعْدَ فَوَاتِهِ أَهَمَّ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ حَدِيثًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَبْدٌ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَوَّلَ مَا جَلَسَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ثَنَا بِهِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مِنْ كِتَابِكَ، فَقُمْتُ لِأُخْرِجَ كِتَابِي، فَقَبَضَ عَلَى ثَوْبِي ثُمَّ قَالَ: أَمْلِهِ عَلَيَّ ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَلْقَاكَ، قَالَ: فَأَمْلَيْتُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْرَجْتُ كِتَابِي فَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ.

وَاحْذَرْ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُبَادَرَةِ بِحَيْثُ تَرْتَكِبُ مَا لَا يَجُوزُ، فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَافَى الْبَصْرَةَ لِيَسْمَعَ مِنْ شُعْبَةَ وَيُكْثِرَ عَنْهُ، فَصَادَفَ الْمَجْلِسَ قَدِ انْقَضَى، وَانْصَرَفَ شُعْبَةُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَادَرَ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِ فَوَجَدَ الْبَابَ مَفْتُوحًا، فَحَمَلَهُ الشَّرَهُ عَلَى أَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرَآهُ جَالِسًا عَلَى الْبَالُوعَةِ يَبُولُ، فَقَالَ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، رَجُلٌ غَرِيبٌ قَدِمْتُ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ تُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَعْظَمَ شُعْبَةُ هَذَا، وَقَالَ: يَا هَذَا دَخَلْتَ مَنْزِلِي بِغَيْرِ إِذْنِي، وَتُكَلِّمُنِي وَأَنَا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، تَأَخَّرْ عَنِّي حَتَّى أُصْلِحَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَفْعَلْ وَاسْتَمَرَّ فِي الْإِلْحَاحِ، وَشُعْبَةُ مُمْسِكٌ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ لِيَسْتَبْرِئَ، فَلَمْا أَكْثَرَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ: ثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» )، ثُمَّ قَالَ:

ص: 280

وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكَ بِغَيْرِهِ، وَلَا حَدَّثْتُ قَوْمًا تَكُونُ فِيهِمْ، انْتَهَى.

وَاسْلُكْ مَا سَلَكْتَهُ فِي بَلَدِكَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَلَا تَكُنْ كَمَنْ رَحَلَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ فَقَرَأَ بِهَا عَلَى مُسْنِدِ الْوَقْتِ الْعِزِّ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي انْفَرَدَ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ غَيْرُهُ (الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ) لِلْبُخَارِيِّ بِإِجَازَتِهِ مِنَ الْعِزِّ بْنِ جُمَاعَةَ لِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِيهِ الْبَدْرِ، مَعَ كَوْنِ فِي مُسْنَدَيِ الْقَاهِرَةِ مَنْ سَمِعَهُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ عَلَى الْبَدْرِ، بَلْ وَكَذَا فِي بَلَدِهِ الَّتِي رَحَلَ مِنْهَا.

وَلَا يَتَشَاغَلْ فِي الْغُرْبَةِ إِلَّا بِمَا تَحِقُّ الرِّحْلَةُ لِأَجْلِهِ، فَشَهْوَةُ السَّمَاعِ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - لَا تَنْتَهِي، وَالنَّهْمَةُ مِنَ الطَّلَبِ لَا تَنْقَضِي، وَالْعِلْمُ كَالْبِحَارِ الْمُتَعَذَّرِ كَيْلُهَا، وَالْمَعَادِنِ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَيْلُهَا.

كُلُّ ذَلِكَ مَعَ مُصَاحَبَتِكَ التَّحَرِّيَ فِي الضَّبْطِ، فَلَا تُقَلِّدْ إِلَّا الثِّقَاتِ، (وَلَا تَسَاهَلْ حَمْلًا) ; أَيْ: وَلَا تَتَسَاهَلْ فِي الْحَمْلِ وَالسَّمَاعِ بِحَيْثُ تُخِلُّ بِمَا عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَالْمُتَسَاهِلُ مَرْدُودٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ.

[الْعَمَلُ بِالْأَحَادِيثِ وَتَوْقِيرُ الشِّيوْخِ](وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ) بِبَلَدِكَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا (فِي الْفَضَائِلِ) وَالتَّرْغِيبَاتِ ; لِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَنْفِي عَنِّي حُجَّةَ الْعِلْمِ؟ قَالَ: (الْعَمَلُ) » .

وَلِقَوْلِ مَالِكِ

ص: 281

بْنَ مِغْوَلٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]، قَالَ: تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ. وَلِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا فِي آدَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ وَحِفْظِهِ وَنُمُوِّهِ وَالِاحْتِيَاجِ فِيهِ إِلَيْهِ.

قَالَ الشَّعْبِيُّ وَوَكِيعٌ: كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ، زَادَ وَكِيعٌ: وَكُنَّا نَسْتَعِينُ فِي طَلَبِهِ بِالصَّوْمِ، حَكَاهُمَا أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (جَامِعِ الْعِلْمِ) .

وَرَوَى الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهُ خَاصَّةً الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ. وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلَّا ارْتَحَلَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» ) .

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ عَمِلَ بِعُشْرِ مَا يَعْلَمُ عَلَّمَهُ اللَّهُ مَا يَجْهَلُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَمِلَ أَحَدٌ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِلَّا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى مَا عِنْدَهُ. وَرُوِّينَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا

ص: 282

بَلَغَكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَاعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي (الْأَذْكَارِ) : يَنْبَغِي لِمَنْ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً ; لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَتْرُكَهُ مُطْلَقًا، بَلْ يَأْتِي بِمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ) .

قُلْتُ: وَيُرْوَى فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، لَفْظُهُ:( «مَنْ بَلَغَهُ عَنِ اللَّهِ عز وجل شَيْءٌ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَأَخَذَ بِهِ إِيمَانًا بِهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ» ) . وَلَهُ شَوَاهِدُ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ: (مَا سَمِعْتُ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَاسْتَعْمَلْتُهُ، حَتَّى الصَّلَاةَ عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَهِيَ صَعْبَةٌ) .

وَقَالَ الْإِمَامُ: مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا إِلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا» ، فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْتُ.

وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِي طَيْبَةَ دِينَارٌ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَا يَصِحُّ. وَعَنْ أَبِي عِصْمَةَ عَاصِمِ بْنِ عِصَامٍ الْبَيْهَقِيِّ قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَحْمَدَ، فَجَاءَ بِالْمَاءِ فَوَضَعَهُ، فَلَمَّا

ص: 283

أَصْبَحَ نَظَرَ إِلَى الْمَاءِ فَإِذَا هُوَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ لَهُ وِرْدٌ بِاللَّيْلِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي قِصَّةٍ: صَاحِبُ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَحُكْ رَأْسَكَ إِلَّا بِأَثَرٍ فَافْعَلْ، وَصَلَّى رَجُلٌ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ بِجَنْبِ ابْنِ مَهْدِيٍّ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، فَلَمْا سَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ تَكْتُبْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيَكَ فِي تَرْكِكَ لِهَذَا وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ؟ .

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ، فَلَمْا حَضَرَتِ الظُّهْرُ وَأَذَّنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: أَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ، (1) كَانَ ظَنِّي بِكَ غَيْرَ هَذَا، يَدْخُلُ عَلَيْكَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ.

وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ لَيْلَةً بِمَسْجِدِهِ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَةُ، أَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ يَسْمَعُ مِنِّي الْمُسْتَخْرَجَ الَّذِي خَرَّجْتُهُ، فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ سُنَّةٌ لَمْ يَكُنِ اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا مَضَى أَحَبَّ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَإِنَّهُ سَمِعَ فِي جُمْلَةِ مَا قُرِئَ عَلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذِهِ السُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ

ص: 284

يُصْبِحَ.

وَعَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، أَتُؤَدُّونَ زَكَاةَ الْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ، وَلِلْحَدِيثِ زَكَاةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ تَسْبِيحٍ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ رُوِّينَاهُ بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ نُؤَدِّي زَكَاتَهُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ حَدِيثٍ بِخَمْسَةِ أَحَادِيثَ.

وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا تَكُنْ إِنَّمَا هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ.

وَأَنْشَدَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ النَّاظِمِ أَنَّهُ أَنْشَدَهُمْ لِنَفْسِهِ:

اعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ عَنْ خَيْرِ الْوَرَى

بَادِرْ إِلَيْهِ لَا تَكُنْ مُقَصِّرًا

إِنْ

لَمْ تُطِقْ كُلًّا فَبِالْبَعْضِ اعْمَلَنْ

وَلَوْ بِرُبْعِ الْعُشْرِ لَا مُحْتَقِرًا

وَذَاكَ فِي فَضَائِلٍ فَوَاجِبٌ

لَا تَتْرُكَنَّهُ تَلْقَ حَظًّا أَخْسَرًا

وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي تَخَشُّعِهِ وَهَدْيِهِ وَلِسَانِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ. وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هُوَ الْمَشْهُورُ،

ص: 285

لَكِنْ قَدْ رَوَى أَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ فِي كِتَابِ (الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْخُوَارَزْمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ قُلْتُ: إِنَّمَا نَطْلُبُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَسْنَا نَعْمَلُ بِهِ، قَالَ: وَأَيُ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ. وَكَذَا رُوِيَ نَحْوُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: إِلَى مَتَى تَكْتُبُ الْحَدِيثَ، أَفَلَا تَعْمَلُ؟ فَقَالَ: وَالْكِتَابَةُ مِنَ الْعَمَلِ.

(وَالشَّيْخَ) بِالنَّصْبِ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ (بَجِّلْهُ) ; أَيْ: عَظِّمْهُ وَاحْتَرِمْهُ وَوَقِّرْهُ ; لِقَوْلِ طَاوُوسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ، بَلْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» ) ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ وَأَعْظَمُ.

وَإِجْلَالُهُ مِنْ إِجْلَالِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ بِشُيُوخِهِمْ، فَإِذَا ذَهَبَ الشُّيُوخُ فَمَعَ مَنَ الْعَيْشُ؟ وَقَدْ مَكَثَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَتَيْنِ يَهَابُ سُؤَالَ عُمَرَ رضي الله عنهم عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قُلْتُ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي أَهَابُكَ.

وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ثَلَاثَ سِنِينَ فَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ هَيْبَةً لَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ: مَا كَانَ إِنْسَانٌ

ص: 286

يَجْتَرِئُ أَنْ يَسْأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ. وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ: كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ.

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَأَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ وَيُسَوِّدُونَهُ وَيُشَرِّفُونَهُ مِثْلَ الْأَمِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَوْنٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَمَرَّ بِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي مَوْكِبِهِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ يُدْعَى إِمَامًا بَعْدَ قَتْلِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، فَمَا جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَلْتَفِتَ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ هَيْبَةً لِابْنِ عَوْنٍ.

وَيُحْكَى أَنَّ الْبِسَاطِيِّ الْعَلَّامَةَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْمَجِيءِ لِشَيْخِهِ فِي يَوْمِ اجْتِيَازِ السُّلْطَانِ دُونَ رُفَقَائِهِ ; فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا الدَّرْسَ لِأَجْلِ التَّفَرُّجِ عَلَيْهِ، فَأَبْعَدَهُمُ الشَّيْخُ تَأْدِيبًا وَقَرَّبَهُ. وَكَذَا كَانَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْعَجَمِ مِمَّنْ لَقِيتُهُ يُؤَدِّبُ الطَّالِبَ إِذَا انْقَطَعَ عَنِ الْحُضُورِ فِي يَوْمِهِ الْمُعْتَادِ بِتَرْكِ إِقْرَائِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ الشَّهِيدِيُّ: كُنْتُ أَرَى يَحْيَى الْقَطَّانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلِ مَنَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالشَّاذَكُونِيِّ وَالْفَلَّاسُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَسْأَلُونَ عَنِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنْ تَحِينَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لَا يَقُولُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ: اجْلِسْ، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وَإِعْظَامًا.

وَعَنِ

ص: 287

الْبُخَارِيِّ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوْقَرَ لِلْمُحَدِّثِينَ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ.

وَمِمَّا قِيلَ فِي مَالِكٍ:

يَدَعُ الْجَوَابَ فَلَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً

وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ

نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى

فَهْوَ الْمَهِيبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ

وَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: مَا كَتَبْتُ عَنْ أَحَدٍ حَدِيثًا إِلَّا وَكُنْتُ لَهُ عَبْدًا مَا حَيِيَ، وَفِي لَفْظٍ: مَا سَمِعْتُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَاخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ مَا سَمِعْتُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: مَا كُنَّا نُسَمِّي رَاوِيَ الْحَدِيثِ وَالْحِكْمَةِ إِلَّا الْعَالِمَ.

