الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
68 ـ
أهميَّة العناية بالألفاظ النبوية في الذِّكر والدعاء
تقدَّم معنا الإشارةُ إلى عِصمةِ الأدعيةِ المأثورة في مبناها ومعناها، وسلامتِها من الخطأ والزللِ في ألفاظها ودلالتها؛ لأنَّها وحيُ الله وتنزيلُه، اختارها اللهُ لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم وعلَّمه إيَّاها، فعلِمَها صلوات الله وسلامه عليه وعمل بها على التمام والكمال، وبلَّغها أمَّتَه البلاغ المبين، وتلقاها عنه صحبُه الكرام خيرَ تلقٍّ فعملوا بها واجتهدوا في تطبيقها وعمارةِ الأوقات بها، ثمَّ بلَّغوها مَن وراءَهم وافيةً تامَّةً بحروفها وألفاظها، فكان لهم بذلك الحظُّ الأوفرُ والنصيب الأكملُ من قوله صلى الله عليه وسلم:" نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها، ثمَّ أدَّاها إلى مَن لَم يسمعها "1، ولعلنا نقف وقفة، نتأمَّلُ فيها حرصَ الصحابة رضي الله عنهم على ضبطِ الأدعيةِ النبويَّة وتعلُّمِها، وحرصَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على توجيههم وتسديدِهم فيها.
فمِن ذلك ما ورد في عدَّةِ أحاديث متعلِّقة بالذِّكر والدعاء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمهم إيَّاها كما يُعلِّمهم السورةَ من القرآن الكريم.
منها ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمهم هذا الدعاءَ كما يُعلِّمهم السورةَ من
1 المسند (1/437) ، (4/80)، وسنن الترمذي (رقم:2657) ، وسنن ابن ماجه (رقم:232) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:6766) .
القرآن يقول: اللَّهمَّ إنَّا نعوذ بك من عذاب جهنَّم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنةِ المسيح الدجَّال، وأعوذ بكَ من فتنة المحيا والممات "1.
وكذلك دعاء الاستخارة في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا دعاءَ الاستخارة كما يُعلِّمنا السورةَ من القرآن "2.
قال ابن أبي جمرة: " التشبيه في تحفظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص فيه والدرْسِ له والمحافظة عليه، ويَحتمل أن يكون من جهة الاهتمام به والتحقق لبركته والاحترام له، ويحتملُ أن يكون من جهة كون كلٍّ منهما علم بالوحي "3 اهـ.
ومن ذلك أيضاً أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا يأتونه ويطلبون منه أن يعلِّمهم دعاءً يدعون به مع أنَّهم كانوا أهلَ علمٍ وفصاحةٍ، ومن هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:" علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللَّهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوبَ إلَاّ أنتَ فاغفرْ لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفور الرحيم "4، قال الحافظ في الفتح: " وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً: استحباب طلبِ التعليم
1 صحيح مسلم (رقم:590) .
2 صحيح البخاري (رقم:1162) .
3 فتح الباري (11/184) .
4 صحيح البخاري (رقم:834)، وصحيح مسلم (رقم:2705) .
من العالِم، خصوصاً في الدعوات المطلوبِ فيها جوامعُ الكلِم "1. اهـ.
ومِن ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصوِّبُ من يخطئ منهم ولو في لفظ من ألفاظ الذِّكر والدعاء، كما في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال:" قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيتَ مَضجعَك فتوضَّأ وضوءك للصلاة، ثمَّ اضطجع على شِقِّك الأيمن وقل: اللَّهمَّ أسلمتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلَاّ إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإن مُتَّ متَّ على الفطرة، فاجعلهنّ آخر ما تقول، فقلت أستذكرهنّ: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، وبنبيِّك الذي أرسلت "2.
قال الحافظ في الفتح: " وأولى ما قيل في الحكمة في ردّه صلى الله عليه وسلم على من قال الرسول بدل النبيّ أنَّ ألفاظ الأذكار توقيفيّة، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فيجب المحافظة على اللّفظ الذي وردت به "3.
ومن ذلك أيضاً أنَّ الإنسان قد يختار لنفسه صيغةً معيَّنةً من الدعاء يرى أنَّ فيها تحقيق سعادته في الدنيا والآخرة، ويخفى عليه ما قد تتضمّنه من شرٍّ أو خطر إمّا في الدنيا أو الآخرة، بينما الأدعية النبوية
1 فتح الباري (2/320) .
2 صحيح البخاري (رقم:247)، (رقم:6311) ، وصحيح مسلم (رقم:2710) .
3 فتح الباري (11/112) .
ليس فيها إلَاّ الخير والصلاح والسلامة في الدنيا والآخرة، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفَتَ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيّاه، قال: نعم كنت أقول: اللَّهمَّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار، قال: فدعا اللهَ له فشفاه "1.
فجمع له صلوات الله وسلامه عليه في هذا الدعاء العظيم الذي أرشده إليه بين خيري الدنيا والآخرة والسلامة فيهما من جميع الشرور.
ومن ذلك أيضاً أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا ينكرون على من يسمعون منه المخالفة لهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الذِّكر والدعاء والأمثلة على ذلك عنهم كثيرة منها: ما رواه الترمذي والحاكم عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: " أنَّه سمع رجلاً عطس فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال له، ما هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله، ولم يقل وليصلّ على رسول الله "2.
1 صحيح مسلم (رقم:2688) .
2 سنن الترمذي (رقم:2738) ، والمستدرك (4/265) ، وصححه العلَاّمة الألباني رحمه الله في الإرواء (3/245) .
وروى أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: سمِعَني أبي وأنا أقول: " اللهمّ إنّي أسألك الجنّة ونعيمها وبهجتها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال: يا بنيّ إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيكون قومٌ يعتدون في الدعاء " فإيّاك أن تكون منهم، إن أعطيت الجنّة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أُعذتَ من النار أُعذت منها ومن ما فيها من الشرّ "1.
ومثلُه ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه أنّه سمع ابنَه يقول: اللهمّ إنّي أسألك القصرَ الأبيض عن يمين الجنّة إذا دخلتُها، فقال: أي بنيّ! سل الله الجنّة وتعوّذ به من النار، فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" سيكون في هذه الأمّة قومٌ يعتدون في الطُّهور والدعاء "2.
فهذه نماذج يسيرة تبيِّن مكانةَ الدعاء النبوي وأهميّة العناية بألفاظه المأثورة لكمالِها ورِفعتِها وسلامتِها ووفائها بتحقيق أهمّ المطالب وأجلِّ الغايات.
1 المسند (1/172)، وسنن أبي داود (رقم:1480) ، وصححه العلَاّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:1313) .
2 المسند (4/86، 87) ، (5/55)، وسنن أبي داود (رقم:96) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3864) ، وصححه العلَاّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:87) .