الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* *
فترة العداء:
وعندما أهلت دعوة الحق، وجاء الله بالإسلام، وقف أبو أمية موقف الغالبية العظمى من رجالات الجاهلية فلم يؤمن، وساهم مع من ساهم في حرب الاسلام والمسلمين، ويبدو أن هذه المساهمة اقتصرت على الاشتراك في الجيوش التي حاربت المسلمين في بدر وأحد، فلم تذكر لنا المصادر على كثرتها، أي موقف آخر لأبي أمية في الصد عن الاسلام ومحاربته.
التفكير السليم:
ويبدو أن ابا أمية كان على قدر من العقل وحظ من التفكير، فلم يطل به العداء للاسلام، فما إن انصرف من معركة أحد حتى خلا بنفسه يفكر في موقفه ويزنه بميزان العقل الراجح والتفكير السليم:
لماذا رفض محمد كل ما عرض عليه من أمور الدنيا، فقد عرضت عليه قريش المال والملك والسلطان فرفضها بحزم، وثبت على دعوته ثبوت الرواسي؟ !
ما الذي يجعل المستضعفين من أبناء قريش وعبيدها يقفون في وجه السادة ويتحملون عذابهم وظلمهم وقهرهم، حتى إن الواحد منهم ليموت دون هذا الاسلام الذي آمن به؟
كيف يصير أثرياء مكة الذين آمنوا بما جاء به محمد، على ازدراء قومهم لهم، وعلى ضياع المال وفنائه، ولا يلتفتون إلا لمحمد ودعوته؟ !
ما الذي جعل العشرات من رجال مكة ونسائها يهاجرون إلى الحبشة بحراً، وهي بلاد نائية ومسالكها وعرة، والعرب لا تعرف ركوب البحر وتخافه وتخشاه؟ !
ما الذي جعل أهل يثرب يتحدون العرب ويهود ويرحبون بمحمد؟ وما الذي جعلهم لا يعلنون إجارتهم لمحمد، على عادة العرب، ويعلنون استعدادهم للقتال دونه ودون هذا الدين الذي يدعو إليه؟
وكيف تنتصر قلة من الرجال بأسلحة بسيطة، على العدد الكبير والنفير العظيم والسلاح الوفير؟ لقد شهدت هذا بنفسي في بدر، وانهزمت أمامهم، ولا والله ما كنت يوماً جباناً افرّ من أمام الرجال.
وحتى في أحد رأيتهم يهزموننا، وفينا أبطال الحروب وفرسان القتال، وعندما دارت دائرة الحرب عليهم وأحطنا بهم دافعوا عن نبيهم وترّس الرجل منهم عنه بجسمه حتى الموت!
وأدار عمرو هذه التساؤلات في عقله ومحصها في وجدانه وقلّبها على وجهها، فوجد أن كل هذا لا يمكن أن يحدث إلا بمعجزة، وما المعجزة إلا هذا الدين الذي جاء
به محمد، لقد كشف الستار، وبان الصبح لذي عينين، إن الرجل لنبي وإن هذا الدين لحق، فيكفي ما ضيعت من عمري في جانب الباطل، لم يبق لي مقام بين المشركين وما مقامي إلا بين الذين آمنوا بأن الله واحد وأن محمداً رسول الله.
في بئر معونة:
لم يكن قد مضى شهر على اسلام أبي أمية عندما وفد على رسول الله رجل مهيب تبدو عليه ملامح الشجاعة ومظاهر السيادة.
قال رجل لصاحبه: من هذا الذي دخل لتوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فأجابه: ألم تعرفه، إنه اشهر من نار على علم، إنه سيد بني عامر، وهو في الذروة شجاعة ونسباً، إنه أبو براء عامر بن مالك، تدعوه العرب " ملاعب الأسنة " لبراعته في فنون الحرب والنزال.
قال الرجل: اذن هيا بنا نشهد حديثه مع رسولنا الكريم.
استقبل الرسول أبا براء استقبالاً حسناً، وعرض عليه الإسلام. وكان في وجه أبي براء ملامح القبول وعلامات الرضا، ولكنه لم يبادر إلى إعلان إسلامه، وطلب من
رسول الله أن يمهله ليفكر فيما سمع منه. وقبل أن ينصرف قال لرسول الله: يا محمد، إن أمرك هذا حسن جميل، فلو بعثت رجالاً من اصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اني اخشى عليهم أهل نجد.
قال أبو براء: أنا لهم جار أن يعرض لهم أحد، فابعثهم فليدعوا إلى أمرك.
فبعث رسول الله سبعين رجلاً من خيار المسلمين فيهم عمرو بن أمية الضمري، وأمّر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي (1) .
وسار الركب المؤمن باتجاه نجد، فلما وصلوا مكاناً يقال " بئر معونة " عسكروا فيه وأرسلوا سرحهم مع عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن الجلاح، ثم أرسلوا حرام
بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، وانتظروا ليروا ماذا يكون رده.