وَاسْتَشِرْهُ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا، وَكَيْفِيَّةِ مَا تَعْتَمِدُهُ مِنَ اشْتِغَالِكَ وَمَا تَشْتَغِلُ فِيهِ إِذَا كَانَ عَارِفًا بِذَلِكَ، وَاحْذَرْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ، وَمَا يَدْعُو إِلَى الرِّفْعَةِ عَلَيْهِ، وَرَدِّ قَوْلِهِ، فَمَا انْتَفَعَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَاعْتَقِدْ كَمَالَهُ ; فَذَلِكَ أَعْظَمُ سَبَبٍ لِانْتِفَاعِكَ بِهِ.

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى شَيْخِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اخْفِ عَيْبَ شَيْخِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي.

وَسَيِّدْهُ وَقُمْ لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ، وَاقْضِ حَوَائِجَهُ كُلَّهَا جَلِيلَهَا وَحَقِيرَهَا، وَخُذْ بِرِكَابِهِ، وَقَبِّلْ يَدَهُ، وَوَقِّرْ مَجْلِسَهُ، وَاحْتَمِلْ غَضَبَهُ، وَاصْبِرْ عَلَى جَفَائِهِ، وَارْفُقْ بِهِ.

(وَلَا تَثَاقَلْ عَلَيْهِ تَطْوِيلًا) ; أَيْ: وَلَا تَتَثَاقَلْ بِالتَّطْوِيلِ، (بِحَيْثُ يَضْجَرُ) ; أَيْ: يَقْلَقُ مِنْهُ، وَيَمَلُّ مِنَ الْجُلُوسِ، بَلْ تَحَرَّ مَا يُرْضِيهِ، فَالْإِضْجَارُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ -

ص: 288

يُغَيِّرُ الْأَفْهَامَ، وَيُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ، وَيُحِيلُ الطِّبَاعَ. ثُمَّ سَاقَ عَنْ هُشَيْمٍ قَالَ: كَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى سَاءَ خُلُقُهُ.

وَأَوْرَدَ قَبْلَ ذَلِكَ أَلْفَاظًا صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فِي حَقِّ مَنْ أَضْجَرَهُمْ مِنَ الطُّلَّابِ ; كَقَوْلِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ يُخَاطِبُهُمْ: مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِنْكُمْ، تَأْتُونَ بِدُونِ دَعْوَةٍ، وَتَزُورُونَ مِنْ غَيْرِ شَوْقٍ وَمَحَبَّةٍ، وَتُمِلُّونَ بِالْمُجَالَسَةِ، وَتُبْرِمُونَ بِطُولِ الْمُسَاءَلَةِ.

وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ سِيرِينَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ عَنْ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتِنِي مَا لَمْ أُطِقْ سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقٍ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى ابْنِ بِنْتِ السُّدِّيِّ: دَخَلْنَا وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى مَالِكٍ، فَحَدَّثَنَا سَبْعَةَ أَحَادِيثَ، فَاسْتَزَدْنَاهُ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ دِينٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانْصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ حَيَاءٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانَصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مُرُوءَةٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانْصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: يَا غِلْمَانُ، أَقْفَاءَهُمْ ; فَإِنَّهُ لَا بُقْيَا عَلَى قَوْمٍ لَا دِينَ لَهُمْ وَلَا حَيَاءَ وَلَا مُرُوءَةَ.

وَيُخْشَى كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُحْرَمَ الِانْتِفَاعَ كَمَا وَقَعَ لِلشَّرِيفِ زَيْرَكَ أَحَدِ أَصْحَابِ النَّاظِمِ حِينَ قَرَأَ (الْعُمْدَةَ) عَلَى الشِّهَابِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرْدَاوِيِّ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْإِسْمَاعِ إِلَّا الْيَسِيرَ بِالْمُلَاطَفَةِ، وَأَطَالَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ أَضْجَرَهُ فَدَعَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا أَحْيَاكَ اللَّهُ

ص: 289

أَنْ تَرْوِيَهَا عَنِّي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ، وَمَاتَ الشَّرِيفُ عَنْ قُرْبٍ، لَا سِيَّمَا وَالْمَجْلِسُ إِذَا طَالَ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ كَمَا قَدَّمْتُهُ مَعَ شَيْءٍ مِمَّا يُلَائِمُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.

وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلشَّيْخِ عَلَامَةٌ يَتَنَبَّهُ بِهَا الطَّالِبُ لِلْفَرَاغِ، كَمَا جَاءَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْحَدِيثَ مَسَّ أَنْفَهُ، فَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الشُّكْرُ. وَلَا تَسْتَعْمِلْ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

اغْثِثِ الشَّيْخَ بِالسُّؤَالِ تَجِدْهُ

سَلِسًا يَلْتَقِيكَ بِالرَّاحَتَيْنِ

وَإِذَا لَمْ تَصِحْ صِيَاحَ الثَّكَالَى

رُحْتَ عَنْهُ وَأَنْتَ صِفْرُ الْيَدَيْنِ

[الْكِبْرُ وَالْحَيَاءُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ] : (وَلَا تَكُنْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (يَمْنَعُكَ التَّكَبُّرُ أَوِ الْحَيَا) بِالْقَصْرِ (عَنْ طَلَبٍ) لِمَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ ; فَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ: لَا يَنَالُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ - بِإِسْكَانِ الْحَاءِ - وَلَا مُتَكَبِّرٍ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَحْرِيضَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى تَرْكِ الْعَجْزِ وَالتَّكَبُّرِ ; لِمَا يُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ النَّقْصِ فِي التَّعَلُّمِ.

وَرُوِّينَا فِي (الْمُجَالَسَةِ) لِلدَّيْنَوَرِيِّ عَنِ

ص: 290

الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اسْتَتَرَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ بِالْحَيَاءِ لَبِسَ الْجَهْلَ سِرْبَالًا، فَقَطِّعُوا سَرَابِيلَ الْحَيَاءِ ; فَإِنَّهُ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ.

وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْلَالِ وَالِاحْتِرَامِ لِلْأَكَابِرِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَالَّذِي هُنَا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِتَرْكِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ مَذْمُومٌ.

وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ رضي الله عنهما، أَنَّهُمَا قَالَا: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ. وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ عِنْدَ السُّؤَالِ رَقَّ عِلْمُهُ عِنْدَ الرِّجَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ: قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ. وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذُلَّ التَّعْلِيمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا. أَسْنَدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِيمَنِ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذَيْلِهِ عَلَى (تَارِيخِ بَغْدَادَ)، وَنَظَمَهُ شَيْخُنَا فَقَالَ:

عَنِ الْأَصْمَعِيِّ جَاءَتْ إِلَيْنَا مَقَالَهْ

تُجَدِّدُ بِالْإِحْسَانِ فِي النَّاسِ ذِكْرَهْ

مَتَى يَحْتَمِلُ ذُلَّ التَّعْلِيمِ سَاعَهْ

وَإِلَّا فَفِي ذُلِّ الْجَهَالَةِ دَهْرَهْ

[الِاجْتِنَابُ عَنْ كَتْمِ الْمَسْمُوعَاتِ] :

(وَاجْتَنِبِ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (كَتْمَ السَّمَاعِ) الَّذِي ظَفِرْتَ بِهِ لِشَيْخٍ مَعْلُومٍ، أَوْ كَتْمَ شَيْخٍ اخْتُصِصْتَ بِمَعْرِفَتِهِ عَمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِخْوَانِكَ الطَّلَبَةِ ; رَجَاءَ الِانْفِرَادِ بِهِ عَنْ أَضَرَابِكَ، (فَهْوَ) ; أَيِ: الْكَتْمُ، (لُؤْمٌ) مِنْ فَاعِلِهِ يَقَعُ مِنْ جَهَلَةِ الطَّلَبَةِ الْوُضَعَاءِ كَثِيرًا، وَيُخَافُ عَلَى مُرْتَكِبِهِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ ; إِذْ بَرَكَةُ الْحَدِيثِ إِفَادَتُهُ، وَبِنَشْرِهِ يَنْمَى وَيَعُمُّ نَفْعُهُ.

قَالَ مَالِكٌ: بَرَكَةُ الْحَدِيثِ إِفَادَةُ

ص: 291

النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَوَّلُ مَنْفَعَةِ الْحَدِيثِ أَنْ يُفِيدَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، تَعَجَّلُوا بَرَكَةَ هَذَا الْعِلْمِ ; فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ لَا تَبْلُغُونَ مَا تَأْمَلُونَ مِنْهُ، لِيُفِدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ.

بَلْ يُرْوَى كَمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي جَامِعِهِ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي (رِيَاضَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ( «يَا إِخْوَانِي تَنَاصَحُوا فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَكْتُمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ; فَإِنَّ خِيَانَةَ الرَّجُلِ فِي عِلْمِهِ كَخِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ، وَاللَّهُ سَائِلُكُمْ عَنْهُ» ) . وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) بِلَفْظِ: ( «فَإِنَّ خِيَانَةً فِي الْعِلْمِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَةٍ فِي الْمَالِ» ) .

وَلِهَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِي نَسْتَحِبُّهُ إِفَادَةُ الْحَدِيثِ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشُّيُوخِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى رِوَايَاتِهِمْ ; فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ النُّصْحُ لِلطَّالِبِ، وَالْحِفْظُ لِلْمَطْلُوبِ مَعَ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ مِنْ جَزِيلِ الْأَجْرِ، وَجَمِيلِ الذِّكْرِ.

وَأَغْرَبَ ابْنُ مُسَدًّى فَحَكَى عَنِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ سَمَاعَ الْعَالِي لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ أَبَا الرَّبِيعِ بْنِ سَالِمٍ كَتَبَ إِلَى السِّلَفِيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَجِيزَ لَهُ بَقَايَا

ص: 292

مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ أَصْحَابِ الْخَطِيبِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِانْقِرَاضِهِمْ قَبِلَ السِّتِّمِائَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَآخِرُهُمْ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشَرَةٍ وَسِتِّمِائَةٍ، قَالَ: وَهَكَذَا رَأَيْتُ نُبَلَاءَ أَصْحَابِهِ بِمِصْرَ وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ يَغَارُونَ عَلَى هَذَا أَشَدَّ الْغَيْرَةِ مَا خَلَا الْأَسْعَدَ بْنَ مُقَرَّبٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ مُفِيدًا، وَعِنْدِي فِي هَذَا تَوَقُّفٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ أَشَرْتُ لِرَدِّ مَا نَسَبَهُ ابْنُ مَسْدَى إِلَيْهِمَا أَيْضًا مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا فِي كِتَابَةِ التَّسْمِيعِ.

وَكَذَا اجْتَنِبْ مَنْعَ عَارِيَةِ الْجُزْءِ أَوِ الْكِتَابِ الْمَسْمُوعِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ أَوِ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا حَيْثُ لَمْ تَتَعَدَّدْ نُسَخُهُ ; فَإِنَّهَا تَتَأَكَّدُ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ) ، فَهُوَ شَامِلٌ لِهَذَا، وَهَذِهِ الْعَارِيَةُ غَيْرُ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابَةِ التَّسْمِيعِ فَتِلْكَ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مَعَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُلٍّ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ رَأَيْنَا أَقْوَامَنَا مَنَعُوا هَذَا السَّمَاعَ، فَوَاللَّهِ مَا أَفْلَحُوا وَلَا أَنْجَحُوا.

وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ أَيْضًا: وَلَقَدْ شَاهَدْنَا جَمَاعَةً كَانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالسَّمَاعِ، وَيُخْفُونَ الشُّيُوخَ، وَيَمْنَعُونَ الْأَجْزَاءَ وَالْكُتُبَ عَنِ الطَّلَبَةِ، فَحَرَمَهُمُ اللَّهُ قَصْدَهُمْ، وَذَهَبُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ.

وَكَذَا أَقُولُ: وَكَيْفَ لَا؟ وَقَدْ قَالَ وَكِيعٌ: أَوَّلُ بَرَكَةِ الْحَدِيثِ إِعَارَةُ الْكُتُبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكْتُمَ عَمَّنْ لَمْ يَرَهُ أَهْلًا، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الصَّوَابَ إِذَا أُرْشِدَ إِلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ.

وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: مَنْ أَدَّاهُ - لِجَهْلِهِ - فَرْطُ التِّيهِ وَالْإِعْجَابِ إِلَى الْمُحَامَاتِ عَنِ الْخَطَأِ، وَالْمُمَارَاةِ فِي الصَّوَابِ، فَهُوَ بِذَلِكَ الْوَصْفِ مَذْمُومٌ مَأْثُومٌ، وَمُحْتَجِرُ الْفَائِدَةِ عَنْهُ غَيْرُ مُؤَنَّبٍ وَلَا مَلُومٍ.

وَسَاقَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى: لَا تَرُدَّنَ عَلَى

ص: 293

مُعْجَبٍ خَطَا فَيَسْتَفِيدَ مِنْكَ عِلْمًا، وَيَتَّخِذَكَ بِهِ عَدُوًّا.

وَقَدْ قِيلَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا» ) ، هُوَ عَرْضُكَ كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ.

وَإِذَا أَفَادَكَ أَحَدٌ مِنْ رُفَقَائِكَ وَنَحْوِهِمْ شَيْئًا فَاعْزُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا تُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي (الْمَدْخَلِ) لِلْبَيْهَقِيِّ وَ (الْجَامِعِ) لِلْخَطِيبِ: إِنَّ مِنْ شُكْرِ الْعِلْمِ أَنْ تَجْلِسَ مَعَ الرَّجُلِ فَتُذَاكِرَهُ بِشَيْءٍ لَا تَعْرِفُهُ فَيَذْكُرُهُ لَكَ، ثُمَّ تَرْوِيهِ وَتَقُولُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عِنْدِي فِي هَذَا شَيْءٌ حَتَّى سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، فَتَعَلَّمْتُهُ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ شَكَرْتَ الْعِلْمَ.

وَسَأَلَ إِنْسَانٌ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ( «أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا» )، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَقَّ، إِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ صَاحِبَ ذَا، سَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِهِ: يُقَالُ، وَذَكَرَهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ رَغْبَةُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي مُجَرَّدِ الْإِرْشَادِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِعَزْوِهِ إِلَيْهِمْ ; كَالشَّافِعِيِّ

ص: 294

حَيْثُ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ.

[الْأَخْذُ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَدُونَهُ وَمِثْلُهُ] :

(وَاكْتُبِ) حَيْثُ لَزِمْتَ تَرْكَ التَّكَبُّرِ بِالسَّنَدِ عَمَّنْ لَقِيتَهُ (مَا تَسْتَفِيدُهُ) ; أَيِ: الَّذِي تَحْصُلُ لَكَ بِهِ فَائِدَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، (عَالِيًا) كَانَ سَنَدُهُ (أَوْ نَازِلًا) عَنْ شَيْخِكَ أَوْ رَفِيقِكَ أَوْ مَنْ دُونَكَ فِي الرِّوَايَةِ أَوِ الدِّرَايَةِ أَوِ السِّنِّ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَالْفَائِدَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا الْتَقَطَهَا، بَلْ قَالَ وَكِيعٌ وَسُفْيَانُ: إِنَّهُ لَا يَنْبُلُ الْمُحَدِّثُ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَمِثْلَهُ وَدُونَهُ.

وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَكْتُبُ عَمَّنْ دُونَهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِيهَا نَجَاتِي لَمْ تَقَعْ لِي.

وَهَكَذَا كَانَتْ سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَكَمْ مِنْ كَبِيرٍ رَوَى عَنْ صَغِيرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَأَوْرَدْتُ فِي تَرْجَمَةِ شَيْخِنَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ جَمْعٍ مِنْ رُفَقَائِهِ، بَلْ وَتَلَامِذَتِهِ، جُمْلَةً.

وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ; مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. وَكَذَا كَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقْرَأُ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقِيلَ لَهُ: أَتُقْرَأُ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ الْخَزْرَجِيِّ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَنَا التَّكَبُّرُ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قِرَاءَتُهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّمَا قَرَأَ

ص: 295

عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسْتَذْكِرْ مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَرْضِ شَيْئًا ; لِيَتَوَاضَعَ النَّاسُ، وَلَا يَسْتَنْكِفَ الْكَبِيرُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِلْمَ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الصَّغِيرِ فِي الِازْدِيَادِ إِذَا رَأَى الْكَبِيرَ يَأْخُذُ عَنْهُ، كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَ صَبِيًّا فِي مَجْلِسِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ شَيْئًا، فَطَلَبَ الْقَلَمَ وَكَتَبَهُ عَنْهُ، فَلَمْا فَارَقَهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُذِيقَهُ حَلَاوَةَ رِيَاسَةِ الْعِلْمِ ; لِيَبْعَثَهُ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ.

وَوَقَفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ عَلَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْفَضْلِ الْخُزَاعِيِّ فِيهِ حِكَايَاتٌ مَلِيحَةٌ مِمَّا قَرَأَهُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ أَحَدُ تَلَامِذَتِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى الشَّرِيفِ عُمَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَسَنِيِّ بِإِجَازَتِهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَلَوِيِّ، فَكَتَبَهُ بِخَطِّهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِسْمَاعِهِ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ هَذَا يَا سَيِّدِي وَأَنَا أَفْتَخِرُ بِالسَّمَاعِ مِنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ: ذَاكَ بِحَالَةٍ.

قَالَ أَبُو سَعْدٍ: فَقَرَأْتُهُ وَسَمِعَهُ الْقَاضِي مِنِّي مَعَ جَمَاعَةٍ، وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ اسْمِهِ فَفَعَلُوا، وَكَتَبَ هُوَ بِخَطِّهِ أَوَّلَ الْجُزْءِ: ثَنَا أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ.

وَلَا تَأْنَفْ مِنْ تَحْدِيثِكَ عَمَّنْ دُونَكَ، فَقَدَ رُوِّينَا فِي (الْوَصِيَّةِ) لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنَ مُصْعَبٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَمِعَ حَدِيثَ مَنْ هُوَ دُونَهُ فَلَمْ يَرْوِهِ فَهُوَ مُرَاءٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ وَالْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَالْأَقْرَانِ لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.

