المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[استحباب عقد مجلس الإملاء] - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - جـ ٣

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْمُكَاتَبَةُ]

- ‌[إِعْلَامُ الشَّيْخِ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابِ]

- ‌[الْوِجَادَةُ]

- ‌[كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ]

- ‌[حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا]

- ‌[حُكْمُ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ]

- ‌[حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ]

- ‌[كَيْفِيَّةُ ضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَة]

- ‌[رُمُوزُ الْكُتَّابِ وَحُكْمَهَا]

- ‌[الْحَثُّ عَلَى كِتْبَةِ ثَنَاءَ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ]

- ‌[الْمُقَابَلَةُ]

- ‌[تَخْرِيجُ السَّاقِطِ]

- ‌[التَّصْحِيحُ وَالتَّمْرِيضُ]

- ‌[الْكَشْطُ وَالْمَحْوُ وَالضَّرْبُ]

- ‌[الْعَمَلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْإِشَارَةُ بِالرَّمْزِ]

- ‌[رَمْزُ قَالَ وَحَذْفُهَا]

- ‌[وَضْعُ " حَ " بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا]

- ‌[كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ]

- ‌[صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ]

- ‌[جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى]

- ‌[الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ]

- ‌[التَّسْمِيعُ بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ وَالْمُصَحِّفِ]

- ‌[إِصْلَاحُ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ]

- ‌[الزِّيَادَةُ فِي نَسَبِ الشَّيْخِ]

- ‌[الرِّوَايَةُ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ]

- ‌[تَقْدِيمُ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ]

- ‌[إِذَا قَالَ الشَّيْخُ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ]

- ‌[إِبْدَالُ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ وَعَكْسُهُ]

- ‌[السَّمَاعُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْوَهْنِ أَوْ عَنْ رَجُلَيْنِ]

- ‌[آدَابُ الْمُحَدِّثِ]

- ‌[وُجُوبُ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِهَا عِنْدَ التَّحْدِيثِ]

- ‌[اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ]

- ‌[آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ]

- ‌[تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ]

- ‌[الِاعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ]

- ‌[الْعَالِي وَالنَّازِلُ]

- ‌[الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ]

- ‌[الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ]

- ‌[عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى]

- ‌[عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ السَّمَاعِ]

الفصل: ‌[استحباب عقد مجلس الإملاء]

إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ.

وَخُصَّ الْخَتْمَ بِقَوْلِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا.

اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتِنَا، وَاجْعَلْ ذَلِكَ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

وَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ. قَدْ نُوزِعَ فِيهِ، فَاقْتَصِرْ عَلَى هَذَا.

[اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ]

(699)

وَاعْقِدْ لِلِامْلَا مَجْلِسًا فَذَاكَ مِنْ

أَرْفَعِ الِاسْمَاعِ وَالْأَخْذِ ثُمَّ إِنْ

(700)

تَكْثُرْ جُمُوعٌ فَاتَّخِذْ مُسْتَمْلِيَا

مُحَصِّلًا ذَا يَقْظَةٍ مُسْتَوِيَا

(701)

بِعَالٍ أَوْ فَقَائِمًا يَتْبَعُ مَا

يَسْمَعُهُ مُبَلِّغًا أَوْ مُفْهِمَا

(702)

وَاسْتَحْسَنُوا الْبَدْءَ بِقَارِئٍ تَلَا

وَبَعْدَهُ اسْتَنْصَتَ ثُمَّ بَسْمَلَا

(703)

فَالْحَمْدُ فَالصَّلَاةُ ثُمَّ أَقْبَلْ

يَقُولُ مَنْ أَوْ مَا ذَكَرْتَ وَابْتَهَلْ

(704)

لَهُ وَصَلَّى وَتَرَضَّى رَافِعَا

وَالشَّيْخُ تَرْجَمَ الشُّيُوخَ وَدَعَا

(705)

وَذِكْرُ مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ لَقَبْ

كَغُنْدَرٍ أَوْ وَصْفِ نَقْصٍ أَوْ نَسَبْ

(706)

لِأُمِّهِ فَجَائِزٌ مَا لَمْ يَكُنْ

يَكْرَهُهُ كَابْنِ عُلَيَّةٍ فَصُنْ

(707)

وَارْوِ فِي الْإِمْلَا عَنْ شُيُوخٍ قَدِّمِ

أَوْلَاهُمُ وَانْتَقِهِ وَأَفْهِمِ

ص: 247

(708)

مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ وَلَا تَزِدْ

عَنْ كُلِّ شَيْخٍ فَوْقَ مَتْنٍ وَاعْتَمِدْ

(709)

عَالِيَ إِسْنَادٍ قَصِيرَ مَتْنِ

وَاجْتَنِبِ الْمُشْكِلَ خَوْفَ الْفَتْنِ

(710)

وَاسْتُحْسِنَ الْإِنْشَادُ فِي الْأَوَاخِرِ

بَعْدَ الْحِكَايَاتِ مَعَ النَّوَادِرِ

(711)

وَإِنْ يُخَرِّجْ لِلرُّوَاةِ مُتْقِنُ

مَجَالِسَ الْإِمْلَاءِ فَهْوَ حَسَنُ

(712)

وَلَيْسَ بِالْإِمْلَاءِ حِينَ يَكْمُلُ

غِنًى عَنِ الْعَرْضِ لِزَيْغٍ يَحْصُلُ

[اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ] :

(وَاعْقِدْ) إِنْ كُنْتَ مُحَدِّثًا عَارِفًا (لِلِامْلَا) بِالنَّقْلِ وَبِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، فِي الْحَدِيثِ (مَجْلِسًا) مِنْ كِتَابِكَ أَوْ حِفْظِكَ، وَالْحِفْظُ أَشْرَفُ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّحْدِيثِ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ.

(فَذَاكَ) أَيِ: الْإِمْلَاءُ (مِنْ أَرْفَعِ) وُجُوهِ (الِاسْمَاعِ) بِالنَّقْلِ أَيْضًا، مِنَ الْمُحَدِّثِ، (وَالْأَخْذِ) أَيِ: التَّحَمُّلِ لِلطَّالِبِ، بَلْ هُوَ أَرْفَعُهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا بَيَّنْتُهُ مَعَ تَعْلِيلِهِ فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ السِّلَفِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ:

وَاظِبْ عَلَى كَتْبِ الْأَمَالِيَ جَاهِدًا

مِنْ أَلْسُنِ الْحُفَّاظِ وَالْفُضَلَاءِ

فَأَجَلُّ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ بِأَسْرِهَا

مَا يَكْتُبُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِمْلَاءِ

قَالَ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) : إِنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الرَّاوِينَ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَذَاهِبِ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الدِّينِ وَالِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ. انْتَهَى.

وَمِنْ فَوَائِدِهِ اعْتِنَاءُ الرَّاوِي بِطُرُقِ الْحَدِيثِ وَشَوَاهِدِهِ وَمُتَابِعِهِ وَعَاضِدِهِ بِحَيْثُ بِهَا يَتَقَوَّى، وَيُثْبِتُ لِأَجْلِهَا حُكْمَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا يَتَرَوَّى، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهَا إِظْهَارَ الْخَفِيِّ مِنَ الْعِلَلِ، وَيُهَذِّبُ اللَّفْظَ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ.

