الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحْسَبُ - اسْتَرْوَحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنَ كُتُبِ النَّاسِ مَعَ تَسَامُحِ كَثِيرٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْجَازِمِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَلَا تَثَبُّتٍ، فَيُطَالِعُ أَحَدُهُمْ كِتَابًا مَنْسُوبًا إِلَى مُصَنِّفٍ مُعَيَّنٍ وَيَنْقُلُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثِقَ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ قَائِلًا: قَالَ فُلَانٌ كَذَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ.
قُلْتُ: وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يُوجَدُ بِحَوَاشِي الْكُتُبِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالتَّقْيِيدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بِخَطٍّ مَعْرُوفٍ ; فَلَا بَأْسَ بِنَقْلِهَا وَعَزْوِهَا إِلَى مَنْ هِيَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا إِلَّا لِعَالِمٍ مُتْقِنٍ، وَرُبَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الْحَوَاشِي بِخَطِّ شَخْصٍ وَلَيْسَتْ لَهُ، أَوْ بَعْضُهَا لَهُ وَبَعْضُهَا لِغَيْرِهِ فَيَشْتَبِهُ ذَلِكَ عَلَى نَاقِلِهِ بِحَيْثُ يَعْزُو الْكُلَّ لِوَاحِدٍ.
[كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ]
[حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا]
كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ.
(559)
وَاخْتَلَفَ الصِّحَابُ وَالْأَتْبَاعُ
…
فِي كِتْبَةِ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعُ
(560)
عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُمْ بِالْجَزْمِ
…
لِقَوْلِهِ اكْتُبُوا، وَكَتَبَ السَّهْمِي
(كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ) بِالشَّكْلِ وَنَحْوِهِ وَمَا أُلْحِقَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَطِّ الدَّقِيقِ وَالرَّمْزِ وَالدَّارَةِ، مِمَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الضَّبْطِ وَمِنْ آدَابِ الْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا كَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمَهُ عَلَى الضَّبْطِ.
[حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا] :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (وَاخْتَلَفَ الصِّحَابُ) ; أَيِ: الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا - جَمْعُ صَاحِبٍ كَجِيَاعٍ وَجَائِعٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْكَسْرَ فِي صِحَابٍ وَالْفَتْحَ فِي صَحَابَةٍ أَكْثَرُ، (وَ) كَذَا (الْأَتْبَاعُ) لِلصَّحَابَةِ (فِي كِتْبَةِ) بِكَسْرِ الْكَافِ ; أَيْ: كِتَابَةِ (الْحَدِيثِ) وَالْعِلْمِ عَمَلًا وَتَرْكًا.
فَكَرِهَهَا لِلتَّحْرِيمِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ النَّفِيسِ - غَيْرُ وَاحِدٍ ; فَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ
مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، بَلْ أَمَرُوا بِحِفْظِهِ عَنْهُمْ كَمَا أَخَذُوهُ حِفْظًا مُتَمَسِّكِينَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ، مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي كَتْبِ الْحَدِيثِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ.
وَأَجَازَهَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ
وَعَلِيٌّ وَابْنُهُ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَتَادَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بَلْ حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
كَمَا صَحَّ: ( «قَيِّدُوا الْعِلْمَ. بِالْكِتَابِ» ) بَلْ رُوِيَ رَفْعُهُ وَلَا يَصِحُّ.
وَقَالَ أَنَسٌ: (كَتْبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ) .
(وَ) لَكِنِ (الْإِجْمَاعُ) مُنْعَقِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ (عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُمْ)، أَيْ: بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا زَادَهُ الذَّهَبِيُّ (بِالْجَزْمِ) فِي حِكَايَتِهِ بِدُونِ تَرَدُّدٍ بِحَيْثِ زَالَ ذَلِكَ الْخِلَافُ، كَمَا أَجْمَعَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى جَوَازِهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَدِلَّةٍ مُنْتَشِرَةٍ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى فَضْلِ تَدْوِينِ الْعِلْمِ وَتَقْيِيدِهِ.
كَـ (قَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَصَحُّهَا: ( «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» ) يَعْنِي بِهَاءٍ مُنَوَّنَةٍ فِي الْوَقْفِ وَالدَّرْجِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ; أَيِ: الْخُطْبَةُ الَّتِي سَمِعَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
لَكِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدَّعَى فِيهِ أَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: ( «إِيتُونِي
بِكَتِفٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ» ) .