وصل الخبر الى عامر بن الطفيل أن رسولاً جاء إليه بكتاب النبي، فقطب ما بين عينيه، ثم سأل: أمعه أحد؟
(1) المنذر بن عمرو الساعدي الخزرجي الأنصاري، كان أحد النقباء في بيعة العقبة، شهد بدراً وأحداً، استشهد في بئر معونة فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: أعنق المنذر ليموت، أي أسرع إلى الموت وهو يعرفه.
قالوا: معه سبعون رجلاً جلسوا ينتظرونه في " بئر معونة ".
وقهقه عامر بصوت رددته الصحراء، وصفق بيديه جذلاً، ونادى خادمه وطلب منه أن يترع له الكأس خمراً.
وارتاب أحد الحاضرين في نوايا عامر فقال له: يا عامر، إنهم في جوار أبي براء.
فرد عامر: في جوار أبي براء! في جوار أبي براء! ثم شرب كأسه.
وفي هذه اللحظات وصل الصحابي الجليل حرام بن ملحان ومد يده بكتاب رسول الله إلى عامر، وأخذ عامر الكتاب ودون أن يفضه ليعرف ما فيه من الخير امتدت يده الآثمة إلى سيفه ووثب إلى حرام وفاجأه بطعنة قاتلة!
وتلقى حرام الطعنة الغادرة، فقال وهو يلفظ أنفاسه: الله أكبر، فزت ورب الكعبة!
وفي هذه اللحظة التي سمع فيها الناس تكبير حرام، سمعوا أيضاً صوت عامر يدعوهم للوثوب على المسلمين في بئر معونة، ويقول: يا بني عامر أعينوني على هؤلاء المسلمين!
لقد غرق بنو عامر في بحر من العجب، رجل يُقتل فيقول: فزت ورب الكعبة. وأين الفوز وهو يموت
ويفارق الحياة؟ ! ورجل يأتيه رسول بكتاب فيقتله قبل أن يعرف ما يحتوي عليه الكتاب ويعلم أن الرجل في جوار عمه، فلا يقيم للجوار وزناً ولا يعرف للقرابة حقاً!
ويعيد عامر بن الطفيل دعوته مرة أخرى: ما لكم يا بني عامر لا تجيبون، ألا تعينوني على هؤلاء المسلمين؟
فيرد بنو عامر: يا عامر، لن نخفر جوار أبي براء.
وترك عامر هذا الحي واسرع إلى أحياء بني سليم، ودعاهم لغزو كتيبة الإيمان في " بئر معونة " فأجابته قبائل عُصيّة ورعل وذكوان، وسارعوا إلى الشر، وشدوا بالخيل وراء عامر بن الطفيل.
التفت المسلمون إلى عجاج الخيل فرأوا قوماً يريدون الشر، فأسرعوا إلى أسلحتهم، فما كادوا أن يتمكنوا منها حتى أحاط بهم عدوهم وشن عليهم الغارة فاستماتوا في القتال وأثخنوا في عدوهم، ولكن عدوهم فاجأهم، وكان أكثر منهم عدداً وأتم عدة، فاستشهد المسلمون ولم يبق منهم غير أميرهم المنذر بن عمرو الساعدي، فقال له عامر: ان شئت أمّناك! فما التفت إلى كلامهم وكر عليهم بسيفه فتكاثروا عليه وقتلوه، فلما وصل صنيع المنذر إلى رسول الله قال – عليه السلام –:" أعنق ليموت " فسمي المنذر يومئذ " المعنق ليموت ".
وجاءت الطير فوق جثث الشهداء، فرآها عمرو بن أمية
الضمري والمنذر بن محمد، وكانا في سرح القوم بعيدين عن أرض المعركة، فقالا: ان لهذه الطير لشأنا، وأسرعا إلى بئر معونة حيث خلّفا أصحابهما، فرأيا ويا لهول ما رأيا، أصحابهما صرعى وحولهم الخيل المغيرة بقيادة عامر بن الطفيل!
قال المنذر: ماذا ترى يا أبا أمية؟
قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر ليرى رأيه.
قال المنذر: لكني ما كنت أرغب عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، وشد على القوم فقاتلهم حتى استشهد، وشد وراءه عمرو فأسر، ثم أطلقه عامر بن الطفيل فداء لنذر كان على أمه.
وانطلق عمرو بن أمية عائداً وقد خلف وراءه سبعين شهيداً من خيرة المسلمين، فكان ثائر النفس يود لو تواتيه الفرصة ليثأر لهم من قاتليهم، وعندما وصل إلى " القرقرة " وجد رجلين من بني عامر، وهم قوم عامر بن الطفيل، فقال لنفسه: أدركت بعض ثأري فاحتال حتى تمكن منهما فقتلهما.
ووصل عمرو إلى المدينة وقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بغدر عامر بن الطفيل وقبائل سليم، فنظر إليه رسول الله وقال له:" أُبت من بينهم! " كأنه يعتب
عليه، ثم