وَيَتَّضِحُ مَا لَعَلَّهُ يَكُونُ غَامِضًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَيُفْصِحُ بِتَعْيِينٍ مَا أُبْهِمَ أَوْ أُهْمِلَ أَوْ أُدْرِجَ، فَيَصِيرُ مِنَ الْجَلَيِّاتِ، وَحِرْصُهُ عَلَى ضَبْطِ غَرِيبِ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ، وَفَحْصُهُ عَنِ الْمَعَانِي الَّتِي

ص: 248

فِيهَا نَشَاطُ النَّفْسِ بِأَتَمَّ مُسْتَنَدٍ، وَبَعُدَ السَّمَاعُ فِيهَا عَنِ الْخَطَأِ وَالتَّصْحِيفِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يَعْرَى عَنْهُ لَبِيبٌ أَوْ حَصِيفٌ.

وَزِيَادَةُ التَّفَهُّمِ وَالتَّفْهِيمِ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَجْلِ تَكَرُّرِ الْمُرَاجَعَةِ فِي تَضَاعِيفِ الْإِمْلَاءِ وَالْكِتَابَةِ وَالْمُقَابَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ، وَحَوْزُ فَضِيلَتَيِ التَّبْلِيغِ وَالْكِتَابَةِ، وَالْفَوْزُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَطَابَةِ، كَمَا قَرَّرَهُ الرَّافِعِيُّ وَبَيَّنَهُ وَنَشَرَهُ وَعَيَّنَهُ.

يُقَالُ: أَمْلَيْتُ الْكِتَابَ إِمْلَاءً وَأَمْلَلْتُ إِمْلَالًا. جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا جَمِيعًا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] فَهَذَا مِنْ " أَمَلَّ "، وَقَالَ تَعَالَى:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] فَهَذَا مِنْ " أَمْلَى ".

فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللُّغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ " أَمْلَيْتُ " أَمْلَلْتُ، فَاسْتُثْقِلَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَرْفَيْنِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَأَبْدَلُوا مِنْ أَحَدِهِمَا يَاءً كَمَا قَالُوا: تَظَنَّنْتُ. يَعْنِي: حَيْثُ أَبْدَلُوا مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ يَاءً فَقَالُوا: التَّظَنِّي. وَهُوَ إِعْمَالُ الظَّنِّ، وَكَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَى اللَّهُ لَهُ. أَيْ أَطَالَ عُمْرَهُ.

فَمَعْنَى: أَمْلَيْتُ الْكِتَابَ عَلَى فُلَانٍ: أَطَلْتُ قِرَاءَتِي عَلَيْهِ. قَالَهُ النَّحَّاسُ فِي (صِنَاعَةِ الْكِتَابِ) وَهُوَ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ.

وَقَدْ أَمْلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكُتُبَ إِلَى الْمُلُوكِ وَفِي الْمُصَالَحَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمْلَى وَاثِلَةُ رضي الله عنه كَمَا رَوَاهُ مَعْرُوفٌ الْخَيَّاطُ - الْأَحَادِيثَ عَلَى

ص: 249

النَّاسِ وَهُمْ يَكْتُبُونَهَا عَنْهُ، وَمِمَّنْ أَمْلَى ; شُعْبَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهَمَّامٌ، وَوَكِيعٌ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْهُجَيْمِيُّ، فِي خَلْقٍ يَطُولُ سَرْدُهُمْ، وَيَتَعَسَّرُ عَدُّهُمْ، مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ كَابْنِ بِشْرَانَ، وَالْخَطِيبِ، وَالسِّلَفِيِّ، وَابْنِ عَسَاكِرَ، وَالرَّافِعِيِّ، وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَالْمِزِّيِّ، وَالنَّاظِمِ.

وَكَانَ الْإِمْلَاءُ انْقَطَعَ قَبْلَهُ دَهْرًا، وَحَاوَلَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ، ثُمَّ وَلَدُهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، عَلَى إِحْيَائِهِ، فَكَانَ يَتَعَلَّلُ بِرَغْبَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَعَدَمِ مَوْقِعِهِ مِنْهُمْ، وَقِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، إِلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَاتَّفَقَ شُرُوعُهُ فِيهِ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ عَقَدَهُ بِالْقَاهِرَةِ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ.

وَكَذَا أَمْلَى يَسِيرًا فِي زَمَنِهِ السِّرِاجُ بْنُ الْمُلَقِّنِ، وَلَمْ يَرْتَضِ شَيْخُنَا صَنِيعَهُ فِيهِ، وَبَعْدَهُمَا الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ بِالْحَرَمَيْنِ وَعِدَّةِ مَدَارِسَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَشَيْخُنَا بِالشَّامِ وَحَلَبَ وَمِصْرَ وَبِالْقَاهِرَةِ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ، وَاقْتَدَيْتُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بِإِشَارَةِ بَعْضِ مُحَقِّقِي شُيُوخِي، فَأَمْلَيْتُ بِمَكَّةَ وَبِعِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَبَلَغَ عِدَّةُ مَا أَمْلَيْتُهُ مِنَ الْمَجَالِسِ إِلَى الْآنِ نَحْوَ السِّتِّمِائَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.

وَاخْتَلَفَ صَنِيعُهُمْ فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لِذَلِكَ، وَكَذَا فِي تَعَدُّدِ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ،

ص: 250

وَعَيَّنَ شَيْخُنَا لِذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَاصَّةً، وَقَبْلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بَعْدَ صَلَاتِهَا، وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ ; لِشَرَفِهِمَا، فَقَدْ قَالَ كَعْبٌ:(إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ الْأَيْامَ فَجَعَلَ مِنْهُنَّ الْجُمُعَةَ، وَالْبِقَاعَ فَجَعَلَ مِنْهُنَّ الْمَسَاجِدَ) .

وَقَالَ عَلِيٌّ: (الْمَسَاجِدُ مَجَالِسُ الْأَنْبِيَاءِ، وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) .

وَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ: (الْمَسَاجِدُ مَجَالِسُ الْكِرَامِ) .

وَيُرْوَى فِي الْمَرْفُوعِ: ( «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ» ) . وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَمْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِنَشْرِهِ فِي الْمَسَاجِدِ فَإِنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ قَدْ أُمِيتَتْ.

وَاجْلِسْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ مُسْتَعْمِلًا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي نَفْسِكَ وَمَعَ أَصْحَابِكَ، وَعِنْدَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَفِي خِفَّةِ الْمَجْلِسِ، فَلَا فَرْقَ.

[اتِّخَاذُ الْمُسْتَمْلِي وَأَوْصَافُهُ وَآدَابُهُ] :

(ثُمَّ إِنْ تَكْثُرْ جُمُوعٌ) مِنَ الْحَاضِرِينَ (فَاتَّخِذْ) وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، (مُسْتَمْلِيًا) يَتَلَقَّنُ مِنْكَ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَقِلْ

ص: 251

فَلَا ; لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ غَالِبًا، ثِقَةً (مُحَصِّلًا ذَا يَقْظَةٍ) وَفَهْمٍ وَبَرَاعَةٍ فِي الْفَنِّ، يُبَلِّغُ عَنْكَ الْإِمْلَاءَ إِلَى مَنْ بَعُدَ فِي الْحَلْقَةِ اقْتِدَاءً بِأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِ كَمَالِكٍ وَشُعْبَةَ وَوَكِيعٍ.

بَلْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ( «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى، عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه يُعَبِّرُ عَنْهُ» ) .