(وَ) لِـ (كَتْبِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (السَّهْمِيِّ) نِسْبَةً لِسَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ، كَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ:( «مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ» ) . كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُهُ مِنْكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ قَالَ:(نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) وَكَانَ رضي الله عنه يُسَمِّي صَحِيفَتَهُ تِلْكَ الصَّادِقَةَ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ احْتِرَازًا عَنْ صَحِيفَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ رُوِيَ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِمَّا ضَعَّفَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَدَمَ الْحِفْظِ، فَقَالَ لَهُ: (اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ» ) . وَرُوِيَ عَنْ
أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: ( «هَذِهِ أَحَادِيثُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَتَبْتُهَا وَعَرَضْتُهَا» ) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَأَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةٌ.
وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ (مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) .
وَلِقَوْلِ قَتَادَةَ إِذْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَأَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ؟ وَمَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَنْبَأَكَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ! وَقَرَأَ: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَلِيحِ الْهُذَلِيُّ الْبَصْرِيُّ: يَعِيبُونَ عَلَيْنَا أَنْ نَكْتُبَ الْعِلْمَ أَوْ نُدَوِّنَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه: 52] .
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ فَارِسٍ فِي مَآخِذِ الْعِلْمِ: فَاكْتُبُوهُ حَيْثُ قَالَ: فَجَعَلَ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَأَجَلَهُ وَكَمِّيَّتَهُ مِنَ الْقِسْطِ عِنْدَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِيامًا لِلشَّهَادَةِ وَنَفْيًا لِلِارْتِيَابِ لِقَوْلِهِ:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، [الْبَقَرَةَ: 282] .
قُلْتُ: وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] .
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَعَلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] فَقَدْ فَسَّرَهُمَا الْحَسَنُ بِالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ ابْنَ عَبَّاسٍ:( «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ; أَيِ: الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ لِلْوِجَادَةِ: ( «يَجِيءُ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا» ) عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ مِنْ إِخْبَارِهِ عَمَّا سَيَقَعُ، وَهُوَ تَدْوِينُ الْقُرْآنِ وَكَتْبُهُ فِي صُحُفِهِ ; يَعْنِي: وَكِتَابَةُ الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهَا قِصَرُ الْهِمَمِ وَنَقْصُ الْحِفْظِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّمَنِ الْأَوَّلِ ; لِكَوْنِ الْعَرَبِ كَانُوا مَطْبُوعِينَ عَلَى الْحِفْظِ مَخْصُوصِينَ بِهِ، بِحَيْثُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنِّي لِأَمُرُّ بِالنَّقِيعِ فَأَسُدُّ أُذُنِي مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَنَا، فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَ أُذُنِي شَيْءٌ قَطُّ فَنَسِيتُهُ. وَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ نَحْوَهُ، وَحَفِظَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَصِيدَةَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبَكِّرُ.
فِي سَمْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا قِيلَ، بَلْ بَلَغَنَا عَنِ الْبُلْقِينِيِّ أَنَّهُ حَفِظَ قَصِيدَةً مِنْ مَرَّةٍ، وَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا، فَخُشِيَ مِنْ عَدَمِ تَقْيِيدِهِ انْدِرَاسُهُ وَضَيَاعُهُ فَدُوِّنَ.
وَلِذَا قَالَ ابْنُ صَلَاحٍ: وَلَوْلَا تَدْوِينُهُ فِي الْكُتُبِ لَدَرَسَ فِي الْأَعْصُرِ الْأَخِيرَةَ، يَعْنِي: كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (انْظُرُوا مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبُوهُ فَإِنِّي خَشِيتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ) .
وَقَالَ عِيَاضٌ: " وَالْحَالُ الْيَوْمَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْكِتَابَةِ لِانْتِشَارِ الطُّرُقِ وَطُولِ الْأَسَانِيدِ وَقِلَّةِ الْحِفْظِ وَكَلَالِ الْأَفْهَامِ ".