ص: 296

وَتَوَسَّطَ جَمَاعَةٌ فَرَوَوْا عَمَّنْ دُونَهُمْ مَعَ تَغْطِيَتِهِمْ بِنَوْعٍ مِنَ التَّدْلِيسِ، بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُهُمْ إِلَّا الْحَاذِقُ.

[غَرَضُ الأخْذِ الْفَائِدَةُ لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ] وَلْتَكُنَ الْفَائِدَةُ قَصْدَكَ (لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ) حَالَ كَوْنِهَا (صِيتًا عَاطِلًا) مِنَ الْفَائِدَةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ كَمَنْ حَكَى عَنْهُ الْخَطِيبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ضَيِّعْ وَرَقَةً، وَلَا تُضَيِّعَنَّ شَيْخًا. وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا جُلُّ أَصْحَابِنَا مِنْ طَلَبَةِ شَيْخِنَا فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ ; فَإِنَّهُمُ اعْتَنَوْا بِالتَّكْثِيرِ مِنَ الشُّيُوخِ بِحَيْثُ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: أَخَذْتُ عَنْ سِتِّمِائَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، دُونَ التَّكْثِيرِ مِنَ الْمَسْمُوعِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، هَذَا مَعَ تَصْرِيحِ شَيْخِنَا بِأَنَّ عَكْسَهُ أَوْلَى.

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: كَتَبْتُ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ سِتَّةَ آلَافِ حَدِيثٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ دِينَارٍ.

وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ بِمُوَفَّقٍ مَنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ فِي الِاسْتِكْثَارِ لِمُجَرَّدِ الْكَثْرَةِ وَصِيتِهَا، عَلَى احْتِمَالِ كَلَامِهِ أَيْضًا غَيْرَ هَذَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْمُحَدِّثِ تَكْثِيرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَجَمْعَ أَطْرَافِهِ، فَيَكْثُرُ شُيُوخُهُ لِذَلِكَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ.

وَمِنْ هُنَا وُصِفَ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الشُّيُوخِ خَلْقٌ مِنَ الْحُفَّاظِ ; كَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ

ص: 297

الْمُؤَدِّبِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ الْكُدَيْمِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَكَالْقَاسِمِ بْنِ دَاوُدَ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ عَنْ سِتَّةِ آلَافِ شَيْخٍ.

وَمِمَّنْ زَادَتْ شُيُوخُهُ عَلَى أَلْفٍ سِوَى هَؤُلَاءِ: أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ، وَأَبُو الْفِتْيَانِ، وَأَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ، وَأَبُو سَعْدٍ السَّمَّانُ، كَانَ لَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ شَيْخٍ وَسِتُّمِائَةٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ النَّجَّارِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالدِّمْيَاطِيُّ، وَالْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ، وَالْبِرْزَالِيُّ، فَشُيُوخُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ شَيْخٍ مِنْهَا أَلْفٌ بِالْإِجَازَةِ، وَعَتِيقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الْمِصْرِيُّ، ذَكَرَ أَنَّ شُيُوخَهُ نَيَّفُوا عَنِ الْأَلْفِ، وَالْفَخْرُ، وَعُثْمَانُ التَّوْزَرِيُّ بَلَغَتْ

ص: 298

شُيُوخُهُ نَحْوَ الْأَلْفِ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ رَافِعٍ، وَالْعِزُّ أَبُو عُمَرَ ابْنُ جُمَاعَةَ، وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً.

وَكَمْ فِي جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مِنْ فَائِدَةٍ أَشَرْتُ لِجُمْلَةٍ مِنْهَا فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَوْ لَمْ نَكْتُبِ الْحَدِيثَ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ. وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ مِثْلُهُ، لَكِنْ بِلَفْظِ: ثَلَاثِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْبَابُ إِذَا لَمْ تُجْمَعْ طُرُقُهُ لَا يُوقَفُ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا عَلَى سَقَمِهِ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ (الْعُمْدَةِ) مِنْ شَرْحِهَا: إِذَا اجْتَمَعَتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ يُسْتَدَلُّ بِبَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ، وَيَظْهَرُ بِهِ الْمُرَادُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَسْلَفْتُ شَيْئًا مِنْهُ فِي أَوَاخِرَ الْمُعَلَّلِ.

[التقميش ثم التفتيش](وَمَنْ يَقُلْ) كَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَكَذَا ابْنُ مَعِينٍ، فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِ السِّلَفِيِّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي شَرْطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشُّيُوخِ:(إِذَا كَتَبْتَ قَمِّشْ) ; أَيِ: اجْمَعْ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: قَمَّاشٌ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْقُمَاشَ، وَهُوَ الْكُنَاسَةَ ; أَيْ: يَرْوِي عَمَّنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ.

(ثُمَّ إِذَا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشِ فَلَيْسَ) هُوَ (مِنْ ذَا) ; أَيْ: مِنَ الِاسْتِكْثَارِ الْعَاطِلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا الْمُرَادُ بِهِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا رَوَاهُ السِّلَفِيُّ فِي جُزْءِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَرِيبًا عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ قَالَ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أُورَمَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ:

ص: 299

اكْتُبْ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَإِذَا حَدَّثْتَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: حَمَلْتُ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَرَوَيْتُ عَنِ أَلْفٍ.

وَصَرَّحَ شَيْخُنَا فِي بَعْضِ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهُ مِنْ شُيُوخِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْأَدَاءَ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ: اكْتُبِ الْفَائِدَةَ مِمَّنْ سَمِعْتَهَا، وَلَا تُؤَخِّرْ ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ فِيمَنْ حَدَّثَكَ أَهْوَ أَهْلٌ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ أَمْ لَا، فَرُبَّمَا فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الشَّيْخِ أَوْ سَفَرِهِ أَوْ سَفَرِكَ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَوْ وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ فَفَتِّشْ حِينَئِذٍ.

قَالَ: وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ: (بَابُ مَنْ قَالَ: يَكْتُبُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ) ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اسْتِيعَابَ الْكِتَابِ الْمَسْمُوعِ وَتَرْكَ انْتِخَابِهِ، أَوِ اسْتِيعَابَ مَا عِنْدَ الشَّيْخِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الرِّوَايَةِ أَوِ الْعَمَلِ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَهُ.

وَوَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ مَهْدِيٍّ مَا يُشِيرُ إِلَى الِاحْتِمَالَيْنِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَكُونُ إِمَامًا مَنْ حَدَّثَ عَنْ كُلِّ مَنْ رَأَى وَلَا بِكُلِّ مَا سَمِعَ.

[الِانْتِخَابِ عِنْدَ الضَّرُورَةَ] وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي النَّهْيُ عَنِ الِانْتِخَابِ ; لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: (وَالْكِتَابَ) ، أَوِ الْجُزْءَ، بِالنَّصْبِ (تَمِّمْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (سَمَاعَهُ) وَكِتَابَتَهُ، وَ (لَا تَنْتَخِبْهُ تَنْدَمِ) ; فَإِنَّكَ قَدْ تَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى رِوَايَةِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَا تَجِدُهُ فِيمَا انْتَخَبْتَهُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا انْتَخَبْتُ عَلَى عَالِمٍ قَطُّ إِلَّا نَدِمْتُ.

وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: مَا جَاءَ مِنْ مُنْتَقٍ خَيْرٌ قَطُّ. وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: سَيَنْدَمُ الْمُنْتَخِبُ فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: صَاحِبُ الِانْتِخَابِ يَنْدَمُ، وَصَاحِبُ النَّسْخِ لَا يَنْدَمُ.

ص: 300

وَقَالَ الْمَجْدُ الصُّرْجَكِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا قَرْمَطْنَا نَدِمْنَا، وَمَا انَتَخَبْنَا نَدِمْنَا، وَمَا لَمْ نُقَابِلْ نَدِمْنَا. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُقَابَلَةِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كُنَّا نَكْتُبُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ.

وَلَمْ يَقْنَعِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِانْتِخَابِ كُتُبِ غُنْدَرٍ كَمَا فَعَلَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا نَسَخَ كُتُبَهُ غَيْرَنَا.

(وَ) لَكِنْ (إِنْ يَضِقْ حَالٌ) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ (عَنِ اسْتِيعَابِهِ) ; أَيِ: الْكِتَابِ أَوِ الْجُزْءِ ; لِعُسْرِ الشَّيْخِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَوِ الطَّالِبِ وَارِدًا غَيْرَ مُقِيمٍ، فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لَهُ، أَوْ لِضَيِّقِ يَدِ الطَّالِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَا إِنِ اتَّسَعَ مَسْمُوعُهُ بِحَيْثُ تَكُونُ كِتَابَةُ الْكُتُبِ أَوِ الْأَجْزَاءِ كَامِلَةً كَالتِّكْرَارِ، وَاتَّفَقَ شَيْءٌ مِنْهَا (لِعَارِفٍ) ; أَيْ: بِجَوْدَةِ الِانْتِخَابِ، اجْتَهَدَ (وَأَجَادَ فِي انْتِخَابِهِ) بِنَفْسِهِ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ.

(أَوْ) اتَّفَقَ ذَلِكَ لِمَنْ (قَصُرَ) عَنْ مَعْرِفَةِ الِانْتِخَابِ (اسْتَعَانَ) فِي انْتِخَابِ مَا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ (ذَا) ; أَيْ: صَاحِبَ، (حِفْظٍ) وَمَعْرِفَةٍ ; (فَقَدْ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ لَهُ) ; أَيْ: لِلِانْتِخَابِ لِرِفَاقِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ فَضْلًا عَنِ الْقَاصِرِينَ، (يُعِدْ) ; أَيْ: يُهَيِّئُ بِحَيْثُ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ وَيَتَصَدَّى لِفِعْلِهِ ; كَأَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أُورَمَةَ وَعُبَيْدٍ الْعِجْلِ

ص: 301

وَالْجِعَابِيِّ وَعُمَرَ بْنِ الْحَاجِبِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ الْمُظَفَّرِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ وَاللَّالِكَائِيِّ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَخِبُونَ عَلَى الشُّيُوخِ، وَالطَّلَبَةُ تَسْمَعُ وَتَكْتُبُ بِانْتِخَابِهِمْ.

وَاقْتَفَى مَنْ بَعْدَهُمْ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى النَّاظِمِ وَتَلَامِذَتِهِ ; كَوَلَدِهِ وَالصَّلَاحِ الْأَقْفَهْسِيِّ وَشَيْخِنَا، ثُمَّ طَلَبَتِهِ ; كَالْجَمَّالِ بْنِ مُوسَى وَمُسْتَمْلِيهِ وَصَاحِبِنَا النَّجْمِ الْهَاشِمِيِّ.

وَتَوَسَّعَا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدٍّ لَمْ أَرْتَضِهِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كُنْتُ سَلَكْتُهُ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ عَارِفًا وَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَخَلَّ، كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَعِينٍ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ مِمَّا حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ سِتَّمِائَةِ حَدِيثٍ، فَانْتَقَيْتُ شِرَارَهَا لِكَوْنِي لَمْ يَكُنْ لِي بِهَا حِينَئِذٍ مَعْرِفَةٌ.

وَقَدْ رَأَيْتَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِانْتِخَابِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يَنْتَخِبُ لَهُمْ، فَذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عُقْدَةَ قَالَ: كُنَّا نَحْضُرُ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِعُبَيْدٍ، وَيُلَقَّبُ أَيْضًا (الْعِجْلَ) ، عِنْدَ الشُّيُوخِ وَهُوَ شَابٌّ، فَيَنْتَخِبُ لَنَا، فَكَانَ إِذَا أَخَذَ الْكِتَابَ كَلَّمْنَاهُ فَلَا يُجِيبُنَا حَتَّى يَفْرَغَ، فَسَأَلْنَاهُ

ص: 302

عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا مَرَّ حَدِيثُ الصَّحَابِيِّ أَحْتَاجُ أَتَفَكَّرُ فِي مُسْنَدِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، هَلِ الْحَدِيثُ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَلَوْ أَجَبْتُكُمْ خَشِيتُ أَنْ أَزِلَ، فَتَقُولُونَ لِي: لِمَ انْتَخَبْتَ هَذَا وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ فُلَانٌ.