وَالْحَذَرَ أَنْ يَكُونَ مُغَفَّلًا بَلِيدًا، كَالْمُسْتَمْلِي الَّذِي قَالَ لِمُمْلِيهِ - وَقَدْ قَالَ لَهُ: ثَنَا عِدَّةٌ. مَا نَصُّهُ -: عِدَّةُ ابْنُ مَنْ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُمْلِي: عِدَّةُ ابْنُ فَقَدْتُكَ.

وَكَالْآخَرِ الَّذِي قَالَ لِمُمْلِيهِ - وَقَدْ قَالَ لَهُ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولٌ، كَذَا فِي كِتَابِي، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. مَا نَصُّهُ -: قَالَ رَسُولٌ، وَشَكَّ أَبُو عُثْمَانَ - وَهِيَ كُنْيَةُ الْمُمْلِي - فِي اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ الْمُمْلِي: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي اللَّهِ قَطُّ.

وَكَالْآخَرِ الَّذِي كَانَ مُمْلِيهِ يَقُولُ لَهُ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ. فَيَكْتُبُهُ: حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَيَسْتَمْلِيهِ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ فَلَا يُحْسِنُ قِرَاءَتَهُ أَصْلًا فَيَقُومُ عِنْدَ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ فَيَضْرِبُهَا، فَتَسْتَغِيثُ الْمَرْأَةُ بِالْمُمْلِي. فِي حِكَايَاتٍ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مُضْحِكَةٍ، تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ قَبْلَهُ.

وَقَدْ قِيلَ فِي كَاتِبٍ:

أَقُولُ لَهُ بَكْرًا فَيَسْمَعُ خَالِدًا

وَيَكْتُبُهُ زَيْدًا وَيَقْرَؤُهُ عَمْرَا

وَأَيْضًا:

ص: 252

يَعِي غَيْرَ مَا قُلْنَا وَيَكْتُبُ غَيْرَ مَا

وَعَاهُ وَيَقْرَأُ غَيْرَ مَا هُوَ كَاتِبُ.

فَإِنْ تَكَاثَرَ الْجَمْعُ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي وَاحِدٌ، فَزِدْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، فَقَدْ كَانَ لِعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ الَّذِي حُزِرَ مَجْلِسُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، مُسْتَمْلِيَانِ. وَلِأَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ الَّذِي حُزِرَ بِنَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مَحْبَرَةٍ سِوَى النَّظَّارَةِ، سَبْعَةٌ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمْلِي جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، فَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِالطَّبَّالِ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ مُقَيِّدًا لَهُ بِمَا إِذَا كَثُرَ الْعَدَدُ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ وَجْهَهُ، (مُسْتَوِيَا) أَيْ: جَالِسًا، (بِـ) مَكَانٍ (عَالٍ) ، مِنْ كُرْسِيٍّ وَنَحْوِهِ، (أَوْ فَقَائِمًا) عَلَى رِجْلَيْهِ كَابْنِ عُلَيَّةَ بِمَجْلِسِ مَالِكٍ، وَآدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ بِمَجْلِسِ شُعْبَةَ، بَلْ كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقْرَأُ عَلَى شَيْخِنَا وَهُوَ قَائِمٌ، وَفَعَلْتُهُ مَعَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ لِضَرُورَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجُلُوسَ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ أَوْ قَائِمًا أَبْلَغُ لِلسَّامِعِينَ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِلْحَدِيثِ وَإِجْلَالٌ لَهُ.

(يَتْبَعُ) ذَلِكَ الْمُسْتَمْلِي (مَا يَسْمَعُهُ) مِنْكَ وَيُؤَدِّيهِ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى الْوُجُوبِ،

ص: 253

وَعِبَارَتُهُمَا مَعًا: وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يُخَالِفَ لَفْظَ الْمُمْلِي فِي التَّبْلِيغِ عَنْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ خَاصَّةً إِذَا كَانَ الرَّاوِي مِنْ أَهْلِ الدِّرَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَحْكَامِ الرِّوَايَةِ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا يُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ. إِلَى آخِرِهِ.

(مُبَلِّغًا) بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لَفْظُ الْمُمْلِي، (أَوْ مُفْهِمَا) بِهِ مَنْ بَلَغَهُ عَلَى بُعْدٍ وَلَمْ يَتَفَهَّمْهُ، فَيَتَوَصَّلُ بِصَوْتِ الْمُسْتَمْلِي إِلَى تَفَهُّمِهِ وَتَحَقُّقِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا مِنَ الْمُسْتَمْلِي، دُونَ الْمُمْلِي فِي الْفَرْعِ الْخَامِسِ مِنَ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

[آدَابُ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ وَالِاسْتِمْلَاءِ] :

(وَاسْتَحْسَنُوا) أَيْ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ تَصَدَّى لِلْإِمْلَاءِ (الْبَدْءَ) فِي مَجَالِسِهِمْ (بِ) قِرَاءَةِ (قَارِئٍ) هُوَ الْمُسْتَمْلِي كَمَا لِلْخَطِيبِ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، أَوِ الْمُمْلِي، كَمَا لِلرَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِمَا، (تَلَا) شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّعْيِينِ لَا يُنَافِي اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ.

وَعَيَّنَ الرَّافِعِيُّ وَالْخَطِيبُ أَنْ يَكُونَ الْمَتْلُوُّ سُورَةً، زَادَ الرَّافِعِيُّ: خَفِيفَةً. قَالَ: وَيُخْفِيهَا فِي نَفْسِهِ. كَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِخْلَاصِ. وَاخْتَارَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِشَيْخِهِ سُورَةَ " الْأَعْلَى " لِذَلِكَ. وَكَأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ فِيهَا: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] وَقَوْلِهِ: فَذَكِّرْ. وَقَوْلِهِ: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] .

وَالْأَصْلُ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: (كَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا تَذَاكَرُوا الْعِلْمَ، وَقَرَءُوا سُورَةً) .

بَلْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (رِيَاضَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُ

ص: 254

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْفِقْهِ يَأْمُرُونَ أَنْ يَقْرَأَ رَجُلٌ سُورَةً) .

(وَبَعْدَهُ) أَيِ: الْمَتْلُوِّ، (اسْتَنْصَتَ) الْمُمْلِي - كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، أَوِ الْمُسْتَمْلِي كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ - أَهْلَ الْمَجْلِسِ حَيْثُ احْتِيجَ لِذَلِكَ، اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِجَرِيرٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:( «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(ثُمَّ) بَعْدَ إِنْصَاتِهِمْ (بَسْمَلَا) الْمُسْتَمْلِي أَيْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَهَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ يَقُولُهُ، (فَـ) يَلِيهِ (الْحَمْدُ) لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، (فَـ) يَلِيهِ (الصَّلَاةُ) مَعَ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ» ) وَفِي رِوَايَةٍ (بِحَمْدِ اللَّهِ) .

وَفِي رِوَايَةٍ: (وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ) - (فَهُوَ أَقْطَعُ) . فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الرِّوَايَاتِ وَحَازَ الْأَكْمَلَ فِي فَضِيلَتِهَا.

(ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْمُمْلِي (يَقُولُ) لَهُ: (مَنْ) ذَكَرْتَ مِنَ الشُّيُوخِ (أَوْ مَا ذَكَرْتَ) مِنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَا يَقُولُ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ أَوْ مَنْ سَمِعْتَ؟ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِ لَفْظَةٍ يَبْتَدِئُ.

لَكِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي (الِاقْتِرَاحِ) : الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ أَوْ مَنْ أَخْبَرَكَ؟ إِنْ لَمْ يُقَدِّمِ الشَّيْخُ ذِكْرَ أَحَدٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَادَةً لِلسَّلَفِ مُسْتَمِرَّةً فَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى. وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَقُولُ: مَنْ ذَكَرْتَ؟ أَوْ مَنْ حَدَّثَكَ؟ .

(وَابْتَهَلْ) أَيْ: وَدَعَا الْمُسْتَمْلِي (لَهُ) أَيْ: لِلْمُمْلِي مَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَافِعًا لِصَوْتِهِ: رَحِمَكَ اللَّهُ، أَوْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، أَوْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ.

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيَقُولُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الشَّيْخِ وَعَنْ وَالِدَيْهِ وَعَنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَبَوَيْهِ مَا

ص: 255

يَمْنَعُ ذَلِكَ، كَمَا اتَّفَقَ لِشَيْخِنَا حَيْثُ قَالَ لِشَيْخِهِ الْبُرْهَانِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ الْآمِدِيِّ: وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَنْ وَالِدَيْكُمْ. فَقَالَ لَهُ الْبُرْهَانُ: لَا تَقُلْ هَكَذَا. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ.

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَلَوْ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ سَيِّدِنَا. جَازَ إِذَا عَرَفَ الْمُمْلِي قَدَرَ نَفْسِهِ. يَعْنِي لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» ) . قَالَ: وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ. يَعْنِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِطْرَاءِ.

قَالَ: وَقَدْ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيِّ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، فَقُلْتُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ فُلَانٍ. فَنَهَانِي عَنْهُ وَقَالَ: قُلْ: وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْكَ. وَحَرَّمَ شَيْبَتَكَ عَلَى النَّارِ. فَقُلْتُهَا وَهُوَ يَبْكِي.

وَجَرَى ذَلِكَ لَآخَرَ فَقَالَ: لَا تُعَظِّمْنِي عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّي. قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: نِلْتُ الْقَضَا وَقَضَا الْقُضَاةِ وَالْوَزَارَةِ وَكَذَا وَكَذَا، فَمَا سُرِرْتُ بِشَيْءٍ مِثْلَ قَوْلِ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ.

وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمَأْمُونِ: مَا أَشْتَهِي مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عِنْدِي، وَيَجِيءَ الْمُسْتَمْلِي فَيَقُولَ: مَنْ ذَكَرْتَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ قَالَ: قِيلَ لِلْمَنْصُورِ: هَلْ بَقِيَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ لَمْ تَنَلْهُ؟ قَالَ: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ ; أَنْ أَقْعُدَ فِي مَصْطَبَةٍ وَحَوْلِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَيَقُولَ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ النُّدَمَاءُ وَأَبْنَاءُ الْوُزَرَاءِ بِالْمَحَابِرِ وَالدَّفَاتِرِ فَقَالَ: لَسْتُمْ هُمْ، إِنَّمَا هُمُ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، الْمُتَشَقِّقَةُ أَرْجُلُهُمْ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ. يَرِدُ الْآفَاقَ وَنَقَلَةَ الْحَدِيثِ.

ص: 256

قَالَ الْخَطِيبُ: (وَ) إِذَا انْتَهَى. أَيِ الْمُسْتَمْلِي تَبَعًا لِلْمُمْلِي إِلَى ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْإِسْنَادِ (صَلَّى) يَعْنِي وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مَرَّ فِيهِ ذِكْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتِحْبَابًا.

(وَ) كَذَا إِذَا انْتَهَى إِلَى ذِكْرِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم (تَرَضَّى) عَنْهُ بِقَوْلِهِ: رضي الله عنه، أَوْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، حَالَ كَوْنِهِ (رَافِعَا) صَوْتَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ.

زَادَ غَيْرُهُ: فَإِنْ كَانَ ذَاكَ الصَّحَابِيُّ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ: رضي الله عنهما. وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ صَحَابِيَّيْنِ. وَذَكَرَهُمَا كَعَائِشَةَ قَالَ: رضي الله عنهم. وَبِقَوْلِهِ: (وَذَكَرَهُمَا) . يَتَأَيَّدُ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْقَارِئِ مِنْ أَئِمَّةِ شُيُوخِنَا إِذَا مَرَّ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَيْثُ يَقُولُ: وَعَنْ أَبِيهَا وَجَدِّهَا وَأَخِيهَا. لِمَا فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ، لَا سِيَّمَا إِنْ أَوْهَمَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي الْمَجْلِسِ بَعْضَ الرَّافِضَةِ مِمَّا الْوَاقِعُ خِلَافُهُ.

وَكَذَا يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ الْقَدِيمَةِ حَتَّى فِي " أَحْمَدَ " وَ " أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام. تَارِكًا لِذَلِكَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، بَلْ يَقَعُ ذَلِكَ فِي فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ أَيْضًا، وَعِنْدِي تَوَقُّفٌ فِي الْمُقْتَضِي لِلتَّخْصِيصِ بِذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ وُقُوعِهِ مِمَّنْ بَعْدَ الْمُصَنِّفِينَ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ.

قَالَ الْخَطِيبُ: وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ - يَعْنِي التَّرَضِّيَ - حَدِيثُ جَابِرٍ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، أَعْطَاكَ اللَّهُ الرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ) » .

وَحَدِيثُ أَنَسٍ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ غُلَامٌ فَأَخَذَ نَعْلَهُ، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أَرَدْتَ رِضَا رَبِّكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ) قَالَ:

ص: 257

فَاسْتُشْهِدَ» .

وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، فَقَدْ قَالَ الْقَارِئُ لِلرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَوْمًا: حَدَّثَكُمُ الشَّافِعِيُّ؟ وَلَمْ يَقُلْ: رضي الله عنه. فَقَالَ الرَّبِيعُ: وَلَا حَرْفَ حَتَّى يُقَالَ: رضي الله عنه.

قَالَ الْخَطِيبُ: وَالصَّلَاةُ وَالرِّضْوَانُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّا نَسْتَحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِلصَّحَابِيِّ: رضي الله عنه. وَلِلنَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم. تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا.

[حُكْمُ ذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِ الشُّيُوخِ] :

(وَالشَّيْخُ) الْمُمْلِي (تَرْجَمَ الشُّيُوخَ) الَّذِي رَوَى أَوْ أَفَادَ عَنْهُمْ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِمُ الْجَمِيلَةِ، (وَدَعَا) أَيْضًا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، إِذْ هُمْ آبَاؤُهُمْ فِي الدِّينِ، وَوُصْلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَبِرِّهِمْ وَذِكْرِ مَآثِرِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَشُكْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ: قَلَّ لَيْلَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَدْعُو فِيهَا لِمَنْ كَتَبَ عَنَّا، وَلِمَنْ كَتَبْنَا عَنْهُ.

وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: (سَمِعْتُ خَلِيلِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) .

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (وَحَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: (ثَنَا الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ) .

وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: (حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ - أَمَّا هُوَ إِلَيَّ فَحَبِيبٌ وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ - عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) .