وَقَالَ الْخَطِيبُ: قَدْ صَارَ عِلْمُ الْكَاتِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَثْبَتُ مِنْ عِلْمِ الْحَافِظِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ يَنِدُّ كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ، وَلَكِنَّ الْكَتْبَ لَهُ حُمَاةٌ،
وَالْأَقْلَامَ عَلَيْهِ رُعَاةٌ.
وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: لَوْلَا الْكِتَابَةُ أَيُّ شَيْءٍ كُنَّا؟ بَلْ قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ: كُلُّ مَنْ لَا يَكْتُبُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ.
وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: لَوْلَا الْكِتَابُ مَا حَفِظْنَا. لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ طُرُقًا ; أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِوَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ الْتِبَاسِهِ بِغَيْرِهِ، وَالْإِذْنُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَا خَصَّ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ بِحَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: النَّهْيُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ مِنَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ يُضَاهَى بِهِ. يَعْنِي: فَحَيْثُ أُمِنَ الْمَحْذُورُ بِكَثْرَةِ حُفَّاظِهِ وَالْمُعْتَنِينَ بِهِ وَقُوَّةِ مَلَكَةِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ لِتَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ.
أَوْ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَأْوِيلَهُ فَرُبَّمَا كَتَبُوهُ مَعَهُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَعَلَّ مِنْ ذَلِكَ مَا قُرِئَ شَاذًّا فِي قَوْلِهِ: (مَا لَبِثُوا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) وَالْإِذْنُ فِي تَفْرِيقِهِمَا.
أَوِ النَّهْيُ مُتَقَدِّمٌ وَالْإِذْنُ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ ابْنُ شَاهِينٍ، فَإِنَّ الْإِذْنَ لِأَبِي شَاهٍ كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَاسْتُظْهِرَ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَكْتُبُونَ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ أَقْرَبُهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِيهَا.
وَقِيلَ: النَّهْيُ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْحِفْظِ. وَالْإِذْنُ لِغَيْرِهِ، وَقِصَّةُ أَبِي شَاهٍ حَيْثُ كَانَ الْإِذْنُ لَهُ لَمَّا سَأَلَ فِيهَا مُشْعِرَةٌ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ: النَّهْيُ خَاصٌّ بِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ الِاتِّكَالُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ الْحِفْظِ، وَالْإِذْنُ
لِمَنْ أُمِنَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلِذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سَيُرِينَ أَنِّهُ كَانَ لَا يَرَى بِالْكِتَابَةِ بَأْسًا، فَإِذَا حَفِظَ مَحَاهُ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَغَيْرِهِمَا.
وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَكْتُبُونَ، إِنَّمَا كَانُوا يَحْفَظُونَ، فَمَنْ كَتَبَ مِنْهُمُ الشَّيْءَ فَإِنَّمَا كَانَ لِيَحْفَظَهُ فَإِذَا حَفِظَهُ مَحَاهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ صَلَاحٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا تَتَلَاقَاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي حَدِيثٍ أَبِي سَعِيدٍ فِي النَّهْيِ أَنَّ الصَّوَابَ وَقْفُهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بَلْ قَالَ
شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَا يَبْعُدُ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ خَشِيَ النِّسْيَانَ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ الْعِلْمِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ: إِنَّهُ تَعَيَّنَ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا وَتَحَتَّمَ. قَالَ غَيْرُهُمَا: وَلَا يَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَصِيرَ لَهُ تَصَوُّرٌ وَلَا يَحْفَظَ شَيْئًا، فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ:
لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى الْقِمْطَرُ
…
مَا الْعِلْمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ
وَقَالَ آخَرُ:
اسْتَوْدَعَ الْعِلْمُ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ
…
وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ
وَلِذَا قَالَ ثَعْلَبٌ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ عَالِمًا فَاكْسَرِ الْقَلَمَ.
وَأَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الْحَدِيثَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ، ثُمَّ كَثُرَ التَّدْوِينُ ثُمَّ التَّصْنِيفُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ قَالَ السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَّخِذَ كِتَابَةَ الْعِلْمِ عِبَادَةً، سَوَاءٌ تَوَقَّعَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَمْ لَا.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْرِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى حِفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا، وَذَلِكَ لِلَذَاذَةِ نَظْمِهِ وَإِيجَازِهِ، وَحُسْنِ تَأْلِيفِهِ وَإِعْجَازِهِ، وَكَمَالِ