(وَعَلَّمُوا) ; أَيْ: مَنِ انْتَخَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، (فِي الْأَصْلِ) الْمُنْتَخَبِ مِنْهُ مَا انْتَخَبُوهُ ; لِأَجْلِ تَيَسُّرِ مُعَارَضَةِ مَا كَتَبُوهُ بِهِ، أَوْ لِإِمْسَاكِ الشَّيْخِ أَصْلَهُ بِيَدِهِ، أَوْ لِلتَّحْدِيثِ مِنْهُ، أَوْ لِكِتَابَةِ فَرْعٍ آخَرَ مِنْهُ ; حَيْثُ فُقِدَ الْأَوَّلُ، وَاخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ لَا حَجْرَ فِيهِ، فَعَلَّمُوا (إِمَّا خَطَّا) بِالْحُمْرَةِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَرِيضًا فِي الْحَاشِيَةِ الْيُسْرَى كَالدَّارَقُطْنِيِّ، أَوْ صَغِيرًا فِي أَوَّلِ إِسْنَادِ الْحَدِيثِ كَاللَّالَكَائِيِّ.

(أَوْ) عَلَّمُوا بِصُورَةِ (هَمْزَتَيْنِ) بِحِبْرٍ فِي الْحَاشِيَةِ الْيُمْنَى ; كَأَبِي الْفَضْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْفَلَكِيِّ، (أَوْ بِصَادٍ) مَمْدُودَةٍ بِحِبْرٍ فِي الْحَاشِيَةِ أَيْضًا ; كَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ النُّعَيْمِيِّ، (أَوْ بِطَا) مُهْمَلَةٍ مَمْدُودَةٍ كَذَلِكَ ; كَأَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالِ، أَوْ بِحَائَيْنِ إِحْدَاهُمَا إِلَى جَنْبِ الْأُخْرَى كَذَلِكَ ; كَمُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ النِّعَالِيِّ، أَوْ بِجِيمٍ فِي الْحَاشِيَةِ الْيُمْنَى كَالْجَمَاعَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

[الِاقْتِصَارُ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ دُونَ فَهْمِهِ] :

(وَلَا تَكُنْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (مُقْتَصِرًا أَنْ تَسْمَعَا) الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ، (وَكَتْبَهُ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ ; أَيْ: لَا تَقْتَصِرْ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ (مِنْ دُونِ فَهْمٍ) لِمَا

ص: 303

فِي سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ (نَفَعَا) ; أَيْ: نَافِعٍ، فَتَكُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: قَدْ أَتْعَبْتَ نَفْسَكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَظْفَرَ بِطَائِلٍ، وَلَا تَحْصُلَ بِذَلِكَ فِي عِدَادِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْأَمَاثِلِ، بَلْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أَنْ صِرْتَ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ الْمَنْقُوصِينَ الْمُتَحَلِّينَ بِمَا هُمْ مِنْهُ عَاطِلُونَ.

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ:

إِنَّ الَّذِي يَرْوِي وَلَكِنَّهُ

يَجْهَلُ مَا يَرْوِي وَمَا يَكْتُبُ

كَصَخْرَةٍ تَنْبُعُ أَمْوَاهُهَا

تَسْقِي الْأَرَاضِيَ وَهْيَ لَا تَشْرَبُ

وَقَدْ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: الرِّيَاسَةُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا دِرَايَةٍ رِيَاسَةُ نَزْلَةٍ. قَالَ: الْخَطِيبُ: هِيَ اجْتِمَاعُ الطَّلَبَةِ عَلَى الرَّاوِي لِلسَّمَاعِ عِنْدَ عُلُوِّ سِنِّهِ، يَعْنِي فَإِنَّ سَنَدَهُ لَا يَعْلُو وَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ غَالِبًا إِلَّا حِينَ تَقَدُّمِهِ فِي السِّنِّ، قَالَ: فَإِذَا تَمَيَّزَ الطَّالِبُ بِفَهْمِ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَتِهِ تَعَجَّلَ بَرَكَةَ ذَلِكَ فِي شَبِيبِهِ.

قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَتَخْلِيدِهِ الصُّحُفَ دُونَ التَّمْيِيزِ بِمَعْرِفَةِ صَحِيحِهِ مِنْ فَاسِدِهِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَنْوَاعِ عُلُومِهِ إِلَّا تَلْقِيبَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ مَنْ سَلَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ بِالْحَشْوِيَّةِ - يَعْنِي بِإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا، فَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ حَشْوِ الطَّلَبَةِ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِمْ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَشُّونَ فِي حَاشِيَةِ حَلْقَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - لَوَجَبَ عَلَى الطَّالِبِ الْأَنَفَةُ لِنَفْسِهِ، وَدَفْعُ ذَلِكَ

ص: 304

عَنْهُ وَعَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ. انْتَهَى.

وَيُرْوَى كَمَا لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي (تَارِيخِ أَصْبَهَانَ) مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ آبَائِهِ مَرْفُوعًا: ( «كُونُوا دُرَاةً وَلَا تَكُونُوا رُوَاةً، حَدِيثٌ تَعْرِفُونَ فِقْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ تَرْوُونَهُ» ) . وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: ( «كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً» ) . وَكَذَا أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْأَدِيبِ الْفَاضِلِ فَارِسِ بْنِ الْحُسَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ:

يَا طَالِبَ الْعِلْمِ الَّذِي

ذَهَبَتْ بِمُدَّتِهِ الرِّوَايَهْ

كُنْ فِي الرِّوَايَةِ ذَا الْعِنَايَهْ

بِالرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَهْ

وَارْوِ الْقَلِيلَ وَرَاعِهِ

فَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَهْ

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ:

وَاظِبْ عَلَى جَمْعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ

وَاجْهَدْ عَلَى تَصْحِيحِهِ فِي كُتْبِهْ

وَاسْمَعْهُ مِنْ أَرْبَابِهِ نَقْلًا كَمَا

سَمِعُوهُ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ تَسْعَدْ بِهِ

وَاعْرِفْ ثِقَاتَ رُوَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ

كَيْمَا تُمَيِّزَ صِدْقَهُ مِنْ كِذْبِهِ

فَهُوَ الْمُفَسِّرُ لِلْكِتَابِ وَإِنَّمَا

نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ

وَتَفَهَّمِ الْأَخْبَارَ تَعْرِفْ حِلَّهُ

مِنْ حُرْمِهِ مَعَ فَرْضِهِ مِنْ نَدْبِهِ

وَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِلْعِبَادِ بِشَرْحِهِ

سِيَرَ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى مَعَ صَحْبِهِ

ص: 305