وَقَالَ مَسْرُوقٌ: (حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ ابْنَةُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ عَائِشَةُ) .

ص: 258

وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: (حَدَّثَنِي الْبَحْرُ. يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ) .

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَكَانَ مِنْ مَعَادِنَ الصِّدْقِ) .

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: (ثَنَا أَوْثَقُ النَّاسِ أَيُّوبُ) .

وَقَالَ شُعْبَةُ: (حَدَّثَنِي سَيِّدُ الْفُقَهَاءِ أَيُّوبُ) .

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: (حَدَّثَنِي أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْبَشَرِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) .

وَقَالَ وَكِيعٌ: (ثَنَا سُفْيَانُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ) .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ: (ثَنَا الثِّقَةُ الصَّدُوقُ الْمَأْمُونُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ) .

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ: (ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ شَيْخُنَا وَسَيِّدُنَا) .

وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: (ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، وَمَا لَقِيتُ أَنْصَحَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْهُ) .

وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: (ثَنَا مَنْ لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ) . وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: (ثَنَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ أَجَلُّ شَيْخٍ لَقِيتُهُ. فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا كَثِيرَةٍ) .

وَلْيَحْذَرْ مِنَ التَّجَاوُزِ إِلَى مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الشَّيْخُ، كَأَنَّ يَصِفَهُ بِالْحِفْظِ وَهُوَ غَيْرُ حَافِظٍ ; لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الضِّرَرِ.

وَكَذَا يُتَرْجِمُ شُيُوخَهُ بِذِكْرِ أَنْسَابِهِمْ، فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِذَا فَعَلَ الْمُسْتَمْلِي مَا ذَكَرْتُهُ، يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ ذَكَرْتُ. إِلَى آخِرِهِ، قَالَ الرَّاوِي: ثَنَا فُلَانٌ، ثُمَّ نَسَبَ شَيْخَهُ الَّذِي سَمَّاهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِنَسَبِهِ مُنْتَهَاهُ، كَقَوْلِ شَاذَانَ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ ثَوْرُ بَنِي تَمِيمٍ، وَثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَرِيكِ بْنِ الْحَارِثِ النَّخَعِيُّ، وَثَنًا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الْهَمْدَانِيُّ ثُمَّ الثَّوْرِيُّ ثَوْرُ هَمْدَانَ، وَثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَبُو بَسْطَامَ مَوْلَى الْأَزْدِ، وَثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْخُرَاسَانِيُّ. قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الشَّيْخِ وَكُنْيَتِهِ أَبْلَغُ فِي إِعْظَامِهِ، وَأَحْسَنُ فِي تَكْرِمَتِهِ.

ص: 259

قَالَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: قَلَّمَا سَمَعِتُ أَحْمَدَ يُسَمِّي ابْنَ مَعِينٍ بِاسْمِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا.

وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ لِلْعَالِمِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: تَخُصُّهُ بِالتَّحِيَّةِ، وَتَعُمُّهُ بِالسَّلَامِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَلَا تَقُلْ: ثَنَا فُلَانٌ. بَلْ قُلْ: ثَنَا أَبُو فُلَانٍ. وَإِذَا قَرَأَ فَمَلَّ لَا يَضْجَرْ.

وَلِلْبُخَارِيِّ فِي (الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ( «لَا تُسَمِّ أَبَاكَ بِاسْمِهِ، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ، وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ» ) .

وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: الصَّلَاةَ يَا أَبَا عَبْدٍ الرَّحْمَنِ) .

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَكِنَّ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ يَقْضِي.

قَالَ الْخَطِيبُ: وَجَمَاعَةٌ يَقْتَصِرُونَ عَلَى اسْمِ الرَّاوِي دُونَ نَسَبِهِ إِذَا كَانَ أَمْرُهُ لَا يُشْكِلُ، وَمَنْزِلَتُهُ مِنَ الْعِلْمِ لَا تُجْهَلُ، كَعَامَّةِ أَصْحَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ حَيْثُ يَرْوُونَ عَنْهُ بِاسْمِهِ فَقَطْ لَا يَنْسُبُونَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ اسْمُهُ مُفْرَدًا عَنْ أَهْلِ طَبَقَتِهِ لِحُصُولِ الْأَمَانِ مِنْ دُخُولِ الْوَهْمِ فِي تَسْمِيَتِهِ ; كَقَتَادَةَ وَمِسْعَرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى شُهْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِيهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ وَلَا يُسَمِّيهِ، كَابْنِ لَهِيعَةَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.

[حُكْمُ ذِكْرِ أَلْقَابِ الرَّاوِي] :

(وَ) أَمَّا (ذِكْرُ) رَاوٍ (مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ لَقَبْ) بِحَيْثُ اشْتَهَرَ بِذَلِكَ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ (كَغُنْدَرٍ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا نُونٌ، لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَيَأْتِي مَعَ جُمْلَةِ أَلْقَابٍ فِي بَابِهَا، أَوْ مَعْرُوفٍ بِوَصْفٍ لَيْسَ نَقْصًا فِي خِلْقَتِهِ كَالْحُمْرَةِ وَالزُّرْقَةِ وَالشُّقْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالطُّولِ.

(أَوْ وَصْفِ نَقْصٍ) كَالْإِقْعَادِ لِأَبِي مَعْمَرٍ، وَالْحَوَلِ لِعَاصِمٍ، وَالشَّلَلِ لِمَنْصُورٍ، وَالْعَرَجِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، وَالْعَمَى لِأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَالْعَمَشِ لَسُلَيْمَانَ، وَالْعَوَرِ لِهَارُونَ بْنِ

ص: 260

مُوسَى، وَالْقِصَرِ لَعِمْرَانَ.

(أَوْ نَسَبْ لِأُمِّهِ) كَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَابْنِ بُحَيْنَةَ، وَالْحَارِثِ ابْنِ الْبَرْصَاءِ، وَيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَمَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ، وَإِسْمَاعِيلِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِيمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ.

(فَجَائِزٌ) فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، (مَا لَمْ يَكُنْ) فِي اللَّقَبِ إِطْرَاءٌ مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْصُوفُ بِهِ (يَكْرَهُهُ كَابْنِ عُلَيَّةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ، وَعُلَيٍّ - بِالتَّصْغِيرِ - بْنِ رَبَاحٍ، وَابْنِهِ مُوسَى، وَمَسْلَمَةَ بْنِ عُلَيٍّ، وَابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَخَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ القَطَوَانِيِّ، فَالْقَطَوَانِيِّ لَقَبُهُ، وَكَانَ أَيْضًا يَغْضَبُ مِنْهَا، وَزِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ الْبَغْدَادِيِّ دَلَّوَيْهِ، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ سَمَّانِي دَلَّوَيَهِ لَا أَجْعَلُهُ فِي حِلٍّ.

وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: الْأَصَمُّ. وَجُوزِيٍّ، وَهُوَ لَقَبٌ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْأصْبَهَانِيِّ صَاحِبِ (التَّرْغِيبِ) ، وَكَانَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ يَكْرَهُهُ، وَغَيْرِهِمْ (فَصُنْ) حِينَئِذٍ نَفْسَكَ عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ وَالرَّاوِيَ

ص: 261

عَنْ وَصْفِهِ بِذَلِكَ، إِذْ هُوَ حَرَامٌ حَسْبَمَا اسْتَثْنَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مُتَمَسِّكًا بِنَهْيِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لابْنَ مَعِينٍ أَنْ يَقُولَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ.

وَقَالَ لَهُ: قُلْ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أُمِّهِ. وَلَمْ يُخَالِفْهُ ابْنُ مَعِينٍ فِيهِ، بَلْ قَالَ: قَبِلْنَاهُ مِنْكَ يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ.

وَقَدْ أَقَرَّ النَّاظِمَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَلْقَابِ، وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ لَا اللُّزُومِ. انْتَهَى. وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: فَهُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ.

قُلْتُ: فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ تَوَاضُعًا لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّزْكِيَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَسْتُ أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ لَقَّبَنِي مُحْيِيَ الدِّينِ. فَالْأُولَى تَجَنُّبُهُ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ: ( «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ» ؟) . وَلِذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي (صَحِيحِهِ) بِقَوْلِهِ: مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ، أَيْ بِأَوْصَافِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِمُ: الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَمَا لَا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» ) . فَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْصِيلِ كَالْجُمْهُورِ.

وَشَذَّ قَوْمٌ فَشَدَّدُوا، حَتَّى نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا: حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ. غِيبَةً.

وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّحَ بِذَلِكَ حَيْثُ ذَكَرَ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ.

قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ لِلْبَيَانِ وَالتَّمْيِيزِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّنْقِيصِ لَمْ يَجُزْ.

قَالَ: وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا أَنَّهَا قَصِيرَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(اغْتَبْتِيهَا) . وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ

ص: 262

تَفْعَلْ ذَلِكَ بَيَانًا، وَإِنَّمَا قَصَدَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ صِفَتِهَا فَكَانَ كَالِاغْتِيَابِ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] . وَكَانَ نُزُولُهَا حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَلِلرَّجُلِ مِنْهُمُ اللَّقَبُ وَاللَّقَبَانِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ التَّحْرِيمِ أَوْ غَيْرِهِ فَذَاكَ فِيمَنْ عُرِفَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا حَيْثُ لَمْ يُعْرَفْ بِغَيْرِهِ فَلَا.

وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِهِ. ثُمَّ قَالَ: الْأَعْمَشُ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا. فَسَهَّلَ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا شُهِرَ بِهِ. وَمَا أَحْسَنَ صَنِيعَ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رحمه الله حَيْثُ كَانَ يَقُولُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ عُلَيَّةَ.

وَكَانَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ إِسْحَاقَ الصِّبْغِيُّ إِذَا رَوَى عَنْ شَيْخِهِ الْأَصَمِّ يَقُولُ فِيهِ: الْمَعْقِلِيُّ نِسْبَةً لِجَدِّهِ مَعْقِلٍ. وَلَا يَقُولُ: الْأَصَمُّ. لِكَرَاهَتِهِ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ إِنْ وَجَدَ طَرِيقًا إِلَى الْعُدُولِ عَنِ الْوَصْفِ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ فَهُوَ أَوْلَى.

[الْأَخْذُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَتَقْدِيمُ أَوْلَاهُمْ] : (وَارْوِ فِي الْإِمْلَا) بِالنَّقْلِ وَالْقَصْرِ، عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ (عَنْ شُيُوخٍ) مِمَّنْ أَخَذْتَ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، كَمَا هِيَ عِبَارَةُ

ص: 263

الْخَطِيبِ، وَلَا تَقْتَصِرْ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ، إِذِ التَّعَدُّدُ أَكْثَرُ فَائِدَةً.

وَأَسْنَدَ الْخَطِيبُ عَنْ مَطَرٍ قَالَ: الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَرْوِي عَنْ عَالِمٍ وَاحِدٍ كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَاضَتْ بَقِيَ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي لَهُ شَيْخٌ وَاحِدٌ رُبَّمَا احْتَاجَ مِنَ الْحَدِيثِ لِمَا لَا يَجِدُهُ عِنْدَ شَيْخِهِ فَيَصِيرُ حَائِرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ يَتَّفِقُ تَوَقَانُهُ إِلَى النِّكَاحِ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَيَصِيرُ حَائِرًا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى أَوْ أَمَةٌ، حَصَلَ الْغَرَضُ.

وَفِي (مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِينَ) عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: (وَجَدْتُ صَاحِبَ الْوَاحِدَةِ إِنْ زَارَتْ زَارَ، وَإِنْ حَاضَتْ حَاضَ، وَإِنْ نَفِسَتْ نَفِسَ، وَكُلَّمَا اعْتَلَّتِ اعْتَلَّ مَعَهَا بِانْتِظَارِهِ لَهَا (. ثُمَّ ذَكَرَ صَاحِبَ الثِّنْتَيْنِ وَصَاحِبَ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ.

قَالَ الْخَطِيبُ: وَ (قَدِّمِ) مِنَ الشُّيُوخِ (أَوْلَاهُمْ) فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، يَعْنِي عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي مُطْلَقِ الْعُلُوِّ.

زَادَ ابْنُ الصَّلَاحِ: أَوْ فِي غَيْرِهِ، يَعْنِي إِنِ اتَّحَدَ الْعُلُوُّ كَالْأَحْفَظِ وَالْأَسَنِّ وَالنَّسِيبِ، وَلَا تَرْوِ عَنْ كَذَّابٍ وَلَا مُتَظَاهِرٍ بِبِدْعَةٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِفِسْقٍ، بَلِ انْتَقِ لِلرِّوَايَةِ ثِقَاتِ شُيُوخِكَ مِمَّنْ حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَعَلَا سَنَدُهُ. كَمَا سَيَأْتِي.

[انْتِقَاءُ الْمَرْوِيِّ وَفَهْمُ الْفَائِدَةِ فِيهِ] : (وَانْتَقِهِ) أَيِ الْمَرْوِيَّ أَيْضًا بِحَيْثُ يَكُونُ أَبْلَغَ نَفْعًا، وَأَعَمَّ فَائِدَةً، وَأَنْفَعَهُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - الْأَحَادِيثُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي تُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ; كَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ، فَفِي حَدِيثٍ:( «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ» ) .

قَالَ الْخَطِيبُ: وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا إِمْلَاءُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُصُولِ الْمَعَارِفِ

ص: 264

وَالدِّيَانَاتِ، وَأَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَمَا يَحُثُّ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَذْكَارِ.

زَادَ غَيْرُهُ: وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، بَلِ الْأَنْسَبُ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِجُمْهُورِ النَّاسِ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ وَنَحْوَهَا، وَلِلْمُتَفَقِّهَةِ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ.

(وَأَفْهِمِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، السَّامِعِينَ (مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ) فِي مَتْنِهِ أَوْ سَنَدِهِ ; مِنْ بَيَانٍ لِمُجْمَلٍ أَوْ غَرَابَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَأَظْهِرْ غَامِضَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرَ الْغَرِيبِ، وَتَحَرِّ إِيضَاحَ ذَلِكَ وَبَيَانَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَكَتَبْتُ بِجَنْبِ كُلِّ حَدِيثٍ تَفْسِيرَهُ. وَعَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَتُهُ خَيْرٌ مِنْ سَمَاعِهِ.

وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ:( «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» ) مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: مِنَ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ. وَسَأَلَ رَجُلٌ مَطَرًا عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثٍ حَدَّثَ بِهِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، إِنَّمَا أَنَا زَامِلَةٌ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: جَزَاكَ اللَّهُ مِنْ زَامِلَةٍ خَيْرًا، فَإِنَّ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ حُلْوٍ وَحَامِضٍ.

وَسُئِلَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثٍ، فَقَالَ: لَيْتَنَا نَقْدِرُ أَنْ نُحَدِّثَ كَمَا سَمِعْنَا، فَكَيْفَ نُفَسِّرُ؟ ! قَالَ الْخَطِيبُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى فَضْلِ مَا يَرْوِيهِ، وَيُبَيِّنَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْحُفَّاظُ مِنْ أَمْثَالِهِ وَذَوِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ كَتَبَهُ عَنْهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ الْمُبَرَّزِينَ، أَوْ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ، نَبَّهَ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ عَالِيًا عُلُوًّا مُتَفَاوِتًا أَرْشَدَ بِوَصْفِهِ إِلَيْهِ.

وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْوَصْفَ بِالْعُلُوِّ الْمُتَفَاوِتِ ; لِأَنَّ الْمَفْهُومَ عِنْدَ إِطْلَاقِ

ص: 265

الْعُلُوِّ شُمُولُ أَقَلِّ دَرَجَاتِهِ، وَبِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ تَمْيِيزُ الْمُتَنَاهِي.

قَالَ: وَكَذَا إِذَا كَانَ رَاوِيهِ غَايَةً فِي الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا، أَوْ كَانَ الْحَدِيثُ مِنْ عُيُونِ السُّنَنِ وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَصَفَهُ بِذَلِكَ، وَيُعَيِّنُ تَارِيخَ السَّمَاعِ الْقَدِيمِ، وَتَفَرُّدَهُ بِذَاكَ الْحَدِيثِ، وَكَوْنَهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا عِنْدَهُ، إِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ مَعْلُولًا بَيَّنَ عِلَّتَهُ، أَوْ فِي إِسْنَادِهِ اسْمٌ يُشَاكِلُ غَيْرَهُ فِي الصُّورَةِ، ضَبَطَهُ بِالْحُرُوفِ لِيَزُولَ الْإِلْبَاسُ.

(وَلَا تَزِدْ عَنْ كُلِّ شَيْخٍ) مِنْ شُيُوخِكَ (فَوْقَ مَتْنٍ) وَاحِدٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ لِلْفَائِدَةِ وَأَكْثَرُ لِلْمَنْفَعَةِ.

[اعْتِمَادُ عَالِي الْإِسْنَادِ وَاجْتِنَابُ الْمُشْكِلُ] : (وَاعْتَمِدْ) فِيمَا تَرْوِيهِ (عَالِيَ إِسْنَادٍ) لِمَا فِي الْعُلُوِّ مِنَ الْفَضْلِ، وَكَذَا اعْتَمِدْ (قَصِيرَ مَتْنٍ) لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، يَعْنِي بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَحْكَامِ وَنَحْوِهَا، حَتَّى قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: الْأَحَادِيثُ الْقِصَارُ هِيَ اللُّؤْلُؤُ. بِخِلَافِ الطَّوِيلِ غَالِبًا.

وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ: ( «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوِ السِّقَاءِ، وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ» ) . إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيُنْزِلَ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مَنْزِلَةَ حَدِيثٍ وَاحِدٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ:

وَظِيفَتُنَا مِائَةٌ لِلْغَرِيبِ

فِي كُلِّ يَوْمٍ سِوَى مَا يُعَادُ

شَرِيكِيَّةٌ أَوْ هُشَيْمِيَّةٌ

أَحَادِيثُ فِقْهٍ قِصَارٌ جِيَادُ

ص: 266

وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِ انْفَرَدَ بِشَرِيكٍ وَهُشَيْمٍ.

(وَاجْتَنِبِ) فِي إِمْلَاءِكَ (الْمُشْكِلَ) مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الْعَوَامِّ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ وَإِثْبَاتَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ لِلْأَزَلِيِّ الْقَدِيمِ (1) ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحَادِيثُ فِي نَفْسِهَا صِحَاحًا، وَلَهَا فِي التَّأْوِيلِ طُرُقٌ وَوُجُوهٌ، إِلَّا أَنَّ مِنْ حَقِّهَا أَلَّا تُرْوَى إِلَّا لِأَهْلِهَا.

(خَوْفَ الْفَتْنِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ مَصْدَرُ: فَتَنَ، أَيِ ; الِافْتِتَانِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّهُ لِجَهْلِ مَعَانِيهَا يَحْمِلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا أَوْ يَسْتَنْكِرُهَا فَيَرُدُّهَا وَيُكَذِّبُ رُوَاتِهَا وَنَقَلَتَهَا.

وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» ) . وَقَوْلُ عَلِيٍّ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟) .

وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَبْلُغُ عَقْلُهُ فَهْمَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِتْنَةً) .

وَقَوْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: (لَا تُحَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ فَتَضُرُّوهُمْ) .

وَقَوْلُ مَالِكٍ: (شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفُ الْمُسْتَقِيمُ) .

وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: (إِنَّ مِمَّا رَأَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ الصُّدُوفَ عَنْ رِوَايَتِهِ لِلْعَوَامِّ أَوْلَى أَحَادِيثِ الرُّخَصِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْفُرُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا دُونَ الْأُصُولِ، كَحَدِيثِ الرُّخْصَةِ فِي النَّبِيذِ) . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِطْرَاحَ أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاجِبٌ، وَالصُّدُوفَ عَنْهُ لَازِمٌ،

ص: 267

وَأَمَّا مَا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ، فَإِنَّ رِوَايَتَهُ تَجُوزُ، وَنَقْلَهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ.

ثُمَّ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ: ( «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» ) أَيْ لَا بَأْسَ أَنْ تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ بِمَا سَمِعْتُمْ، وَإِنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ ثِيَابَهُمْ تَطُولُ، وَالنَّارُ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُ الْقُرْبَانَ. انْتَهَى.

لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: (وَلَا حَرَجَ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; أَيْ: حَدِّثُوا عَنْهُمْ حَالَ كَوْنِهِ لَا حَرَجَ فِي التَّحْدِيثِ عَنْهُمْ بِمَا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي: وَعَنْ صَحَابَتِهِ وَالْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ ; فَإِنَّ رِوَايَتَهُ تَجُوزُ، انْتَهَى.

وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِي (الْأَصْلِ الْأصَيْلِ فِي تَحْرِيمِ النَّقْلِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) .

وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: وَلْيَجْتَنِبْ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيُمْسِكْ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَ فِيهِمْ ; لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ فِي (الْقَوْلِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ)، رَفَعَهُ:(إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا) . وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ.

وَقَدْ قَالَ زَيْدٌ الْعَمِّيُّ: أَدْرَكْتُ أَرْبَعِينَ شَيْخًا مِنَ التَّابِعِينَ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُونَا عَنِ الصَّحَابَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «مَنْ أَحَبَّ جَمِيعَ أَصْحَابِي وَتَوَلَّاهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ

ص: 268

جَعَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ» ) .

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيُحْدِثُونَ مَا أَحْدَثُوا. وَعَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَا أَدْرَكْتُ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضِهِمُ: اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ; لِتَأْتَلِفَ عَلَيْهَا الْقُلُوبُ.

قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ لِلْمُمْلِي مَا تَقَرَّرَ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا ; حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِكِتَابٍ مَخْصُوصٍ، وَأَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ، كَمَا فَعَلَ النَّاظِمُ فِي تَخْرِيجِ (الْمُسْتَدْرَكِ) وَ (أَمَالِي الرَّافِعِيِّ) ، وَشَيْخُنَا فِي تَخْرِيجِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَ (الْأَذْكَارِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - تَابِعٌ لِأَصْلِهِ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْهَضُ لَهُ إِلَّا مَنْ قَوِيَتْ فِي الْعِلْمِ بَرَاعَتُهُ، وَاتَّسَعَتْ رِوَايَتُهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

[خَتْمُ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ بِالْحِكَايَاتِ وَالنَّوَادِرِ] :

(وَاسْتُحْسِنَ) لِلْمُمْلِي (الْإِنْشَادُ) الْمُبَاحُ الْمُرَقَّقُ (فِي الْأَوَاخِرِ) مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ (بَعْدَ الْحِكَايَاتِ) اللَّطِيفَةِ (مَعَ النَّوَادِرِ) الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً لِمَا أَمْلَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَحْسَنُ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ، فَعَادَةُ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يُنْشِدُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ نَظْمِهِ، وَكَذَا النَّاظِمُ، وَرُبَّمَا فَعَلَهُ شَيْخُنَا.

وَقَدْ بَوَّبَ لَهُ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ، وَسَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«قُرِئَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُرْآنٌ، وَأُنْشِدَ شِعْرٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُرْآنٌ وَشِعْرٌ فِي مَجْلِسِكَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) » .

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ يُنْشِدُهُ الشِّعْرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْقُرْآنُ أَوِ الشِّعْرُ؟ ! فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرَةَ، هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً) » . وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: (رَوِّحُوا الْقُلُوبَ،

ص: 269

وَابْتَغُوا لَهَا طَرَفَ الْحِكْمَةِ) . وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: هَاتُوا مِنْ أَشْعَارِكِمْ، هَاتُوا مِنْ حَدِيثِكُمْ ; فَإِنَّ الْأُذُنَ مَجَّاجَةٌ، وَالْقَلْبُ حَمْضٌ.

وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ قَالَ: آخِرُ مَجْلِسٍ جَالَسْنَا فِيهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَنَاشَدْنَا فِيهِ الشِّعْرَ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ حَدَّثَ بِأحَادِيثَ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: خُذُوا فِي أَبْزَارِ الْجَنَّةِ، فَحَدَّثَنَا بِالْحِكَايَاتِ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: الْحِكَايَاتُ تُحَفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَسَاقَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْقُلُوبُ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ، فَاطْلُبُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَفَاضَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ قَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: أَحْمِضُوا بِنَا، أَيْ: خُوضُوا فِي الشِّعْرِ وَالْأَخْبَارِ.

[اسْتِعَانَةُ الْقَاصِرِ بِبَعْضِ الْحُفَّاظِ وَالْآدَابِ الْأُخْرَى] :

ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَارِفِ غَيْرِ الْعَاجِزِ، (وَإِنْ يُخَرِّجْ لِلرُّوَاةِ) الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَاخْتِلَافِ وُجُوهِهِ وَطُرُقِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِهِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ التَّخْرِيجِ وَالتَّفْتِيشِ ; إِمَّا لِكِبَرِ سِنٍّ وَضَعْفِ بَدَنٍ كَمَا اتَّفَقَ لِلنَّاظِمِ فِي إِمْلَاءِهِ بِآخِرِهِ لِذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا خَرَّجَهُ لَهُ شَيْخُنَا رحمه الله، وَإِمَّا لِطُرُوِّ عَمًى وَنَحْوِهِ، (مُتْقِنُ) مِنْ حُفَّاظِ وَقْتِهِمْ (مَجَالِسَ الْإِمْلَاءِ) الَّتِي يُرِيدُونَ إِمْلَاءَهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَلْحَقُ بِهَا.

إِمَّا بِسُؤَالٍ مِنْهُمْ لَهُ أَوِ ابْتِدَاءً، (فَهْوَ حَسَنُ)، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاصِرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِبَعْضِ حُفَّاظِ وَقْتِهِ، فَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِنَا كَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ بِشْرَانَ، وَالْقَاضِي أَبِي عُمَرَ الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ السَّرَّاجِ وَغَيْرِهِمْ

ص: 270

يَسْتَعِينُونَ بِمَنْ يُخَرِّجُ لَهُمْ.

(وَلَيْسَ بِالْإِمْلَاءِ حِينَ يَكْمُلُ غِنًى عَنِ الْعَرْضِ) وَالْمُقَابَلَةِ (لِـ) إِصْلَاحِ (زَيْغٍ)، أَوْ طُغْيَانِ قَلَمٍ (يَحْصُلُ) ; يَعْنِي: فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَاجِبَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهَا حِكَايَةً عَنِ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ ; إِذْ لَا فَرْقَ، وَحِينَئِذٍ فَيَأْتِي الْقَوْلُ بِجَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْفَرْعِ غَيْرِ الْمُقَابَلِ لِلشُّرُوطِ الْمُتَقَدَّمَةِ، بَلْ كَانَ شَيْخُنَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ الْإِمْلَاءَ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ هَمَّ أَنْ يَجْعَلَ بِكُلِّ جَانِبٍ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَهُمْ بِالْفَنِّ إِلْمَامٌ فِي الْجُمْلَةِ ; لِيَخْتَبِرَ كِتَابَتَهُمْ وَيُرَاجِعُونَهُ، فَمَا تَيَسَّرَ.

وَالتَّبْكِيرُ بِالْمَجْلِسِ أَوْلَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الشِّتَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَصْبِرَ سَاعَةً حَتَّى يَرْتَفِعَ النَّهَارُ.

وَاسْتُحِبَّ لِلطَّالِبِ السَّبْقُ بِالْمَجِيءِ ; لِئَلَّا يَفُوتَهُ شَيْءٌ، فَتَشُقُّ إِعَادَتُهُ، فَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - بِكَرَاهَةِ تَكْرِيرِ مَاضِيهِ، وَاسْتِثْقَالِ الْإِعَادَةِ لِفَائِتِهِ وَمُنْقَضِيهِ، حَتَّى قَالَ الثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَغَيْرُهُمَا: مَنْ غَابَ خَابَ، وَأَكَلَ نَصِيبَهُ الْأَصْحَابُ، وَلَمْ نُعِدْ لَهُ حَدِيثًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: نَقْلُ الصَّخْرِ أَهْوَنُ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ يُخَاطِبُ ثَقِيلًا مِنْ أَبْيَاتٍ:

خَلٍ عَنَّا فَإِنَّمَا أَنْتَ فِينَا

وَاوُ عَمْرٍو وَكَالْحَدِيثِ الْمُعَادِ

وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى الشَّيْخِ وَقْتَ الِانْصِرَافِ، فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ:

وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً

إِذَا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَلٍ

وَلِذَا كَانَ خَلْقٌ يَبِيتُونَ لَيْلَةَ الْإِمْلَاءِ عَلَى ابْنِ الْمَدِينِيِّ بِمَحَلِّ جُلُوسِهِ ; حِرْصًا عَلَى السَّمَاعِ، وَتَخَوُّفًا مِنَ الْفَوَاتِ.

ص: 271